|
أقمارٌ لنْ تغيب ... قصة قصيرة
مديح الصادق
الحوار المتمدن-العدد: 3344 - 2011 / 4 / 22 - 09:13
المحور:
الادب والفن
لذكرى استشهاد المناضل { سمير الصادق } وقوافل الشهداء مني أعطر التحايا لأمِّي الحبيبة أبلِغْ، أن تسامحني اطلبْ منها ؛فقد أشعرَني بالذنب طول حياتي وداعي المتوتر لها عند التحاقي بوحدتي العسكرية آخر مرة، ارتجافة يديَّ ليست ككل مرة وأنا أقبِّل رأسها، لم أدرِ حينها أن قد كان هاجسا غريبا ينتابني بأن سيكون ذلك وداعا لن يتكرر، وحين رفعتُ رأسها كي أستمد من عينيها القوة في قرارٍ مصيري عقدتُ العزم عليه قاطعا؛ كان شاطئاهما يفيضان ببحر من المدامع التي ما شهدتُها بمقلتيها من قبل، رغم أن قوافل الشهداء لم تُبقِ في جفنيها سوى الجفاف؛ ذلك الوداع الأخير لم يكن كغيره من قبل، كلانا كان يُخفي عن الآخر ما قد قرأه في نبضه ساعة التصق القلب على القلب؛ لكنه الخوف المتوارث من أن يكشف كل منا للآخر ما ترجمته مشاعر فوق مستوى الإدراك الحِسيِّ، حين استوقفتني عند عتبة الدار وغابت برهة ثم عادت وهي ترتدي هندامها الأبيض، حتى حسبتُ أنها تنوي الصلاة في غير موعد الصلاة؛ وضعَتْ كتابا ملفوفا بالأبيض على رأسي، وراحت تتلو دعاء ليس كذلك الذي أسمعها منها كل يوم، في ذلك اليوم كل شيء نطقتْ به أو فعَلتْه كان تحديا فاضحا لي؛ أن قد كشفتُ ما أنت قادم عليه، وليس عندي غير أن يرعاك مَن توسلتُ إليه
تذكر جيدا - يا أخي - ما اتفقنا عليه بأن تخفي الحقيقة عن أقرب المقربين؛ حتى والدي - رغم أني واثق من أنه كاتم للسر شديد - لكن أزلام النظام ينْفَذون من أضعف الحلقات، ويحرقون الأخضر واليابس عند ذاك، وإن صار ذلك فحتما ستكون أنت الضحية الأولى تحت سيف الجلاد، والتهمة أنك خدعت السلطان الأعظم يوم أبلغتهم بأن أخاك { سميرا } قد ضاع منه الأثر بعد التحاقه بوحدته العسكرية في كردستان - والحرب مع الإيرانيين رحاها تدور- وأنك قد بحثتَ عنه في المستشفيات، ومراكز الشرطة، وسألتَ عنه في وحدته متصنعا جهلك مصيره؛ آهٍ لو علموا أنك أنت الذي سلَّمتَه مع رهطه بيد صديقك المخلص { علي الكردي } ليوصلهم معززين مكرمين إلى مواقع الثوار، مقاتلين في صفوف رفاقهم الأنصار، أعتى دكتاتورية عرفها التأريخ، وأقسى نظام همجي حكم البلاد بالنار، والحديد، والخداع، والتظليل؛ قبِّل يدي والدي، فقد كان مكافحا أوصلنا جميعا إلى المراحل التي يفخر بها من التعليم، وهو الذي أخفى الكثير من الرفاق يوم انقلب الفاسدون انقلابهم الأسود في شباط، من عام 1963، أشِعْ بأني محكوم في سجن عسكري، فالكذب النظيف أحيانا يحمي رقابا من حزَّة سيف الجلاد، وأوحِ له بأن يُخفي ما أطلعتُه عليه من وثائق وبعض الكراريس، أو يسِّلمها لمن سيحمل له خاتم سِرٍّ، وأن يحذر من ذلك الخبيث { محمد فليِّح } الذي يدَّعي صداقة الطفولة والزاد والملح، ولا يأكل إلا من يد الوالدة سمكا مشويا بالتنور؛ ثم يرسل المقاتلين ليقطعوا عنكم الماء والكهرباء، ولم يكتفِ بهذا؛ بل يسلط الجواسيس المراقبين ليضبطوا مَن يمدُّ لكم يد العون بالسرّ، فيُطبِّق عليه نفس العقاب، اللعين
الحديث عن رحلتنا طويل طويل لا تكفي لسرده كاملا بعض وريقات أدسُّها في جيبي في غفلة من بعض المراقبين من الباكستانيين الذين سلَّطَتْهم علينا مخابرات السفارة العراقية في إسلام آباد؛ حتى أننا نجد الرسائل مفتوحة في ذلك الفندق الرديء الذي اضطررنا للسكن المؤقت فيه، بعيدا عن هؤلاء الأوباش الذين يبحثون عنا في كل مكان، وحال اكتشافهم لنا نسارع لتغيير المكان، ومَن يشتغل منا أو تردُه بعض الإعانات لا يبخل على رفاقه بشيء، لقد تقاسمناها حلوة ومُرَّة، منذ اللحظة التي سلكنا فيها وعورة الوديان، والقمم الشاهقات، حتى أدركنا رفاقنا الصامدين فوق الرُبا، وكانت سهلة جدا بيننا كلمة السر، فهم رغم حذرهم الشديد من المندسين بين الصفوف؛ يجيدون فحص المخفي بين السطور، تعرَّفوا علينا بالأسماء، وعليهم تعرَّفنا، فليس صعبا عليك أن تعرفهم وهم الذين طلَّقوا ترف الدنيا وما فيها من ملذات كي يحملوا أرواحهم والسلاح من أجل شعب عريق يستحق التضحيات، وله رخيصا يقدم بالأرواح الفداء، وقبل أن أجهد نفسي بالسؤال عنه فقد واجهته وجها لوجه، ذلك المناضل الشديد المراس نعيم الزهيري، وكم من ليلة قضيناها سوية في واجب قتالي، أو نشاط فكري، أو ترفيهي كجزء من متطلبات استمرار الحياة، ولو تحت أعتى الظروف، أولئك المقاتلون وجدتهم من نمط خاص، يُغنُّون وقت القتال، وحين يستشهد لهم رفيق يُغنُّون، وهكذا دواليك، يقاتلون بالسلاح، وبالغناء يقاتلون، يستمدُّون قوَّتهم من فكر آمنوا به، وأخلصوا له، وشعب مجاهد يستحق الحياة الحرة الكريمة؛ ومن شعبنا الكردي الذي ارتبطت قضيته بما كافحنا، ولا نزال نكافح من أجله؛ وطن ديمقراطي، حرٌّ، يتساوى فيه الجميع بلا استثناء، ولا يثنينا ما قامت به بعض القيادات الكردية من جرائم إبادة لمقاتلينا ستحاسبهم عليها الأجيال، قصر الزمان أم طال
أما الإيرانيون فلا يقلِّون عن نظام الجلادين في بغداد مكرا وخبثا، فهم جميعا من درس واحد، ومعلم واحد، وما تلك الحرب بينهما إلا تمثيلية تخفي وراءها أغراضا مخفية، لا تنطلي على الحكماء، ومثلهم بعض القيادات الكردية المتلونة حسب مصالحها الذاتية، فمرة تراهم مع النظام ضد قومهم، ومرة مساومين عملاء لدولة من دول الجوار، يدَّعون التقدمية واليسار تارة، وتارة على اليسار ينقلبون؛ بل يشيعون في صفوفهم القتل والدمار، وحين تعرضنا إلى مشاكل صحية نتيجة لسوء الظروف، وتم تزويدنا من قبل الثوار برسائل عدم التعرض كي تسهل دخولنا إلى إيران للعلاج؛ فقد تم إلقاء القبض علينا حال دخولنا الحدود من قبل الدرك الإيراني، وكانت معاملتهم لنا أبشع المعاملات على وجه الأرض، كأننا مجرمو حرب، وأننا الذين أشعلناها، وبعد ستة أشهر من السجن والتعذيب قاموا برمينا على حدود باكستان بلا أوراق ثبوتية، ولا مستمسكات، ولم يبق لي من أمل سوى تلك الأوراق المستنسخة التي أرسلتموها لي عن طريق { خالي البحَّار } وسوف أقدمها غدا إلى مفوضية اللاجئين كي يمنحوني الحماية في هذا البلد. بلِّغ الرفاق أننا لا بد عائدون حاملينها عالية رايات نصر العراقيين على عروش الظالمين، وأننا مهما اضطُهدنا، أو روَينا الأرض منا دماء؛ فإننا أحياء كالدم الجاري في عروق العراقيين، نحن ما جئنا لكي نموت بقبضة الجلاد؛ بل حتى يُغادر الكون آخر سفاح على وجه الأرض
ختَمَ الرسالة أن ذيَّلها بعبارة : وصلتني حوالتكم، وسددت منها بعض الديون، والباقي قد يفيدني في سفر لبلد آخر فيه أمن لي، نحن لا نشعر أبدا هنا بالأمان، نكاد نشمُّ رائحة المخابرات العراقية في كل شيء؛ حتى في الهواء المحيط، وهو سهل جدا أن تُشترى الضمائر في بلد يعاني جُلُّ شعبه من فقر مدقع، وكم من ثورة في العالم تم سحقها عند توظيف المال في شراء الذمم الرخاص، هم يتابعون حتى النافذين بجلودهم وليس لهم أي انتماء سياسي، قرار مجلس قيادة الثورة المشؤوم يحكم بالإعدام الفوري على كل من يغادر البلاد بلا ترخيص رسمي؛ فهو كالهارب من ساحة القتال، فِرَق الإعدام في الداخل والخارج على حد سواء، المهم أن صورة من شهادة الجنسية في يدي الآن، ستساعدني في كسب حماية المنظمة الدولية بباكستان وقَّع الرسالة بالاسم المتفق عليه للتمويه { أخوكم أحمد الصادق } اليوم هو الأحد الحادي والعشرون من آذار عام 1987
تفحَّصَ جيدا المكان حوله في البقعة التي كان يفترش الرمل فيها على شاطئ البحر، فالجواسيس يرصدونه في كل وقت ومكان، لم يغلق الغلاف، طفل صغير على الشاطئ يمرح بصحبة والديه، استأذنهما حاملا إياه، صورة فورية على ظهرها كتبَ : { إلى والدتي التي حَمَلتْني في بطنها؛ ثم حمَّلتُها همومي فيما بعد، أرجوكِ اخلعي من رأسك الشكوك، فهو ليس ابني، ولم أتزوج إلا وفق ما تريدين من طقوس } دسَّ الصورة وأغلق الرسالة ، مسيرة عشر دقائق تفصله عن أقرب مكتب للبريد، نسيم البحر الرطب يداعب خصلات شعره الكستنائي المسترسل، ولحيته التي أطلقها للتمويه، تفحَّص في جيبه بعض دولارات هرَّبها مُخاطِرا شقيقُه الأكبر، شريطا لقحطان العطار، أغنية أمست لازمة مستديمة له { يُمَّه يا، يا يُمَّه } ، وأخرى لفؤاد سالم { مثل روجات المشرح } مدينة العشق والشعراء، وتعايش الأديان، على ضفاف نهرها غافية، بساتين نخل وسدر وصفصاف، زوارق راسيات، فلاحون يزرعون وهم جياع، وكادحون ينوؤون تحت السياط، ومن هناك كانت البذرة الأولى، من ذلك المكان انطلقت أناشيد حب للوطن والناس سيارة حمل ثقيل بأقصى السرعة من الجانب الآخر، عكس نظام السير، والإشارة ما زالت حمراء، استدارت حيث كان واقفا يعاتب البحر الذي لم يرجِّع المرسال، جاوَزَتْ الرصيف العالي، ما من مفرٍّ، وسُجِّل الحادث قضاء وقدرا ذلك اليوم، وكاد أن يُنسى، وينمحي، إلا من سجلات جهاز الاغتيالات في سفارة العراق بباكستان، وشاهد من أهلها في صفحة جرائم النظام الفاشي، وعلى صفحة من جريدة تصدر خارج العراق شهريا { أخبار العراق } حيث في المنافي استقرت مجاميع المناضلين، في ذات الليلة احتشد الفقراء في العالم كي يطالعوا قمرا جديدا أضاء الكون
#مديح_الصادق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
واندلعتْ { حربُ الفلافلِ } في تورونتو
-
صوتُكَ الأقوى، يا عراقُ
-
ارحلوا مِنْ حيثُ جئتُمْ؛ فالشيوعيونَ لا يُهزمونَ
-
واعراقاه، أيحكمُكَ اللصوصُ والمارقونَ ؟
-
كيف العودةُ - يا عراقُ - وقعيدتُنا لَكاعِ
-
فضائية تطلق سراح الكلمة الملتزمة؛ لكن ...
-
أيُّها المؤمنون، كي يستقرَّ العالم، اجتثُّوا الشيوعيين ...
-
الأزهارُ لنْ تموتَ, أبدَ الدهرِ
-
متمدن حوارنا, منارة للشرفاء
-
زبَدٌ على السواحل والشطآن ... قصة قصيرة
-
اعترافاتُ سفَّاحٍ يحتضرُ, بمناسبة يوم الشهيد الآشوري الكلدان
...
-
زائرة آخر الليل , قصة قصيرة
-
عتاب إلى الشهيد ستار خضير, الذكرى 41 لاستشهاده
-
قاب قوسين او أدنى من جهنم ... قصة قصيرة
-
العنقاء تشتهي العصافير المسيحية ... قصة قصيرة
-
وعاد منتصرا , مِحكّان المهوال
-
عمال العراق, تأريخ وتحديات
-
اخلع جلبابك, يا مشحوت
-
احذرا الكفر, سيادة الرئيسَين
-
وفاء بالدَين؛ احتفلنا لقائمة الرافدين
المزيد.....
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|