أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حسين علوان حسين - الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /6















المزيد.....


الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /6


حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)


الحوار المتمدن-العدد: 3338 - 2011 / 4 / 16 - 10:53
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


خامساً : گلگامش و أنكيدو إزاء عشتار و ثور السماء

نقترب الآن من ذروة الصراع (climax) في الملحمة . فبعد عودة گلگامش منتصراً إلى أوروك ، تعشقه الإلهة عشتار و تعرض عليه الزواج منها . غير أن گلگامش يصدها و يهينها شر إهانة ؛ فتسارع عشتار إلى أبيها إله السماء آنو و تقنعه بتسليمها ثور السماء لكي ينتقم لها من گلگامش . و لكن گلگامش و أنكيدو يكتشفان نقطة ضعف (العدو) الثور بمباغتته من الخلف بدلاً من مواجهته ، فيـجهزان عليه أولاً ، ثم يوغلان في إهانة عشتار .

غسل گلگامش شعره الكثيف و نظّف سلاحه ،
و أرسل غدائر شعره على أعطافه .
رمى جانباً لباسه الوسخ ،
و تلفّع بالحلل النظيفة ، و بالزنار لفها ،
ثم إعتمر تاجه .

رنّقت عشتار المبجلة جمال گلگامش بإشتياق ، فنادته :
"تعال يا گلگامش وكن بعلي .
إمنحني ثمرك ، نعم إمنحني ،
و لتكن زوجي و أنا زوجك !

سأسرج لك عربة من اللازورد و الذهب ،
عجلاتها من الذهب و قرونها من الكهرب .
تسحبها الأُسوْد المصطفة و البغال الضخمة ،
فتدخل بيتنا وسط عبق الأرز .

و إذا ما وطأت قدماك البيت ،
فستلثمهما العتبة و الدكة .
و سينحني لك الملوك و الأمراء و الحكام ،
و سيهبونك نتاج الجبل و السهل هدايا !

و ستلد عنـزاتك ثلاثاً و تلد نعاجك التوائم ،
و سيحمل حمارك أحمالا لا تقوى على حملها البغال .
و سيعدو حصانك مجيداً في عربته ،
و سيكون ثورك أقوى ثور يحمل النير !"

فتح گلگامش فاه مخاطباً عشتار المبجلة :
"إذا ما إتخذتك زوجة لي
.........
من اين سيأتي طعامي و زادي ؟
فهل ستقدمين لي خبز الآلهة ؟
و هل ستصبين لي شراب الملوك ؟
.....
من ذا الذي يقبل بك زوجة له ؟
و أنت البَرَدُ الذي لا يورِّث أي ثلج ،
و الباب الخلفي الذي لا يصد الزمهرير و لا الحر ؟

أنت قصر يذبح .... الصناديد ،
أنت فيل يمزق غماء رأسه ،
أنت القير الذي يلوث أكف حامله ،
أنت قربة الجلد التي تمزق أيدي حاملها ،
أنت حجر الكلس الذي يوهن جدار "الأشلر".

أنت مدك الأسوار عند الأعداء ،
فردة حذاء تقرص قدم صاحبها .
أي عرسانك إستطاع تحملك أبداً ؟
و أي صنديد من مقاتليك صعد السماء ؟

تعالي أقص عليك قصص عشاقك :
لقد أخذت دُموزي حبيب صباك ،
........... من ساعده ،
و حكمت عليه بالنواح عاماً بعد آخر . (37)

و عشقت طير الـ" ألألولو" المرقش ،
و لكنك ضربته أرضاً و كسرت له جناحها .
و ها هو يقف في الغابات و يصرخ "جناحي! جناحي !" (38)

و أحببت الأسد الكامل القوة ،
و لكنك حفرت له سبع حفر وسبعاً .

و أحببت الحصان الشهير في الحروب ،
فحكمت عليه أن يكون مصيره السوط و المهماز و اللجام .
و جعلت مصيره العَدْوَ سبع فراسخ كل يوم ،
و كتبت عليه شرب الماء المطيَّن .
و كتبت على أمه "سليلي" البكاء على الدوام .

و أحببت الراعي صاحب القطيع ،
الذي منحك أكواماً من الخبز الفاخر ،
و ذبح الخرفان لك يوماً بعد يوم .
و لكنك ضربته و مسخته ذئباً . (39)
و يطارده الآن رعاته الشبان أنفسهم ،
فيما كلابه تنهش فخذيه .

و أحببت "إيشوللانو" بستاني أبيك ،
الذي كان يجلب اليك التمر في السلة
كل يوم لتزدهي مائدتك .
فرمقته و قابلته ،

و قلت له ”تعال يا أيشيللانو ،
دعني أذق رجولتك !
مُدَّ يدك و مسِّد لي مفاتني !"

فاجابك أيشيللانو:
"و ما حاجتك بي ؟
ألم تخبز أمي فآكل خبزها ،
حتى أكل خبز الخنا و العار ؟
و هل ألوذ بالبردي من الزمهرير ؟

فلما سمعت قوله ، ضربته ومسخته قزما ،ً
و أشغلته وسط همومه .
فلا هو بالصاعد و لا هو بالنازل ،
فهل ينبغي لك أن تعشقينني لكي يكون لي نفس المصير ؟ "

فلما سمعت ألإلهة عشتار مقالة گلگامش ،
إستبد بها الغضب وصعدت إلى السماء .
و عرَّجت أمام أبيها آنو ،
و بحضور إمها "آنتم" سالت دموعها و قالت:
"يا أبتاه ، إن گلگامش يحقُّرني مراراً ،
و هو يفتري أفحش الإفتراءات عليَّ ،
إنّه يقذف بي و يشتمني أيضاً .

فتح آنو فاه للكلام
قائلاً للجليلة عشتار :
"إيه ، ألم تكوني أنت التي إستفزيتي الملك گلگامش
و لذلك فقد إفترى أفحش الإفتراءات عليك
و قذف بك و شتمك أيضاً ؟"

فتحت عشتار فاها لتتحدث ،
قائلة لأبيها آنو :
"يا أبتي ، أرجوك أن تسلمني ثور السماء ، (40)
كي أذبح گلگامش في عقر داره !
فإن لم تسلمني ثور السماء ،
فسأنسف بوابات العالم الأسفل حتى مثوى ساكنيه .
و أمنح العالم الأسفل قيامته ،
و أبعث الموتى لياكلوا الأحياء ،
و أجعل عديد الموتى يكتسح الأحياء !" (41)

فتح آنو فاه و قال لعشتار :
"إن أردت مني ثور السماء ،
فاجعلي الأرملة في أوروك تكتنـز محصول الحنطة لسبع سنين ،
و إجعلي المزارع يجمع أعلاف سبع سنين ." (42)

فتحت عشتار فاها وقالت
لأبيها آنو :
" قد إكتنـزت .......... فعلاً ،
و ........... قد أنبتُّ فعلاً .

و الأرملة في أوروك قد إكتنـزت محصول الحنطة لسبع سنين ،
و المزارع جمع أعلاف سبع سنين .
و بغضب الثور سأنتقم لنفسي ."
سمع آنو كلام عشتار ،
و وضع بيديها حبل خطم الثور .

يوضح النص أعلاه أبعاد الرؤية السومرية-الأكدية لشخصية إلهة الحب و الخصب و الحرب عشتار و هي أقوى إلهة أنثى في مجمع الإلهة السومري-الأكدي (أسمها السومري إنانا) . لما كان الإنسان العراقي القديم قد صور أصلاً كل الآلهة في هيأة البشر ، لذا فإن صياغته لأخلاق الآلهة كانت بشكلها العام صياغات تتماهى مع الأخلاق البشرية "الأرضية" البحتة ، و التي هي أبعد ما تكون عن التسامي و المثالية . هذا الإبتعاد عن المثالية السماوية يتجلى بشكل أوضح من غيره في تصويرهم للإلهة عشتار لكونها إلهة أنثى ، و ذلك ضمن سياقات صناعة الوعي و الثقافة الذكورية المنحازة في المجتمع العراقي القديـم . و لهذا نجد رسمهم لشخصيتها في ملحمة گلگامش يعكس كل رذائل الرجال الطامعين المستهترين ، و لكن بإسم إمرأة . و يمكن إجمال مكونات هذا التصور بالنقاط ألمدرجة أدناه :

• الغلمة "الشبق الجنسي".
• الإغواء بالثروة و الجاه .
• الإستحواذ و الخيانة الزوجية .
• الطمع و إستغلال الآخرين .
• الغضب الأعمى و الغيرة .
• حب الإنتقام .
• تهديد الآلهة .
• الأستهتار بمصائر الرجال و الناس .

و عملية "التفريغ" لعورات الرجال هنا في شخصية عشتار لها أهميتها الإعتبارية المهمة لأنها تسهم في صناعة صورة الأنثى (العشيرة : من العِشْرة) المحكومة بالمفاسد العشتارية أعلاه و غيرها بحكم "طبيعتها أصلاً"، و هذا ما يسوغ مراقبتها دائماً، و التشكيك في نوايا كل أعمالها ، و معاقبتها بصرامة لأدنى خطأ ، و إحتقارها كمخلوق أدنى من الـرجل ، و بضمن ذلك شتمها بشكل مقذع و من دون مسوغ و لا رادع مثل شتم گلگامش لعشتار . كما أن هذا التصور يوفر تسويغاً مريحاً لآثام الرجال بإتاحته لهم التبرير الكهنوتي لمسح هذه الآثام بقرون عمامات الآلهة و بإرادتها بإعتبار أنها هي الطرف الذي يضع نواميس الشر مثلما يضع نواميس الخير . وهذه الصورة قريبة من الصورة التوراتية المعهودة لحواء التي أغوت أدم بأكل التفاحة و سببت سقوط الأنسان . و مثلما لا يمكن إلقاء اللوم في سقوط الإنسان على عاتق آدم – لعصيانه أوامر ربه – بسبب إغواء حواء له ، فإنه لا يمكن أيضاً إلقاء اللوم أي رجل في إرتكابه المعصية طالما أن هذه المعصية تحصل مع المرأة أو بحضور المراة ، لأن الذنب يقع دائما عليها بإعتبارها كبش الفداء المتخصص بمسح أدران آثام الرجل .
و الدليل النصي الأول لإجراء عملية التفريغ و الإسقاط هذه لوساخات الرجل على رأس المرأة نجده في القصة السومرية المقابلة لقصة حواء التوراتية أعلاه ، ألا و هي أسطورة "إنكي و ننخورساك"(43) التي تعود للألف الثالث ق.م. ففي هذه القصة الأقدم – التي تتأسس قصة سقوط آدم التوراتية عليها أصلاً – تعرض الحقائق كما هي ، و ليست بالمقلوب مثلما تفعل التوراة . و تصف هذه الأسطورة حياة الآلهة و الإنسان في أرض السعادة المسماة "دِلمون" المشرقة و النظيفة والتي تجري فيها أربعة أنهار (جنات تجري من تحتها الأنهار)، حيث لا وجود للأمراض و لا الحيوانات المفترسة و لا الحشرات اللادغة و لا الترمل و لا الشيخوخة و لا الطمث النسوي و لا الموت . و يتولى الإله أوتو-شمش جلب المياه العذبة للساكنين . و في هذا الفردوس ، تتولى الإلهة الأم ننخورساك (التجسيد السومري القديم لفكرة المرأة الخالقة للحياة أو أم المخلوقات ) زراعة وإنماء ثمانية أنواع من النباتات من الماء . ثم يقوم الإله الذكر إنكي بقطع و إلتهام الخيرات الزراعية الثمانية تلك . فتحل عليه لعنة ننخورساك ، و تمرض ثمانية من أعضائه ، و يشارف على الموت ، و تتوارى ننخورساك (المشاعة الأمومية) عن الأنظار . و بفضل ذكاء الثعلب (طبقة كهنة المعبد) ، يتم إقناع ننخورساك (المرأة المهانة التي تترك البيت) بترك مخبئها و العودة لإشفاء (أخيها و زوجها الرجل) إنكي . و من الأعضاء التي تشفيها ننخورساك هي "ضِلع" إنكي ، و هي تفعل ذلك بخلقها للإلهة "نِنْ-تي" ، و لإسمها معنيان: "سيدة الضلع" ، و كذلك "السيدة التي تـحيى" (= حوّاء التـوراتـية) (44).
و لا يمكن المبالغة في الأهمية الرمزية لهذه القصة . فننخورساك هي الإلهة الأم (و أصلها هو "الأرض الأم" = المشاعة الإمومية )، وهي التي تتولى إستنبات وتنمية الخيرات الزراعية في الإقتصاد الأمومي – بفضل الماء الذي يجلبه للأرض الإله الذكر "اوتو-شمش" – وذلك عبر عمليات شاقة تشتمل على خلق ثلاثة أجيال من الإلـهات مـن المـاء ( = تطوير المحاصيل عبرالزراعة الإروائية) . و عهدها الأمومي هو عهد قيام الفردوس على الأرض في الذاكرة الجماعية للعراق القديم . و مع تطور الإقتصاد الزراعي و إزدياد خيراتـه ، يأتي الرجل "أنكي" ( = المجتمع الرجولي) ، فيسرق لنفسه الثروات الإجتماعية التي خلقها و أنماها المجتمع الأمومي ، فتلعنه النساء اللائي إغتصب منهن الرجل القاعدة الإقتصاديـة للمشاعة ، و يقاطعن الرجال السرّاق ، و يقسمن "على عدم النظر اليهم حتى وفاتهم". فيخسر الرجال جراء ذلك عون النساء اللائي يحتاجون ألى أجسادهن و كدهن و تجربتهن التي تنقصهم في الإنتاج الزراعي و في معالجة الأمراض الإجتماعية ، الخ . و يكاد المجتمع الذكوري أن يشرف على الإنقراض (الموت) جراء مقاطعة مجتمع النساء له لكون المرأة هي أصل الحياة و الخلق و أصل الرجل نفسه . و لكي يستطيع الرجال تفادي التفسخ و الموت فإنهم يلجأون إلى نشر الدعايات المخادعة (الثعلب = طبقة رجال الدين) ليس لإستعادة خدمات المرأة حسب ، بل وكذلك لإتمام تدجينها ، و إقناعها بالتخلي عن مقاطعة أو معارضة النظام الجديد ، و لتكريس إعادتها في خدمة المصالح الحيوية للمجتمع الرجولي . ومع أن النص الوارد إلينا لهذه القصة مخروم في موضع إدراج وسيلة الإقناع التي يستخدمها الثعلب لحمل ننخورساك على العودة ، إلا أنها لا يمكن أن تبتعد كثيراً عن تعويضها عن "سيادتها الإجتماعية-الإقتصادية" بمنحها "السيادة الدينية : السيطرة على أملاك المعابد" الذي تلتحق به أغلبية نساء المشاعة . و لهذا السبب ، يزدهر إقتصاد المعبد بعدئذ بفضل إنضمام نساء المشاعة إليه ، و تحولهن من قوة عمل ضمن إقتصاد المشاعية إلى قوة عمل مسخرة لخدمة إقتصاد المعبد ، و بضمنه البغاء المقدس ، و كذلك بفعل خلق الوعي الإجتماعي الجديد عبر الدور التخديري الجديد و المهم الذي يكتسبه كهنته في الصراع. يلاحظ هنا أن كلاً من جنة الفردوس للمجتمع الأمومي و جنة أقتصاد المعبد هما ثمرتا جهد المرأة ، تماماً مثل جنة بيت العائلة الحالي ، و أن جهنم هي نتاج إستحواذ الرجل على السلطة و ليس إغواء المرأة (حواء) حواء للرجل (آدم) . و هكذا تعود ننخورساك إلى دورة المجتمع و الإقتصاد الجديدين ، فتـضع الرجل المريض إنكي "عند فرجها" ، لتشفي أمراضه الواحد بعد الآخر كما لو كانت تطببه بإعادته إلى رحم إمه و إعادة إنشاء أو تخليق كل عضو مريض من أعضائه (يلاحظ تقارب مبدأ هذا الأسلوب في التطبيب مع تقنية تخليق الخلايا الجذعية الحالي). و الستراتيجية المستخدمة هنا لإقصاء سلطة مجتمع النساء هي من نمط "التمَسْكُن للتمكّن" بإستغلال المشاعر الرؤوم للمرأة بغية إستدرار عطفها على "أخيها أو إبنها"الرجل "الضائع" بدونها ، وحبس مشاعيتها الجنسية ضمن أسوار المعبد و لمنفعته ، وتحريم التزوج بها . غير أن البراءة و السعادة تنتهيان مرةً وإلى الأبد على أرض دلمون الفردوسية بعد غياب مجتمع المشاعة الأمومي بسبب ظلم المحتمع الرجولي الذي يسرق الثروة الإجتماعية ، و ليس بسبب ظلامة المرأة التي تخسر دورها الإقتصادي-الأداري-الإجتماعي المتقدم . و مثلما يحصل دائماً في الصراع بين المرأة و الرجل ، فإن النسخة التوراتية من هذه الأسطورة تحول الظالم إلى مظلوم ، و العكس بالعكس . و لا بد أن نلاحظ هنا – عرضاً – قوة المعرفة الحدسية الشعبية للسومريين والتي تجعلهم يربطون ، بحق ، بين نشاط الشمس و بين سقوط الأمطار. و كإنعكاس لفقدان ننخورساك (الولّادة و أم كل الأحياء) لمنـزلتها السامية ، نجد أن ترتيب إسمها في قوائم إثبات الآلهة الأقدم عهداً يرد متصدراً قبل إسم الإله أنكي ، في حين أن القوائم الأقرب عهداً تدرج إسمها بعده (45).
أما النص الثاني الذي يشير إلى المجتمع الأمومي التي تسيطر عليه المرأة فهو ذلك المنقول آنفاً عن الصراع بين عشتار و گلگامش في الملحمة . هنا نجد أن الإلهة عشتار – بإعتبارها سيدة المشاعة الأمومية – تحتفظ لنفسها بحق إختيار أزواجها حسبما تريد لإقتدارها على الصرف على بيت الزوجية. و عندما يغضبها هؤلاء الأزواج بحماقاتهم أو تجاوزاتهم عليها ، فإنها تعاقبهم مثل كل سيدة حازمة تتحكم بمصائر أفراد المشاعة التابعين لها. و لما كان الإنسان العراقي القديم قد صوّر الآلهة في هيأة البشر، لذا فإن أخلاق الآلهة هي أخلاق بشرية . و لكون عشتار هي سيدة المشاعة الأمومية ، فهي قادرة على "دفع مهر الرجل" الذي تختاره هي بالذهب و اللازورد و المواشي وغيرها ، أي نقداً أو عيناً ؛ في حين ينبغي على الرجل الذي يريدها زوجةً له أن يتولى هو تقديم المهر لـها . و تضم قائمة أزواجها العديد من الشخصيات الأسطورية التي ستستعيرها من الفولكلور العراقي القديم بعدئذٍ كل الأساطير الشعبية للمصريين و اليونانيين والرومان إلى اليهود و المسيحيين و العرب . و لكن دعوة عشتار لگلگامش بالزواج لا تلقى آذاناً صاغية منه ، فلماذا ؟ ربما لأنها دعوة إلى العودة إلى سيادة المجتمع المشاعي الأمومي المفكك ، و هذا ما يرفضه الملك گلگامش إنسجاماً مع مصالح و أسس ثقافة المجتمع الرجولي الذي يترأسه ، و القائم على فرية إلصاق كل العورات بالمرأة لـ "حرقها إجتماعياً" بتلويث سمعتها أو تلبيسها لبوس إبليس - مثلما يحصل في الصراع مع خمبابا - لمنعها من التسيّد إقتصادياً من جديد على حساب مجتمع أوروك الذكوري . و لا يمكن تصور وجود سبب مقنع آخر لرفض گلگامش الزواج بعشتار ، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الإعتبار أن عشتار إلهة قوية ، و أن گلگامش ليس إلا ثلث إله ، و أن زواجه منها يمكن أن يهبه الخلود الذي ينشد . ولكن الملحمة لا تتحدث بالقلم العريض هنا، و تكتفي بالترميز الملحمي ، و إن كانت تنوه تلفيقاً إلى خشية گلگامش من خيانة عشتار له (مثلما فعلت مع أزواجها السابقين) و تدنيسها لجسده (كناية القير الملوث للبدن) و ذلك ضمن ثقافة "دونية المرأة" التي تمارس حرية الإتصال الجنسي بالنسبة للرجل و إرتباطها بالشر . إذاً ، فان رفض گلگامش للزواج من عشتار مرده تحريم المجتمع الذكوري على الرجل الزواج ببغي المعبد (و التي تطلق عليها النصوص الأكدية إسم "العشتارية" ، أي نسبة إلى عشتار) لسببين هما : ملكيتها للمعبد و حرية الإتصال الجنسي التي تتمتع بها ، كل هذا رغم ولع گلگامش السابق بالعذراوات من بنات العوائل الأوروكية (46).
أما موضوعة تزاوج البشر مع الآلهة فهي فكرة أثيرة في العراق القديم ، و تنطلق من مبدأ وجود إتصال مادي حسي متواصل بين الإلهة و الناس ، سواء كان ذلك بالإيمان بكون الآلهة تأكل و تشرب الارزاق التي يقدمها لها البشر لتأمين الموارد للمعبد ، أو الإيمان بإمكان الإتصال فعلياً بكل إله عن طريق الأتصال جنسياً ببغايا المعبد الخاص به و انفس السبب الإقتصادي أعلاه . وكل هذه المعتقدات توضح فقدان الحدود الفاصلة بين الناس و الآلهة ، و إيمان العراقيين القدماء بالمنـزلة الراقية للإنسان الذي يستطيع ليس فقط معارضة إرادة هذه الآلهة أو تلك – بعون إلهه الحامي شمش – بل و كذلك مقارعة الآلهة والإنتصار عليها أحياناً . و لقد إستعارت الديانتان اليهودية و المسيحية فكرة إتصال البشر الحسي المباشر بالرب من الديانة السومرية ، على الأقل بالنسبة إلى موسى (كليم الله) و عيسى (إبن الله) .
نعود إلى الصراع بين گلگامش وأنكيدو مع عشتار و الثور السماوي . تنص الملحمة نفسها على أن الثور السماوي يرمز إلى الجفاف الذي يدوم سبع سنين (كناية عن المدة الطويلة). و بالنسبة إلى أرض العراق الرسوبية فإن شحة الأمطار و مياه الأنهار موسماً بعدآخر يمكن أن تكون له آثاره الكارثية على الزراعة و الرعي والإقتصاد والمجتمع ككل. و لكون الإلهة عشتار هي إلهة الخصب ، لذلك فإن غضبها على الملك گلگامش يجر الويلات على شعب أوروك . و مثل قصة نصيحة يوسف لفرعون المستعارة من هذه الملحمة ، يبدو أن عشتار قد جعلت أرامل أوروك و مزارعيها يتحسبون لعهد المحل القادم ، فيصار إلى تخزين الأرزاق مسبقاً ، و هذا ما يخفف من النتائج السلبية للجفاف . و على العكس من قصة يوسف ، الذي تصوره الحكاية و هو يصد حب سيدته مثل گلگامش ، وإن كان الصحيح هو العكس بدليل الحكم عليه بالسجن ، فإن الذي ينبِّه شعب أوروك إلى خطر المجاعة القادمة و يساعدهم في إعداد العدة لها هي عشتار و ليس گلگامش . و هذا ما يثبت أن الإلهة عشتار لم تكن تريد العقاب الجماعي لشعب أوروك ، و إنما المقصود هو معاقبة جناية مليكهم گلگامش الجاحد لحبها ، و إن كانت مصائر الشعوب لا يمكن أن تنفصل دائماً عن مصير حكامها .
ثم تأتي إشارة الملحمة إلى خوارات الثور التي تودي بحياه العشرات من أهل أوروك ممن يسقطون في الهاوية ، وهي إشارة تقبل أكثر من تفسير واحد للكارثة الحاصلة : العواصف ، الصواقـع ، الـهزات الأرضية ، البراكين ، النيازك الساقطة من السماء ، أو كلها مجتمعة ، ربما بإستثناء البـراكين التي لا وجود ظاهراً لها على أرض العراق . أما الثور نفسه فيبدو أنه التجسيد المادي للكارثة و الخطر المحدق بشعب أوروك – بضمنه الغزو الأجنبي بقيادة ملك يتدرع باللازورد – خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الإعتبار الكمية الكبيرة من اللازورد التي يغنمها منه البطلان ، و السهل الرسوبي العراقي يخلو منه تماماً . هنا الملحمة تفسر تلك الكارثة التي أحاقت بشعب أوروك بسبب الغزو الخارجي على إعتبار أنها التجلي الفعلي على الأرض للغضب السماوي على گلگامش الملك . أما أسلوب سيطرة گلگامش (الثور الأرضي) و أنكيدو (راعي البر) على الثور السماوي و نحره فتذكرنا بإسلوب قتل الثيران في كريت القديـمة و أسبانيا حالياً . و أخيراً ، فإن موضوعة القتل البطولي للثور – مثل أغلب الموضوعات الأخرى للملحمة – ستصبح ثيمة أساسية في أساطير ألعديد من الشعوب بعدئذٍ لتوكيد القوة الجسدية للإنسان-البطل في قراع الإعداء .
أما ألفعلة العدوانية التي تثير الإستغراب فهي قيام أنكيدو برمي فخذ الثور المقدس على الإلهة عشتار ، و التي لا تتناسب مع ما عهدنا فيه من الحرص على الإستقامة و التروّي و عدم التهور خلال غزوة غابة الأرز ، و في سياق حمله گلگامش على الإقلاع عن التمسك بحق الليلة الأولى . هذه الفعلة العدوانية غير الضرورية (الخطأ المأساوي : Tragic Flaw) إزاء عشتار تبين أن أنكيدو قد أصبح ملكياً (=گلگامشياً) أكثر من الملك گلگامش نفسه ، فـعلام هـذا التحول ؟ ذكرنا سابقاً فكرة إتحاد شخصيتي گلگامش و أنكيدو و تبادلهما الأدوار منذ عناقهما في ميدان أوروك . أما الآن ، فيجب أن نعرج على واقع إن إتحادهما بات يشكل قوة بشرية (أرضية) هائلة و غير معهودة لا قِبَلَ حتى للأدوات الإلهية التقليدية (السماوية) على مواجهتها . و لما كانت هذه القوة الأرضية الهائلة غير معصومة من التهور – مثل قذف أقوى الآلهة بفخد إله سماوي قتيل مقدس – لذا فإن هذه القوة الجديدة الغاشمة باتت تتهدد سلطة الآلهة نفسها ؛ و لا بد للآلهة بالتالي أن تعمد إلى إضعافها بـ"تفتيتها" بأن تجعل أحدهما كبش الفداء للثاني مثلما سيتبين من المبحث التالي . و يبدو أن فعل الإضعاف هذا آتٍ للقوة المتهورة الأعظم حالياً و هي الإمبريالية الأمريكية سواء بالتفتيت بانسلاخ أوربا و أمريكا اللاتينية عن فلكها أو عن طريق خلق المعادل الإيجابي : الصين ، الهند ، روسيا ، إلخ .

ملاحظة : شرح الهوامش سيرد في الجزء الأخير .



#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدكتور محمد مهدي البصير / الشخصية الحلية الفذة
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /5
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /4
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /3
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /2
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /1
- قصة قصيرة : يوم جمعة في حياة جندي مكلف عراقي
- حكاية الموت الغريب للفيل -جَلا-
- ملاحظات حول حركة حقوق المرأة و مدرسة النقد الأدبي الأنثوي
- خَلَفْ
- دِشَرْ
- ستراتيجيات سلطة الاحتلال الأمريكي للعراق خلال الفترة 2003-20 ...
- قصة الخنزير البهلوان -نجم-
- رسالة قصيرة


المزيد.....




- حارس بيئي للإمارات..مصورة تبرز دور أشجار القرم بمكافحة تغير ...
- مذبح غامض وجثث مدفونة.. من يقف خلف هذا الهيكل المدفون في قلب ...
- ولي نصر لـCNN: إسرائيل تفضل ألا يتفاوض ترامب مع إيران.. ماذا ...
- -متلبسا بالصوت والصورة-.. ضبط مدير جمعية تعاونية بالكويت يطل ...
- مصر تمتلك -إس-400- الصيني.. تقارير إسرائيلية تعبر عن مخاوف م ...
- زيارة سرية لقائد سلاح الجو الإسرائيلي إلى واشنطن واتفاق حول ...
- بعد رفضها لمطالبها.. إدارة ترامب تجمد 2.2 مليار دولار لجامعة ...
- إدارة ترامب تخطط لخفض ميزانية الخارجية إلى النصف وتقليص البع ...
- مصر تقترب أكثر فأكثر من ترؤس اليونسكو
- الداخلية السعودية تطلق -منصة تصريح- الذكية لإصدار وتنظيم تصا ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حسين علوان حسين - الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /6