|
الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /2
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3335 - 2011 / 4 / 13 - 08:25
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ثانياً/ أنكيدو و شمخة
عملاً بنصيحة والده ، يسافر الراعي الصياد إلى أوروك ، فيقابل گلگامش و يستحصل موافقته على إستصحاب شمخة إلى البرية لترويض أنكيدو كما يتضح من هذا النص : مُمتثلاً لنصيحة أبيه ، إنطلق الصياد في سفرته . ركب الطريق ، و يمم شطر أوروك ، و تكلم أمام گلگامش قائلاً :
"هناك رجلٌ يَرِد عين الماء انه الأقوى في البرية ، وهو شديد البأس ، وهو صلب كصلابة الصخرة النازلة من السماء . …… ……" خاطب گلگامش الصياد قائلاً : "إذهب أيها الصياد و خذ معك شمخة ! وعندما يأتي القطيع إلى عين الماء عليها أن تخلع ملابسها لتكشف عن مفاتنها وحالما يراها فسينجذب إليها فينكره قطيعه الذي ترعرع بين ظهرانيه ." السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو سبب إضطرار الراعي الصياد إلى إخبار گلگامش بموضوع أنكيدو ، و طلبه منه الإذن في إصطحاب شمخة . الجواب يكمن في طبيعة الفئة الاجتماعية التي تنتمي إليها شمخة . كانت مدينة أوروك في تلك الفترة دولة تسودها تشكيلة اقتصادية – اجتماعية ثيوقراطية تفردت بها دويلات المدينة-المعبد في بلاد سومر القديمة (أريدو ، نفّر، شوروباك ، سبّار، كيش ، اوروك ، أور) . والمبدأ الأيديولوجي- القانوني الذي تقوم عليه هذه التشكيلة هي أن " المُلْك للمعبد " ، أي أن كل موجودات المدينة وبضمنها البشر هي – على الأقل نظرياً – ملك للمعبد ( أي الآلهة ) . فوفقاً للفكر الديني السومري ، فإن الآلهة قد خلقت البشر للغاية الأساس المتمثلة بخدمتها كي تحيى سعيدة مرتاحة بلا عمل (7)، لذا فإن من واجب كل إنسان القيام بخدمة خالقيه إما بالعمل المباشر لحساب الآلهة ، أو بتأدية نصيبه من الضرائب إليها على شكل عطايا أو هباتٍ أو نذور في مناسباتٍ معينة أو تخصيص جزء من قوة عمله لحسابها إما للتطهر ونيل البركة ، أو للتكفير عن الذنوب . و المواطنون ضمن هذه التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية هم فئتان ؛ الفئة الأولى هم أهل "الحل و العقد" الذين يعملون لحساب المعبد و يعيشون على موارده ، والفئة الثانية هم "المدنيون" الذين يدفعون الضرائب للمعبد مقابل تسديد التزامهاتهم الديني في خدمة خالقيهم . وتضم الفئة الأولى نشطاء المعبد مثل مختلف مراتب الكاهنات و الكهنة و العمال و الحرفيين و الحراس و الرعاة و الفلاحين و التجار و العمال و العبيد و غيرهم من المشتغلين لقاء أجور (العينية في الغالب) في النشاطات الدينية و الاجتماعية و الاقتصادية العائدة ملكيتها للمعبد باعتباره المالك الأكبر لوسائل الإنتاج . و بضمن هذه الفئة "حكومة المعبد" و التي تتمثل بالملك الحاكم و قصره و حكومته و جيشه و مستشاريه باعتبار أن القصر و المعبد كان يكمل أحدهما الآخر في إطار وحدة اقتصادية-سياسية-دينية ، حيث نجد أن رئيسة معبد السماء "أي-أنا" الرئيسي في اوروك هي أم گلگامش الإلهة الثانوية (ننسون) – و هي الملكة أيضاً مثلما ستنص عليه الملحمة بعدئذٍ – في حين أن الملك الذي يمسك بزمام السلطة هو ابنها شبه الإله گلگامش . و أفراد هذه الطبقة يحصلون على جراياتٍ منتظمة أو موسمية من موارد المعبد لقاء رعايتهم لمصالحه ، و تطويرهم الآيديولوجيات الدينية التي تكرس خدمة العباد لهم باعتبارها خدمة للآلهة الحامية نفسها . أما الفئة الثانية من المدنيين فإن نشاطهم الاقتصادي قائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج و التي يسمح لهم بتملكها لقاء دفع الضرائب للمعبد إما نقداً أو عيناً أو ببذل قوة عمل مجانية ( أعمال السخرة ) تنفذ لحساب المعبد و حسب طلبه . و لقد تميزت أوروك عن غيرها المدن المقدسة في العراق القديم إبان العهد السومري المبكر بكونها مركزاً لأقدس معبد في البلاد و هو معبد " إي أنا" الخاص بإله السماء و رئيس مجمع الآلهة السومري " آنو" و كذلك الإلهة "إنانا" أو عشتار و هي أشهر و أقوى إلاهة في تاريخ العالم كله (8)، و لذلك فقد كانت المدينة محجـاً كبيراً للعبّاد و مركزاً تجارياً مزدهراً مهماً في عراق السومريين . و كانت تنافسها على مركزها هذا مدينة نفّر ، و هي مركز عبادة إله الـهواء إنليل . و بقدر تعلق الأمر بشمخة ، فان من الواضح كونها تنتمي إلى أفراد الطبقة الأولى من الإناث اللائى يكرسن أنفسهن ( إما من قبل عوائلهن لدفع ضرائب المعبد ، أو بسبب الوفاء بنذرٍ عائلي أو شخصي تقرباً للآلهة ، أو لكونهن يتيمات أو لقيطات أو فقيرات لا مورد لهن و يتولى المعبد تربيتهن ) لخدمة المعبد بممارسة البغاء المقدس لمدة محددة كوسيلة لتوفير الفرصة للعباد من زوّار المعبد "للإتصال بالإله" لقاء أجر معلوم يعود إلى إدارة المعبد ألتي يؤمِّن لهن بالمقابل المأوى و المأكل و الملبس. و لوجود المعبد كمؤسسة إقتصادية منتجة يمكن اللجوء إليها للحصول على ما يسد الرمق و إشغال وظيفة نافعة في تشكيلة زراعية-رعوية مزدهـرة ، فإن العراق القديم لم يعرف ظاهرة وأد البنات عند إزدياد عدد سكانه بشكل كبير إبان العصر السومري و العصور اللاحقة ، في حين صاحبت هذه الممارسة الزيادة الكبيرة في عدد السكان في المجتمعات القاطنة في المناطق الفقيرة . كانت ممارسة البغاء المقدس لحساب المعبد هو النشاط الذي يوفر مورد العيش الأساسي المتاح للنساء الشابات المنذورات بشكل مستديم ضمن إقتصاد المعبد كما هي في حالة شمخة . و عليه فإنها تعتبر إحدى أملاك المعبد في مركز المدينة الذي يحكمه گلگامش ، ولهذا السبب فقد كان لزاماً على الراعي الصياد أن يستحصل موافقة گلگامش على "إستعارتها" مؤقتاً لإنجاز المهمة المطلوبة منها خارج نطاق المدينة و المعبد الذي تعمل فيه لقاء أجرٍ طبعاً يُدفع جزء منه للمعبد للتعويض عن خسارته للموارد المنظورة من نشاطها المقدس داخل المعبد طيلة فترة غيابها . و لهذا فإن الناموس السومري كان يحرم على الرجل التزوج من فتيات المعبد مادمن في خدمته المقدسة . و هكذا نجد كيف أن الزواج – و هو فعل مقدس – ينقلب إلى فعل دَنَسْ إذا ما إنطوى على إفقار المعبد . هنا الدنس الديني المؤدلج يصبح تجلياً للمصالح الإقتصادية ، مثل الجريمة المترتبة على إيواء العبد أو العبدة الآبقة (9). و من المهم التأكيد هنا أنه و حسب التقاليد السومرية القديمة فقد كانت مهنة مثيلات شمخة مهنة ليست فقط محترمة اجتماعياً بل و مقدسة أيضاً (لشمولها برعاية الإلهة القوية عشتار) و ذلك لأسباب اقتصادية طبعاً بفضل دور أولئك النسوة في القيام بطقوس المعبد المقدسة – و أهمها الإتصال بإله المعبد – و كسب العباد و توفير الموارد المالية له . و اسم "شمخة" هنا مهم بحد ذاته فهو يشير إلى "الشموخ" ، و هو ما حدا بالأستاذ گوردن (1962) إلى تسميتها بالبغي المتكبرة (arrogant whore)(10)، و إن كان الصحيح هو "البغي الماجدة" لعدم وجود مايشير إلى التكبر في تصرفاتها ، بل أن العكس هو الصحيح حيث يثبت لنا أسلوب رسم شخصيتها كونها إنسانة رقيقة التصرف ، ناهيك عن أستاذيتها في فن تحويل الوحوش من أمثال أنكيدو إلى بشر آدميين مثلما سيمر بنا . و علاوة على منـزلتها المحترمة ، فقد كانت شمخة "ملكة جمال" مملكة أوروك ، ونجمة مقدسة شهيرة يعرفها في أوروك أغلب عباد آنو آنذاك ، و ربما كل حجاج معبد إي-أنّا ، و لذلك نجدها معروفة عند والد الراعي الصياد الذي يسكن بعيداً عن أوروك ، و هي معروفة عند گلگامش أيضاَ .
"هو ذا يا شمخة ! ابرزي نهديك ، و اكشفي عن فرجك ، و دعيه ينال مفاتنك ! إياك أن تنكفئي عنه ، بل تقبلي رائحته : و عندما يراك سينجذب اليك ."
"أفرشي ملابسك كي يضطجع عليك ، و افعلي للرجل فعل المرأة ! دعي شهوته تلامسك وتحاضنك ، و عندئذٍ سينكره قطيعه ، القطيع الذي ترعرع وسطه ."
خلعت شمخة لباس حوضها ، و كشفت عن فرجها فأخذ مفاتنها . لم تنكفئ و تقبلت رائحته : و فرشت ملابسها فاضطجع عليها .
و فعلت للرجل فعل المرأة ، فلامستها شهوته و حضنتها ، و لستة أيامٍ و سبع ليالٍ ، بقي أنكيدو منتصب العضو و هو يجامع شمخة .
و بعد أن إرتوى تماماً من لَذَّاتها ، أدار عينيه نحو قطيعه . رأت الظباء أنكيدو ، فولت هاربة منه ، و ابتعدت حيوانات الحقل عن محضره .
لقد دنس أنكيدو جسده الناصع النقاء ، و تسمّرت قدماه فلم يعد يقوى على الحراك ، رغم أن قطيعه كان يعدو عنه مبتعداً ، لقد أصاب الضعف أنكيدو فلم يستطع العدو كالسابق ، و لكنه نال الحكمة الآن ، و الفهم الواسع .
نلاحظ أولاً التحديد الزمني المهم في النص لمدة "ستة أيام و سبع ليال" لفعل الجماع المشبع ، و هي المدة التي سيتواتر ذكرها بعدئذ في الملحمة و كذلك في العديد من النصوص الدينية السومرية و غير السومرية . لقد كان الرقم "سبعة" يرمز عند العراقيين القدماء إلى "العدد الكبير" ، و ما زالت أيامه تساوي "شهر العسل" في الأعراس العراقية المعاصرة (أسبوع العرس) . و لعل سبب إسباغهم صفة الكبر هذه عليه كونه أكبر عدد أولي بين الأعداد (1- 10) لا يقبل القسمة إلّا على نفسه و على الرقم (1) . أما الرقم "ستة" ، فقد كان يُستخدم في العديد من المناسبات الدينية و المدنية للتعبير عن المدة "المثالية" التي يتطلبها إنجاز الأعمال الـمهمة أو الخطيرة أو الـعظيمة . و سبب إسباغ صفة المثالية عليه فلعله يعود إلى كونه أصغر عدد أولي يـقبل القسمة على أربعة أرقام . و نلاحظ ثانياً كيف أن النص السومري ينظر إلى الجماع بين الرجل و المرأة نظرة مزدوجة ، فهو عمل يورث الحكمة و الفهم الواسع للعقل البشري من ناحية ، و هو فعل تدنيسي للجسد في نفس الوقت . قبل الجماع كان أنكيدو حيواناً همجياً ، فأصبح بعده انساناً حكيماً ، ولكنه مصاب بالدنس الذي يجعل قطيعه ينفر عنه . فلماذا هذه الإزدواجية في المعايير ؟ ترتبط الاجابة على هذا السؤال بدافع اقتصادي اجتماعي ضارب في أعماق التاريخ تزامن مع أنهيار المجتمع الأمومي يوم كانت الأم هي ربّة العائلة البشرية الأولى التي يأوي اليها فحول الرجال من أشباه الحيوانات المتنقلة ليجدوا عندها مكاناً للإستقرار و الطعام و المتعة ، و مجالاً للعمل الغائي المنتج و المنتظم ضمن إطار مصالح العيش للأسرة الجديدة التي يصبحون أعضاء جدد فيها . في ظل هذه العائلة الأمومية يحق للمرأة مجامعة من تريد من الرجال المنضوين تحت حماها ، مثلها مثل شخصية عشتار في الملحمة ، و ذلك ضمن سيادة ثقافة القبول بحرية الأتصال الجنسي للمرأة و الرجل على حدٍ سواء . في حينها كان اقتصاد جمع القوت يمارس بشكلين ، شكل بدائي مترحل يتنقل من مكان لآخر تبعاً لتواجد القوت في المناطق الشحيحة المصادر الغذائية ، و آخر مستقر و متطور في المناطق الغنية بمصادر الغذاء و أساسه قيادة المرأة الأم للأسرة في عملية جمع القوت و تنظيم العمل بتقسيمه بين أفراد الأسرة من النساء و الرجال و الأبناء حسب الأعمار. و في ظل هذه العائلة الامومية ، كان الأبناء ينتسبو ن لإمهاتهم اللائي ولدنهم و ليس إلى الآباء لتعذر تشخيصهم على وجه الدقة بسبب الحرية الجنسية . و من المعلوم أنه طوال تاريخ البشرية فان الأم كانت هي الطرف الذي يخلق العائلة المستقرة و ليس الأب . (و الآن وبعد إختراع عملية الاستنساخ البشري غير الجنسي (cloning) ، فقد عاد الرجال الى وضع أدنى من وضعهم الأول في العائلة الامومية بعد أن أصبحوا مخلوقات فائضة عن الحاجة عند اللزوم قدر تعلق الأمر بوظيفتهم البيولوجية في التكاثر البشري) . و باعتبارها سيدة المشاعة الامومية ، فقد كان بإمكان المرأة سيدة العائلة الامومية ، مثلها مثل الإلهة عشتار ، ضم الرجال-الحيوانات الرحّل من أمثال أنكيدو إلى أسرتها . و مثل هذا الضم نافع للعائلة المشاعية لأنه يزيد قدراتها الانتاجية في اقتصاد جمع القوت ، ولكنه أنفع للرجل الدخيل الذي يتعلم في كنف الاسرة الجديدة مبدأ تقسيم العمل ، و أفضلياته ، و أسلوب الحياة المستقرة ، وثقافة المجموعة الأسرية ، ناهيك عن زيادة فرص إشباع بطنه ، و غريزته الجنسية . هذا الدور التاريخي الماجد الذي لعبته المرأة و ما تزال تلعبه في تعليمها و تعويدها للرجل أُسس الاستقرار الفاعل في المجتمع المتحضر هو الذي تخلده الملحمة رمزياً في شخصية شمخة الماجدة و أنكيدو الإنسان-الحيوان . ولذلك يكتسب أنكيدو الحكمة بعد جـماعه بشمخة ، و يصبح إنساناً آدمياً واسع العلم ، و يتعلم العمل الذي هو أقوى فن معاشي يجعل الانسان مربوطاً بواقعه مثلما سنرى في الفصل التالي . أما النظرة التدنيسية لفعل الجماع مع المرأة على نقاوة جسد الرجل فهي من الإبتكارات الآيديولوجية للمجتمع الذكوري بغية إدامة سيطرة الرجل على المرأة . و لم تظهر هذه الفكرة إلا في المراحل التالية بعد أن بدأت العائلة الأمومية بالتفكك كنتيجة مباشرة لأكتشاف أسلوبي الإنتاج الرعوي أولاً و الزراعي ثانياً . ففي ظل هذين الأسلوبين أصبح الرجل - المتفرغ للعمل خارج المنـزل - أكبر قوة منتجة في العائلة بفضل قوته الـجسمانية التي تتيح له العمل راعياً و فلاحاً يتفوق في إنتاجه على المرأة المرتبطة بالبيت إضطراراً في الغالب بسبب وظيفتها البايولوجية في إعادة إنتاج النوع البشري . و سـرعان ما ترجم الرجل هذه السيطرة الاقتصادية إلى سيطرة عائلية-اجتماعية-سياسة إستمرت الى وقتنا هذا ، وذلك بتحويله المرأة الى تابـع لـه ، و بمنعه الحرية الجنسية عنها (بإستثناء من يلتحق من النساء بالمعبد) ، مع إبقاء هذه الحرية متاحة بيسر للرجل وفقاً لهذا التشريع أو ذاك ، و تحويل المرأة الى تابع مستعبد يخدم رغائب الزوج عن طريق فرض قانون الزواج الأحادي لها ، و إيكال الأعمال المنـزلية الخدمية بها . ولتأمين إخلاص المرأة للرجل من جانب واحد لكي تتسنى له الولاية على أبناءه و زوجاته بدون منازع ، فقد نشر الرجل آيديولوجية الدنس الذي يصيب نقاوة جسد الرجل من فعل الجماع بغير زوجاته ، و اعتبار أن مثل هذا العمل رجس من جانب المرأة الموسومة بـ "الزنا" و التي ينبغي نبذها اجتماعياً لدنسها مثل نبذ حيوانات البر لأنكيدو من القطيع بعد جماعه بشمخة . و إذا ما وضعنا الرمزية جانباً هنا ، فيمكن تصور مدى ترسخ ايديولوجية نجاسة الجماع بالمرأة في هذا السياق عندما يجعل كاتب الملحمة حتى الحيوانات - التي تمارس الحرية الجنسية - ترفض أنكيدو بعد جماعه بشمخة . بعدها ستحول ايديولوجية المجتمع الذكوري المرأة الى رمزٍ للمصائب و الحروب ، و شماعة يعلـق عليها الرجل كل نقائصه (مثلما ستفعل التوراة بالقائها اللوم على حوّاء في قصة سقوط آدم ، و مثلما سيفعل قبلها أنكيدو قبيل وفاته مثلما سنرى) ، و إلى أسوأ مستعبد أبدي في التاريخ تتميز أبدية عبوديته بعمليات غسيل دماغ اجتماعية-دينية مستديمة كي لا يدرك أنه مستعبد أصلاً . و بمرور الأزمان ستأتي أديان أخرى تقصي المرأة إقصاء تاماً عن القيادة في مراكز العبادة الدينية المقدسة ، و بشتى الأعذار . ولذلك ، فلا نجد بين ظهرانينا الآن لا حاخامات ، و لا قسيسات ، و لا شيخات . مع ذلك ، فان التاريخ و الآيديولوجيا قد سـمحتا لبعضٍ من أعظم القديسات عبر التاريخ أن يكنَّ من أنصار ممارسة الحرية الجنسية ، على الأقل لبعض الوقت في حياتـهن . وهكذا تجتمع القداسة بالنجاسة في نفس الفعل بفضل مكيافيلية الأُطـر الآيديولوجية ، المتاحة دوماً لخدمة مصالح الأقوياء المستحوذين على السلطة حسب الطلب ، و التى ترتدي كـل الألوان ، و تكتسب مختلف اليافطات التلفيقية الشرعية . و سنعود إلى هذا الموضوع عند مناقشة الصراع بين عشـتار و گلگامش . وهكذا نجد أن نص الملحمة يعبِّر عن تحول أنكيدو من جامع متنقل للقوت إلى مستوطن ثابت لدى إتصاله بالمرأة (التي تصنع الإستقرار) من خلال جماعه بشمخة و الذي يجعل حيوانات تهرب منه (إشارة إلى إنقراض هذا النمط من النشاط الإقتصادي) . لقد كانت القوة الجسمانية للرجل هي المحرك الطائر الذي رفع به الرجل مكانته الإجتماعية فوق مكانة الـمرأة في إطار تسلط القوي على الضعيف . كما أدى ترسّخ أسلوب الإنتاج الرعوي و الزراعي إلى تقوية مكانة الرجل الإنتاجية على نحو مضطرد لحاجة هذين الأسلوبين لبذل مجهود بدني متواصل لاينقطع مثلما يحصل للمرأة نتيجة لوظيفتها البيولوجية و ما تفرضه عليها من الدورات الشهرية و الحمل و الولادة . و هذه هي إحدى الأمثلة الإقتصادية - الإجتماعية على تفاعل الوظيفة البيولوجية للأنثى و الذكر مع أسلوب الإنتاج السائد و ذلك بهدف تغيير علاقات الإنتاج و لخلق الهيمنة الإقتصادية و من ثم الإجتماعية لأحدهما على الآخر بدلاً من التكامل أو المشاركة المتساوية بينهما . و يلعب موقع الذكر و الأنثى في عملية الإنتاج دوراً حاسماً هنا ؛ ففي مجتمع النحل – الذي يقتصر فيه دور الذكور على تلقيح الملكة لإعادة إنتاج النوع – تقتل العاملات المنتجات الذكور بعد أدائهم لدورهم البيولوجي في دورة الحياة بتلقيح الملكة لكونهم مستهلكين للغذاء و غير منتجين له . و كإعتراف من المجتمع الرجولي بقيمة القوة البدنية ، فقد قام بتكريسها دعائياً باعتبارها أهم مقومات البطولة الفذة ، و التميز النوعي ، و مقارعة الأعداء من كل نوع ، و بالتالي القيادة السياسية للمجتمع . ولذلك نجد عصراً للبطولة الرجولية عند أغلب الشعوب البدائية خلال مرحلة تحولها السياسي من مستوطنات متفرقة و قبائل مترحلة الى دول مدن ذات سيادة ، قبل أن تتحول بالضم و الإلحاق الحربي الى دولة موحدة تابعة إلى مدينة عاصمة . و مع ذلك تبقى ملحمة گلگامش أعمق أنسانياً من مجرد تجميع لأفعال بطولية مثل قصص هرقل و فرساوس و جَيْسِن و أبطال الألياذة و الأودسة و حتى أبطال العهد القديم ، و كلها يتضمن نقلاً يكاد يكون حرفياً من هذا أو ذاك من نصوص الأدب و الفولكور السومري الأكدي . و في قصص البطولة هذه يحلو للذكر التعويض عن مناقصه و ستر عوراته برميها على عاتق الأنثى بتصويره للمرأة بهيئة مخلوق شبق ، و مستحوذ ، و مدنس ، و المسبّب لكل الشرور ؛ أي ببساطة: المخلوق الحامل لكل شرور الرجال الطامعين المجترئين على إغتصاب حقوق الآخرين . و بعد فعل الحكمة-الدنس الذي يسبب "سقوط" أنكيدو و يجعل قطيعه يهرب مـنه ، تصف الملحمة ردة فعل الأخير بعد أن خسر إنتماءه للقطيع و أصبح "متغرباً" (estranged) ، فتقترح عليه شمخة إنتماءً إجتماعياً جديداً بديلاً لهذه الغربة : رجع أنكيدو و قعد عند قدمي شمخة ، و راح يرمقها و يتمعن بمحاسنها . ثم أصغى بانتباه لكلماتها ، و هي توجه كلامها إليه ، إلى أنكيدو :
"إنك وسيم يا أنكيدو كإله ! فلماذا تجوب البرية مع الحيوان ؟ تعال معي آخذك إلى ميدان مدينة أوروك ، الى المعبد المقدس ، بيت آنو و عشتار .
حيث گلگامش ألكامل القوة ، ألذي يسوس الشعب مثل الثور الجامح ." هكذا تحدثت إليه فاستحسن مقالتها ، أذ كان يعلم بالغريزة أنه بحاجة إلى صديق .
تكلم أنكيدو و قال لشمخة : "هيا يا شمخة ، خذيني معك ، إلى المعبد المقدس ، إلى بيت آنو و عشتار حيث گلگامش الكامل القوة ، الذي يسوس الشعب مثل الثور الجامح ."
"سأتحداه ،فأنا شديد البأس ، سأتفاخر وسط المدينة قائلاً : "أنا الأقوى" ! و سأتحدى مقدَّرات الأمور فيها ، فأنا المولود في البرية ، ذو القوة المكين ."
و خوفاً من جانب شمخة من إحتمال أن يتحول أنكيدو البطل القادم من البرية الى "فوضوي" غر يتحدى نظام الأمور فيها و يهدد السلام الإجتماعي بغير تحسّب للعواقب فيدمّر الحضارة المدنية في أوروك (على عادة كل غزاة العراق القديم من القبائل الرحّالة) بدلاً من مشاركتة الايجابية في بنائهـا و ترسيخها ، فإنها تخفف من غلوائه بعد أن إكتسبت ثقته وذلك باتباع ثلاثة أساليب تواصلية : فهي تؤكد له أولاً وجود محل يليـق بمقامـه في المدينة ، ثم تُلفت نظره ثانياً الى "أضواء المدينة" و مباهجها التي تنتظره ، و أخيراً تلقي على مسامعه ترنيمة التفويض الإلهي و عقابيل معصية نواميس الأرباب :
"دع الناس يَرَوْنَ وجهك ، ..... و جوده أعرفه بالتأكيد . إذهب يا أنكيدو الى اوروك المسوّرة ، حيث الشبان يتزينون بالأحزمة على الخصر .
في كل يوم يقام عيد في أوروك ، و تقرع الإيقاعات على الطبول ، و هناك الغواني الرائعات الأبدان ، تزينهن الفتنة و يمتلئن باللّذّات .
إنهن يُنهضن حتى العجائز من مضاجعهم ، إيه يا أنكيدو ، مازلت لم تخبر الدنيا . سأريك گلگامش السعيد الخالي ، فانظر إليه و تمعّن في خصاله .
إن رجولته ممتلئة ، و هو مهيب المقام ، و يُزيْن السحر كل شخصه ، و قوته أشد من قوتك ، فهو الساهر في الليل و النهار .
أي أنكيدو ، دعك من أفكارك الآثمة ، فگلگامش هو الأثير عند شمش المقدس ، و قد حبته الآلهة (العظام) آنو و إنليل و إيا بالحكمة الواسعة (11).
فحتى قبل مجيئك من الجبال ، كان گلگامش ، و هو في أوروك ، يراك في الأحلام ...."
تواصل الملحمة بحس واقعي أخّاذ و صف عملية أنسنة أنكيدو على نحو يخجل واقعية "أدﮔـر رايس بروز" مؤلف مسلسل "طرزان الرجل القرد" في القرن العشرين و الذي يجعل بطله ينتقل من مجاهل الغابات الأفريقية إلى شوارع نيويورك دفعة واحدة و بضربة ساحر:
و فيما إنغمس كلاهما في الجماع ، نسي أنكيدو البرية التي ولد فيها . و لسبعة أيام و سبع ليال ، إستمر أنكيدو منتصب القضيب يجامع شمخة .
فتحت شمخة فاها و خاطبت أنكيدو قائلة: "أنا حينما أراك يا أنكيدو أجدك مثل إله ، فلماذا تجوب البرية مع الحيوان ؟
تعال معي آخذك إلى ميدان مدينة أوروك ، إلى المعبد المقدس ، إلى بيت آنو . قم يا أنكيدو و دعني آخذك ، إلى معبد إي-أنّا بيت آنو .
حيث الرجال ينهمكون في الأشغال الماهرة ، و حيث تستطيع كرجل أن تجد لنفسك مكاناً."
أصغى أنكيدو لكلماتها ، و استحسن مقالتها ، و أستمكنت نصيحة المرأة في لبه . فتجردت شمخة من ردائها و كسته بشطر منه ، و كست بالشطر الآخر نفسها.
أخذته من يده ، و قادته كما لو كان إلهاً الى مجمّع الرعاة حيث موائل الأغنام ؛ فتجمعت حوله عصبة الرعاة ، و راحوا يتهامسون عنه فيما بينهم :
"كم تشبه بنية هذا الشخص بنية گلگامش ، إنه طويل القامة ، و شامخ مثل برج القلعة . لابد أنه أنكيدو ، المولود في الجبال ، إنه قوي مثل قوة الصخرة النازلة من السماء ."
وضعوا الخبز أمامه ، و وضعوا الجعة أمامه ، فما أكل أنكيدو الخبز ، بل حارت نظراته .
لم يكن يعرف كيف يأكل الخبز ، و ما عرف من قبل كيف يشرب الجعة .
فتحت شمخة فاها و خاطبت أنكيدو قائلة: "كل الخبز يا أنكيدو فهو جوهر الحياة ، و اشرب الجعة فهي عادة البلاد!" أكَلَ أنكيدو من الخبز حتى شبع ، و شرب من الجعة سبع زقاق كاملة ، فانطلق مزاجه ، و راح يغني ، و فرح قلبه ، و تألق وجهه .
قص الحلاق شعر جسده الكث ، و مسح جسمه بالزيت ، فتحول الى إنسان ، و ارتدى رداءً ، فأصبح مقاتلاً ، و تقلد أسلحته ليقارع الأسود .
و لما أخلد الرعاة الى النوم في الليل ، أخذ أنكيدو يجندل الذئاب و يطارد الاسود ، فنام رؤساء الرعاة آمنين ، فبطلهم أنكيدو هو الساهر الذي لا ينام .
و هكذا تنجح خطة والد الراعي الصياد فيتحول أنكيدو من مخرب لفخاخ الرعاة الى حارس ليلي جسور يحمي حماهم وهم ينامون قريري الأعين . هذه هي نتائج فن التفاوض لجمع الإرادات - المبني على مبدأ " هـات و خـذ " - و الذي يتيح تحويل العدو الى صديق متعاون مفيد ، و الامـور إنـما تقاس بـخواتيمها طبعاً . و الفضل في كل هذا التحول ( Transformation ) الحضـاري إنما يعود لشمخة الماجدة التي تعلم أنكيدو كل شيء بنكران ذات نموذجيٍ عند بنات جنسها : من الحب ، إلى تقبل الطعام المطبوخ ، و شرب الجـعة ، و حلاقة الشعر ، و تزييت البشرة ، و ارتداء الملابس ، و تقلد الأسلحة ، و غير ذلك من الأمور التي تتجاوزها الملحمة . و من الصعـب تصور إمكانية قيام شخص آخر غير شـمخة بـمثل هذه المهمة الدقيقة و التي لابد أنها قد استغرقت فترة لا بأس بها تختزلها الملحمة إلى أدنى حد ممكن لأغراض الحبكة . غير أن أهم دور لشمخة هو ذلك الذي يهدف إلى أقناع أنكيدو بأن يصبح رجلاً حقيقياً بكل معنى الكلمة عندما تحثه للذهاب الى المكان المناسب الذي يستطيع فيه الرجال في أوروك تعلم مهنة مجزية ، ألا و هو معبد إله السماء آنو . و الأسلوب الذي تتبعه شمخة في إقناع أنكيدو بأن يصبح رجلاً منتجاً ينم عن الحكمة و الخبرة العميقة في تجاريب الحياة الاجتماعية ، و في طريقة التعامل مع أشخـاص من شـاكلة أنكيدو . و أولى الجمل التى تقولها له ترمي الى محاولة لفت نظره الى أن إمكانياته و قابلياته الشخصية إنما هي عظيمة مثل عظمة إمكانيات الآلهة الجبّارة . هنا الخطاب التشجيعي و الواقعي يلتمس إثارة الطموح الفردي انطلاقاً من مميزات شخصية بطولية موجودة أصلاً عند أنكيدو و معترف بها عند الجميع ، و لكن أنكيدو يعتبـرها أمراً طبيعيـاً و ليس تفرداً شـخصياً . و حالما تنبِّهه الى تميُّزه ، فإنها توضح له حقيقة أن هذا التميز البطولي المتفرد الذي يـتمتع به لا يتناسب مع أسلوب الحياة الذي يحياه في البرية مثل الحيوانات ، والذي لا يليق بمقامه الجليل . ثم تقترح عليه البديل الحضاري و الذي من شأنه أن يصنع منه رجلاً اجتماعياً فاعلاً بكل حق و حقيق ، و يتمثل هذا المقترح بمرافقته لها إلى الميدان المسوَّر لمدينة أوروك حيث يوجد أنسب مكان لممارسة الرجال المتميزين مهنة نافعة وسط ورش الحرفيين المهرة العاملين في معبد آنو . فبالنسبة لشمخة ، فأن إكتساب الحرفة الموجهة و ممارستها تساوي إكتساب الشخص للرجولة الحقة ، لأنها تتيح للإنسان أن يصبح مستقلاً اقتصادياً ، و تجعله مؤهلاً لـ"فتح بيت" . و مازال مفهوم الاستقلال الاقتصادي عبر العمل النافع المجزي هو المبدأ العام للحُكم على أهلية الرجال الاجتماعية حتى وقتنا هــذا . و يؤكد النص أعلاه الدور الاقتصادي القيادي للمعبد في دولة اوروك ، و الذي لايضم فقط أمهر المهنيين في الدولة ، بل و يتيح أيضاً للصناع الفرصة لتعلم مهنة نافعة فيه تسمح بكسب لقمة العيش في إطار تعاوني . و كتمرين عملي أولي على اختبار أنكيدو لقدراته و إثبات امكانياته البطولية إجتماعياً فانه يعمل أولاً حارساً ليلياً لمركز استيطاني تعاوني لتجمُّع موائل الأغنام في منطقة رعوية ما ، و يبلو فيه بلاءً حسناً . و يوضح النص أن هذا المركز لا تعود ملكيته لشخص واحد بعينه ، بل هو مستودع تعاوني يخص عدداً غير قليل من الرعاة الذين يستودعون ماشيتهم العائدة من المراعي للمبيت في مجمَّع يضم عدة موائل ليلية مهيئة لهذا الغرض ، و من ثم يذهبون لقضاء الليل في بيوتهم الكائنة في نفس المستوطنة التابع لها ذلك المجمَّع . ومن شأن مثل هذا التدبير التعاوني أن يجمع الماشية الخاصة بأفراد المستوطنة الرعوية كلها للمبيت في مكان واحد تسهل حمايته ليلاً بعدد قليل من الحراس لا يقارن بعدد الحراس المطلوبين لو أن كل راعٍ احتفظ بأغنامه في مكان منعزل . و يمكن تصور وجود سوق لبيع الماشية في نفس هذا المجمَّع نهاراً . هنا المصلحة الجماعية للرعاة تفرز نشاطاَ إقتصادياً تعاونياً متقدم التنظيم . و بالنسبة الى شمخة و أنكيدو ، فإن هذا التطور العملي يحمل عدة دلالات : أولها إثبات شمخة للرعاة بأنها قد أنجزت مهمتها على أتم وجه ، وثانيهما تحقق أنكيدو ذاتياً من قدراته الشخصية الخارقة ، وثالثهما - و هي الأهم - ممارسة أنكيدو للعمل الاجتماعي النافع اقتصادياً لأول مرة في حياته . أما الأهمية الدرامية لهذا التطور فتتمثل بعرض فعل بطولي ذاتي للمتلقي يدلل على بأس أنكيــدو و ذلك كتمهيد لعرض بطولاته المستقبلية بعد أن كانت كل المعلومات عنه تنقل للمتلقي على لسان غيره من شخصيات الملحمة ، أو على لسان الراوية . و من المهم ألإنتباه الى الخلفية الفكرية لشخصية شمخة ، فكل الصور و الكلمات و التصرفات التي تقوم بها ترتبط بهذا الشكل أو ذاك بالمعبد و بهداية البشر الى سبل الأرباب و الإحسان اليهم . فهي لا تقارن أنكيدو إلا بالآلهة ، و تعرض عليه أن تـأخذه الى معبد آنو و عشتار المسمى "إي-أنا" الذي تعمل فيه ، و تعرف الإمكانيات التي يتيحها لمستقبل الرجال الأقوياء مثل أنكيدو . أنـها تتحدث معه بلغـة المرأة المتدينة الحكيمة و الواقعية ، ولهذا فإن أنكيدو "يستحسن مقالتها" " ، و يقبل بقيادتها له ، و ذلك على العكس من گلگامش الذي يرفض الإنقياد لعشتار مثلما سنرى بعدئذ . و إذا كان إنقياد أنكيدو لشمخة يؤشر الأنعكاس لإنقياد الرجل للمرأة في المجتمع الأمومي الذي تلعب فيه المرأة دور الممدن للرجال ، فإن رفض گلگامش لعشتار هو الإنعكاس لرفض الرجل هيمنة المرأة - حتى وإن كانت من طراز فريد مثل عشتار - في المجتمع الرجولي الذي تعيب أيديولوجيته على الرجل الفحل أن يكون تابعاً لزوجته ، أو حتى أمه ، كيلا يلحقه العار الإجتماعي بإعتباره "طرطور" - على حد تعبير العراقيين - أو "إبن أمه" - على حد تعبير المصريين . ويشير ترتيب تسلسل الأحداث في هذه الملحمة منذ البداية الى مدى تطور الحس الدرامي في العراق القديم و واقعيته الشديدة في التدقيق في الأمور . فتطور الأحداث هنا يجري على نحو واقعي لايعتمد – مثل الملاحم اليونانية – على المصادفات (coincidences) ، بل يستند الى مبدأ تعاقب الاحداث وفق ديناميكية التفاعل المنطقي للسبب بالنتيجة السياقية (cause/effect interaction) ، و ذلك في سلسلة معقدة و لكنها شديدة التماسك و الإقناع من المواقف و الأفعال البشرية التي تحتفل بالقيم الانسانية السامية فوق اهتمامها بالسرد الملحمي . فأنكيدو لا يصار الى وضعه في أوروك حالاً لكي يواجه گلگامش ، بل يوضع في المكان الطبيعي لشخص لم يخبر الحضارة مثله : في البرية وسط الحيوانات . و هو لا ينتقل الى أوروك بأمر الآلهة فجأة مثلما يحصل في الأساطير اليونانية و الرومانية ، و إنما عبر سلسلة من تفاعل الأحداث و الإرادات البشرية المبررة ، بل و الضرورية إقتصادياً و اجتماعياً . إلى هنا ينتهي الصراع بين أنكيدو و الراعي الصياد و الذي لعبت فيه شمخة دور المروِّض الخبير بكل مجد لتخلِّد حكمة المرأة و عطاءها الثر للبشرية . و هو الصراع الذي بدأ تناحرياً و انـتهى تكاملياً مثلما سنرى . و لابد من التذكير هنا الى أن أنكيدو قد أصبح الآن يمثل شريحة اجتماعية جديدة ، هي شريحة الرعاة التعاونيين العاملين في حراسة المراعي ليلاً في الارياف الكائنة خارج مدينة اوروك ، وسنرى كيف أن اتحاد قوى الريف بالمدينة (و المتمثل باتحاد قوة أنكيدو بگلگامش) سيصنع المعجزات لدولة أوروك .
ملاحظة/شرح الهوامش في سيرد في الجزء الأخير .
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /1
-
قصة قصيرة : يوم جمعة في حياة جندي مكلف عراقي
-
حكاية الموت الغريب للفيل -جَلا-
-
ملاحظات حول حركة حقوق المرأة و مدرسة النقد الأدبي الأنثوي
-
خَلَفْ
-
دِشَرْ
-
ستراتيجيات سلطة الاحتلال الأمريكي للعراق خلال الفترة 2003-20
...
-
قصة الخنزير البهلوان -نجم-
-
رسالة قصيرة
المزيد.....
-
رصد طائرات مسيرة مجهولة تحلق فوق 3 قواعد جوية أمريكية في بري
...
-
جوزيب بوريل يحذر بأن لبنان -بات على شفير الانهيار-
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
لحظة هروب الجنود والمسافرين من محطة قطارات في تل أبيب إثر هج
...
-
لحظة إصابة مبنى في بيتاح تكفا شرق تل أبيب بصاروخ قادم من لبن
...
-
قلق غربي بعد قرار إيران تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة
-
كيف تؤثر القهوة على أمعائك؟
-
أحلام الطفل عزام.. عندما تسرق الحرب الطفولة بين صواريخ اليمن
...
-
شاهد.. أطول وأقصر امرأتين في العالم تجتمعان في لندن بضيافة -
...
-
-عملية شنيعة-.. نتانياهو يعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي في
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|