أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - حسن محمد طوالبة - العولمة دراسة في المضامين والاهداف















المزيد.....



العولمة دراسة في المضامين والاهداف


حسن محمد طوالبة

الحوار المتمدن-العدد: 3346 - 2011 / 4 / 25 - 20:15
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


مقدمة:
خارجها سوف ينحسر ويتخلف. واختلفوا في تعريف المصطلح الجديد ما أن أعلن عن انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي حتى اختفت منظومات قيم، وظهرت منظومات جديدة. اختفت مصطلحات الصراع الأيديولوجي، والاشتراكي والاستقلالية، والحياد الإيجابي، وانبرى الكتاب في الغرب للترويج لأفكار جديدة، يريدون تثبيتها في العقل البشري، وعدّها حقائق أبدية. لقد هزمت الاشتراكية إلى الأبد وانتصرت الرأسمالية، وهذا الانتصار شكل "نهاية التاريخ" برأي فوكوياما. وقالوا بانتهاء عصر الأيديولوجيات، بعد أن خمدت نار الصراع الأيديولوجي أثناء الحرب الباردة. وروّجوا لوجود نظام القطب الواحد، والإقرار بزعامة الولايات المتحدة للعالم، وقالوا بأن من يملك مقومات القوة العسكرية والاقتصادية والتقنية يحكم العالم، وأمريكا تملك هذه المقومات، فهي بالضرورة زعيمة العالم. وبعد تنامي دور الثورة العلمية الثالثة، وبروز الانتشار الهائل للمعلومات، والاتصالات وظهور الدور المتميز للشركات المتعدية الجنسيات، ولكل آليات الاقتصاد الرأسمالي. ظهر تراجع دور الدولة، وعدم الاهتمام بالثوابت السياسية مثل السيادة، والوطنية، والدولة القومية.
وبعد أحداث الحادي عشرين من أيلول/سبتمبر 2001 واحتلال كل من أفغانستان والعراق، صارت الولايات المتحدة المتسلطة على العالم والقادرة على فرض إرادتها على كل الفواعل السياسية والاقتصادية في العالم، وصارت على أرض الواقع مركز العلاقات الدولية بحيث صارت واشنطن والبيت الأبيض المركز الذي يجب أن تعبر من خلاله جميع التفاعلات. كما أجازت لنفسها التدخل في العلاقات الثنائية والإقليمية، وحتى في الأوضاع المحلية للدولة في العالم. وأخضعت معظم حكام الدول، وصاروا مجرد حكام إداريين يأتمرون بأمرها، وبسطت هيمنتها على المنظمة الدولية وخاصة مجلس الأمن، الذي صار حاكماً متسلطاً على دول العالم يُنفذ إرادة البيت الأبيض، ويحقق مصالحه في العالم، أضف إلى ذلك سيطرة الولايات المتحدة على أبرز المنظمات الاقتصادية العالمية (صندوق النقد، والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والشركات المتعدية الجنسية). وسيطرتها على منظومات الاتصال والإعلام والمعلومات.
وقد عكست الظواهر الآنف ذكرها معالم النظام الذي أخذ بالتكون من أبرزها: خروج الاتحاد السوفيتي من نظام القطبية الثنائية مما أدى إلى إحداث تغيرات بارزة في أوروبا الشرقية، وما حدث أخل في ميزان القوة العالمية لصالح الولايات المتحدة، وتحول العالم إلى طرفين بدلاً من ثلاثة زمن الحرب الباردة، أي طرف الشمال الغني، وطرف الجنوب الفقير، وصارت المنظمة الدولية في خدمة المصالح الأمريكية( ).
وفي ظل هذه التطورات نادى الكتاب والباحثون في الغرب بالعولمة، مصيراً يحكم البشرية لا فكاك من الاندماج فيها، ومن يخرج ، كما اختلفوا فيما إذا كان المصطلح جديداً أم قديماً وهذه الإشكاليات سنعالجها في هذا المبحث.

المبحث الأول
المفهوم والمنطلقات
1- تعريف العولمة
مصطلح العولمة هو ترجمة عن الإنجليزية Globalization، وقد فضل د. إسماعيل صبري عبد الله استخدام مصطلح "الكوكبية"( )، فيما استخدام د. سيد يسين مصطلح
"الكونية"( ).
يعود جذور العولمة اللغوي في العربية إلى مصطلح "العالم"؛ أي الانتشار من المحلية إلى العالمية. والعالمية طموح للارتقاء من المحلية إلى العالمية في شتى المجالات الاقتصادية والثقافية. أي أنه طموح إنساني يرنو إلى التفاعل مع الحضارات والثقافات الأخرى والحوار معها، بهدف التعارف بين الأمم والشعوب، والتعاون فيما بينها، مع ضمان احترام كل حضارة للهويات الثقافية للحضارات الأخرى.
وإذا كان هذا مفهوم "العولمة" فهل يلتقي مع مفهوم العالمية..؟ هذا ما سنعالجه في الفقرة الآتية:
أجمعت الدراسات وآراء الباحثين على صعوبة وضع تعريف محدد شامل مانع للعولمة، نظراً لتعدد الآراء حولها، وتعدد الاتجاهات الفكرية التي تحكم الباحثين في وضع تعريفاتهم. ويمكن تصور هذه الصعوبة بمثال مفاده: أن مجموعة من الأفراد يقفون أسفل الوادي عند شروق الشمس، فالبعض يتأمل الشروق بنظرة ميتافيزيقية، وبعض آخر ينظر إلى قمة الجبل التي أشرقت الشمس فوقها من وجهة نظر جغرافية أو فيزيائية، وآخرون ينظرون إلى الشجر الذي يُغطي سفح الجبل من وجهة نظر الفن الانطباعي، وكل منهم يصف الجبل عند شروق الشمس، من وجهة نظره ويعتقدها هي الكمال. ولكن الحقيقة والكمال بعيدة عن وجهة النظر الجزئية. وهكذا هو حال العولمة فمنهم من نظر إليها من وجهة نظر اقتصادية، وآخرون من وجهة نظر سياسية ، وآخرون من وجهة نظر ثقافية، وآخرون من وجهة نظر إعلامية. وكل وجهات النظر يعتقد أصحابها أنها الكمال وصحيحة من زاويتها، ولكن العولمة كل وجهات النظر هذه، لأنها تتسم بالحركية وعدم الجمود. فهي تتطور في مضامينها وآليات انتشارها مع تطور الحياة وتطور العقل البشري وقدرته على ابتكار جديد في العالم والتقانة.
يُعد تعريف رونالد روبرتسون الوارد في دراسته "تخطيط الوضع الكوني: العولمة... المفهوم الرئيسي"، من أقدم تعريفات العولمة، إذ يؤكد أن العولمة هي اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم وزيادة وعي الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش.
ويرى روبرتسون أن هذا الاتجاه نحو الانكماش والوعي به، هو إحدى سمات اللحظة التاريخية التي عرفت العولمة. وهذه اللحظة التاريخية مليئة بالفرص والمخاطر والاحتمالات.
إن ما يميز تعريف روبرتسون تأكيده على فكرة الانكماش أي أن العالم بات قرية صغيرة، قربت المسافة فيه، بفضل وسائل الاتصال، وقد ترابطت المجتمعات والدول، بحيث لم يعد ممكناً الانعزال، أو الابتعاد عن حركة العالم( ).
ويعرف فانتوني جيدنز العولمة بأنها مرحلة جديدة من مراحل بروز وتطور الحداثة، وهي عملية تتكثف فيها العلاقات الاجتماعية على الصعيد العالمي على نحو يهيئ التجمعات المحلية المتباعدة، بحيث يكون تلاحمها غير قابل للفصل بين الداخل والخارج. أي الارتباط بين ما هو محلي وبين ما هو عالمي. وهذا الارتباط يعني التأثير المتبادل بين العالمي والمحلي ولا يعني إلغاء المحلي لحساب العالمي، ولكن العولمة في رأي جيدنز هو أن يصبح العالم الخارجي حاضراً بنفس حضور العامل الداخلي في تأثيره على سلوكيات وقناعات وأفكار الأفراد في الداخل. فالعالمي يتعايش مع المحلي ويغنيه ويقويه بحيث يصبح العالم المحلي عالمياً والعالمي محلياً( ).
ويرى مالكوم واترز العولمة هي عملية اجتماعية يتراجع بمقتضاها تأثير العامل الجغرافي على الترتيبات الاجتماعية والثقافية، وهي كل المستجدات والتطورات التي تسعى بقصد أو بغير قصد، إلى دمج سكان العالم في مجتمع عالمي واحد( ). ويلتقي كينشي أوهماي مع روبرتسون وجيدنز وواترز في أن العولمة تتضمن زيادة حجم الوجود العالمي في المحلي، وقد يكون العالمي البديل المحتمل للمحلي، ولكنه يربط وجود العولمة بالمستجدات، بالأخص الاقتصادية منها، فهي التي تدفع في اتجاه تراجع حاد في الحدود الجغرافية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية القائمة حالياً، ويصير الأفراد أكثر استفادة من تراجع هذه الحدود. فالعولمة تتضمن بروز عالم بلا حدود. ولكن هذا العالم ما زال غير موجود حتى الآن، أي أنها عولمة غير كاملة، لأن الحدود الثقافية ما زالت، والدولة باقية، والثوابت السياسية ما زالت موجودة، رغم كل الاختلافات التي حصلت من العالمي للمحلي.
وعلى الرغم من أهمية هذه التعريفات، إلا أن تعريف جيمس روزناو( ) للعولمة فيه قدر عال من التميز، لأنه حدد المشكلات المرتبطة بمفهوم العولمة منذ البداية، وطرح العديد من الأسئلة كالعوامل التي أدت إلى بروز ظاهرة العولمة، وهل جاءت نتيجة انهيار نظام الدولة ذات الحدود المستقلة، وهل العولمة تتضمن زيادة التجانس أم تعميق الفوارق والاختلافات... وهل تهدف العولمة توحيد العالم... وهل تنطلق من مصادر رئيسة واحدة، أم من مصادر متنوعة ومتداخلة، وهل تنطلق من اعتبارات اقتصادية وإبداع تقني..؟
إن الإحاطة بهذه الأسئلة تؤشر تعمق روزناو في استيعاب مفهوم العولمة، إذ انطلق في فهمه من اعتبارات ثلاثة: أولها: تتعلق بانتشار المعلومات، وثانيها تتعلق بتذويب الحدود بين الدول. وثالثها تتعلق بزيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات. ويخلص إلى نتيجة مفادها أن العولمة تتمثل في سهولة حركة الناس والمعلومات والسلع بين الدول على نطاق كوني، وهذه السلع نفسها يقسمها روزناو على ست مجموعات هي: بضائع وخدمات، أفراد، أفكار ومعلومات، نقود، مؤسسات، أشكال من السلوك والتطبيقات( ).
وشارك عدد كبير من الباحثين العرب في وضع تعريفات للعولمة؛ فهذا صادق جلال العظم يعرف العولمة بأنها "حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها، وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ( ).
فيما يرى الدكتور سيار الجميل أن العولمة تشكل نظاماً عالمياً له أدواته ووسائله وعناصره، وكانت منجزاتها حصيلة تاريخية لعصر تنوعت فيه تلك التطورات التي ازدحم بها التاريخ الحديث للإنسان( ).
ويشارك د. برهان غليون في أن العولمة نظام تتجسد فيه نشؤ شبكات اتصال عالمية تربط جميع الاقتصاديات والبلدان والمجتمعات ليخضعها لحركة واحدة( ).
ويمكن استخلاص المضامين الآتية للعولمة من التعريفات الآنف ذكرها:
1. العولمة تشير إلى كثافة التفاعل بين الفواعل السياسية الدولية (الرسمية وغير الرسمية) في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.
2. لم يعد للحدود الجغرافية فاعلية كما كان لها في السابق، وقد فتحت أدوات العولمة الحدود وجعلت أبناء الشعوب يتواصلون مع بعضهم البعض.
3. أزالت العولمة القيود والمعوقات التي كانت الدول تضعها على الأنشطة المتعددة المضامين.
4. العولمة تختلف عن العالمية. وإذا كانت العالمية تعني انطلاقة الثقافة المحلية نحو العالمية من أجل التفاعل والحوار والمثاقفة والانتشار، فإن العولمة تعني فرض إرادة القوى العظمي على الدول والفواعل المدنية وغير الحكومية وجعلها تتبع نموذجها.
5. للعولمة مضامين وتجليات يتفق معها البعض ويرفضها آخرون. ولها آليات مهمة للجميع، فمن أخذ بها تمكن من التعامل مع مستجدات العصر، ومن رفضها أغلق الباب عليه، ولا بد من التمييز بين مضامين العولمة وآلياتها، وخاصة الاتصالات والمعلومات.
6. العولمة بمضمونها الواقعي تعني الهيمنة وفرض أنماط سياسية واقتصادية وثقافية على الأمم والشعوب لتحقيق مصالح القوى العظمي التي تبشر بها وتسعى لتحقيقها.
فالعولمة -كما نرى- ظاهرة استعمارية قديمة تتجدد، ترمي إلى جعل العالم مفتوحاً في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والإعلامية، تعتمد آليات اتصالية متقدمة تقنياً، وتستثمر كل ما أنتجه العقل البشري من علم ومعلومات وتقنية. وتهدف كذلك إلى أن يصبح العامل الخارجي حاضراً في نسيج الحياة المحلية في الدول القومية، بحيث يتغلب عليها وتفرض نموذجه عليها. الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف الدول القومية ويحد من سيادتها واستقلالها، ومن سلطاتها السياسية.
وعليه فالعولمة ظاهرة قديمة متجددة بثوب آخر، وهي امتداد شرعي للحداثة، وتجاوز لها، وهي تجسيد للتطورات الفكرية والعلمية والتقنية، التي ظهرت في مرحلة "حضارة الموجه الثالثة التي روج لها الكاتب الأمريكي ألفن توفلر، ومست الثوابت المعروفة كسيادة الدولة، واستقلالها الوطني، أو مست إن لم نقل اخترقت الهويات الثقافية للأمم والشعوب التي تعيش على الهامش، وتشكل الأطراف حول المركز الرأسمالي الصناعي المتقدم.
2- العولمة مصطلح حديث أم قديم؟
ساد الاعتقاد بأن العولمة مصطلح جديد ظهر في عقد التسعينات أي بعد انتهاء الحرب الباردة، وترافق ظهورها مع جملة التطورات الدولية أبرزها انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك الكتلة الشيوعية، وصعود للولايات المتحدة لتحتل موقع القيادة العالمية، كما رافقها الثورة التقنية والعلمية والمعلوماتية، ولكن البعض أرجع العولمة إلى عصور قديمة، فهذا الاقتصادي العربي سمير أمين يرى أنها بدأت منذ خمسة قرون، أي مع غزو الإنكلوسكسون لأمريكا، والاكتشافات الجغرافية التي قام بها الأسبان والبرتغاليون نحو أمريكا الوسطى والجنوبية، ونحو أسيا إلى الهند والصين، وجاءت الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر، لتدفع الدول الصناعية للبحث عن أسواق في مختلف بلدان العالم، وعن مواد أولية لتسيير الماكينة الصناعية، وأبرمت في القرن العشرين العديد من الاتفاقيات الدولية التي أشرت شيوع مفهوم العالمية في تكثيف التفاعلات السياسية والثقافية والاجتماعية( )، ولكن العولمة ظلت ذات طابع إقليمي، وبقيت في أغلب الحالات مجرد نزوع لم يصل إلى مستوى الحقائق الملموسة على الأرض، كما هو الحال بفضل التطور السريع في تقنية الاتصالات والمعلومات( ).
ويرجع جلال أمين العولمة إلى عهد ماركس وانجليز عندما أصدرا البيان الشيوعي 1848، إذ قالا أن السلع التي تخرج من مصانع الرأسمالية ستأخذ في الانتشار شرقاً وغرباً، ولن يفلح في صدها أي سور ولو كان بمناعة سور الصين. أما الحديث عن العولمة مؤخراً فهو ليس جديداً، ولكن الجديد هو انتشارها السريع ووصولها أرجاء الكون بسبب وسائل الاتصالات الحديثة، فالعولمة هي بنت التطور أو التقدم التقني ابتداء من اختراع العجلة فالبوصلة فالآلة البخارية، ثم التلغراف فالطائرة والتلفاز والكومبيوتر وأخيراً الإنترنت( ).
ويتضح أن المقصود بالتاريخ القديم للعولمة، هو مضمونها الاقتصادي، والذي يفيد تطور الرأسمالية عبر حقب التطور الصناعي في بلدان الغرب بعامة.
ويرى رولاند روبرتسون أن بداية العولمة كانت مع ظهور الدولة القومية الموحدة، أي منذ حوالي منتصف القرن الثامن عشر. وقد تعقب روبرتسون البعد التاريخي للعولمة وقسمه إلى خمس مراحل، تبدأ بالمرحلة الجنينية التي بدأت من القرن الخامس عشر حتى الثامن عشر، وفيها ظهرت المجتمعات القومية وتعمقت الأفكار الخاصة بالفرد والإنسانية، ثم مرحلة النشؤ في المدة 1850-1870م، التي نشأت فيها الاتفاقيات الدولية، والمؤسسات المتعلقة بتنظيم العلاقات والاتصالات بين الدول( ). ثم مرحلة الانطلاق للمدة من 1870-1920م، وفيها تم دمج المجتمعات في المجتمع الدولي، أما المرحلة الرابعة فهي التي اتسمت بالصراع من أجل الهيمنة والتي استمرت من 1920-1965م، وفيها بروز دور الأمم المتحدة. والمرحلة الخامسة والأخيرة فهي مرحلة عدم اليقين 1965-1990، وفيها تم دمج العالم الثالث بالمجتمع الدولي، ونشوب الحرب الباردة وشيوع الأسلحة الذرية، وظهور العديد من المفاهيم الخاصة بالفرد( ).
ومهما قيل عن قِدم مفهوم العولمة، فإن هذا المصطلح لم يدخل قاموس أكسفورد، إلا في عام 1991، واصفاً إياه بأنه من الكلمات الجديدة، فصار مفهوم العولمة في عقد التسعينات من القرن الثاني من أكثر المصطلحات تداولاً وانتشاراً في الغرب والشرق والجنوب، وحظي باهتمام العامة والخاصة من أبناء الشعوب، وقد عقدت الندوات حوله، وألفت الكتب ووضعت الدراسات التي فصلت في مفهوم العولمة وجذورها ومضامينها، ودخل مصطلح العولمة إلى حيز الفكر فأقبل عليه البعض وعارضه البعض الآخر.
المبحث الثاني
مضامين العولمة وأبعادها
1- العولمة الاقتصادية
عندما يتحدث بعض المفكرين عن تاريخية العولمة، فإنهم يقصدون العولمة الاقتصادية، قبل أن تصير مفهوماً سياسياً وثقافياً واجتماعياً وإعلامياً، ويعود ارتباط العولمة بالاقتصاد إلى المظاهر والمضامين الأكثر وضوحاً للعملية الاقتصادية وتطورها عبر المراحل التاريخية التي أشار إليها روزناو.
وقد ظهرت العولمة بالأساس في مجال الاقتصاد، ونتاجاً للثورة العلمية والتقنية، إذ تغير شكل الرأسمالية، وانتقلت من إطار الدولة الرأسمالية العابرة للقوميات، وبعد هذا التطور، صارت الحركة الاقتصادية محكومة من قبل فواعل مرتبطة بالمجموعات المالية والصناعية الحرة، وصار للقطاع الخاص دور في السياسة الدولة( ). فالبعد الاقتصادي للعولمة يمثل البعد الأكثر تحققاً واكتمالاً في الواقع إذا ما قورن بالأبعاد الأخرى. والعولمة الاقتصادية تعد القاطرة التي تجر خلفها قطار العولمة بكل مضامينها الأخرى( ).
والعولمة قديماً كانت تستهدف السيطرة والهيمنة على الموارد والمواد الأولية، وعضلات الإنسان، كما استهدفت إنسانية الإنسان، وتفرده وهويته، وأخيراً استهدفت عقله من خلال ثورة المعلومات، أي استهدفت الإنسان كونه كائن عاقل يمارس ملكة التفكير.
ونظراً لوضوح التجليات الاقتصادية خلال السنوات العشر الماضية من أواخر القرن العشرين. فقد ظهرت الفواعل الاقتصادية جلية في زيادة حجم التجارة الدولية، وتحرير التبادل التجاري والخدمي، وتحرك رأس المال حرية وبدون حواجز، واتساع دور الشركات المتعدية الجنسية، وظهور ما يسمى بالاقتصاد المتشابك، وقيام الكثير من الشركات بإنتاج السلع الكونية، واشتداد حدة المنافسة بين الدول والشركات، وشيوع حركات الخصخصة في الدول الصناعية المتقدمة، وفي الدول النامية على حد سواء( ).
إن هذه المظاهر والتجليات، باتت تثير المخاوف لدى الباحثين ولدى المسؤولين في بلدان الجنوب، فهذا د. محاضير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق ينظر إلى هذه التجليات على أنها تتجاوز تحرير التجارة وإلغاء القوانين والأحكام القومية التي تعوق التجارة وتدفق رؤوس الأموال عبر الحدود، إلى شكل جديد من الاستعمار الاقتصادي مستندة إلى المبادئ الأساسية للرأسمالية العالمية( ).
فالخوف آت من مظاهر العولمة الاقتصادية التي تعبر عنها الشركات المتعدية الجنسية، لأنها صارت هي الأداة الحقيقة الأولى المعاصرة، والشاملة اليوم، لمدى النمو الحقيقي الذي حققته هذه الشركات. إذ ارتفع عددها 15 سنة ارتفاعاً كبيراً. ففي عام 1975 كان عدد الشركات الكبيرة 11 ألف شركة تتحكم في 82 ألف شركة فرعية في العالم. وارتفع عددها عام 1990 إلى 37500 شركة كبيرة تتحكم في 207 آلاف شركة فرعية في العالم( ).
وعن دور الشركات المتعدية الجنسية الكبرى، نشرت مجلة فورشن الصادرة في شهر تموز/يوليو 1996 بيانات وردت في تقرير التنمية في العالم لعام 1996 صادر عن البنك الدولي، جاء فيه أن الشركات الكبرى محصورة في الدول الصناعية الكبرى وتتخذ مقراتها في عواصمها، فمن أصل 500 شركة كبرى، هناك 418 شركة تتخذ مقرها في واحدة من 18 دولة عضو في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي يبلغ عدد أعضائها 36 دولة وهي الدول الرأسمالية الأكثر أهمية في مجال الاقتصاد العالمي وبلغة الأرقام نجد أن في الولايات المتحدة 222 شركة كبرى، وفي الاتحاد الأوروبي 145 شركة وفي اليابان 71 شركة وفي أسيا-الهادي 35 شركة، وفي كندا 13 شركة. أما دول أمريكا اللاتينية فلا يوجد فيها سوى 8 شركات وأربع شركات في أفريقيا وشركة واحدة عربية مقرها في السعودية( ).
وذكرت مجلة فورشن أن أرباح الشركات الكبرى بلغت عام 1994 281.8 مليار دولار، وارتفعت عام 1995 إلى 323.4 مليار دولار، ثم إلى 452 مليار دولار عام 1997 أي بنسبة زيادة مقدارها 39.8%. وارتفع إجمالي إيرادات الشركات من 10.3 تريليون دولار عام 1994 إلى 11.4 تريليون دولار عام 1995. ثم ارتفع إلى 11.5 تريليون دولار عام 1997، أي بزيادة مقدراها 0.8%( ). وفي إحصائية نظمنها د. إسماعيل صبري عبد الله قدر مجموع إيرادات الشركات الـ 500 بما يعادل 159.8% من مجموع إجمالي الناتج المحلي لـ 109 دول تقطنها الغالبية العظمي من سكان العالم.
ورغم ارتفاع أرقام الإيرادات والأرباح، إلا أن عدد العمال في هذه الشركات قليل جداً نظراً لقيمة الأسهم الخاصة بهذه الشركات وأرباحها( ).
إن هذا الوضع يؤشر مقدار هيمنة الشركات المتعدية الجنسية على الدول الصناعية الرأسمالية، وعلى الدول النامية في مجالي الإنتاج والتجارة. كما يخلق هذا الوضع الذي يظهر حالة عدم التكافؤ بين الشركات والدول، الكثير من الفساد والانحلال والتخريب الإداري والمالي في الدول، بسبب ما تقدمه الشركات من رشاوى أثناء إبرامها العقود مع مسئولي الدول، سواء الدول الصناعية أم الدول النامية( ).
ومع وضوح الهيمنة الاقتصادية العولمية من خلال أدواتها المتمرسة ممثلة في الشركات المتعدية الجنسية، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، برزت إلى العيان مشكلة دور الدولة القومية، وفكرة السيادة الوطنية، وبالتالي دور الدولة في ظل العولمة الاقتصادية.
في عصر الرأسمالية التجارية، وهو عصر بزوغ الدولة القومية، كان على الدولة أن تتدخل في الاقتصاد القومي الحديث النشأة، وكان عليها إزالة العقبات من أمام انتقال السلع من مقاطعة إلى أخرى، وتوفير الأمن اللازم لهذه الانتقال، وشق الطرق ومد الترع، وفرض سياج جمركي حول الدولة لحماية الصناعة الناشئة من منافسة دول أخرى. وكانت الدولة تتدخل في عمليات الإنتاج، وتفرض المواصفات الخاصة في إنتاج السلع الصناعية، كما تنشئ الجيش اللازم لفتح المستعمرات لتسويق ما تنتجه إليها، ونهب المواد الأولية اللازمة للصناعة منها.
وفي عصر الثورة الصناعية تراجع دور الدولة من حيث التدخل وحماية منتجاتها الصناعية من المنافسة الخارجية، ولكنها زادت من قوة جيوشها لفتح المزيد من المستعمرات في عالم الجنوب، ولكن الدولة لم تختف على الرغم من هذا التغير الذي طرأ على وظائفها. وفي مدة الحرب الباردة تعزز دور الدولة في العالم الثالث وباتت تتدخل في الصغيرة والكبيرة في الاقتصاد والمجتمع، وتخطط للاقتصاد الوطني وتضع الخطط الخمسية، وتفرض القيود والجمارك على منتجاتها الصناعية. وعندما بزغ نجم الشركات المتعدية الجنسية، تراجع دور الدولة لصالح الشركات ولصالح المنظمات غير الحكومية، وتراجع دورها في دعم الطبقات الفقيرة، في إطار تحقيق العدالة الاجتماعية وهذا هو الخلل الذي ينذر بعصر جديد من الهيمنة الأجنبية على القرار الوطني.
إن العولمة الاقتصادية تعني بروز تقسيم عمل جديد للاقتصاد العالمي الذي لم يعد يخضع اليوم للرقابة التقليدية، ولم يعد يؤمن بتدخل الدولة في نشاطاته، وخاصة فيما يتعلق بانتقال السلع، والخدمات ورأس المال. وصارت الآن عمليات دخول الأموال وخروجها تتم على نطاق واسع بالمليارات وبأسرع ما يمكن من خلال شاشات الكمبيوتر، وباتت السلطة النقدية عاجزة عن الدفاع عن أسعار الصرف وعن أسعار الفائدة وعن أسعار الأوراق المالية في البورصات، وهكذا تحول العالم إلى رهينة في قبضة حفنة من كبار المضاربين الذين يتاجرون بالعملات الأجنبية والأوراق المالية( ).
وتلعب الشركات العملاقة المتعدية الجنسية دوراً ضاغطاً على حكومات بلدان عالم الجنوب بخاصة، والتأثير في سياسياتها وقراراتها المتعلقة بالسيادة، ولاسيما إذا علمنا أن رأس مال شركة واحدة يفوق إجمال الدخل القومي لـ 10 أو 15 دولة أفريقية مجتمعة( ).
وقد كان من شأن التنامي الهائل في قوة الشركات المتعدية الجنسية أن تضاءلت قوة دول الجنوب في مواجهتها، بل صارت فريسة لها استغلت مواردها الطبيعية الزراعية والمعدنية ومصادر الطاقة، كما استغلت العمالة المحلية الرخيصة في ظل غياب تنظيمات عمالية قوية. ويقابل ذلك استحواذ الشركات على نسبة كبيرة من قروض المؤسسات الدولية، والدول المانحة والتهرب الضريبي والتحايل على السلطات الضريبية في دول الجنوب، إضافة إلى عدم التزامها بمعايير الأمان في المصانع المقامة في هذه الدول مما يعرض العمال والبيئة إلى مخاطر كبيرة( ).
ويعد ملتون فريدمان( ) رائد المدرسة الداعية إلى عدم تدخل الدولة، انطلاقاً من المقولة الأساسية لهذه المدرسة، وهي: "ما يفرزه السوق صالح، أما تدخل الدولة فهو طالح". وهكذا صار عدم تدخل الدول إلى جانب تحرير التجارة وحرية تنقل الأموال، وخصخصة المشروعات والشركات الحكومية، أسلحة إستراتيجية في ترسانة الحكومات المؤمنة بأداء السوق، وفي ترسانة المؤسسات والمنظمات الدولية المسيرة من هذه الحكومات والمتمثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الدولية، والملفت للنظر أن تطبيق برامج الخصخصة في بلدان الجنوب لم يراعي اعتبارات الأمن القومي، ولم تضع قواعد واضحة للتصرف في عائدات الخصخصة، ولم تراعي الاعتبارات الاجتماعية ذات الصلة بحقوق العمال في المشروعات الاستثمارية( ).
وإذا كانت العولمة الاقتصادية تقود إلى الهيمنة على العالم الصناعي وعلى عالم الجنوب والشرق بعامة، فإن مخاطرها على دول الجنوب تتلخص في إبقائها محصورة في قطاعات الإنتاج الزراعية والمعدنية التي ترتبط بالشركات الكبرى، وكذلك السيطرة على أنماط التصنيع التكنولوجي في دول الجنوب عن طريق تعميق اندماجها في السوق العالمية، والسيطرة على شبكات الإنتاج والتسويق والتوزيع وبالتالي الخضوع التام لرأس المال الصناعي المعولم.
إن تبعية بلدان الجنوب للعولمة الاقتصادية وأدواتها، يشق وحدة هذه البلدان ويحول دون ظهور تكتلات تجارية فيها تسعى للمشاركة في صنع القرار الاقتصادي الدولي، كما أنها تبقي بلدان الجنوب بعيدة عن حركة التصنيع ومنزوية في قطاع الزراعة المتخلف، وبالتالي تظل أسواقاً مفتوحة أمام البضائع المصنعة في الشمال، وتظل ثرواتها نهباً للشركات المتعدية الجنسية( ).
وعندما تفتح دول الجنوب أسواقها أمام المنتجات الصناعية لدول الغرب، فهذا يعني دخولها في منافسة غير متكافئة بينها وبين شركات لا وطن لها، ولا هم لها سوى الربح. وعليه فإن العولمة الاقتصادية تفتح باب الصراع بين الدول أكثر من أي حقبة سابقة، ولا يستبعد استخدام أية وسيلة في هذا الصراع، وبالنهاية فإن الهوة بين الشمال والجنوب ستزداد إذ أشار التقرير العالمي للتنمية البشرية الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة لعام 1992، إلى أن الفرق بين الشمال والجنوب صار من 1-150 ضعفاً. إذ أن 20% من سكان العالم يملكون 82.7% من الدخل العالمي، في حين أن 80% من سكان العالم يملكون أقل من 18% من ثروته( ). وتصاعد الفرق بين الشمال والجنوب خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين.
ويمكن أن نلخص أبرز مظاهر العولمة الاقتصادية بـ:
1. "اتساع نشاط الرأسمالية من خلال الشركات المتعدية الجنسية وتنامي قوتها -كما أسلفنا-.
2. تقويض دور الدولة القومية في مجالات الاقتصاد والسياسية( ).
3. إضعاف فاعلية السياسات الاقتصادية الوطنية، بسبب تقييد الحكومات باتفاقيات التجارة الدولية.
4. عولمة السوق الاستهلاكية وعولمة العرض والطلب، بفعل تكنولوجيا الدعاية والإعلان.
5. وأخيراً إهمال، البعد الاجتماعي، وإضعاف النقابات العمالية أن لم نقل تدميرها، وبالتالي فقدان العدالة في المجتمعات.
إن كل هذه الاختلالات هي تعبير أزمات اقتصادية تصاحب العولمة الاقتصادية ومن الخطير أن هذه الأزمات لم تبق في إطارها المحلي أو الإقليمي بل امتدت على نطاق عالمي، فالأزمة الاقتصادية التي حصلت في بلدان جنوب شرق أسيا، كانت نموذجاً للتصدير إلى مناطق أخرى في العالم في أمريكا اللاتينية أو أفريقيا أو روسيا( ).
وقد لعبت وسائل الإعلام الغربية دوراً تثقيفياً كبيراً للترويج لأفكار ومضامين العولمة الاقتصادية، بدعوى أنها تنمي الاستثمار وتزيد في كفاءة المؤسسات الإنتاجية، وقد ساهم الكتاب الاقتصاديون في الترويج لفكرة الخصخصة، بدعوى فشل القطاع العام. وبفعل تأثير آليات العولمة الاقتصادية فقد انساقت كثير من دول الجنوب ورضخت لأفكار الخصخصة وبيع القطاع العام، وفتح أبواب البلاد أمام الاستثمارات الأجنبية التي لا هم لها سوى الربح السريع على حساب حياة مجموع الفقراء.
2- العولمة السياسية
أخذت العولمة الاقتصادية تحد من سلطة الدولة القومية، وتأخذ بعض صلاحياتها، وفي خضم انتشار آليات العولمة بكل مضامينها بدأ الحديث عن الأقليات العرقية والطائفية، وأبرز الخصوصيات والهويات الثقافية المتعددة بهدف القضاء على الشخصية الوطنية والهوية الثقافية التي تميزها.
ولم يعد التطرف والعنف والنزعات العرقية والطائفية محصوراً في بلدان الجنوب فقط، بل صارت ظواهر تسود الدول الصناعية، إذ ظهرت مؤخراً جماعات في أوروبا ذات توجه فاشي نازي، تستهدف المهاجرين الأجانب القادمين إلى بلدانها من الجنوب، وبالأخص في ألمانيا وفرنسا.
وإذا كان الغرب يهتم لوجود ظاهرة العنف في البلدان الإسلامية والبلدان الفقيرة في الجنوب، فإن العولمة أسهمت في تغذية نزاعات التطرف لدى بعض الجماعات الدينية، التي تصرفت بردة فعل على سلوك دعاة العولمة الذي يتسم بالانحلال والفساد( ). وقد شهدت بلدان عربية مثل مصر والجزائر أعمال عنف مدمرة، كان في مقدمة أسبابها رد فعل على أنماط السلوك التي سادت قطاعات في المجتمع، تقليداً لأنماط سلوك الغربيين، إضافة إلى أسباب أخرى مثل الفقر والبطالة.
لقد دخلت الدولة القطرية في عالم الجنوب مرحلة العولمة، وهي ما تزال عالة على حضارة عصرها، ولم تستطع تجاوز حالة التخلف التي تعيشها، ولم تلحق بالمستوى الذي وصلته الدول القومية في أوروبا، فلم تصير دولة ديمقراطية أو دولة قانون ومساواة وعدل. وعندما تتخلى مثل هذه الدولة عن حدودها وسلطاتها المعروفة وتسمح للشركات بأن تسيطر على حركة الاقتصاد في البلاد، فإنها تصير دولة هامشية، خارج المسيرة العالمية للعولمة، ومن أجل أن تسير مع الركب، يجب أن تُجرى إصلاحات محددة، في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفق الوصفة الغربية بعامة والأمريكية بخاصة( ). وبالتالي لا يبقى لها من صلاحيات إلا استخدام العنف لحماية مصالح الشركات.
لقد فرضت العولمة في ظل التطورات السياسية الدولية ممثلة بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي رعتها الأمم المتحدة، أو التي تحققت باتفاق بين الدول، فرضت حالة جديدة من خرق السيادة الوطنية التي كانت إلى وقت قريب من الثوابت التي لا يجوز المساس بها، وشأن داخلي أكدت عليه مواد ميثاق الأمم المتحدة.
إن اشتراك الدول في المنظمات والهيئات الدولية وإبرامها الاتفاقيات الدولية، وتفاعلها السياسي والاقتصادي، أثر تراجع مبدأ السيادة الوطنية للدول القومية، والسيادة كما حددها المفكر الفرنسي جين بودان قبل أربعة قرون ونيف، تعني القدرة الفعلية للدولة على إنفاذ إرادتها في المجال الدولي، كما أن الاتجاه المتنامي نحو احترام حقوق الإنسان والتوقيع على الاتفاقيات الدولية الخاصة بخصوص الإنسان حدت من سيادة الدول، وجعلت أسوارها هشة أمام النقد الصادر من منظمات حقوق الإنسان. وقد ساهمت العديد من المشكلات ذات الطابع الدولي في دفع الدول للتنازل عن حقها المطلق في السيادة، وأن تتعاون فيما بينها وتسخر إمكاناتها المادية لمواجهة تلك المشكلات مثل: مشكلات البيئة، والتلوث والأعاصير والزلازل، ومشكلات الطاقة وندرة المياه والجفاف والتصحر وثقب الأوزون، ومشكلات البطالة والفقر والمرض والجهل ونقص الغذاء والدواء، ومشكلات العنف والإرهاب.
وعليه فإن الدول أخذت بقبول مفاهيم جديدة أو تعريفات جديدة لمصطلح السيادة الوطنية مثل (السيادة الجزئية) أو (السيادة المقيدة) أو (السيادة المشتركة)( ).
إن المظهر الجديد للدولة القومية يؤشر أنها تنازلت عن دورها المركزي في فرض السيادة الذي مارسته منذ زمن طويل، وأفسحت المجال لمنظمات المجتمع المدني أن تأخذ دورها في ممارسة لعبة السياسية داخل البلد، وتشارك في إدارة منظمات المجتمع المدني على صعيد عالمي، فصارت تعنى بالشؤون الإقليمية والدولية، وتدير أنشطتها من خلال شبكات اتصال عالمية كالبريد الإلكتروني ووسائل الاتصال الحديثة، وصار نشاطها الداخلي يقوم على أساس التضامن مع مثيلاتها في العالم وخاصة منها منظمات حقوق الإنسان( ).
ومن المظاهر الجديدة تنامي دور المنظمات غير الحكومية في تنفذ سياسات كانت من اختصاص الدولة القومية كدورها في مجالات التعليم والرعاية الصحية والثقافية والإعلامية، إضافة إلى تنامي دور النقابات والاتحادات وتفاعلها المهني والسياسي مع مثيلاتها في العالم.
أن الشأن السياسي، هو شأن وطني محلي، يرتبط بمفهوم السيادة والاستقلال، وكذلك فقد ظلت السياسة من اختصاص الدولة التي تحرص على عدم التفريط بها، واحتكارها في نطاقها الجغرافي والوطني الضيق. كما أن ممارسة الدولة لسيادتها وسلطتها الوطنية من أهم مقومات وجودها وهيبتها التي تحرص على الحفاظ عليها حتى لو استخدمت العنف والقوة المتاحة.
ولما كانت العولمة تريد المساس بالمبادئ الأساسية التي يقوم وجود الدولة القومية عليها، فإن هذه الدولة على النقيض من العولمة، ونتيجة لطبيعتها المحلية ستكون من أكثر الأبعاد الحياتية مقاومة للعولمة التي تقود إلى انكماش العالم. وإلغاء الحدود الجغرافية، وتجاوز سيطرتها التقليدية على مجالها الوطني والمحلي.
وبمعنى آخر تزيد العولمة السياسية أن تبقي الدولة هامشية غير فاعلة في المسرح السياسي العالمي، وعلاوة على ذلك يشاركها في قراراتها السياسية هيئات متعددة الجنسية ومنظمات وجماعات دولية، تسعى إلى مزيد من الترابط والتداخل، والتعاون والاندماج، بحيث تكف الدولة القومية عن مراعاة مبدأ السيادة.
فالعولمة السياسية تقود بالتالي إلى القفز من فوق الدولة وسلطتها وهيبتها، ومن فوق الوطن والأمة إلى القبيلة والطائفة والجهة، وهنا نتحكم بكل جهة محلية جهة أجنبية، وبهذا تبقى الدولة القومية إطاراً وشكلاً غير فاعل في مسار الأحداث السياسية والاقتصادية، بل لا نغالي إن قلنا أن مثل هكذا دولة ستصير وكيلة للشركات والهيئات الدولية، تتلقى الرشاوى والهبات، كما يحصل في أكثر من بلد في الجنوب( ).
وقد روجت لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي إلى إقامة نظام عالمي جديد ينفي الخصوصيات القومية ويذوبها في إطار مجتمع عالمي على شاكلة المجتمعات الغربية. ومثل هذه الدعوة تعني تجاوز موضوعات السيادة والاستقلال بدعوى أنها صارت من تراث الماضي ولا بد من تجاوزها( ).
وعليه فإن العولمة السياسية تظل مشروعاً مستقبلياً، كما أن العولمة السياسية ستكون مرحلة لاحقة للعولمة الاقتصادية والثقافية. وتقيم عالماً بلا حدود سياسية، لن يكون تلقائياً أو بالسرعة نفسها أو سهولة قيام عالم بلا حدود اقتصادية( ).
ولا يتضمن مشروع العولمة السياسية- في رأي البعض- عدم إلغاء الدولة القومية، وإقامة حكم عالمي، بل يتضمن إدخال البشرية في مرحلة سياسية جديدة يتم خلالها الانتقال الحر للقرارات والتشريعات وسياسة القناعات والخيارات بين الدول( ). وهنا يكمن الخلل، إذ ستجري القرارات والتشريعات الصادرة من دول المركز الصناعية الكبرى، نحو الدول الصغيرة والفقيرة في عالم الجنوب. وعليه فإن تأثيرات العولمة السياسية والاقتصادية في بلدان الجنوب ستكون كبيرة، نظراً لعجزها عن مقاومة تدفق الأفكار والمعلومات والسلع والأموال والبشر عبر حدودها( ).
وقد استفادت قوى العولمة السياسية من قضايا عالمية مهمة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، واستخدمتها أسلحة ضد الدول القومية، وجعلتها مبرراً للتدخل في شؤونها أو أحد معايير التعامل معها. فعمدت هذه القوى العالمية على تعميم أنموذجها الديمقراطي في الانتخابات التي تخضع إلى هيمنة وسائل الإعلام وإلى رأس المال. في حين أنها أغفلت المحتوى الاجتماعي للديمقراطية، أي تحقيق العدالة والمساواة بين أبناء الشعب، لتجنيبهم الوقوع تحت فخ الإعلام والمال، وبالتالي تكون النتائج لصالح مالكي المال والإعلام، وهم رواد العولمة الاقتصادية. فالاحتكارات الرأسمالية باتت تشكل ديكتاتورية اقتصادية وسياسية وثقافية وإعلامية لإخضاع الأمم والدول ونزع هوياتها القومية منها.
وفي إطار العولمة السياسية جاءت فكرة التدخل العسكري لأغراض إنسانية كما حصل في الصومال والبوسنة وكوسوفا، بدعوى حماية الأمن البشري، وتتقاطع فكرة التدخل هذه مع مفهوم السيادة التي رعاها ميثاق الأمم المتحدة في المادتين الأولى والثانية. وثمة شرط ملزم لسيادة الدولة هو احترام سيادة الدولة المستقلة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
وتمادت الولايات المتحدة في تنفيذ أفكار الأمن البشري ونشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان إلى احتلال بلدان وإسقاط أنظمة الحكم فيها كما حصل في أفغانستان والعراق. وصارت العولمة السياسية سيفاً مسلطاً على الدول التي تخرج عن طوع الولايات المتحدة. وتقوم الأمم المتحدة بدور بارز في تنفيذ أفكار العولمة بكل مضامينها الأمريكية، نظراً لنفوذها داخل المؤسسات الدولية وخاصة مجلس الأمن.

3. العولمة الثقافية:
كما كانت العولمة الاقتصادية محصلة لتاريخ طويل من التطورات الاقتصادية والتجارية والمالية، فإن العولمة الثقافية لها تاريخ طويل يرتبط بالغزو الفكري وحملات التبشير- خلاف ما يقال بأنها ما زالت في مراحلها الجنينية الأولى ولم تبرز تجلياتها، إلا في تسعينات القرن الماضي، أي مع تطور تقنية الاتصالات والمعلومات. وإذا وجد إجماع على مفهوم العولمة الاقتصادية فان مثل هذا المفهوم غير موجود في العولمة الثقافية، فالعالم ليس موحداً ثقافياً، كما أنه لا وجود لنظام ثقافي عالمي كما هو الحال في وجود نظام اقتصادي عالمي، نظراً للغموض الذي يحيط بالعولمة الثقافية، وكذلك تنوع الثقافات الخاصة بالأمم والشعوب في العالم، وحرص كل أمة على هويتها الثقافية. كما أن معظم الشعوب تبدو غير مطمئنة من العولمة الثقافية، وغير واثقة من كيفية التعامل معها. ولذلك "فإنه في الوقت الذي يظهر فيه العالم ميلاً للانغماس في العولمة الاقتصادية، فإنه يظهر ميلاً للانكماش من العولمة الثقافية( )." ولكن تطور الاتصالات أتاح المجال أمام الثقافات لكي تنفتح على بعضها البعض، وتتأثر ببعضها البعض، ولم يعد بإمكان مجتمع أن ينعزل أو يعزل ثقافته عن المجتمعات الأخرى وعن ثقافاتها، فصارت منفتحة ومنكشفة بشكل لم يحصل من قبل. ولكن هذا الانكشاف لا يعني ذوبان الثقافات في بعضها البعض، بل أن التعدد والتنوع الثقافي، يغني الحياة ويسمح ببروز مفاهيم وقيم وقناعات ومواقف وسلوكيات إنسانية مشتركة. ولذلك فإن الهدف النهائي للعولمة الثقافية – إذا سلمت من التدخل المقصود- هو خلق عالم بلا حدود ثقافية وليس خلق ثقافة عالمية واحدة. ومثل هذا الهدف مال زال بعيد المنال، ولن يتحقق في الأجل القريب، على الرغم من تقدم وتطور وسائل الاتصال.
إن تطور وسائل الاتصال (الفضائيات، الكومبيوتر، الانترنت، البريد الالكتروني) يضمن انتقال الثقافات من مكان إلى آخر في العالم، ويسهل الحوار الثقافي والتلاقي الثقافي، في ظل نظام يحترم التوازن بين الأمم والشعوب وبين الدول الكبرى والصغرى على حد سواء. ولكن في ظل الهيمنة القطبية الأحادية بآليات التبشير بالعولمة الثقافية، وتحكمه بتدفق وسيولة الأنباء والتقارير والرسائل الثقافية يحول دون إجراء الحوار، بل تفرض قناة واحدة قوية ما تريده إلى الأضعف، وبالتالي تفرض الخرق الثقافي أو الغزو الفكري من القوى المتحكمة في القوى المحكومة، أو التي لا حول ولا قوة على المقاومة والتصدي لتيار العولمة الجارف. ويشكل الطوفان الذي تقذفه وسائل إعلام العولمة من شعارات وأفكار ومعلومات وصور، خطراً على الإنسان في الجنوب، بل تعمل على قلعة من جذوره الوطنية ليرميه بتفكيره خارج حدود الوطن. وفي الوقت الذي تسعى فيه قوى العولمة الكبرى إلى إشاعة الأنموذج الغربي- الرأسمالي الاستهلاكي، فإنها تشعل نار الفتنة والاقتتال في عالم الجنوب وتحوله إلى حالة من الفوضى المدمرة، وتكمن قدرتها على هذا الفعل في أنها اكتشفت الهويات الثقافية الجزئية في الدول القومية، أي ثقافة الأقاليم والطوائف والمجموعات الاثنية، وعملت على تحويلها إلى ثوابت قومية ذات مطالب سياسية تعمل على هز الأمن والاستقرار في الدولة( ).
العولمة الثقافية تحمل بين ثناياها نوعاً آخر من الغزو، تجسد في قهر الثقافة الأقوى الأضعف في العالم. فما حصل في غزو المهاجرين الأوروبيين الأوائل القارة الأمريكية، وإبادة الهنود الحمر، مثّل غزواً شاملاً بكل مضامينه، الغزو الثقافي وكذلك الأمر بالنسبة للمهاجرين الأوروبيين إلى استراليا( ).
تعد ظاهرة الغزو الفكري اعتداء على أمة معينة بهدف السيطرة عليها واستغلال ثرواتها. وكانت ردة الفعل مقاومة الاستعمار ومقاومة هذا الغزو بالتمسك بالثوابت والقيم وأنماط السلوك النابعة من البيئة الحضارية للأمة أو الشعب المعين. ويخبرنا التاريخ بأن الأوروبيين جاؤوا إلى دول الجنوب، ومنها البلدان العربية غازين، تحت شعار نشر الحضارة لدى أممها المتخلفة وإعمارها. وتحت هذا الشعار جاء نابليون 1799-1801 وجاء البريطانيون 1840 ثم في عام 1882 إلى مصر وجاء الصهاينة بموجب وعد بلفور 1917 إلى فلسطين وأقاموا كيانهم ألاغتصابي بالعنف والإرهاب. وتحت ذات الشعارات تنتشر آليات العولمة الاقتصادية والثقافية الإعلامية في معظم أنحاء العالم. لنشر قيم اقتصادية جديدة كالنزعة الاستهلاكية، وقيم ثقافية غريبة عن البيئات القومية وحضاراتها وثقافاتها.
إن ثقافة العولمة تقوم على جملة أوهام – كما يتصورها محمد عابد الجابري- هدفها الاختراق والتطبيع والهيمنة. فهذه الثقافة تتولى القيام بعملية تسطيح الوعي واختراق الهوية الثقافية للأفراد والأقوام والأمم... إنها ثقافة اشهارية إعلامية سمعية وبصرية تصنع الذوق الاستهلاكي، وتصنع الرأي السياسي. والأمر البين فيها هو أن ثقافة الاختراق محملة بايدولوجيا معينة، تعمل على اختراق الرغبة في البديل وشل نشدان التغيير لدى الأفراد والجماعات( ).
ومن الظواهر التي أفرزتها العولمة الثقافية تمكين النزعة المادية لدى الأفراد على حساب النزعة الروحية، ومن خلال النزعة المادية اتجهت العولمة الثقافية الغريبة من خلال آلياتها (كالسينما والفضائيات والانترنت) إلى حالة من التسطيح الثقافي، بتغليب مواد الترفية على القيم والمثل، وإغراق آليات الاتصال بمواد الإغراء الجسدي أو الإثارة الجنسية بما يزيد عن حاجات الإنسان الطبيعية. إن التركيز على النزعات المادية والحسية والجنسية بخاصة، يهدف إلى محو الخصوصيات والهويات الثقافية الوطنية، وإحلال الثقافة الغربية والأمريكية محلها، التي تهدف أيضاً إلى إشاعة نمط الحياة الأمريكية في الاستهلاك والانحلال والفساد ورفض كل ما يمت إلى الروح.
إن الاختراق الثقافي يهدف إلى تطبيع البشر والهيمنة عليهم وبالتالي سلبهم هويتهم الوطنية، بحيث يفقدون الانتماء للوطن أو الأمة أو الدولة. وينشدّون بأنظارهم نحو المؤسسات والشركات والشبكات الإعلامية العالمية. فالاختراق الثقافي يعني تسلل قيم وأفكار وعادات من مجتمع قادر قوي إلى مجتمع آخر أقل قوة أو فاقد القوة نهائياً، ويتم استخدام آليات اتصالية ذات تقنية عالية بهدف التأثير في مجتمع معين وخلق اتجاهات سلوكية وقيم جديدة لدى أبنائه. فالاختراق الثقافي، يعني تفوق مجتمع ما وشعوره بالقوة وانتهاجه سلوك الغطرسة، الذي يُلغي الحوار، ويسلب الإرادة ويلغي العقل والتفكير عند المجتمع المستهدف.
والعولمة الثقافية هي الإمبريالية الثقافية -كما عبر مورجنثاو- التي تتبع أكثر الطرائق مكراً ودهاءً وتسعى إلى السيطرة على عقول الناس تميداً للسيطرة الثقافية والسياسية على الدول المجتمعات الفقيرة( ). هذا الاختراق الفكري، أو الغزو الثقافي المنظم من قبل الأقوياء الفاعلين لا يستهدف الضعفاء فقط، بل يستهدف دولاً وأمماً في الغرب مثل فرنسا وكندا، وقد عب مثقفوها عن خوفهم وتوجسهم الشديد من مخاطر العولمة الثقافية التي تروج لها الولايات المتحدة( ).
إن الأمر المخيف هو أن نشهد الهجوم أو الغزو الفكري أو الاختراق الثقافي، في وقت تعاني فيها الثقافية الوطنية في عالم الجنوب من الوهن والضعف، ومنها أقطار الوطن العربي، فهذه البلدان، بسبب ضعفها وتخلفها والاختلالات التي تصيب مجتمعاتها لم تتمكن من إنتاج البديل الثقافي الوطني القادر على مواجهة هذا الطوفان الثقافي والإعلامي، الذي اخترق الحدود -بدون استئذان- فالمجتمعات في هذه البلدان باتت مجتمعات متلقية مستسلمة منبهرة لما تشاهده وتسمعه ولاسيما في ظل حالة العجز في آليات العمل الثقافي والإعلامي في دولها، ولذلك ظهرت قيادات منبهرة ومستسلمة للثقافة الوافدة الغازية، ولتيارات العنف والإرهاب، وتيار قليل تقوده النخب الثقافية والسياسية يدعو إلى الحوار والنقد البناء والتفاعل الإيجابي مع ظاهرة العولمة الثقافية( ).
4- العولمة الإعلامية
إن مصطلح اعلام العولمة يشمل كل أشكال الاتصال بكل وسائلها المطبوعة والمسموعة والمرئية التي تقوم بنقل الأنباء والأفكار بين الأمم والشعوب عبر الحدود الإقليمية والدولية. ويعني نفوذ إعلام دعاة العولمة بكل مضامينها، فهو إعلام يتميز بتقدم وسائله التقنية، ومؤهل لكل التطورات المستقبلية، فهو سلطة تقنية معقدة، تفرض سلطانها رغم إرادة الدولة القومية، وتثبت أفكاراً ليبرالية جديدة في شتى المجالات بهدف فرض الهيمنة، ولكنه لا يشكل نظاماً إعلامياً عالمياً، يحقق التوازن في تدفق الأنباء والمعلومات، ولا يتسم بالعدل، لأن كلا مدخلا ته آتية من الشمال وكل مخرجاته تؤشر الخرق الهائل لثقافة الجنوب، والعرب منهم.
إن الخرق الثقافي -الذي تحدثنا عنه- ما كان ليفعل فعله، لولا وسائل الإعلام المتطورة التي تملكها الدول الغربية بعامة والولايات المتحدة بخاصة. إذا أن الدول الغريبة هي التي تهيمن هيمنة مطلقة على وسائل الإعلام وصناعتها وتسويقها، والأمر الأكثر قسوة هو أن الدول الغربية والولايات المتحدة لا تهيمن على صناعة وسائل الاتصال والإعلام فقط، بل تسيطر على قنوات الاتصال في عالم الجنوب، ومن خلال البرامج والرسائل الإعلامية والثقافية، التي لا تتلاءم مع معتقدات الشعوب النامية وقيمها وعاداتها( )، وكمؤشر على الهيمنة الأمريكية يذكر مؤلفا "فخ العولمة" أن كلفة صناعة الأفلام الأمريكية بالمتوسط هو 59 مليون دولار للفلم الواحد، وهذا الرقم لا يستطيع المنتجون في أوروبا والهند صرفه على فلم واحد، كما أن محطة تلفازيه واحدة في هونغ كونغ تغطي أربع مناطق من المعمور يسكنها حوالي نصف سكانها( ).
لم تقتصر هيمنة الدول الغربية والولايات المتحدة على احتكار صناعة وسائل الاتصال والإعلام، بل هيمنت على الإنتاج الإعلامي والثقافي وأغرقت الأسواق بالبرامج الجاهزة التي تتميز بسمات يتقبلها المتلقي، لأنها تلبي أذواق الغالبية منه. ومن خلال هذا الاحتكار لوسائل الاتصال والإعلام تمكنت الدول الغربية بعامة وأمريكا بخاصة من بث رسائل متنوعة على مدار الساعة، معتمدة أسلوب التكرار غير الممل والتنويع الذي ينسجم وحرية الاختيار، والبث السريع والمتواصل، وتجزئة الرسائل الإعلامية بفواصل إعلانية مشوقة تثير الحس والغرائز( ). ولذلك ظل تأثيرها سريعاً وقوياً. ولا سيما تلك الرسائل التي تتضمنها الأفلام والمسلسلات المشبعة بالحاجات المستفزة للمشاعر والعواطف.
لقد أجبر إعلام العولمة وبالذات برامج الفضائيات، مواطني دول الجنوب على الاهتمام بقضايا دولية روجت لها وسائل إعلام العولمة، فصار الاهتمام واضحاً بقضايا حقوق الإنسان ومشاكل الأقليات، وتحولت المجتمعات الوطنية المحلية -إلى حد ما- إلى مجتمعات عالمية، وقد أثر هذا بدوره على سلوك صانعي القرار فيها. وتمكن إعلام العولمة من إشاعة -إلى حد ما- الكثير من القيم الغربية، واستطاع أن يضعف نظم الإعلام الوطنية إن لم يجعلنا تابعة له أو مقلدة لبرامجه وأسلوبه.
لقد اتضح أثر إعلام العولمة من خلال سرعة الانتشار وكثافته، وجاذبية البرامج التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية، وبالذات الفضائية، ويسود الاعتقاد لدى الباحث أن قلة من مشاهدي التلفزيون لم يشاهدوا مسلسل دالاس أو فلم تايتانيك أو أخبار وبرامج محطة CNN أو الجزيرة.
لقد فعلت وسائل الإعلام المتنوعة دوراً بارزاً في الترويج للنزعة الاستهلاكية إذ تشير الإحصاءات إلى أن الإنفاق العالمي على الدعاية للترويج الاستهلاكي ارتفع من 7.4 بليون دولار عام 1950 إلى 312.3 بليون دولار عام 1993، وكذلك ترويج لعادات وتقاليد وقيم غربية بهدف جعلها ضمن الهويات الثقافية للأمم في عالم الجنوب وأصبح الاستهلاك أسلوباً من أساليب التعبير عن الذات، ومصدراً من مصادر مقومات الهوية، والقدرة على الاستهلاك باتت تمثل عنصراً من عناصر الإشباع لدى المستهلك وأصبح الذوق والموضة وأسلوب المعيشة معياراً للتمايز الاجتماعي. وصار التسوق طقساً رئيسياً في ثقافة الاستهلاك( ).
ولم يقتصر الأمر على استهداف الثقافات الوطنية في العالم بل تعدى إعلام العولمة ذلك، إذ حولت بعض المناسبات الدينية إلى مناسبات استهلاكية أكثر منها مناسبات دينية (عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية). ففي هذه المناسبات تعرض الشركات الصناعية من خلال وسائل الإعلام والإعلان أحدث ابتكاراتها، وباتت المجتمعات المتأثرة بإعلام العولمة، تنسى المناسبات الدينية في معناها الحقيقي، وتنساق باتجاه القشور المتعلقة بتلك المناسبات. وأصبح الاهتمام بالطقوس التي ترسخها الرأسمالية الصناعية، بدلاً من الاهتمام بالمناسبات نفسها، والأمر نفسه ينطبق على إشاعة نمط سلوك جديد في المأكل والملبس، فهذه مطاعم الوجبات السريعة ماكدونالد تنتشر في معظم مدن العالم. كما أصبح بنطلون (الجينز) لباساً مميزاً للشباب في كل مكان، ولم يعد من السهل علينا التمييز بين الأوروبي والأسيوي أو الأفريقي، بين الرجل والمرأة( ).
ورغم كل ما يقال عن تأثير وسائل الإعلام في تغيير أنماط الحياة الاجتماعية في شعوب الجنوب باتجاه تخليها عن هوياتهم الثقافية، فإن ثورة وسائل الاتصال أحدثت تغيرات إيجابية في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية، فأصبحت وسائل الاتصال تحقق علاقات سريعة بين الاقتصاديين والسياسيين والمثقفين، وعلاقات تفاعلية بين شرائح المجتمعات في بلدان الشمال والجنوب على حد سواء، كما صارت وسائل الاتصال وسيلة للحوار بين الدول وصار التلفزيون والإنترنت والبريد الإلكتروني وسائل للاتصال بين الزعماء والدبلوماسيين في معظم دول العالم، وصارت وسائل الإعلام حصراً أحد المصادر الرئيسية لأصحاب القرار في الدول. كما أن هذه الوسائل ساعدت في الترويج لمبادئ حقوق الإنسان وخاصة النساء والأطفال، وصارت البرامج التلفازية وسيلة للشرح والفهم والتحريض حول قضايا الإنسان.
اتسم زمن العولمة الإعلامية بالتكامل أو الاندماج بين وسائل الإعلام الجماهيري وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وبفضل وسائل الاتصال المتنوعة، أمكن إيصال الرسالة الإعلامية بزمن قصير جداً، وتجاوزت في ذلك الزمان والمكان، بحيث صارت تخاطب الجماعات والأفراد بصورة خاصة من خلال المواقع الإلكترونية، كما أن دقة وسائل الإعلام وخفة وزنها صار بالإمكان بث الرسائل الإعلامية من أجهزة صغيرة مثل (الخلوي) والكومبيوتر الصغير (لاب توب)، كما صار بإمكان أي فرد أو مجموعة أن يبثوا تلفازياً من شقة صغيرة أو من باخرة في البحر أو طائرة في الجو.

المبحث الثالث
العولمة والأمركة والعرب
1. أمركة العالم من خلال العولمة
الكلام عن أمركة العالم، ووصفه بالعصر الأمريكي، ليس جديداً، بل هو فكرة قديمة في عقول زعماء الولايات المتحدة. فالرئيس الأمريكي ودرو ويلسن يعلن في خطاب ألقاه في بيتسبورغ في 29 كانون الثاني 1916 "أن أمريكا ولدت لتخدم الإنسانية"، ويزعم بمثالية مكشوفة" أن عَلَمَ أمريكا ليس علَمهَا وحدها، بل هو عَلَم الإنسانية جمعاء( ).
على الرغم من مرور حوالي ثلاثة أرباع القرن على كلام ويلسن، إلا أن عَلَم أمريكا لم يصر يوماً عَلَم الإنسانية، بل صار عَلَم أمريكا مكروهاً، تدوسه جماهير الجنوب بأقدامهم، ويمزقوه ويحرقوه في معظم المناسبات التي تشجب العدوانية الأمريكية.
فالعولمة هي مشروع عملي أكثر منه منظومة فكرية، وهذا المشروع يستفيد من كل المشاريع ذات الصفة المركزية المعروفة في التاريخ. إذ كان لديها رغبة في نشر نظامها على مستوى العالم وتعميمه على البشرية كلها. والولايات المتحدة تمثل هذا الطموح في نشر نظامها وتعميم سلوكها على العالم. فهو مشروع استعماري قديم تطور مع تطور الرأسمالية والعلم والتقنية ولاسيما في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات.
"إن رغبة أمريكا في تعميم أنموذجها، رغبة مثالية لا تنطلق من أرضية صلبة، ولا تملك أنموذجاً يغري الآخرين بالاقتداء به. فالولايات المتحدة لم تستطع حتى الآن تحقيق الوحدة أو الاندماج في دخلها، أي أنها تفتقد إلى المجتمع المتماسك، وإن كانت تظهر أمام الآخرين، بأن لديها إدارة منسجمة. وعليه فإن المجتمع الذي لا يستطيع تحقيق الوحدة في داخله، لا يمكنه أن يحقق المشروع الشمولي أو المركزي. وإذا قيل بأن الأنموذج الأمريكي يسود العالم، فإن هذا لا يعبر إلا عن فورة في مسار التاريخ، أفرزتها القوة العسكرية والاقتصادية والإعلامية التي تملكها الولايات المتحدة( ). ولكن مسار التاريخ لم ينته كما تصور فوكومايا، كما أن العقيدة الليبرالية والرأسمالية الجديدة، بنماذج غير مؤهلة لا يعتنقها الآخرون، ولا يحرصون على تقليدها أو إتباعها، لأنه أنموذج مفروض بالقوة والإغراء وسرعان ما ينكشف ويصبح منبوذاً ومرفوضاً".
إن رفض العولمة لم يكن من عالم الجنوب الذي وقع عليه أذى كبير بسبب سياسات الدول الأوروبية المشتركة، بل هو رفض من الغرب نفسه، لأن كثيراً من الكتاب والباحثين أدركوا جوهر السياسة الأمريكية التي تهدف لتحقيق مصالحها، حتى لو كانت على حساب وجود الملايين من عالم الجنوب أو الشرق، وما الشعارات المغلفة بثوب أخلاقي، إلا ستاراً لتحقيق مصالحها، ويلخص الفرنس فوهونو رؤيته للعولمة بـ:
• العولمة هي أمركة العالم، أي بسط الحلم الأمريكي على كوكب الأرض، وهي بقدر ما تلقى ترحيباً من الأمريكيين، تجد الرفض من المجتمعات التي تشكل الذاكرة التاريخية أساس هويتها وتماسكها الاجتماعي.
• العولمة والأمركة ليستا مترادفتين، فعولمة الشرق هي نتاج المدخرين اليابانيين والماليين الألمانيين، وعدد كبير من الشركات المتعدية الجنسية، إلا أن الذين يقربون بينهما، لا يعدمون مبرراً. فالملايين من سكان أوروبا والجنوب يشعرون بالقلق أمام مركز القرار في أمريكا وسلوكهم الإمبريالي.
• كثيرون من الأمريكان ينظرون إلى العولمة على أنها امتداد للتجربة الأمريكية وتكرار لها، في سبيل تخطي الحواجز، وفي الاستحواذ المتسارع على الدول والأوطان في العالم، فالعولمة هي بسط للأنموذج الأمريكي، والتفوق الأمريكي ليس في نظرهم حالة مؤقتة عابرة، بل يعبر عن التجاوب بين التجربة التاريخية الأمريكية والعولمة.
• المجتمع الأمريكي قائم على الاصطفاء وليس على الذاكرة الحضارية، فهو مجتمع مكون من مهاجرين اختاروا أمريكا مجتمعاً لهم. وهذا الوضع يمنح الولايات المتحدة خصوصية تشكل ميزة خاصة. فالأمريكي لا يشعر بتناقض بين وطنيته أو قوميته وبين العولمة، وهذا ما يشير إليه هنتنغتون في (صدام الحضارات)، ومقابل هذا الوضع الأمريكي، فالعولمة تشكل صدمة عنيفة للمجتمعات البشرية التي تشكل فيها الذاكرة التاريخية عنصراً رئيساً في تكوين هويتها وتلاحمها الاجتماعي سواء كانت في الجنوب أو في اليابان أو في أوروبا( ). ويخلص الكاتب الفرنسي في رؤيته إلى الترابط بين العولمة اليوم وبين التجربة التاريخية للولايات المتحدة إلى نتيجتين هما:
أ‌. إعطاء الولايات المتحدة ميزة إستراتيجية حاسمة لبسط أنموذجها ومنهج تفكيرها على ملايين البشر.
ب‌. إن الطابع المنفرد للتجربة الأمريكية يطرح على جميع المجتمعات البشرية مسألة الاختيار بين التمسك بهويتها وبين طريق العولمة( ). أما المجتمع الأمريكي فلن يشعر بأن العولمة تسلبه هويته لأن الولايات المتحدة، كياناً سياسياً مجزأة إلى مجتمعات، وهويتها الحضارية تكمن في العولمة ذاتها، وليس في الكيان القومي، كما هو حال المجتمعات الأخرى التي تملك حضارة عميقة وذاكرة تاريخية ممتدة عبر العصور، ومن الصعب أن تتخلى عن هويتها، تحت ضغط آليات العولمة.
إن أبرز نقطة في رفض العولمة، بل ومقاومتها، هي سعيها إلى إلغاء الهويات الثقافية للأمم والشعوب ذات الذاكرة التاريخية الحضارية، وتعميم أنموذج لم يكتمل حضارياً ولا يستند إلى ذاكرة تاريخية عميقة، كما هو حال الأمم الأخرى، ففي عصر العولمة يطرح مفهوم جديدة للهوية، إذ لا يمكن أن يوضع الإنسان أمام اختيار قسري، بين إنكار ذاته، أو إنكار الآخر.
ويرى أمين معروف أن العولمة تبدو للكثيرين في العالم، حتى في أوروبا، وكأنها طوفان يحمل نذر الكارثة. فهي أمركة لا تترك للشعوب مكاناً في العالم غير موقع اليتيم والمتطفل المنبوذ. فالعولمة ليست موضوع شك وارتياب حتى في بلاد ذات ثقافة مزدهرة مثل فرنسا. فهي (العولمة) أشبه بحصان طروادة لثقافة أجنبية مسيطرة تتطلع إلى الهيمنة( ).
يظهر جلياً أن الولايات المتحدة عرفت كيف تستفيد من الوضع الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة( ) لتقود ظاهرة العولمة معتمدة على قوتها العسكرية بالدرجة الأولى، وما العدوان العسكري الذي قادته على العراق ويوغسلافيا، إلا وجه من وجوه العولمة لفرض الهيمنة على العالم.
مما تقدم يبدو أن التوجه العام هو: رفض العولمة منذ البداية، في حين أن للعولمة دعاة يروجون لها، ويعددون إيجابياتها، وهم في ذلك يخلطون بين أدوات نشر العولمة، أي التطورات العلمية والمعلوماتية الاتصالية وبالذات في حقل الإعلام، وبين العولمة بكل تجلياتها وأهدافها. والأمر الذي يثير الشك والخوف والريبة، هو الخلل الواسع في امتلاك إمكانيات الإيصال والإعلام، فمنذ أن ظهرت وسائل الاتصال المعروفة في الغرب في القرن العشرين حصراً، كان الاختلال بيناً بين الشمال والجنوب، وعندما حاولت دول الجنوب أن تطرح مشروع النظام الإعلامي العالمي من خلال منظمة اليونسكو، الذي يدعو إلى تحقيق التوازن والعدالة في تدفق المعلومات من وإلى الجنوب، رفضته دول الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي انسحبت من اليونسكو ورفضت دفع حصتها المالية لها( ).
وما زال الخلل كبيراً بين الشمال والجنوب، أثر التطور الهائل في وسائل الاتصال والمعلومات، وهذا الوضع لا يقود إلا إلى حقيقة واحدة، هي بقاء الهيمنة الغربية في امتلاك وسائل الاتصال، والتفرد في صناعة الوسائل الإعلامية والثقافية التي تغطي كل وسائل الاتصال في العالم( )، بحيث تعرض الهوية القومية لشعوب الجنوب للخطر، فتعمل على تغريب المواطن عن مجتمعه، وتعويده على رؤية قيم غريبة عن مجتمعه، وكذلك الحال في الجانب الاقتصادي، إذ تسيطر الشركات الكبرى المتعدية الجنسية على حركة التجارة والمال في العالم، ولا يهمها إلا الربح، ويكشف الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه الناس في عالم الجنوب والشمال عجز مشروع العولمة الاقتصادية عن تحقيق نسب نمو عالية، أو القضاء على البطالة، أو تحسين المستوى ألمعاشي، والواقع يؤشر ازدياد نسب البطالة والفقر، وكذلك زيادة الأمراض في المجتمعات الغربية وفي الجنوب بخاصة.
إن آليات انتشار العولمة شيء والعولمة شيء آخر، وإذا كانت دول الشمال والولايات المتحدة قد امتلكت تلك الآليات فإنها هي الأقدر على استثمارها، وتحقيق أقصى الأرباح والفوائد منها، في حين يعيش عالم الجنوب في عصر آخر لا ينتمي إلى عصر الثورة التكنولوجية الثالثة، أو عصر الموجة الثالثة كما يسميها توفلر. فهذا العالم بدوله، ومجتمعاته يعيش داخل أسوار الفقر والمرض والعنف، إذ أصبح العنف والفقر والمرض وتلوث البيئة والكوارث الطبيعية، وارتفاع درجات الحرارة، والزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير أبرز سمات عصر العولمة، وهذه الظواهر ليست جديدة كل الجدة، وليست محصورة في عالم الجنوب فحسب، بل هي سمة للمجتمعات في الغرب، كما أن بعض المجتمعات في الغرب وفي أوروبا بوجه خاص أخذت تشهد نزاعات شوفينية خطرة تستهدف المهاجرين الأجانب القادمين من بلدان الجنوب( ).
إن صورة الحاضر اليوم امتداد لماضي الرأسمالية المتوحشة تؤشر مقدار البؤس الذي تعيشه البشرية في ظل الهيمنة الأمريكية والعولمة بكل تجلياتها فهي عولمة ديكتاتورية. لأنها أطلقت تعميمات ذات طابع شمولي غير ديمقراطي تجاوزت فيها العولمة الاجتماعية، وداست على جماجم الفقراء، إذ صاروا عبئاً ثقيلاً، في حسابات أصحاب الشركات والقوى المهيمنة، وتعالت الصيحات للحد من الانفجار السكاني في العالم، وبات شعار العصر الجديد "لينقذ كل نفسه بنفسه"، والأرقام التي تحفل بها تقارير الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية، وتقارير هيئات غير حكومية، تؤشر حجم هذا البؤس. كما تؤشر الخلل في التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين عالمي الشمال والجنوب والشرق.

2- العولمة بين الرفض والقبول
أشرت مضامين العولمة أنها نتاج غربي بعامة، وإن كانت الولايات المتحدة تريد أن تستثمرها لتنشر نموذجها الخاص وتفرضه على الأمم والشعوب في العالم. ولاسيما أنها تربعت على قمة هرم النظام الدولي الجديد.
إن نزعة السيطرة على العالم لدى الإدارات الأمريكية ليست جديدة بل هي محفورة في أذهان الزعماء الأمريكيين منذ الاستقلال، وظل اعتقادهم جازماً بأنهم المهيئون لزعامة العالم. وزادت هذه النزعة بفعل الواقع الجديد الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، حيث خرجت جميع أطرافها إما مهزومة أو منهكة، في حين خرجت الولايات المتحدة منتصرة عسكرياً، ومتفوقة اقتصادياً ونافذة سياسياً. فعلى الصعيد العسكري هي أول من صنع أسلحة الدمار الشامل وأول من استخدمت السلاح النووي في الحرب العالمية الثانية ضد اليابان، كما أنها حلت محل الإمبراطورية البريطانية في الانتشار في البحار والمحيطات وبناء القواعد الثابتة في معظم أرجاء العالم. وعلى الصعيد الاقتصادي تمكنت من إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإعمار ومنظمة التجارة العالمية، ومن خلال هذه الآليات الاقتصادية سيطرت على الاقتصاد العالمي، وصار الدولار هو العملة العالمية التي تغطي معظم العملات في دول العالم. وعلى الصعيد السياسي أنشأت الأمم المتحدة مع حلفائها المنهكين جراء الحرب الثانية، وصارت المنظمة الدولية بوابة للإدارات الأمريكية لتنفيذ سياساتها بغطاء قانوني.
زادت سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على مضامين العولمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظوية الشيوعية ومعها حلف وارسو العسكري، وزوال نظام القطبية الثنائية، وتفردها بقيادة النظام العالمي الجديد.
انطلاقاً من هذه الخلفية، ومن تراكمات سلوك الإدارات الأمريكية العدواني إزاء العديد من دول الجنوب، فقد تعالت صيحات الشعوب ضد العولمة، التي تم إلصاقها بالأمركة، في حين أن العولمة ليست أمريكية خالصة، وإن كان لها الوزن الكبير في نشرها أو فرضها بالقوة.
وقفت النخب السياسية والاقتصادية والثقافية في معظم بلدان العالم أمام خيارين: الأول رافض للعولمة بكلياتها من آليات ومضامين. والثاني قابل بها داعياً إلى نشرها والتفاعل معها. وأنقسم أصحاب الخيار الأول إلى فريقين الأول قبل بآليات العولمة أي بالوسائل التي تنفذ من خلالها، أي كل ما تضمنته ثورة الاتصالات والمعلومات ورفض مضامين العولمة، والفريق الثاني رفض الآليات والمضامين معاً، وفضل الانطواء والانعزال وقبول النتائج المترتبة على ذلك الموقف.
الرافضون للعولمة من بلدان الجنوب هم الذين انطلقوا من نظرة مسبقة مصممة على الرفض، ولا تعوزهم الأسباب والحجج التي يسوقونها لتأكيد صحة موقفهم. فالعولمة بنظرهم تعني الاستغلال الاقتصادي، وهذه الشركات الكبرى لا يهمها سوى الربح واستثمار رأسمالها على حساب الآخرين ممن يشكلون نسبة عالية من سكان العالم. والعولمة بنظرهم كذلك علمانية تتنكر للأديان ولا تختلف كثيراً عن الكفر. وفتح الأبواب أمام العولمة يعني فتح الأبواب أمام الكفر، فالعولمة بهذا المفهوم تهديد للأديان السماوية وتهديد للهويات الثقافية. والعولمة -أيضاً- بمثابة غزو قومي، أي فرض هوية قومية ما، على قوميات أخرى، وعليه فإن الرافضين للعولمة يدعون إلى مواجهة الاستغلال الاقتصادي، ومقاومة الغزو الثقافي.
والقابلون بالعولمة، معظمهم من النخب الثقافية، ممن درسوا في بلاد الغرب وتأثروا بنمط الحياة الغربية، وبالتقدم الذي حصل في بلاد الغرب، وهؤلاء يجدون في العولمة تعظيم الإنتاج، وتقدم قدرات الإنسان في المعرفة والسيطرة على الطبيعة والقدرة على معالجة مشكلات البيئة( ).
ويرون فيها نوع من التفاعل الإيجابي والتكامل على مستوى الجماعة البشرية ويظهر هؤلاء إيجابيات العولمة أكثر من سلبياتها، وتلتقي هذه النظرة مع الدول والقوى التي تروج للعولمة في دول الشمال الغنية.
القابلون بالعولمة والرافضون لها، لهم وجهات نظرهم والتي تعبر عن جانب من الحقيقة، وعليه فإن الرفض المطلق للعولمة فيه خطر على المجتمعات لأنه لا يمكنها تجنب مخاطرها، بل ستكون مجرد تابع مستسلم ذيلي( ). فالموقف الموضوعي -كما يرى الباحث- وبالذات لبلدان الجنوب، هو فتح الحوار مع العولمة، للاستفادة من التطور المذهل في آليات نشرها على صعيد العالم، أي الاستفادة من التقدم العلمي والتقني، وبالذات ما حصل في حقل الاتصالات والمعلومات وكذلك الحوار مع الذات، للحفاظ على الثوابت المبدئية في السيادة والاستقلال والهدية الثقافية.

3-1. رؤية عربية قومية في العولمة
إزاء هذه الصورة المأسوية عن مستقبل البشرية في ظل الهيمنة الأمريكية وفي ظل العولمة بكل تجلياتها. ما العمل..؟
هل نرفض العولمة، كما نرفض الهيمنة؟ إذا كانت العولمة تخدم هيمنة قطب دولي واحد وتحقق مصالحه القومية فقط على حساب الآخرين من سكان العالم، فالعولمة مرفوضة، ويجب أن تقاوم. وإذا كانت العولمة إطاراً أو خيمة تستظل تحتها الشركات الكبرى المتعدية الجنسية، من أجل تعظيم أرباحها بسبل شتى على حساب الآخرين، فإنها ستكون هيمنة قاتلة، يعيش في ظلها قلة من الناس، ويموت الكثرة منهم، وهذه أيضاً مرفوضة ولا بد أن تقاوم.
وإذا كانت العولمة تستخدم ببراعة آليات الانتشار الاتصالية والإعلامية، لإشاعة ثقافة وقيم أمم واحدة على الآخرين وإلغاء هوياتهم الثقافية وذاكرتهم التاريخية فإن هذه العولمة مرفوضة أيضاً، لأن لا أحد يرضى بنزع ثوبه ويلبس ثوب غيره مهما كان مزركشاً وجميلاً( ). ولكن كيف تتم مقاومة العولمة..؟
إن آليات نشر العولمة، هي من نتاج العقل البشري، فهو جهد إنساني، سواء تم استخدامه لأغراض الخير أم الشر، وهذا النتاج العلمي والتقني، هو نتاج عالمي، لا وطن له. ومن حق البشرية أن تنتفع به، وهذا هو شأن التطور الحضاري عبر الحقب والعصور الماضية، فكل أمة أنتجت حضارة معينة كان لها نصيب في رفد البشرية بعطاءات العلم، وقد كان للعرب المسلمين دور في هذا المجال، استفاد من نتاجهم العلمي الأمم الأخرى وبالذات أمم أوروبا، وعليه فإن النتاج العلمي في مجالات الاتصال والإعلام والمعلوماتية، هو حق للبشرية كلها، ويجب الاستفادة منه، خدمة للإنسانية ورفاه البشر وسعادتهم وتوفير أمنهم واستقرارهم.
فالتعامل مع آليات العولمة شيء، وهو أمر مقبول، بل مطلوب، والتعامل مع تجليات (مضامينها) العولمة أمر آخر، وهو قد يكون مرفوضاً بالكامل، وقد يكون التعامل معه بحذر. فالنتاج الفكري والثقافي الذي يخدم الإنسانية، هو نتاج عالمي مقبول، يتم التعامل معه، في ضوء مبدأ الحوار والتثقيف، أما النتاج الذي يهدف إلى إلغاء هويات قومية وثقافية، أو يهدف إلى غزو أو خرق ثقافات أخرى، فهو عدوان وإمبريالية جديدة، ولا بد من مقاومته. وهذا شأن الدولة القومية بكل قطاعاتها المجتمعية، والثقافية والإعلامية.
إن الأمة العربية مستهدفة كباقي الأمم في هويتها الثقافية وفي ذاكرتها التاريخية فالتجربة التي عاشتها مع قوى الغرب، كانت تجربة مريرة اتسمت بنزوع الغربيين إلى فرض الهيمنة عليها وسلبها هويتها وإرادتها وإخضاعها لهم بالقوة. والعولمة اليوم تثير أكثر من رد فعل، يعزز الحاجة إلى الهوية وإلى البعد الروحي، في مواجهة أنموذج حضاري غربي يعاني من الشروخ رغم نشوة الانتصار، فهو يعاني من عجزه في حل مشكلات البطالة والجنوح والمخدرات والأمراض الفتاكة، ومشكلات السكان والبيئة وغيرها كثير، والعولمة التي يحاول الأنموذج الأمريكي فرضها على الأمم والشعوب، ومنها الأمة العربية، تقود هذه الأمم إلى حقيقة متضاربة وهي: شمولية كونية، ولباس موحد، توسيع في الإطار، توحيد في الشكل، إلا أنه فقير حضارياً، لأنه يلغي الحوار، ويكتفي بفرض الهيمنة بالقوة، ففي هذه العولمة إغناء وإفقار مفرطين، فيها مشروع للهيمنة تسعى الولايات المتحدة إلى فرضه على العالم -وهذا المشروع يقود إلى إلغاء الخصوصيات الوطنية وطمس الهويات الثقافية، وإنهاء التقاليد، بل الاعتداء على اللغات القومية، من خلال إشاعة لغة واحدة هي الإنجليزية في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، والاقتراب من اللغات القومية، يعني هدم الهويات الثقافية والحضارية للأمم والشعوب التي تتميز بذاكرة تاريخية عريقة.
لقد حذر الفكر العربي من مخاطر العولمة بالأنموذج الأمريكي على القومية العربية والوحدة بين العرب، إذ أن هذه الوحدة قد تتم، في ظروف الحراك السياسي الدولي، إذا قصد بها أن تكون تنظيماً دولياً، أو مجرد شكل للحكم، ولكن هذا التنظيم لا يكون حياً، ولا يمكن أن يستمر إذا قصد به أن يؤلف شخصية واحدة تمحو الشخصيات القومية، بدلاً من تكون تنسيقاً لها، يزيدها تفاعلاً وغنى.
كما حذر الفكر العربي القومي من مغبة إلغاء القوميات التي ينادي بها دعاة العولمة الأمريكية اليوم، والنيل من الدولة القومية، والحد من سلطاتها، وثلم سيادتها واستقلالها.
إن هذا الهجوم العولمي على القومية -كما ينادي به برنارد لويس، المروج لانتهاء عصر القوميات- إنما يلغي التمايز والاجتهاد والإبداع بين فئات المجتمع، وتصير الحياة ساكنة (ستاتيكية) بعيدة عن الإبداع والتجدد.
إن القومية باقية وخالدة، وانتماء الإنسان لقوميته يأتي طواعية وبحب عميق، يكون من خلاله مستعداً للتضحية من أجلها، فالقومية حب قبل كل شيء وهي "قدر محبب" وتظل القومية ذات شخصية حية ومقومات واضحة وباقية لا تزول.
ومن الخطأ وضع ترتيب زمني بين القومية والإنسانية، فالإنسانية موجودة بوجود القومية، وفي عهد القوميات الإنسانية تتخلص القومية من تعصبها وانكماشها.
وإذا كان القوميون قد حذروا من مخاطر العولمة، ووضعوا تصوراتهم للتعامل معها، أي عدم رفضها لمجرد الرفض، بل تهيئة المناخ الفكري والعلمي، ليجعل العرب مهيأون للحوار مع دعاة العولمة في الغرب. فإن بعض التيارات السياسية والفكرية العربية ترفض رفضاً قاطعاً العولمة بكل مضامينها وآلياتها، وأخص بالذكر التيارات السلفية التي لها بعض الأنصار قد يكثرون في هذا القطر ويقلون في قطر آخر. وهذه التيارات تدعي لنفسها المصداقية وتمثيل الأمة العربية باسم الدين، في حين أن الخصوصية الثقافية العربية المتنوعة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والحداثة، ترفض الانغلاق والتقوقع بين جنبات الماضي، وترفض الانسياح في سيل الحداثة الجارف.
إن خصوصية الثقافة العربية المتنورة تقبل على الحوار مع الآخر، وترفض الانسحاب من مواجهة الأفكار المضادة بدعوى التمسك بالهوية. وهذا هو جوهر الأصولية أو السلفية الملتزمة المتنورة، التي تنادي بالإصلاح الداخلي في شتى المجالات، وتحارب الفساد والانحلال.
إنها أصولية مقبلة على الحياة بعقل مفتوح، غير مدبرة لها، ودعاة الأصولية الإصلاحية لا يهربون من العولمة، بل يواجهونها بعمل إيجابي جاد يرقى بالأمة نحو مراتب النهضة المؤهلة للحوار والتثاقف( ).
هناك فرق بين الذين يؤيدون العولمة ويروجون لها، بدعوى أنها سلم النجاة من أوضاع التخلف والفقر، وبين الذين يرفضون العولمة أو الذين لهم تحفظات عليها، فالفريق الأول حسم موقفه، أما الفريق الثاني الذي يجسد الرفض الكلي والاعتراض الجزئي، فإنه بحاجة إلى مراجعة نقدية للذات، وقبول الحوار الداخلي لبلورة رأي موحد من العولمة، لا أن تبقى أطراف هذا الفريق في حالة مماحكة واحتراب أحياناً، وترك الساحة لدعاة العولمة لترويجها، وكسب الوقت لصالحها.
كان العرب سباقين في طرح الحوار الحضاري والاتصال الثقافي والتفاعل مع حضارة الغرب، فالعرب لا ينكرون ضرورة اتصالهم بالعالم الحديث، إلا أن بعضهم لا يرون إمكان الإفادة من الاتصال الثقافي، إلا إذا تكونت شخصيتهم القومية، وبلغت حداً كافياً من النمو والوضوح والوعي لخصائصها بحيث يسمح لها بتمثل الأفكار الأجنبية وتحويلها إلى ما يزيد من نموها وتوضيح اتجاهاتها، ولذلك هم يشعرون بخطر الارتباط الفكري والأجنبي عليهم.
إن الخوف آت من الضعف الذي يعتري القوميات الضعيفة، فالتطور التقني الهائل هو تطور خاص بالغرب والولايات المتحدة بخاصة، ويتم استثماره استثماراً بشعاً لأغراض بعيدة عن الإنسانية، وينعكس انعكاساً سلبياً على حياة الأمم والشعوب وعلى مصير الحضارة الإنسانية بعامة، فالفكر القومي العربي هو مع التفاعل الحضاري بين الأمم والقوميات، ولكنه ضد الاستلاب أو إنكار الآخر أو رفضه.
العولمة في توجهاتها الأمريكية الراهنة، إنما تشكل تياراً يدفع نحو إعادة بناء العالم وفق معايير جديدة، ليس لها صلة بالماضي الحضاري للشعوب أو صلة بقيمها، فالعولمة المفروضة هي توحيد قسري للشعوب، لوضعها في خدمة تداول رأس المال الغربي، ووضع الإنسان في خدمة التقنيات، بدلاً من أن تكون التقنية في خدمة الإنسان.
ولم تكتف العولمة بهذا المصير للإنسان، بل تريد أن تخلق إنساناً معولماً، ومجتمعاً معولماً وفق معايير وحاجات الفئة القليلة الممكسة بزمام آليات العولمة، وهذا يعني خلق الإنسان المجرد من هويته المتقمص لهوية الآخر. أي يعني خلق مجتمع مهمش حضارياً، يعيش على حواف حركة التاريخ، وبالنهاية يريد أصحاب العولمة خلق عالم بلا أمم وبلا هويات قومية، وبلا رسالة إنسانية وهذا أشد من القتل الجماعي.
إن الصورة المطلوبة للعولمة، ينطبق عليها وصف (العولمة المستبدة) في حين أن العولمة المقبولة هي التي تتساوى فيها الأمم، ويكون لها الحق في اختيار قادتها من بين شعوبها، ولها حق في اختيار طريقة الحياة وفق أي صيغة تختارها فالعولمة المستبدة، هي صورة جديدة لنماذج الإمبراطوريات القديمة التي نشأت وتجبرت ثم شاخت وانتهت.
إن الفكر القومي يقف ضد الهيمنة، وضد استلاب الهوية القومية، وضد العولمة المستبدة، لأنها عولمة أمريكية تريد وضع العالم كله تحت رحمة الشركات وكبار الرأسماليين. ولنا أن نتساءل كيف كانت الولايات المتحدة تعادي شعار الأممية قبل سنوات، وكيف تغير العداء الأمريكي لشعار العولمة -بالمفهوم الشيوعي الأممي- إلى أن تتبنى الشعار نفسه؟ ولماذا ترفض الشمولية الوطنية المستقلة وتسعى لنشر شمولية أمريكية..؟
ونجيب عن هذه الأسئلة بالقول أن الهدف السياسي للنظام الرأسمالي الأمريكي هو إلغاء النسيج الحضاري والاجتماعي للشعوب، لكي يسهل للشركات الأمريكية التسلل بسلعها ونفوذها المالي والسياسي لتأخذ دوراً ريادياً في نهب ثروات الشعوب، وشل إرادة النهضة فيها، وهي في سعيها هذا تعادي حتى الرأسمالية الوطنية في البلدان الأخرى التي تحتاج إلى الرعاية والحركة وحرية التعامل وحرية الأسواق. وهذا السلوك هو من نتاج الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية، إذ يوظفان كل شيء لفرض أسوا ديكتاتورية في التاريخ، فالإمبريالية الأمريكية تقوم بتلويث البيئة، وإفساد الديمقراطية، وخلق عالم آلي بلا إنسان، وبلا حقوق إنسان، كل ذلك يحصل نتيجة لفساد المعادلة الحضارية للغرب.
إن رفض العولمة بمفهومها وتوجهاتها الأمريكية رفض ينسجم مع مصلحة الغالبية العظمى من أبناء الأمم والشعوب، لأن هذه العولمة في مضمونها، تطوير لمشاريع الهيمنة والاستعمار والإمبريالية، مستغلة التطور التقني في مجالات الاتصالات والمعلومات. وأخيراً إننا أبناء الأمة العربية، مع خيار الحوار الحضاري المتقابل، الذي يطرح جانباً من العصبيات، أو أفكار التعالي والغطرسة والقوة، فالحوار والتفاعل الحضاري شيء مطلوب بين الأمم والقوميات. أما الاختلاق أو الغزو أو الاستلاب للهويات والثقافات والقوميات، فهو أمر مرفوض ولا بد أن تقف الأمم والشعوب ضده، وتنتصر للإنسانية من خلال قومياتها الإنسانية.


المصادر
1. إبراهيم بن عبد العزيز الدعيلج، البث المباشر: الآثار والمواجهة تربوياً وإعلامياً (مكة المكرمة: دار القبلة للنشر والتوزيع، 1995).
2. أحمد مصطفى عمر، "اعلام العولمة وتأثيره على المستهلك"، المستقبل العربي، العدد 256، (حزيران/يونيو، 2000).
3. أحمد ثابت، "العولمة والخيارات المستقبلية" المستقبل العربي، العدد 240، (شباط/فبراير، 1998).
4. إسماعيل صبري عبد الله، الرأسمالية العالمية في مرحلة ما بعد الإمبريالية، نشرة أفاق إستراتيجية، بيت الحكمة، بغداد، العدد الثالث، (صيف، 1999).
5. إسماعيل صبري عبد الله في مجلة الطريق، العدد الرابع، تموز/آب، 1997.
6. برهان غليون، "الوطن العربي أمام تحديات القرن الـ 21"، المستقبل العربي، العدد 232، (حزيران/تموز، 1998).
7. برهان غليون، وسمير أمين، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة (بيروت: دار الفكر المعاصر، 2002م).
8. بيير روينو فان، وجان باتيست دورزويل، "تاريخ العلاقات الدولية" ترجمة فايزكم نقش، تقديم د. نور الدين حاطوم، (بيروت: منشورات عويدات، 1967).
9. جلال أمين، "العولمة والهوية الثقافية والمجتمع التكنولوجي الحديث"، المستقبل العربي، العدد 234، (آب/أغسطس، 1998).
10. جورج حجار، العولمة والثورة-شعبي سيحكم (بيروت: بيان للنشر والتوزيع والإعلام، 2000م).
11. حسنيين توفيق إبراهيم، "العولمة: الأبعاد والانعكاسات السياسية"، عالم الفكر، الكويت، العدد الثاني (أكتوبر/ديسمبر، 1999).
12. حميد الجميلي، البعد الإيديولوجي للعولمة الاقتصادية وانعكاسها على مستقبل الاقتصاد العربي، في العولمة والمستقبل العربي، ندوة بيت الحكمة، بغداد سلسلة المائدة الحرة-37، لعام 1999.
13. رمزي تركي "تناقضات حاكمة لمستقبل العولمة"، مجلة الاجتهاد، العدد 38، (بيروت، شتاء، 1998).
14. رسلان خضور، د. سمير إبراهيم، مستقبل العولمة (دمشق: المركز العربي للدراسات الإستراتيجية، 1998)، العدد 7، (تموز/يوليو 1998).
15. سيار الجميل، العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الأوسط –مفاهيم عصر قادم (بيروت: مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق، 1997).
16. سيار الجميل، العولمة والمستقبل، إستراتيجية تفكير من أجل العرب والمسلمين في القرن الحادي والعشرين، (عمان: الأهلية للنشر، 2000).
17. سمير أمين، إمبراطورية الفوضى، (بيروت: دار الفارابي، 1991).
18. سيد يسين، في مفهوم العولمة، المستقبل العربي، العدد 288،(شباط/فبراير، 1998).
19. سيد يسين، العولمة والطريق الثالث (القاهرة ميربت للنشر، 1999).
20. سيد يسين، العالمية والعولمة، (القاهرة: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع: 2000م).
21. سيد يسين، في جريدة السفير في 14/6/1994.
22. صالح أبو أصبع (وآخرون)، العولمة والهوية.
23. عبد الخالق عبد الله، "العولمة: جذورها وفروعها"، (الكويت: عالم المعرفة).
24. عبد الباري الدرة، "العولمة وإدارة التعدد الحضاري والثقافي في العالم وحماية الهوية العربية الإسلامية في العولمة والهوية -أوراق في جامعة فيلادلفيا، (عمان: جامعة فيلادلفيا، 1999).
25. عزمي بشارة، "بعض جوانب العولمة إسرائيلياً"، المستقبل العربي، العدد 231، (أيار/ مايو 1998).
26. عبدا لله عبد الدائم "العالم ومستقبل الثقافة العربية، العدد 222 (آب أغسطس، 1997).
27. عبد الإله بلقزيز، العولمة والممانعة: دراسات في المسألة الثقافية (الرباط: منشورات رمسيس، 1999).
28. غوران هدبرو، الاتصال والتغيير الاجتماعي في الدول النامية، ترجمة: محمد ناجي الجوهر (بغداد: دار الشؤون الثقافية، 1991).
29. لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي، جيران في عالم واحد، ترجمة: مجموعة من المترجمين (الكويت: عالم المعرفة- 201، 1995).
30. محاضير محمد، المستقبل المسروق، ترجمة: د. عدنان عباس علي (كوالالمبور: الشاهد الدولي للخدمات، د.ت).
31. محمد عابد الجابري، "العولمة والهوية الثقافية: عشر أطروحات"، المستقبل العربي، العدد 228 (شباط/ فبراير 1998).
32. محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر: العولمة. صراع الحضارات، العودة إلى الأخلاق. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997).
33. ممدوح محمود منصور، العولمة، دراسة في المفهوم والظاهرة والأبعاد (الإسكندرية: دار الجامعة الجديدة، للنشر، 2003)، ص 11. وكذلك ، 1995).
34. نبيل دجاني، "البعد الثقافي والاتصالي في ضوء النظام الدولي الجديد"، المستقبل العربي، العدد 224، (تشرين الأول/ أكتوبر، 1997).
35. هربرت: أ. شيللر، المتلاعبون بالعقول، ترجمة: عبد السلام رضوان، عالم المعرفة 106، (الكويت: عالم المعرفة، 1986).
36. هالة مصطفى، "العولمة... دور جديد للدولة"، السياسة الدولية، العدد 134، (تشرين أول/ أكتوبر، 1998).
37. هانس بيترمارتين، وهارالد شومان، فخ العولمة-الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية، ترجمة: عدنان عباس علي، مراجعة وتقديم: د. رمزي زكي (الكويت: عالم المعرفة: 238، 1998).
38. هانز، جي. مورجنشا، السياسة بين الأمم، الجزء الأول، ترجمة: خيري حماد، (القاهرة: الدار القومية للطباعة، 1994).
39. هاو يونغ "الفرص والتحديات التي تواجهها الدول النامية في عولمة الاقتصاد" ورقة قدمها باسم الحزب الشيوعي الصيني إلى ندوة فكرية عقدت في بغداد، (نيسان/إبريل، 2000).
40. اليونسكو، "العولمة: المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، العدد 160، (تموز/يوليو، 1999).
المراجع الأجنبية


1. Y.M. Guejenno, Poletegue Ethompar, I-1999.
2. Lis Idenhtes Mentreters,, Grasset, 1988.
3. Robertson, Global. Culture: National ism Globalization, and Modernity: A Theory, Culture and Society Special Issue Edited by Mike Featherstone (London, Newbury Park: Sage Publication, 1990).
4. Pieere Grosser Les Temps de La guerre foride: Reflexions sur. H, Listoire de La guerre froide st sue Less causes de safin, (Bruxelles: Edition Complexe-1995).



#حسن_محمد_طوالبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوم دامي في ذكرى احتلال الاحواز
- الثورة حق تاريخي لكل الشعوب
- الثروة سبيل للنهضة أم للتراجع ؟


المزيد.....




- السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
- الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
- معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
- طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
- أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا ...
- في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
- طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس ...
- السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا ...
- قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
- لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - حسن محمد طوالبة - العولمة دراسة في المضامين والاهداف