أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - ضد الليبرالية في سورية















المزيد.....



ضد الليبرالية في سورية


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 3344 - 2011 / 4 / 22 - 00:25
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


أنشر هنا مقالات كتبتها منذ أن توسع الميل الليبرالي في سورية أواسط العقد الماضي. وأنشرها لأنني أرى بأن الانتفاضة التي بدأت منذ 15 آذار الماضي كانت نتاج هذا التحوّل الذي أفضى إلى "تنميط" الاقتصاد بما يشابه كل البلدان الرأسمالية التابعة من حيث سيطرة النمط الريعي الذي يتمحور حول الخدمات والعقارات والسياحة والاستيراد، ودمار الصناعة والزراعة، وتمويت "القطاع العام". ومن ثم تمركز الثروة بيد قلة من دائرة السلطة بعد عملية نهب طويلة، وإفقار شديد لقطاعات اجتماعية واسعة.

(1)

التبشير بالخصخصة

2004 / 5 / 8


يبدو خطاب الخصخصة (أي خصخصة الاقتصاد عبر إلغاء «القطاع العام» وإنهاء دور الدولة الاقتصادي/ الاجتماعي) كخطاب تجديد وتحديث وتغيير، وكميلٍ ضروري لتجاوز المشكلات الراهنة. وهو كذلك لدى قطاعات في السلطة، وقطاعات في المعارضة، التي يبدو أنها تسير نحو التوافق في «رؤية المستقبل»، بغض النظر عن مبررات كل طرف، والخلفيات التي ينطلق منها.
ولهذا يبدو السير نحو إلغاء «القطاع العام»، والتخلّي عن دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي و«التحديثي»، وبالتالي التخلّي عن حق العمل والتعليم المجاني والضمان الاجتماعي، يبدو كمسار تحديثي وحداثي، يتوافق مع حاجات المجتمع، ويلبي الرغبة في إنهاء احتكار السلطة، ومن ثم إشراك المجتمع في الحياة السياسية، وبالأخص تحقيق الانفراج والتكيف مع متطلباته.بمعنى أن الخصخصة هنا تبدو كضرورة تقدمية.
كما تبدو التجارب العالمية في هذا المجال نافلة، وخارج الحاجة للتأميل والتفكير، أو حتى الإشارة إلى وجودها وليس الإفادة منها فقط. هذه الإفادة التي تبدو غير ذات معنى، حيث نبدو وكأننا نبدأ تجربة جديدة لم تمارس من قبل، أو أن لنا خصوصيتنا الخاصة جداً، الأمر الذي يجعل تطبيقنا لشروط صندوق النقد الدولي، (وهي الشروط التي طبقت في أمم عديدة وقادت إلى انهيارات مريعة في الاقتصاد، وإلى إفقار شامل، وأزمات عميقة)، ولسياسات العولمة الليبرالية أو لأية سياسة مشابهة، تطبيق مختلف النتائج عن كل الدول الأخرى، حيث ربما لن يحدث إفقار شعبي واسع، ولن نغرق في بطالة ضخمة، ولن يتوقف التطور الاقتصادي، على العكس، سيزداد الاستثمار الحقيقي في قوى الإنتاج، وفي البنية التحتية، وسوف تتراجع البطالة، ويتحسّن الوضع المعاشي.
إذن، ستكون الخصخصة صيرورة (تطور حقيقي) عكس كل التجارب. لكن المسألة أكثر تعقيداً من هذه السذاجة، حيث أن دور الدولة الاقتصادي (الاستثماري والحمائي) نتج عن الإشكالية التي فرضها تحوّل النمط الرأسمالي إلى نمط عالمي ( و هي السمة المستمرة) حيث تحول الرأسمال الخاص في الأطراف إلى النشاط المربح في القطاعات المكملة للرأسمالية في المراكز (أي في التجارة/ الخدمات/ المال) الأمر الذي أبقى الاقتصاد المحلي دون قوى منتجة حقيقية، قاد إلى انتشار التهميش والفقر والبطالة. الدولة هي التي أعادت تنظيم الزراعة عن طريق الإصلاح الزراعي، وبناء الصناعة وتوفير كل الضمانات الأخرى.و لقد فُرض عليها هذا الدور ليس لميل إرادوي فظ، كما يشاع، بل نتيجة الحاجة الموضوعية. فقد كان تجاوز التخلف والتطور يفرضان ذلك. هذه مسألة من الضروري أن تظل واضحة لأن العولمة أعادت إنتاج ذات الآليات التي تهمّش الأطراف وتدفع الرأسمال المحلي إلى النزوح إلى المراكز. وبالتالي فإن دور الدولة هو مدخل التطور والحداثة، عبر كسر حلقة التبعية وتوفير الظرف لنشوء قوى منتجة تطور الاقتصاد وتراكم الرأسمال وكذلك تستوعب العمالة.
والمشكلة التي حدثت هي أن توقف تطور القطاع العام نتج عن النهب الذي تعرّض له، وسوء التخطيط الذي أعاق نموه. ومنع ترابط النمو الاقتصادي بالتطور التعليمي (والعلمي)، وبالرقابة الشعبية. الأمر الذي أدخل كل مؤسسات الدولة الإنتاجية والخدمية في أزمة، وأظهره كعبء يجب التخلص منه، لتصبح الخصخصة حلاً منطقياً من أجل حرمان الفئات النهّابة من مصدر نهبها، ولتحريك عجلة القطاع الخاص. لكن هذا الطريق يفضي إلى أن تصبح الفئات التي نهبت وراكمت الرأسمال هي التي تتحكم بالقطاع الخاص، لأنها ستتحوّل إلى رأسمالية خاصة مسيطرة (ربما عبر التحالف مع الرأسمالية القديمة)، ومترابطة مع الرأسمال العالمي، وبالتالي مخضعة السوق المحلي لهيمنة المراكز الإمبريالية. لتعود المشكلات التي جرى تجاوزها عبر دور الدولة الاقتصادي للظهور والسيادة (تدمير القوى المنتجة، التهميش، الإفقار، والبطالة).
ولا شك أن هناك في السلطة فئات لا زالت (تدافع) عن دور (القطاع العام)، لأسباب متعددة منها استسهالها النهب، أو شعورها أنها لم تثري كفاية، أو لكونها أصبحت عادة (وربما يقع ضمن ذلك البيروقراطية تحديداً). أو بالأساس لكون الفئات التي نهبت لم تستطع ترتيب علاقتها الهيمنية مع الرأسمالية القديمة (البرجوازية التجارية التقليدية)، ولم تستطع الالتحاق بالرأسمالية الإمبريالية. لكن كل ذلك لا يعني الترحيب بالخصخصة، ودعم اقتصاد السوق، لأنه كما أشرنا سوف يكرّس المافيات سلطة اقتصادية من جهة، وسوف تدمّر القوى المنتجة (الهشّة والتي تعاني من مشكلات عديدة)، ويعمّق البطالة والفقر والتهميش، الأمر الذي يعني تضرّر كبير لفئات واسعة من المجتمع (العمال والموظفون، وقطاعات من الفلاحين). إضافة إلى أن هذه الفئات سوف تحرم من الضمان الاجتماعي ومن حق التعليم (كما بدأ يجري)، ومن تعمّق الهوّة بين الأجور والأسعار (التي تصبح عالمية).
ربما تخسر بعض الفئات السلطوية من الخصخصة، لكن الأكثر خطورة هو أن المجتمع كله سوف يعاني، كما أن عجلة التطور (المتوقفة منذ عقدين تقريباً) سوف تنعكس إلى انحدار هائل نتيجة نهب «القطاع العام» عبر عملية الخصخصة لمصلحة المافيات ذاتها، ونتيجة انكشاف الاقتصاد المحلي على المنافسة العالمية، وبالتالي انهيار القطاع الصناعي المهمّش أصلاً، والقطاع الزراعي الأساسي لطبقة كبيرة من الفلاحين، ومن ثم تعمّق الاختلال في الميزان التجاري.
لكن لا بدّ من التوكيد هنا إلى الحاجة إلى النقد العميق لوضع «القطاع العام»، الذي ظل لعقود «بقرة حلوب»، لكنه ظل مصدر رزق مئات آلاف العائلات ومجال رعايتها. بمعنى أن المشكلة ليست في أن يبقى أو يخصخص، بل في الصيغة التي تجعله يتجاوز آليات النهب التي تعرّض لها، وليعاد بناءه على أسس تمنع ذلك وتسهم في تطوير قدراته عبر التأكيد على الكفاءة والتخطيط العلمي، والرقابة الحقيقية.
وهذا يفترض أولاً التأكيد على إعادة صياغة آليات السيطرة التي تتبعها الفئات الحاكمة، بما يفرض إعادة بناء الدولة على أساس ديمقراطي في المستوى السياسي، وعلى أساس تحقيق الرقابة المجتمعية عبر النقابات العمالية والفلاحية والمهنية، وهيئات المجتمع المدني، حيث أن الاستبداد السياسي المؤسس لدولة شمولية، كان المدخل لتفشي كل آليات النهب، وقصور الإدارة ونبذ الخبرات، وسوء التخطيط، وهو الذي أوصل «القطاع العام» إلى المأزق الذي يغرق فيه.
الخصخصة ليست حلاً، بل هي طريق انحدار. كما أن استمرار وضع «القطاع العام» راهناً ليس ممكناً، ولا هو مطلب، ولا يمكن الدفاع عنه. الطريق تتمثل في السعي لدمقرطة المجتمع، حيث عبرها يمكن معالجة مشكلات «القطاع العام»، ويمكن لدور الدولة الاقتصادي أن يحقق نهوضاً مجتمعياً شاملاً.





(2)

في مواجهة اقتصاد السوق

2004 / 12 / 27


لاشك في أن الدور الاقتصادي للدولة، المتمثّل في الاستثمار المباشر عبر شركات " القطاع العام "، و كذلك عبر التخطيط و ضبط حركة التجارة، قد تعرّض للتشكيك بعد الأزمات العميقة التي بات يعيشها الاقتصاد السوري، و بعد النهب الذي تعرّضت له مؤسسات " القطاع العام "، و الفساد الذي كان يربك وضع الشركات الحكومية و يحمّلها أعباء كبيرة.
و لاشك في أن " القطاع العام " كان بمثابة القاعدة الاقتصادية للاستبداد السياسي، و حيث أن هدف الاستبداد هو تسهيل و تغطية النهب الذي كان يعانيه هذا القطاع. و لقد أدى نهب الدولة إلى تحقيق التمايز الطبقي الواسع خلال العقود الأربعة المنصرمة، حيث أفضى إلى تحقُّق تراكم رأسمالي هائل لدى فئة قليلة هي التي تمسك بزمام السلطة. و بالتالي أفضى إلى إفقار كل الطبقات الشعبية، و وضع جزء هام منها تحت خط الفقر، و ضخّم من الفئات التي باتت دون عمل. و من ثَمّ أوجد وضعاً اقتصادياً و مجتمعياً صعباً و يتّجه نحو الانفجار. و بات في حاجة إلى حلول جدّية.
لكن نلحظ بأن سياسة النهب هذه باتت تتحوّل إلى سياسة لإلغاء " القطاع العام " و تدميره، و الإفادة من العثرات و المشكلات و أيضاً الأزمة التي يعانيها، و التي كان النهب و سوء التخطيط و عدم الكفاءة سبباً أساسياً في نشوئها، من أجل التخلّي عن هذا القطاع الذي يعيل مئات آلاف الأسر و يشكّل القاعدة المحرّكة لمجمل العملية الاقتصادية، لمصلحة مافيات تحتكر الاقتصاد من أجل أن تكون سيّدة اقتصاد السوق، بعد أن نهبت المليارات و أصبحت هي الأكثر ثراءً، تحت حماية السلطة و بدعمها، و أن تصبح هي المتحكّمة بالعملية الاقتصادية و بنمط من التكوين الاقتصادي يقوم على أساس المتاجرة، دون اعتبار للاستثمار الحقيقي في القطاعات المنتجة الذي ثبت أن الرأسمال الخاص يهرب من التوظيف فيه. و بالتالي دون اعتبار لأهمية و ضرورة الدور الاستثماري للدولة الذي أصبح حاسماً في كل طموح لبناء قوى منتجة و تطوير الاقتصاد الوطني، و أصبح خياراً حاكماً لتحقيق تطوّر المجتمع في كل المجالات.
و أيضاً دون اعتبار لمئات الآلاف من العمال و العاملين الذين سوف يُلقى بهم في البطالة، و دون اعتبار للتخلّي عن ضمان التعليم و الضمان الاجتماعي و الصحّي، و عن دعم الفئات الشعبية، و ضبط العلاقة بين الأجور و الأسعار، و حماية الاقتصاد من المنافسة الخطرة التي تفرضها الشركات الاحتكارية الإمبريالية. و عن التحكّم العام بعملية التطوّر الاقتصادي من أجل بناء اقتصاد حديث و منتج.
و بالتالي حلّ أزمة " القطاع العام " بطريقة تنهي كل إيجابياته، و تعيد المجتمع إلى وضع تابع في إطار العلاقات الاقتصادية العالمية، و تعرّضه للنهب الشامل ليس من قِبل المافيات المحلية فقط، بل و أيضاً من قِبل المافيات العالمية في إطار مشاركة بين المافيات تحقيقاً لمصالح كلّ منها. الأمر الذي يقود حتماً إلى تفاقم الإفقار الذي تعانيه الطبقات الشعبية، و تصاعد البطالة و التهميش، و حتى الجوع.
و إذا كان من الضروري كشف النهب الذي تعرّض و يتعرّض له " القطاع العام "، و كشف المشكلات التي يعانيها نتيجة النهب و سوء التخطيط و تحكّم الكادرات غير الكفوءة. و أيضاً كشف أساس الاستبداد الذي يستوطن في مصالح الفئات الحاكمة في تحقيق النهب. فإن الخيار لا يكون في تصفية هذا القطاع، و لا في إنهاء الدور الاقتصادي للدولة، خصوصاً و أن سياسات العولمة المتوحّشة و فرض الليبرالية الجديدة كخيار مطلق، في عالم أصبحت الشركات الاحتكارية أضخم من الدول، تجعل الإمكانات المحلية أصغر من أن تواجه منافسة شرسة، و احتكار محقَّق، و مصالح إمبريالية لا تهدف سوى إلى النهب من أجل تحقيق الربح الأعلى. و هي في كل ذلك لا تلحظ مصالح الشعوب المخلّفة و لا مصالح الفقراء، كما لا تولي أية أهمية لتطوّر تلك الشعوب و لا إلى تحسين أوضاعها.
الحلّ ليس في الخصخصة، و لا في اقتصاد السوق، و لا أيضاً في سيطرة المافيات على الاقتصاد، و هو ليس في إعادة البرجوازية القديمة التي لم تفكّر منذ البدء بتطوّر المجتمع، لهذا حرصت على تحقيق الأرباح و ليس على تطوير الصناعة و الزراعة، و لعبت دور الوسيط ( الكومبرادور ) بين الشركات الاحتكارية و السوق المحلّي.
و أيضاً ليس الحلّ في " الدفاع المستميت " عن " القطاع العام " في وضعه الراهن، فقد بات يحتاج إلى مراجعة شاملة على ضوء مشكلاته التي منها سوء الإنتاج و المنتج، و منها الخسائر التي يواجهها، و أيضاً التقادم. و كذلك يجب مراجعة طبيعة الدور الاقتصادي للدولة من زاوية المهام التي حاولت القيام بها، و سيطرتها المطلقة تقريباً على مجمل العملية الاقتصادية، من أجل تحديد الدور الضروري لنشاطها الاقتصادي، و من ثَمّ فتح المجال للنشاط الخاص في إطار السياسة العامة الهادفة إلى تطوير القوى المنتجة و ضبط حركة التجارة و الاستثمار بما يحقِّق ذلك. و بالتالي إعادة بناء دور الدولة الاقتصادي على أسس صحيحة تأخذ بعين الاعتبار الربحية و الدور الاجتماعي و الضرورة، بما يسمح بتحقيق التطوّر و تطوير الوضع المعيشي و الصحي و التعليمي لكل الطبقات الشعبية. و في أطار رقابة ضرورية للمجتمع عبر بناء نظام ديمقراطي.
الخيار هنا إذن، بين تعميم النهب و الانتكاس في مجال الدور التطويري للدولة، و بين تعميق الدور التطويري للدولة لكن بعد أن تصاغ في تكوين ديمقراطي يسمح بالرقابة على نشاطها الاستثماري كما على كل نشاطها. و بغضّ النظر عن كل ما تعممه الآلة الأيديولوجية حول حتمية اقتصاد السوق و أيضاً ضرورته، و كونه الحلّ الوحيد في ظلّ الوضع القائم في " القطاع العام " و في " عصر العولمة "، فإن الأساس هنا هو أن هذا الحلّ لا يخدم سوى أقلية هي ذاتها التي نهبت الاقتصاد و أوصلت هذا القطاع إلى الوضع المزري الذي يشهده. و التخلّص من بقايا خدماته لمجمل المجتمع، الأمر الذي يقود إلى تعميق الانقسام الطبقي عبر إفقار كل الطبقات الأخرى.
لهذا فإن الميل الراهن نحو اقتصاد السوق، الذي بات يُعلن بوضوح من قِبل وزراء و مسئولين، يفرض ربط الديمقراطي بالاجتماعي و رؤية ما هو مجتمعي، و التأكيد بأن أساس الاستبداد هو المصلحة في تحقيق النهب، و أنهما معاً قادا إلى الوضع المزري الراهن، في وضع باتت فيه سوريا " الهدف التالي "، و إن بطرق تختلف عما حدث في العراق. و الإشكالية هنا تتمثّل في أن مأساة الوضع السياسي و الوضع الاقتصادي طالت إمكانات مواجهة الخطر الأميركي الراهن. الأمر الذي بات يفرض مواجهة مشكلات و أخطار متعدِّدة في الوقت ذاته.
لكن تسارع الميل نحو فرض اقتصاد السوق يفرض العمل لتشكيل حركة احتجاج شعبية، من أجل وقف ذاك الميل، و في سياق جدّي يقود إلى تجاوز " القطاع العام " لمشكلاته، و أن لا يعود حِكراً لفئة في ظلّ سلطة مستبدّة، و أن يعود له دوره التنموي الاجتماعي في ظلّ دولة ديمقراطية.

(3)
مسار الخصخصة في سوريا

2005 / 5 / 12


رغم الظرف المحيط بسوريا و الذي يوحي أنها غدت " الهدف التالي "، و بالتالي باتت تحت المجهر الأميركي، مهدّدة بسياسة تغييرية تؤسّس لوضعها في إطار " الفوضى البنّاءة " و التحوّلات الدراماتيكية المقلقة. فإن التكوين الاقتصادي الداخلي بدأ يصاغ بما يخدم فئة قليلة تتحكّم بمفاتيح السلطة، عبر التخلّي التدريجي عن الدور الذي كانت تلعبه الدولة كمستثمر و كضامن لحق العمل و مكرّس لمجانيّة التعليم و الضمان الاجتماعي.
و إذا كانت العملية قد بدأت من خلال الرفع التدريجي للدعم المخصّص على السلع من أجل حماية القدرة الشرائية للمواطنين، بحجة تلافي عجز الميزانية التي باتت مرهقة بذلك. و من ثَمّ التحرير التدريجي كذلك للعملة و تعويم سعرها كي تكون خاضعة لسعر السوق، الأمر الذي يفرض حكماً ارتفاع أسعار السلع. و كذلك التعامل مع التعليم المجاني بطريقة تقود إلى تجاوز مجانيته، من خلال تقليص عدد الطلاب الذين يحقّ لهم التسجيل، عبر رفع معدّلات القبول دون توفير معاهد جديّة تستطيع تخريج التقنيين، و بالتالي فتح باب التسجيل للتعليم الموازي بأجر. و أيضاً تقليص الخدمات الصحّية و الاجتماعية بشكل مستمرّ. وصولاً إلى التراجع المذهل للمشاريع الاستثمارية و خدمات البنية التحتية التي تقوم بها الدولة، رغم تراكم كتلة الرأسمال في البنك المركزي ( يقال أنها تبلغ 360 مليار ليرة ) بحجة الخشية من التضخّم. و كتلة أخرى موضوعة في الخارج ( تبلغ كما يقال 17 مليار دولار )، يمكن لتحريكها تحريك السوق الاقتصادي الراكد منذ عقد على الأقل.
إذا كانت العملية هذه قد بدأت في كل هذه القطاعات منذ نهاية ثمانينات القرن العشرين، و عبرها تحقّقت أكبر عملية نهب قادت إلى خروج مليارات الدولارات إلى البنوك الأميركية و الأوروبية. و أفضت إلى بدء التحكّم بمفاصل اقتصادية أساسية من قِبل فئة ضيّقة جداً، يبدو أنها تميل إلى تشكيل احتكار اقتصادي هائل، مستفيدة من التحكّم بالسلطة، و هو ما يفسّر لماذا هي مستبدّة إلى هذا الحدّ الذي يلغي كل الآخرين.
فقد تسارعت في الفترة الأخيرة رغم " الخطر الخارجي ". حيث أصبحت الخصخصة سياسة معلنة، خصوصاً بعد توقيع عدّة اتفاقيات للتجارة الحرّة مع الدول العربية، و التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق الشراكة السورية الأوروبية. ليبدو أن خيار اقتصاد السوق هو الذي انتصر و أصبح الأساس الذي سيوجّه إعادة بناء الاقتصاد. و إذا كانت هذه الإشارة توحي بممانعة قطاعات أخرى تسعى للحفاظ على " القطاع العام "، فإن المسألة هنا لا تعدو أن تكون اختلافاً بين فئتين، واحدة كان لها الأسبقية في النهب ( الذي أسمي الفساد )، و بالتالي باتت قادرة على خوض غمار المنافسة من موقع قويّ، و أخرى لازالت تتكئ على موارد القطاع العام لكي تعتاش، حيث لم تستطع أن تحقّق " التراكم الأوّلي " الذي يتيح لها النشاط الاقتصادي من الموقع القوي، لهذا فهي تمانع من أجل أن تنهب أكثر. مع تواجد قطاعات واسعة من الفئات الوسطى و الفئات العمالية تتمسك بدور الدولة لأنها ترى في غيابه انهياراً لوضعها.
و سنلمس أن قطاعات اقتصادية مجزية كانت قد بدأت تتسرّب إلى رصيد فئة محدّدة، باتت تمثّل احتكاراً في بنية الاقتصاد، و هي الفئات التي باتت تدفع نحو الخصخصة، و في القطاعات التي تفيدها هي بالذات، و بالتالي التي تتحوّل إلى رصيدها.
لقد جرت خصخصة عددٍ من المشاريع الاقتصادية الرابحة، كما تجري الخصخصة تحت مسمى التأجير كذلك. رغم أن الشكوى من " القطاع العام " تعتمد على أنه خاسر و يحمّل الدولة مليارات الليرات سنوياً، الأمر الذي يشير إلى طبيعة الخصخصة تلك، التي تبقي الدولة معيلة للمشاريع الخاسرة ( و التي خسرت نتيجة النهب و سوء الإدارة و سوء التخطيط و السمسرة )، بينما تذهب المشاريع الرابحة إلى فئات محدّدة و بأثمان بخسة كذلك. مما يزيد من عبء الدولة و من مشكلات ميزانيتها.
لقد جرى تخصيص شركة حديد حماة و هي شركة رابحة، و الآن تطرح سبع شركات للصناعات الغذائية أمام الاستثمار الخاص على اعتبار أنها خاسرة دون أن نعرف لماذا هي خاسرة، أو أنها مخسَّرة من أجل تخصيصها، حيث أن الرأسمال لا يغامر في شراء شركات خاسرة. و ربما يكون السبب في إعلانها شركات خاسرة هو بيعها بأبخس الأثمان، و هذه طريقة معروفة في كل عمليات الخصخصة التي جرت في بلدان كثيرة. فقد قيل أن خسائر " القطاع العام " بلغت خمسة مليارات دولار، لكن لماذا حصلت الخسائر؟ و كم ذهب إلى الخارج على شكل اقتطاع " شخصي " من قِبل المشرفين؟ و هل الحلّ هو في تخصيصها؟ خصوصاً أن الرأسمال لا يميل إلى شراء الشركات الخاسرة؟
لقد تمّت عملية نهب مستمرّة لهذا القطاع، كما أنه أسند إلى فئات في الغالب لا تمتلك الكفاءة و الخبرة و بالطرق المعروفة، كانت في الغالب تفكّر في أن يذهب الفائض إلى جيوبها. و هي الآن تسعى للفظ الدولة كرب عمل و تأسيس مشروعها الخاص الذي يقوم على السيطرة على القطاعات المربحة في الاقتصاد، و التشابك مع الرأسمال الإمبريالي الذي بات يمدّ أذرعه للهيمنة على السوق، ربما من خلال السيطرة السياسية أوّلاً. ليتحقّق الاندماج الكامل في العولمة الإمبريالية، و لتصبح مفاعيلها هي الحاكمة هنا.
الخصخصة ليست هي الحلّ بالنسبة للطبقات الشعبية، حيث أنها الأكثر تضرّراً منها. خصوصاً أن البديل المطروح لا يحلّ مشكلات الاقتصاد السوري، بل يخدم فئة ضيّقة من المافيات التي نهبت طيلة العقود الماضية، و آن لها أن تتشابك مع الرأسمال العالمي ( و الأميركي تحديداً ). إن المطلوب هو محاسبة كل الذين قادوا " القطاع العام " إلى الإفلاس، و كل المخططين السيئين، و كل مَنْ عمّم الفساد. و مطلوب حماية الشركات المطروحة للخصخصة من قِبل العاملين فيها كي لا تتخصّص. و بالتالي المطلوب هو إعادة بناء هذا القطاع على أساس ديمقراطي، و من أجل خدمة مجموع الشعب.
المسألة هنا لا تتعلّق بموقف أيديولوجيّ، بل تتعلّق بمصير مئات آلاف العمال و العاملين في " القطاع العام ". و كذلك بمصير التطوّر الاقتصادي ذاته، حيث سيلجأ القطاع الخاص إلى الالتحاق بالرأسمال الإمبريالي و يهجر النشاط في القطاعات التي تؤدي حقيقة إلى تطوير الاقتصاد، ليعود قطاع التجارة/ الخدمات/ المال هو القطاع المركزي، و هو القطاع الذي يقود أيضاً إلى نزف الفائض و نزوحه إلى المراكز الإمبريالية. و بالتالي إلى تعميق الإفقار الذي باتت تتلمّسه الفئات الشعبية. إن إنهاء " القطاع العام " يفضي إلى انحدار وضع مجمل القطاعات الشعبية، و إلى حالة من الفقر و البطالة لا مثيل لها، كما نشاهد في كل البلدان التي سارت على طريق اقتصاد السوق.
لاشك في أن مصلحة الفئات التي نهبت باتت تفرض أن تعمّم اقتصاد السوق، لأنها تعتقد أنها المستفيدة الأولى منه. لكن مصلحة المجتمع هي في الرفض و تصفية الفساد و المفسدين و ليس في تصفية " القطاع العام " و خصخصة الاقتصاد. لهذا من الضروري تنظيم النشاط ضد الخصخصة و المستفيدين منها، خصوصاً أنها تتلاقى مع الميل العولمي للسيطرة و الاحتلال، و لترتيب الوضع السوري في إطار المشروع الإمبراطوري الأميركي.

(4)
أوهام الليبرالية و خطاياها

2005 / 9 / 12


تبدو الليبرالية و كأنها الحلم الذي سيغيّر الوضع كله، لهذا تميل النخب إلى تكوين تشكيلات ليبرالية من أجل " المستقبل ". لكن تتكاثر هذه التشكيلات بطريقة لا توحي بأنها ليبرالية و ديمقراطية بالتالي، بل توحي بالطريقة " العصبوية " الضيّقة التي كانت تسم اليسار في السابق. و تشير إلى قلّة نضج، و سوء تعامل مع الليبرالية ذاتها. لكنها تشير بالأساس إلى الأساس الهشّ لليبرالية في البنية الاجتماعية. حيث أن حاملها من البرجوازية أو الطبقة الوسطى مشتّت و متنافر المصالح، و لا يميل في الغالب لا إلى الليبرالية و لا إلى الديمقراطية، و هو يتلطّى خلف السلطة لكي يحقّق مصالحه.
و بالتالي، فإذا كانت الصورة الليبرالية هكذا، فإن الأوهام الملقاة على الليبرالية ذاتها تدعو للتأمّل. فهل تحلّ الليبرالية أزمة الاقتصاد؟ و هل تؤسِّس لتحقيق التطوّر الاقتصادي، خصوصاً في مجال قوى الإنتاج؟ دون أن نشير هنا إلى التمايز الطبقي الذي تؤسِّسه أية سياسة ليبرالية، خشية الاتهام بالانحياز الأيديولوجي ( رغم أن كل إنسان هو منحاز أيديولوجياً )، و بالتالي اعتبار أن الموقف من الليبرالية ناتج عن " تحيّزٍ أيديولوجيٍّ " مسبق.
و لاشكّ في أن الوضع الضاغط ، و القوّة التي تستمدّها السلطة من وجود " القطاع العام "، و أيضاً ما يتعرّض له هذا القطاع من نهب منذ عقود، و بالتالي التدمير الذي حاق به. كل ذلك يدفع إلى " الكفر " بدور الدولة الاقتصادي، و من ثَمّ الإعلاء من شأن الحرّية الاقتصادية و اقتصاد السوق. أي الإعلاء من شأن الليبرالية و اعتبارها البديل الوحيد. و هو الأمر الذي ترافق مع رفض الاشتراكية بعد أن كانت قد انهارت ( و لأنها انهارت بالتحديد )، الأمر الذي جعل التفكير بالليبرالية رومانسياً إلى أبعد الحدود، ليبدو الحل السحري لمشكلات واقعنا القائم. و هو الأمر الذي يفسّر كذلك كثرة التجمعات الليبرالية و تشتّتها.
لكن المسألة لا تتعلّق بردّة فِعل على واقع ضاغط . فالسؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو: هل يحلّ اقتصاد السوق مشكلة التطوّر، الذي يتلخّص في بناء الصناعة و تطوير الزراعة، و بالتالي تحقيق التطوّر المجتمعي العام؟ هل ينزع الرأسمال الخاص في ظلّ سوق حرّة، و بالتالي مترابطة مع السوق العالمي، إلى التوظيف في القطاعات المنتجة؟ حيث أن أزمات البطالة و تحقيق الفائض الاقتصادي، و تعديل الميزان التجاري مع الخارج، و بالتالي تعديل ميزانية الدولة، و تطوير التعليم و الصحة، كل ذلك و مسائل أخرى تفترض بناء القوى المنتجة، و تأسيس بنية اقتصادية إنتاجية.
هذه المسألة هي التي تستأهل النقاش، لأن تأسيس مجتمع مستقرّ يفترض استيعاب العمالة الوافدة، و تحسين الوضع المعيشي لمجموع السكان، و تحقيق التراكم الرأسمالي الذي يفضي إلى نشوء دينامية اقتصادية تحقّق التشغيل الأعلى للعمالة. حيث أن الأمر لا يتعلّق بأحلام بل بوقائع، لأن الواقع هو الذي يجعل الأحلام ممكنة أو أنه يلقي بها في سلّة المهملات. إن فكرة أن اقتصاد السوق قادر على أن يوجد التوازن الضروري و يحقّق التطوّر باتت فكرة قديمة في بعض الأوساط الرأسمالية العالمية ذاتها، و أصبح تدخّل الدولة ضرورة ملحّة حتى لدى أكثر الليبراليين حماسة لليبرالية. و الأمر أكثر تعقيداً في الأمم المخلّفة، حيث أن عالمية الرأسمالية و اللاتكافؤ الذي أوجدته، يمنعان أي ميل لدى الرأسمال لتحقيق التطوّر الصناعي و بالتالي المجتمعي. و هذه الفكرة جديرة بالنقاش لأنها تشير إلى ظرفٍ موضوعيّ و لا تؤشّر إلى ميل أيديولوجي، فالتشكيل الرأسمالي العالمي يؤسِّس لآليات تفرض استمرار تمركز الصناعة في الأمم الصناعية، و بالتالي تؤسِّس لاستمرار الطابع الهامشي لإقتصادات كل الأمم الأخرى حينما تعتمد هذه الأمم على حرّية السوق، حيث تضع اقتصادها الهشّ في مواجهة اقتصادات متطوّرة و تمتلك ميزات هائلة و قدرات مالية ضخمة و خبرات عالية المستوى. و هو الأمر الذي يقود إلى دمار ما بُني و وقف الميل الاستثماري في القطاعات المنتجة الأساسية، خصوصاً في الصناعة التي باتت عماد أي اقتصاد قويّ و قادر على المنافسة.
و سياسات العولمة تقوم على الإفادة من هذه الميزات الهائلة من أجل الهيمنة على اقتصادات الأمم المخلّفة التي حاولت التمرّد خلال سنوات الحرب الباردة مستفيدة من وجود المنظومة الاشتراكية. و هي بالأساس سياسات الشركات الاحتكارية الإمبريالية و الطغم المالية التي باتت تعتقد بأن قوّتها العسكرية و الاقتصادية و السياسية تسمح لها فرض تكوين عالمي يقوم على تحكّمها به. و لهذا باتت سياسات الليبرالية الجديدة هي سياساتها في مواجهة الأمم الأخرى، لأنها تحقّق لها الوضع الذي تكون هي فيه القوّة القادرة على المنافسة و بالتالي على الهيمنة. و هذه الشركات تضغط من أجل انتصار الليبرالية الجديدة في كل العالم، لأن الليبرالية الجديدة هي التي تهيئ الظروف لكي تتسيّد.
هذا الوضع هو الذي يفرض البحث الجاد في مشكلات الليبرالية هنا. حيث ستكون المدخل لتسيّد الاقتصاد الطفيلي، و إلى إلحاق اقتصادنا بالشركات الاحتكارية الإمبريالية، و بالتالي تعميق النهب الذي بدأ مع الفئات الحاكمة. لينتقل من إطار مشاريع و نهب، خدمات و نهب، كما هو الآن، إلى تعميق النهب و تراجع المشاريع و الخدمات، و بالتالي توسيع دائرة الفئات المفقرة، و تهميش الاقتصاد
إن ترك التطوير الاقتصادي لآليات السوق ( التي تفعل كالسحر في الاقتصاد )، لن يجدي شيئاً، لأن آليات السوق تفترض ميل الرأسمال الخاص إلى الاستثمار في القطاعات المنتجة لكي يحقّق التراكم الرأسمالي، و هي عملية تنعكس إيجاباً على كل التكوين المجتمعي. لكن هل الرأسمال الخاص يميل إلى ذلك؟ هنا يجب أن ندرس ميل رأس المال. و لما كان الربح هو المؤسِّس للاتجاهات التي ينزع إليها رأس المال، فسنلحظ بأن أي مشروع رأسمالي يتأسّس على ضوء ذلك. و بالتالي فإن المشكلة ليست في أننا نرفض الرأسمالية من منطلق أيديولوجي، بل نشير إلى أن الرأسمال لا يميل إلى تحقيق مشروعٍ مجتمعيٍّ ضروريٍّ، مشروع قامت به البرجوازية الأوروبية الناهضة، و يتعلّق ببناء القوى المنتجة الحديثة، أي الصناعة.
المسألة هنا تتعلّق بالتكوين العالمي لرأس المال، و ممكنات النشاط الاقتصادي الذي يدرّ الربح. أي أن هيمنة الرأسماليات الأوروبية الأميركية اليابانية على الصناعة و الزراعة و البنوك، هي التي تحدِّد القطاعات المربحة و القطاعات الخطرة نتيجة المنافسة، و كذلك القطاعات مستحيلة الاختراق. و هذه مسألة لا تحظى باهتمام، لأن الميل " السياسي " هو الطاغي، و بالتالي يُهمل الاقتصاد، رغم أنه المؤسِّس لكل السياسات. فنشوء الاحتكارات في الصناعة فرض أن ينزح الرأسمال المحلّي إلى النشاط في قطاعات مكمّلة، مثل التجارة و الخدمات أو البنوك. لأن هذه القطاعات لا تعاني من أخطار، و هي تدرّ الربح كذلك.
و مادام الرأسمال مرتبط باقتصاد السوق، و بالتالي بالمنافسة، فإن الاحتكارات الإمبريالية ستبدو كاحتكارات عالمية، أي ذو تأثير في مجمل الاقتصاد العالمي القائم على اقتصاد السوق. و هو الأمر الذي جعل نشاط الرأسمال المحلّي يبتعد عن المخاطرة، لهذا فهو ينشط في القطاعات المكمّلة بدل النشاط الصناعي ( و ربما في الصناعات الهامشية و الزراعية الممكنة فقط ). و هو الوضع الذي لا يسمح بتجاوز التناقضات الداخلية عبر خلق ديناميكية اقتصادية يوجد فرص عمل و تحقّق التراكم الرأسمالي. و بالتالي يزيد من حدّة الصراعات المحلّية.
هذا الوضع يجعل اقتصاد السوق إشكالياً، حيث من الضروري من التحكّم بأثر الاحتكارات العالمية في الاقتصاد المحلّي من أجل التمهيد لتحقيق التطوّر، عبر الحدّ من أثر اللاتكافؤ القائم و اختلال توازن القوى الاقتصادية. و هو الأمر الذي فرض دخول الدولة مجال النشاط الاقتصادي، لأنها منْ يفرض الحماية التجارية، كما أنها تمركز الرأسمال لتشكيل مشروع اقتصادي ضخم. و على ضوء هذه الضرورة يمكن أن نناقش إشكالية النمط الذي تأسّس منذ الستينات لتلمّس الأسباب التي جعلته استبدادياً و قادت إلى تأزّمه و اتجاهه نحو الانهيار.
و إذا كان دور الدولة ضرورة في إطار الوضع العالمي للرأسمالية، فإن ذلك لا يعني إلغاء الملكية الخاصة، بل يعني تحديداً أن تلعب الدولة دوراً أساسياً في بناء القوى المنتجة و حماية السوق المحلّي، دون أن تمنع الرأسمال الخاص من النشاط الاقتصادي.

(5)
أزمة - القطاع العام - في سوريا

2005 / 11 / 17


ليس وضع " القطاع العام " جيّداً، على العكس فهو في أزمة عميقة نتيجة الإفلاس و الديون المتراكمة و كساد السلع التي يُنتجها و سوء الخدمات التي يُقدِّمها، بما في ذلك التعليم و الصحّة. و إذا كان وضع بعض الشركات مربحاً، فإن بعضها الآخر بات يشكِّل عبئاً على ميزانية الدولة، و على المجتمع إلى حدٍّ ما، رغم أنه يستوعب عدداً كبيراً من العاملين، و يشكِّل مصدر دخلهم الوحيد.
و لقد وصل هذا القطاع إلى الوضع الذي هو عليه نتيجة أربعة مشكلات جوهرية عبّرت عن طبيعة الفئات الحاكمة ذاتها، و عن ميولها و مصالحها، أوّلها: عبء التخطيط السيئ، حيث خضع التخطيط لمصالح الفئات المسيطرة، من خلال إخضاعه للإفادة الشخصية من المشاريع التي يمكن أن تنفّذ، و من النوعيّة التي تجلب " القومسيون ". لكنه خضع لسوء خبرة المخططين في الغالب نتيجة اختيارهم على أساس الولاء و ليس الكفاءة. لهذا لم تتحدّد الأولويات بشكل صحيح، و لم يوظّف التراكم الرأسمالي في المشاريع ذات الأولوية في الغالب، و أُهدر جزء منه في مشاريع فاشلة، أو في استيراد مصانع منتهية الصلاحية. و ثانيها: عبء الإدارة غير الكفوءة التي جرى اختيارها أيضاً على أساس الولاء و ليس الكفاءة، و هي التي جعلت المنصب الإداري وسيلة من أجل الإثراء و ليس التطوير. و ثالثها: عبء العمالة الزائدة التي خدمت اجتماعياً لكنها أضرّت بإنتاجية المشاريع، و قلّصت من أرباحها. و رابعها: و هو الأهم و المكمّل لكلّ ذلك، و ربما المؤسِّس له أيضاً، هو ذاك الذي تمثّل في النهب الذي تعرّض له " القطاع العام "، و لقد أوضحت الحملة على الفساد منذ سنة 1999 بعض ذلك النهب، لكن الأرقام التي باتت تُنشر الآن تشير إلى أن هذا القطاع تعرّض لنهب منظّم و ضخم جعل قلّة تمتلك مليارات الدولارات. و إذا كان وزير الاقتصاد السابق د. غسان الرفاعي قد أشار إلى أن موجودات هؤلاء تصل إلى 120 مليار دولار، فإن التدقيق في ما نُهب قد يرفعها إلى أضعاف ذلك، على ضوء ما بات يُكشف في الفترة الأخيرة. و هذه مبالغ كانت تُحسب من أرباح " القطاع العام "، و كان يمكن أن تزيد من فاعليته لا أن يُغرق في الأزمات لكي يقال أنه فاشل.
و لاشكّ في أن انعدام الكفاءة و سوء التخطيط كانا يصبّان في العامل الأخير، أي النهب. حيث أن إعادة إنتاج السلطة كانت تفرض الاعتماد على كادرات مطواعة تابعة و منفّذة و مضمونة الولاء. و هؤلاء كانت كفاءاتهم محدودة، و مصالحهم تعلو على المصلحة العامة، لهذا قبلوا الولاء المطلق و الطاعة العمياء. و بالتالي كانوا الإطار الاجتماعي الذي فعّل عملية النهب، لأن أساس ولائه هو الحصول على الامتيازات و بالتالي على المال. و لقد بات الكثير منهم من أصحاب المليارات أو الملايين. و بالتالي فإذا كانت قلّة كفاءتهم تسهم في أزمة " القطاع العام "، فإن نهبهم زاد من تلك الأزمة و دفع هذا القطاع نحو الإفلاس.
و لهذا فإذا كانت مبرِّرات الخصخصة هي كون ذاك القطاع خاسر و مفلس، فإن الخسارة ناتجة عن كلّ ما أشرنا إليه، حيث بدا و كأنه متكأ لفئة كي تتحوّل من الفقر و التهميش إلى امتلاك الثروات الطائلة. و لتصبح خصخصة " القطاع العام " من مصلحتها هي الذات، حيث سوف تكون المهيأة لامتلاك المشاريع الرابحة، و ترك الخاسرة للدولة. كما يصبح الميل لفرض اقتصاد السوق من مصلحتها كذلك، حيث سوف تحوّل التراكم الرأسمالي الذي حصلت عليه نهباً، إلى التوظيف في التجارة و الخدمات و كلّ القطاعات الهامشية و ليس في القطاعات المنتجة التي سوف يتدهور وضعها، و تنهار أمام المنافسة التي يفرضها الانفتاح الاقتصادي. في الوقت الذي سينتهي فيه الميل لتحقيق التطوّر في القوى المنتجة، و سيُلقى بمئات آلاف العمال و الموظّفين في البطالة و الفقر.
إذن، لم يفشل " القطاع العام " لأن وجوده كان خاطئاً منذ البدء، بل فشل لأن الفئات التي أقامته كانت تعتبر أنه الجسر لتحويل رأسمال الطبقة البرجوازية/ الإقطاعية القديمة، الذي صودر عبْر قانونيْ الإصلاح الزراعي و التأميم، إلى جيوب تلك الفئات ( رغم أن المسألة لم تكن بهذا الوضوح منذ البدء، لكنها غدت واضحة ربما منذ أواسط الثمانينات ). رغم أن وجوده كان ضرورة مجتمعية، حيث كان المدخل لبناء قوى الإنتاج في الصناعة خصوصاً، و التي كان الرأسمال الخاص يميل إلى الهرب من التوظيف فيها. هذه الفئات التي أصبحت تمتلك الثروة و تكدّسها في البنوك الأميركية و الأوروبية، باتت تستفيد من التخلّي عن ذاك القطاع، كما تستفيد من فرض اقتصاد السوق مطلق الحرّية و إنهاء دور الدولة التدخّلي، لتكمل نهب " القطاع العام " عبر شراء الشركات الرابحة بأسعار زهيدة، و لتمارس نهبها الخاص بالترابط مع الرأسمال الإمبريالي.
إن المشكلة الراهنة فيما يتعلّق بـ " القطاع العام " تكمن في أنه بات منهوباً، و ما بقي منه رابحاً بات معرّضاً للنهب بطرق جديدة في إطار سياسة الخصخصة. و الأخطر هنا، أن الدفع باتجاه الخصخصة يعني وقف دور الدولة الاستثماري و المراهنة على الرأسمال الخاص في تحقيق ذلك، رغم أنه بالأساس لا يميل إلى الاستثمار في القطاعات المنتجة الأساسية، أي التي تؤدي إلى نشوء اقتصاد منتج و قادر على التفاعل العالمي من موقع الاستقلال و التكافؤ و الندّية، الأمر الذي يجعل الخصخصة تعني وقف النمو ( أو التنمية، أو التطوّر )، و مرحقة أوهام تستند إلى دور للرأسمال الخاص لم يعُدْ ممكناً ضمن التشابك القائم في إطار النمط الرأسمالي العالمي، و الذي مدخله هو فرض اقتصاد السوق و إلغاء دور الدولة التدخّلي ( و هو الذي يُعمّم الآن بإسم العولمة و في سياق الليبرالية الجديدة ).
و وقف النمو يعني وقف استيعاب جيش العمالة التي تدخل سوق العمل سنوياً، و بالتالي يؤدي إلى نشوء أزمات اجتماعية عميقة و حادّة، و إلى نشوء توترات و عدم استقرار. لهذا يجب ملاحظة أن نشوء " القطاع العام " لم يكن نتيجة " وعي أيديولوجي " بل جاء نتيجة خبرة واقعية أبانت أن النمط الرأسمالي يمنع بناء القوى المنتجة، و أن الرأسمال الخاص لا يسعى إلى التصادم مع ذاك النمط، لهذا فهو يوظّف في القطاعات المكمّلة لآليات النمط الرأسمالي ( التجارة، الخدمات ، المال )، أو يهرب إلى المراكز الرأسمالية ذاتها. الأمر الذي جعل " التجربة الاشتراكية " مقياساً حاولت الفئات التي وصلت إلى السلطة تقليده بما يخدم مصالحها، مما حوّله إلى مسخ. رغم أن هذا الخيار بات من أوّليات أي تفكير في تحقيق التطوّر.
و إذا كانت الخصخصة، بالتالي، ليست خياراً صحيحاً، فإن وضع " القطاع العام " المزري يفرض البحث عن مخارج بالتأكيد على ضمان استمراره، و استمرار دور الدولة الرعائي ( الضمان الصحّي و الاجتماعي، و مجانية التعليم، و حقّ العمل )، و الحمائي ( ضبط التجارة مع الخارج )، و الاستثماري ( التوظيف في الصناعة و البنية التحتية و البحث العلمي )، لكن انطلاقاً من الأسس التالية:
1) التأكيد على الرقابة الديمقراطية على موارد الدولة و على مؤسساتها و مشروعاتها الاقتصادية، في إطار السعي لتأسيس دولة ديمقراطية.
2) تشكيل لجنة " محايدة " تمثّل الطيف السياسي و المجتمعي هدفها الكشف عن النهب الذي طال " القطاع العام "، و المحاسبة على المال المنهوب و معاقبة كلّ الذين فعلوا ذلك، و العمل على استعادته إن أمكن ذلك.
3) إعادة النظر في التكوين الإداري لهذا القطاع جذرياً، و تعيين الأكفّاء ذوي الخبرة، و إعادة النظر في وضعه بالتخلّص مما بات منهاراً أو غير ذي فائدة للاقتصاد.
4) الانطلاق من الكفاءة في التعيين في كلّ المناصب و المواقع و ليس من الانتماء الحزبي.
5) يجب أن تُخضع الخطط الاقتصادية لدراسات معمّقة، و لحوار مجتمعي، من أجل تحديد الأولويات الصحيحة، و التوظيف في القطاعات الأكثر فائدة و أهمية.
6) مطلوب دور أفضل للدولة في مجالات التعليم انطلاقاً من ضرورة نشر العلم و البحث العلمي. و تعزيز وضع القطاع الصحّي و تطويره.
إن الديمقراطية و رقابة العاملين على مؤسسات " القطاع العام " أساسية لتوفير الظروف التي تسمح بأن يكون فاعلاً و منتجاً و مربحاً معاً. كما يجب أن يخضع نشاط القطاع الخاص لمعايير أساسية تنطلق من ضرورة إسهامه في بناء الصناعة و تطوير الزراعة، و الإسهام في المشروعات الكبيرة بعيداً عن دوره التجاري الطفيلي الذي بات يتّسم به من خلال تشابكه مع النمط الرأسمالي العالمي، من أجل أن يكون قوّة
بناء قوى منتجة محلية، و ليس طريق تهريب التراكم الرأسمالي إلى الخارج.
نشرة البديل


(6)

عن الليبرالية والأيديولوجية والواقع


يصوَّر رفض الليبرالية وكأنه نابع من موقف "أيديولوجي" مسبق. ويُطرح رفض العولمة والسياسات الإمبريالية التي تصنعها وكأنه نابع من "عقيدة" سقطت مع سقوط النظم الاشتراكية.
لاشك في أن القوى الليبرالية تعمل على تشويه موقف الرافضين لها، لهذا تبدأ في الاتهام، لكن تتوضح المسألة حين النظر إلى الواقع. حيث ارتبط الميل لتعميم اقتصاد السوق والى الخصخصة بتراجع الوضع المعيشي لكل القطاعات الشعبية، وهو الأمر الذي أفضى إلى بدء العمال والموظفين إضرابات تهدف إلى تحقيق مطالب محددة. فقد أدت السياسات الليبرالية التي تتبعها السلطة إلى تقلّص فرص العمل وبالتالي تزايد البطالة. والى ارتفاع الأسعار، خصوصاً بعد رفع الدعم عن السلع وكجزء من نتائج الانفتاح الاقتصادي، دون زيادة مساوية في الأجور. والى انهيار خدمات الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية. حيث بات تفكير الفئات التي راكمت الرأسمال عبر النهب ينصبّ على النهب الأعلى، و السيطرة على القطاعات الرابحة في القطاع العام بأسعار زهيدة، كما على التكيف مع الهيمنة الإمبريالية تحت غطاء العولمة أو الشراكة الأورومتوسطية.
وإذا كانت النقابات خاضعة لهيمنة السلطة، وبالتالي غير معنية بالتعبير عن مصالح أعضائها ومشاكلهم وانهيار وضعهم، فإن الاستبداد يمنع القطاعات التي تعمل في القطاع الخاص من تنظيم ذاتها في نقابات تدافع عن مصالحها رغم الاستغلال الشديد الذي تعاني منه، و الأجور المنخفضة التي تحصل عليها و الظروف السيئة التي تعمل بها.
لهذا تتزايد البطالة ويتزايد الفقر كلما أخذت الخصخصة مداها، وكلما تعمم اقتصاد السوق. وهذا أمر ملموس لكل من يريد أن يرى وأن يعرف، لا أن ينطلق من فكرة مسبقة يتمترس خلفها رافضاً النظر إلى الواقع لأنه ينفي هذه الفكرة. والمشكلة التي يعيشها كثير من المثقفين وقوى المعارضة هي هذه. حيث يرفضون النظر إلى الواقع، معلّقين أنفسهم بفكرة يعتبرون أنها مطلقة الصحة ما دامت الاشتراكية قد انهارت، هي فكرة الحرية الاقتصادية وإلغاء دور الدولة الاقتصادي رغم أن أعرق الرأسماليات تفرض تدخل الدولة، ورغم أن نهوض الرأسمالية الكبير بعد الحرب العالمية الثانية قام على تدخل الدولة في إطار ما أسمي دولة الرفاه، وبالتالي تعميم الضمان الاجتماعي و ضمان الشيخوخة و البطالة ودعم التعليم لحماية الطبقات الشعبية، وكذلك التأميم وسيطرة الدولة على قطاعات اقتصادية لدعم تطور الإنتاج. هذا التعلّق بالفكرة أعاد إنتاج الوعي الدوغمائي القديم ( الذي كان يتخذ شكل الشيوعية) في شكل جديد هو الليبرالية الجديدة، التي باتت تشكّل الحل لكل مشكلاتنا رغم أنها المسبب لكل المآسي الاجتماعية القائمة واللاحقة. و لتبدو كاستمرار منطقيّ لنهب الفئات الحاكمة وتكملة لسيطرتها الاقتصادية السياسية.
إن رفض الليبرالية و رفض العولمة الليبرالية المتوحشة هو رفض لإفقار المجتمع و الطبقات الشعبية عبر زيادة النهب الذي تمارسه الشركات الاحتكارية الإمبريالية و أتباعها الصغار. ورفض لوقف التطور الذي بدأ خجولاً منذ عقود دون أن يسير في سياق جدي، و من ثم أصبح مجالاً لنهب الفئات الحاكمة. وبالتالي هو رفض للتبعية وللسيطرة الإمبريالية وليس موقفاً أيديولوجياً طارئاً. على العكس من ذلك فإن الدعوة إلى الليبرالية و إلى العولمة المتوحشة هي دعوة أيديولوجية بامتياز. لكنها خطرة لأنها تشرعن ميل الفئات المسيطرة إلى تعميم الليبرالية، وهو ما يجري حالياً بسرعة فائقة دون التفات من قبل المعارضة ودون شعور بالأخطار التي سوف يولدها، واستناداً إلى منطق أيديولوجي يقول أن هذا هو الإصلاح. وبالتالي ليتوافق إصلاح السلطة مع مطامح المعارضة في الإصلاح، وليسيرا إلى المآل ذاته، أي دعم بناء سلطة ليبرالية تابعة، ملحقة بالتكوين الإمبريالي. وخاضعة لأيديولوجيا الليبرالية المتوحشة.
ليس بديل سلطة الاستبداد والنهب هو السلطة الليبرالية، وكما أشرنا فإن مآل سلطة الاستبداد و النهب هو السلطة الليبرالية، بل أن البديل هو تعزيز ما هو صحيح في تجربة القرن العشرين، وهو هنا الدور الاقتصادي للدولة الذي هو ضروري من أجل تحقيق التطور وبناء الاقتصاد المتطور من جهة، و تحقيق مصالح الطبقات الشعبية من جهة أخرى. لكن مع الإفادة من كل الخطاء و الخطايا التي ارتكبت من خلال التأكيد على ديمقراطية السلطة و إشراف الطبقات الشعبية على السياسة و الاقتصاد.
هذه ليست أيديولوجيا بل هي حاجة الواقع، ومسار التطور و الحداثة. و مبتدأ تأسيس العولمة البديلة، عولمة الأمم و الشعوب القائمة على التكافؤ والمساواة والمساعدة المتبادلة والعدالة ونبذ الحروب. الأيديولوجيا اليوم تتمظهر في الدعوة إلى الليبرالية والانخراط في العولمة المتوحشة القائمة تحت إدعاء أنها طريق التطور و الحرية والدمقرطة. حيث أن الليبرالية التي تجلب كل تلك المآسي لن تجلب سوى الاستبداد، لأن ممارسة النهب الاقتصادي تحتاج إلى حماية السلطة ضد تمرد الطبقات الشعبية.
البديل ينطلق من الدفاع عن الطبقات الشعبية في مواجهة الليبرالية المتوحشة. و الدفاع عن الاستقلال في مواجهة العولمة الليبرالية والحروب الإمبريالية. وبالتالي ينطلق من الدعوة إلى مقاومة كل السياسات الليبرالية ومقاومة الاحتلال وكل المخططات التي تسعى القوى الإمبريالية إلى تحقيقها. فهذا ضروري وأيضاً ممكن.

البديل
(7)
النتائج المجتمعية للشراكة السورية الأوروبية

بدأت المفاوضات من أجل الشراكة السورية الأوروبية سنة 1996، وامتدت إلى سنة 1998 من أجل استشراف الإمكانات. لكنها بدأت بشكل فعلي سنة 1998 وانتهت سنة 2004، حيث وّقعت بالأحرف الأولى في 19/10/2004. وبالتالي كانت آخر دولة على المتوسط تنجز الاتفاق.
ويمكن تحديد أسباب كل هذا التأخير في أن «الوضع الاقتصادي السوري» لم يكن مهيأ لذلك، رغم أن الجانب السياسي المتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان كانت تبرز كسبب كافٍ لتأخير المفاوضات. ورغم أن السلطة السورية طبّقت نوعاً من «سياسة الإصلاح الهيكلي» المعهودة في توصيات صندوق النقد والبنك الدوليين بعد الأزمة الاقتصادية التي عاشا الاقتصاد سنة 85/ 86، وأدت إلى خفض القيمة الحقيقية لرواتب موظفي الدولة وضاق نطاق التوظيف بطريقة صارمة، وتراجعت الموازنة الاستثمارية للدولة إلى أقل من 20%، وانخفضت نسبة حجم الموازنة إلى الناتج المحلي الإجمالي من 50% في الثمانينات إلى 30%. الأمر الذي انعكس على معظم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، التربية و التقانة و البنى التحتية والصحة والإسكان والحماية الاجتماعية، وعلى فاعلية مؤسسات الدولة، وحيث ألغيت معظم الإعانات المتعلقة بالسلع الأساسية تدريجياً وفقدت الدولة طبيعتها الاجتماعية، وكذلك زادت نسبة البطالة إلى 11.7% بدل 5% في الثمانينات، وزادت نسبة الفقر مما جعل الإصلاح الهيكلي هو تقشف دون إصلاح (د. سمير عيطة).
وحيث اختلف وضع القطاع الخاص في إطار الملكية فتزايد دوره في الناتج المحلي الإجمالي من 40% سنة 1980 إلى 61% الآن وفي التجارة نسبة 70% (د. نبيل سكر)، ويتحكمّ بالقطاع الزراعي وبأكثر من ثلثي الناتج التحويلي في قطاع الصناعة (وعصام الزعيم).
رغم كل ذلك، وبالتالي تسّرب آثار الليبرالية الجديدة قبل توقيع اتفاق الشراكة، وقبل تطبيقها، فقد بدا أن السلطة تمانع وتتحيّن الفرص لتأخير الوصول إلى اتفاق، ليس نتيجة الضغوط من أجل الديمقراطية، تلك الضغوط التي بدت هامشية وموسمية، بل نتيجة طبيعة الوضع الاقتصادي الذي رافق تطبيق سياسة التكيّف الهيكلي، حيث بدا وكأن الفئات المتنفّذة في السلطة سرّعت من ميلها لنهب القطاع العام، الأمر الذي يوضحه أن الفساد قد تفاقم، وجرى تهريب ما يقارب الخمسون مليار دولار إلى الخارج خلال العقد السابق (د. نبيل سكر)، وبدأت تتشّكل مافيات تعمل كمقاولين خاصين، ثم كقيمين على نشاطات خدمية ذات قيمة مضافة عالية مثل الخليوي والمناطق الحرّة (د.سمير عيطة).
وبالتالي كان زمن المفاوضات من أجل الشراكة هو زمن المفاوضات من أجل الشراكة هو زمن النهب المنظم الآيل إلى تحويل الملك العام إلى ملكية خاصة لفئة محدّدة في السلطة، مما دفعها إلى تأخير الوصول إلى اتفاق بالقدر الذي كان ممكناً، رغم أن التوقيع نتج عن الوضع السياسي الذي تبلور بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وشعور السلطة بالحاجة إلى سند سياسي يحميها من الاستفراد الأميركي، رغم أن سياسات السلطة قادت إلى عكس ذلك نتيجة مصالح المافيات، وتحكمّها في لبنان من جهة، وسوريا من جهة أخرى.
وبالتالي تضارب المصالح، والتقارب في الغالب مع الشركات الأميركية.
ولابدّ من أن نشير هنا إلى أن موقف القطاع الخاص الذي أصبح به الثقل الأساسي في الاقتصاد كما أشرت، كان سلبيا (أو غير متحمس) لاتفاق الشراكة، لأن تحالفه مع الدولة كان يجعله مستفيداً من الحماية التي توفرها، وبسبب الميزات الريعية التي تقدّمها له أنظمة الحماية الشديدة (د. سمير سعيفان)، حيث كان يتمثل في منشآت صناعية صغيرة، أو كان حاصلاً على امتياز تصنيع من شركات أوروبية، اضطرت إلى ذلك نتيجة الحماية التي تفرضها الدولة. وفي الزراعة كان الخوف من إغراق السوق بالمنتجات الزراعية، في بلد يشهد وجود فائض إنتاج زراعي، ويبحث عن أسواق، كان سبباً في التحفّظ على الشراكة.
كل هذه المعيقات جعلت المفاوضات طويلة المدى، وكانت تميل إلى التعثّر لولا انقلاب الوضع الدولي، والميل الأميركي للضغط على السلطة في سوريا، وشعورها بالاحتماء بـ«حليف» بديل للحليف السوفييتي السابق، وهي المعيقات التي تشير إلى جانب من المشكلات التي سوف يوجدها تطبيق اتفاقيات الشراكة.
وإذا كان جوهر الاتفاق، كما تريده الرأسماليات الأوروبية، هو اقتصادي، بمعنى تحرير الأسواق وتراجع دور الدولة الحمائي والاستثماري، فإن النتائج المتوقعة على الاقتصاد السوري ستكون كارثية، وربما لن تختلف كثيراً عما حدث في المغرب وتونس، وكل البلدان التي «اندمجت» بالاقتصاد الرأسمالي العالمي. حيث تشير معظم الدراسات المقارنة إلى وجود تفاوت كبير في القدرة الإنتاجية، وفي التكاليف في القطاعات الثلاث: الزراعة والصناعة والخدمات، حتى قطاع النسيج الأساسي في سوريا، هو غير منافس بالمقارنة مع الدول الأخرى الداخلة في الشراكة، مثل تونس ومصر وتركيا. وبالتالي فإن الصناعات السورية لن تكون قادرة على الاحتفاظ بجزء من السوق المحلي. إن بنى الإنتاج في وضعيتها الراهنة، غير قادرة على خوض المنافسة الخارجية، وهي لا تمتلك القدرة الذاتية على النمو والتطور (د. نبيل مرزوق).
وحسب الخبير الاقتصادي د. نبيل سكر فإن الاقتصاد السوري يعاني من عدم وجود قطاع إنتاجي قادر على إدخال البلاد ضمن إطار منظومة الاقتصاد العالمي. (د. نبيل سكر). ويجمع خبراء الاقتصاد من اتجاهات مختلفة (ليبرالية وماركسية) على سمات أمة تحكم الاقتصاد، وتجعله هشاً بعد تحرير الأسواق، فحسب د. نبيل سكر يعاني الاقتصاد من تدني المستوى التعليمي للعمالة، وتدني القدرة التكنولوجية المحلية، وارتفاع معدلات البطالة، كما من ضعف وتفتت وصغر القطاع الخاص.
وإذا كانت مشكلة القطاع العام تكمن في النهب الهائل الذي تعرّض له، وفي سوء التخطيط، وعدك كفاءة الإدارة، وهذا ناتج عن طبيعة السلطة التي عممت مسألة الإثراء الفردي، وعينّت الأتباع في مواقع هم غير مؤهلين لها، وكان همّهم النهب. فإن القطاع الخاص غير مؤهل كذلك لمواجهة متطلبات تحرير التجارة واتفاقات الشراكة، فهو يعاني من ضعف الإدارة العلمية نتيجة سيطرة الفردية، ومن ضعف استغلال الطاقات الإنتاجية المتاحة نتيجة ضعف الطاقة الاستيعابية للسوق المحلية، مما يحرم المنتجات من « وفورات الحجم الكبير». وكذلك من صعوبة التقيّد بالمواصفات والمعايير، ومن صغر حجم المشاريع (محمد غسان القلاع نائب رئيس غرفة تجارة دمشق)، وبالتالي يتسّم بطغيان المؤسسات الفردية والعائلية التي تمثّل 93% من حجمه، كما يعاني من خمور الشركات المساهمة ومحدودة المسؤولية (د. عصام الزعيم).
لهذا فإن المنافسة في سوق تسيطر عليها الاحتكارات الكبرى يعني دمار الصناعة المحلية وتشريد آلاف العاملين وتعريض الاستقرار الاجتماعي للخطر (د. نبيل مرزوق) حيث من المتوقع أن تنهار المؤسسات الصغيرة، لتخلّفها التكنولوجي وفرديتها وارتفاع كلفة الإنتاج فيها، وسوء المواصفات، كما أن القطاع العام يعيش وضعاً صعباً نتيجة النهب، وبالتالي ميل الفئات الحاكمة إلى الاستحواذ على المؤسسات الرابحة، وترك المؤسسات الأخرى لمصيرها المأساوي. وهذا يطال قطاع النسيج وصناعة الأدوية، وكل الصناعات التي شيدت على أساس «الإحلال محل الاستيراد» (د. عصام الزعيم).
وفي القطاع الزراعي، الذي تطوّر منذ سنة 1986، وحقّق الاكتفاء الذاتي تقريباً، والذي بات يعاني من فيض الإنتاج نتيجة ضيق السوق السورية تأتي الشراكة وهو يعاني من مشكلات حقيقية لن تفعل سوى زيادتها، خصوصاً وأن الدولة قامت بإلغاء الصناعات الزراعية التي كانت تستوعب جزءاً من ذلك الفائض، إضافة إلى ارتفاع كلفة الإنتاج نتيجة ارتفاع مستلزمات الإنتاج، رغم ثبات الأسعار على ما كانت عليه سنة 1997. وأيضاً افتقاد الأسواق الخارجية، وتدني المواصفات الأمر الذي يجعل الصادرات الزراعية غير منافسة حتى في السوق المحلي.
ولقد قررت الدولة في الفترة الأخيرة رفع الدعم عن المحاصيل الزراعية. وفتحت السوق للمنتجات العربية مما زاد من مشكلة القطاع الزراعي، وبات يهدّد وجوده. لهذا يطالب الفلاحون بدعم الصادرات وتأمين مستلزمات الإنتاج، وإعادة النظر في الأسعار، كما أنهم يرون في الشراكة خطراً جديداً وجدّياً، لن يكون بإمكانهم الصمود دون دعم جدّي من الدولة، وهو ما تمنعه اتفاقات الشراكة ذاتها.
الاقتصاد السوري ينفتح على الشراكة وهو يعاني من مشكلات عميقة، نتجت عن ميل الفئات الحاكمة إلى النهب المنظم، وإلى كسب الولاء عبر الاستعانة بمن هم دون كفاءة، وهم بدورهم مارسوا النهب كذلك، وحيث نسبة البطالة مرتفعة، وتتراوح بين 11% وفق إحصاءات رسمية، و15% وفق إحصاءات هيئة مكافحة البطالة، لكنها تبلغ 30% وفق إحصاءات منظمة العمل العربية، و37% وفق إحصاءات البنك الدولي.
وبالتالي فإن الشراكة سوف يكون لها أثرها العميق على المجتمع، حيث هذه النسبة المرتفعة تحت البطالة، وحيث يكاد 60% من السكان يعيش تحت خط الفقر، وحيث تراجع دور الدولة في مجالات التعليم والصحة، ودعم السلع، والراية الاجتماعية أي في وضع أصبح فيه التقشف أمراً واقعاً، والصناعة والزراعة والخدمات تعاني من أزمة تهدّد وجودها.
النتائج كارثية، ربما أكثر مما حدث في المغرب وتونس ومصر، لأن الانفتاح يتحقق في لحظة بات فيها الاقتصاد منهوباً، ومتخلفاً نتيجة النهب.

****
وإذا كان اتفاق الشراكة لم يوقع بعدئذ، فقد سارت الليبرالية بتسارع أفضى إلى ما هو أكثر من ذلك.



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سورية أيضاً، لِمَ لا؟
- نحو حزب شيوعي عربي جديد-2
- حول الموقف الأميركي والأوروبي من التغيير في تونس ومصر، وربما ...
- شرارة الانتفاضة تصل ليبيا والعراق
- مبادئ الماركسية في الوضع الراهن
- الفيس بوك، انتفاضة
- من هو الشيوعي اليوم؟
- ما حدث وما يمكن أن يحدث في تونس
- ليس رحيل بن علي فقط بل والطبقة الحاكمة أيضاً
- مهماتنا الثورة ومشكلات التنظيم
- الصراع الطبقي في الوطن العربي في الثمانينات
- المسألة الطائفية كتحدي للمسألة القومية العربية
- طريق الانتفاضة لماذا تثور الطبقات الشعبية؟
- أطروحات من أجل ماركسية مناضلة
- بيان لن يصدر حول الدعاية الصهيونية باسم اليسار
- الدفاع عن الصهيونية -ماركسياً-؟
- سلامة كيلة في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الماركسية ...
- الليبرالية بصفتها يسار ملاحظات حول أطروحات كريم مروة الأخيرة
- عن الأفق الاشتراكي: علينا أن ندفن موتانا
- عن عودة المفاوضات المباشرةالسلطة تكيفت مع المشروع الإمبريالي


المزيد.....




- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
- تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل ...
- في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو ...
- التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل ...
- السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي ...
- الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو ...
- بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
- محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان ...
- المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
- القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟ ...


المزيد.....

- الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل / آدم بوث
- الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها ... / غازي الصوراني
- الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟ / محمد حسام
- طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و ... / شادي الشماوي
- النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا ... / حسام عامر
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ... / أزيكي عمر
- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - ضد الليبرالية في سورية