|
الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /1
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3334 - 2011 / 4 / 12 - 19:30
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مقدمة تعد ملحمة گلگامش السومرية – الأكدية أقدم كنـز من كنوز الأدب الملحمي في تاريخ البشرية ، فهي أقدم من الألياذة بما ينيف على ألف و خمسمائة عام حسبما تؤكد عالمة الآثار البريطانية "نانسي ساندرز" و عالم السومريات الأمريكي "صموئيل نوح كريمر"(1). وتحتل هذه الملحمة ، مع قصة الخليقة البابلية (2) ، مكانها المتميز بين أعظم ملاحم العالم القديم . فعلاوة على قيمتها الشعرية الخالدة ، فان نصها مليء بالمعاني العميقة والقيم السامية و التي تفرض وجوب عدم قراءة الملحمة كمجرد حكاية أو أسطورة ، و إنما كوثيقة عن القيم الإنسانية القديمة . و من أهم هذه القيم هي تلك الإجابة البسيطة و العبقرية التي تقدمها الملحمة لحل معضلة خلود الإنسان بتثبيتها حقيقة أن العمل النافع وحده هو الكفيل بتحقيق ذلك الخلود على الارض . وهذه هي الإجابة الوحيدة المتاحة للبشر حتى يومنا هذا لأعز أمنية يمكن أن تراود نفس كل إنسان حي . إن القيمة الوظيفية السامية التي تعطيها الملحمة للعمل البشري النافع – و هو الذي ارتقى بالبشر فوق مرتبة الحيوان أصلاً – بتقريرها أن هذا العمل الغائي و النافع إجتماعياً هو مكمن السر في خلود البشر تعد بحد ذاتها إنجازاً فكرياً و عملياً فذاً في تاريخ وعي البشر لجدل تطور الإنسان برمته . ميزتان تميزان الملحمة: فالقصة تتركز على سرد أفعال الآلهة و البشر من جانب ؛ في حين أن مغزاها العميق هو تفسير أصل بعض أوجه العالم الإجتماعي أو الطبيعي . و باعتبارها عملاً أدبياً مبدعاً متعدد الوجوه ، فان نصها يهييء المادة الخام لمختلف الدراسات الأدبيـة و اللغوية و التاريخية و الأنثروبولوجية و غيرها . و سأكتفي في هذه الدراسة بتناول موضوعة تعدد و تداخل أنواع الصراع التي تعرض لها الملحمة من وجهة نظر مادية تاريخية و ذلك بربطها بتعدد و تداخل التشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية في العراق القديم و بالفكر السياسي-الديني-الإجتماعي للعراق القديم و تجلياته التطبيقية . كما سأحاول مقاربة النص و تحليل شخصيات أبطاله بربطهما بالوضع السائد آنذاك إستناداً إلى ما نعرف عن تاريخ و مجتمع و إقتصاد العراق القديم . و سأعتمد في الوصف و التفسير لمختلف إحالات النص على الترجمة الإنكليزية للملحمة التي نشرها عالم الآشوريات البريطاني "أندرو جورج" عام (1999) باعتبارها أحدث طبعة متعددة المصادر و متكاملة لها وردت إلينا(3). و سأستكملها في بعض المواضع بترجـمة العلامة طه باقر العربية الرائعة للملحمة (1980) و كذلك بترجمة "ساندرز" لها المنشورة عام (1970) ، و سأضع النصوص المقتبسة منهما بين قوسين مربعين [ ]. و الفرضية الأساس التي تنطلق منها هذه الدراسة هي أن أوجه الصراع في الملحمة هي إنعكاس للوعي الجمعي لتداخل و تعدد أنماط التشـكيلات الاجتماعية و الاقتصادية –السياسية على أرض العراق القديم نتيجة تفاوت تطور العلاقات الإنتاجية في مختلف بقاعه (المنطقة الجبلية ، المنطقة المتموجة ، السـهل الرسوبي ، الأهوار ، البادية) . والمقصود بالعراق القديم هو ذلك البلد المحصور بين أحواض نهري دجلة والفرات و روافدهما من عتبات جبال زاگروس و طوروس إلى سواحل الخليج العربي . و ليس مثل هذا التداخل والصراع بالغريب عن أرض العراق القديم الذي كان المسرح الريادي لأول إنتقال متسلسل و متواصل (أي غير منقطع) للإنسان على وجه هذه الأرض من مرحلة جمع القوت إلى مرحلة إنتاج القوت ، و من سكن الكهوف إلى بناء أولى المستوطنات الزراعية في تاريخ البشرية على سفوح تلال كردستان العراق ( موقع "جرمو" مثلاً)(4) ، ومن ثم نشوء أولى القرى و الأسواق الحرفية و التجارية في العالم القديم ، و التي تطورت بعدئذ لتكوِّن أولى المدن و مجالس الشيوخ و دويلات المدن والدولة الموحدة في العالم. و يكفي أن نذكر في هذا الصدد أن أول أداة عمل عرفها التاريخ بكونها هي التي مكّنت الإنسان لأول من إنتاج القوت الذي يزيد عن حاجته العائلية – وهي المسحاة - قد إخترعها إنسان العراق القديم و ليس أحداً غيره . و بهذا فقد دخل الإنسان عصر الإنتاج الزراعي الخاص المستند على تخصيص جزء من قوة العمل الفردي للتبادل الإجتماعي و ليس مجرد الإستهلاك العائلي الذاتي . و كاعترافٍ عبقريٍ من جانب المجتمع العراقي القديم بالأهمية الاقتصادية – الاجتماعية لهذه الآلة الإنتاجية "الذكورية" ، فقد أسبغ عليها صفة القداسة بجعلها رمزاً لرئيس مجمع الآلهة البابلي : الإله الذكر مردوخ . و هكذا تتزاوج سلطة قوة العمل الإجتماعي الأرضية بقوة السلطة السماوية . و قبل الولوج في صلب الموضوع ، لا بد من إيضاح إن هذه الدراسة تنطلق من إفتراضات ابتدائية ثلاث: أولاهما أن للملحمة انعكاساتها القابلة للتشخيص للذاكرة الشعبية و للوعي الجمعي العراقي القديم لحضارة حقبة تاريخية طويلة جداً و لكنّها مختصرة إلى أدنى حدٍ ممكن لأغراض الحبكة في الملحمة (5) ، و ثانيهما أن شخصيات الملحمة – رغم إرتفاعها فوق مستوى النمطية الدرامية – إنما هي أيضاً تبلورات مركزة لجماعات إقتصادية-إجتماعية عميقة الجذور ، علاوة عن تعبيرها عن شخصيات بطولية فذة في العراق القديم سرعان ما ستصبح أنموذجاً للأبطال لدى مختلف الشعوب عبر العصور اللاحقة ، و ثالثهما أن المعاني والإشارات إلى تطور صراع التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية السياسية كثيراً ما يعبر عنها رمزيا في الملحمة باعتبارها مظهراً من المظاهر الفكرية لهذا التطور . و لكون هذه الدراسة قد كتبت في محافظة بابل خلال الفترة العصيبة 2005/2006 من تاريخ عراق القرن الواحد و العشرين المحتل من طرف أعتى و أسفل جيش غاشم عرفه التاريخ ، فإنني أطلب من القاريء الكريم أن يسامحني في المناسبات التي أستطرد فيها عن الوصف للعراق القديم بإحالته إلى وضعه المأساوي الرهيب المعاصر ، و الذي أتمنى أن أستطيع يوماً تقديم تحليل مناسب له و لآفاقه المغلقة التي تنذر بالحرب الأهلية و تقسيم أرض البلد بين "أمراء الحرب" الجدد من أتباع المحتلين المتكالبين على السلطة ، و بيع ثرواته الطبيعية بالأموال البخسة المسروقة من شعب العراق أصلاً للقروش التي لا يُشبع نهمها و المتهيأة في كل مكان لأزدراد القشطة العراقية الدسمة الطافية فوق أنهار الدماء .
أوجه الصراع في الملحمة
الحبكة الدرامية للملحمة مشحونة بنوعين أساسيين من أنواع الصراع ، أولهما الصراع التناحري طوراً و التكاملي أطواراً بين الإرادات و الآيديولوجيات ، فهناك صراع الملوك و الأبطال و العامة من البشر مع بعضهم ، و صراع الآلهة مع بعضها ، وصراع البشر مع الآلهة ، و صراع البشر مع الطبيعة ، وصراع الدول ، وصراع الرجل مع المرأة ، وصراع الإنسان مع الحيوان ، الخ . أما النوع الثاني من الصراع فهو الصراع النفسي داخل شخصية الإنسان المحبـط و العاجز نفسه ، كالصراع الناجم عن رغبة الإنسان في التعلم و التطور باكتساب المعرفة و الحكمة و الانتقال من المجهول إلى المعلوم ، و من الفناء إلى الخلود في هذا العالم . ألنوع الأول من الصراع تحركه دائماً المصالح الاقتصادية الغاطسة أو الطافية ، أما النوع الثاني فيحركه التطلع الطبيعي للإنسان إلى وضع حياتي أفضل يتجاوز فيه الحدود و المعوقات الحياتية المفروضة عليه كإنسان مثل الفقر و الجهل و الموت و المرض ، و إلى الارتقاء و النمو و التقدم بفضل إكتساب العلم و الخبرة و الثـروة .
أولاً / أنكيدو والراعي الصياد
أول صراع تفك عقدته حبكة الملحمة هو ذلك الناشئ بين أنكيدو و الراعي الصياد ، والمقدم بالنص التالي الذي يصف أنكيدو على هذا النحو :
يكسو الشعر جسمه كالحصير ، و له جدائل طويلة كجدائل المرأة ، و شعر رأسه كثيف كسنابل الشعير ، إنه لا يعرف العائلة و لا الوطن .
بالشعر الذي يكسوه مثل إله الحيوان ، مع الغزلان كان يرعى على الحشائش ، و يتدافع مع وحوش البر إلى عين الماء ، ليروي غليله مع الوحوش من الماء .
رآه عند عين الماء الصياد ناصب الفخاخ ، مرةً و مرتين و ثلاثاً شاهده الصياد عند عين الماء ، و ما أن وقعت عليه عين الصياد حتى أصابه الهلع ، و عاد مع قطعانه إلى مالكها .
خيّم عليه ألهم و اليأس و الصمت ، و علا وجهه الوجوم و الغم ، و صار الحزن يملأ قلبه ، و التعب يعلو محيّاه مثل مسافرٍ قادمٍ من بعيد .
فتح الصياد فاه وقال لأبيه : "يا أبتي إني رأيت رجلاً عند عين الماء ، هو الأقوى في البرية و الأشد بأساً ، و هو صلب كالصخرة النازلة من السماء .
إنه يجوب التلال كل يوم ، و هو يرعى مع القطعان على الأعشاب ، و آثار قدميه تتواتر عند عين الماء ، و أنا أخافه و لا أجرؤ على الاقتراب منه .
إنه يردم الحفر التي أحفرها ، و يرفع الفخاخ التي أنصبها ، و يحرر منها كل بهائم الحقل ، إنه يمنعني رزقي في صيد الحيوانات البرية ."
فتح الأب فاه و قال للصياد: "إذهب إلى أوروك و قابل گلگامش هناك، و اظهِر التواضع في حضرته ، فهو قوي مثل الصخرة النازلة من السماء .
خُذْ الطريق و يـَمِّمْ شَطْرَ أوروك ، و إياك و الركون إلى قوة الإنسان ! إذهب يا بني و اجلب ألبغي "شمخة" ، فان سحرها يداني سلطان الجبارين .
و عندما ينـزل القطيع إلى عين الماء ، عليها أن تخلع ثيابها لتظهر مفاتنها ، و ما أن يراها فإنه سينجذب إليها ، و عندها سينكره قطيعه ألذي ترعرع بين ظهرانيه ."
يقدم النص أعلاه المادة الخام لوصف أقدم نمطين من أنماط العيش للإنسان : أولهما نمط عيش الإنسان البدائي الأول غير المنتج مثلما تعيش الحيوانات بالإعتماد على تناول ما تقدمه ألطبيعة له من أعشاب و ثمار مجانية ، و ما تقدمه الحيوانات غير المدجنة من حليب و غيرها من الأغذية "الجاهزة" ؛ وثانيهما عيش الإنسان المنتج على الرعـي و الصيد . الإنسان الأول (و مثاله هنا أنكيدو) قوي الجسم و كث الشعر مثل الحيوانات التي يعيش معها في العراء ، و هو لا يعرف أدوات الإنتاج ، و لا حياة الجماعات البشرية المستوطِنة ، و لا الحضارة المدنية . هذا الإنسان-الحيوان صلب العود ، و سريع الاندفاع مثل الصخرة النازلة من السماء (أي النيزك أو الشهاب) ، وهذه أهم متطلبات حياته المعاشية و مقومات بقاءه على قيد الحياة من خلال اعتماده على قواه الجسدية المحضة لتحصيل قوته . أما الإنسان الثاني ( ومثاله الراعي الصياد) فهو يمثل الجماعة البشرية التي قطعت أشواطاً من التطور البيولوجي و الاقتصادي و الإجتماعي بحيث انتقلت من مرحلة الإنسان-الحيوان الذي يجمع القوت إلى مرحلة إنتاج القوت من خلال رعي الحيوانات المدجّنة (و هي أولى مراحل الإنتاج) ، و تعدت ذلك باختراع أدوات العمل (فخاخ الصيد و أداة الحفر في هذه الحالـة) ، و هذه ثاني مراحل الإنتاج . و هذا الإنسان يزاول عمله اليومي المنتج راعياً و صياداً عند رب عمله المالك للقطيع ، و هو والده ، ضمن إطار "الإقتصـاد الرعوي العـائلي الأبوي" . و مثلما سنرى بعدئذ ، فان هذه العائلة تسكن قرب مستوطنة رعوية تعاونية خاضعة إدارياً إلى دويلة مدينة "اوروك" الذي يحكمها الملك گلگامش . و الوصف الطبغرافي للمنطقة العراقية القديـمة التي يتواجد فيها أنكيدو و يزاول فيها الراعي صيـده ( المتميزة بوجود التلال و العيون) تشير إلى أنها كانت تقع عند سفوح جبال زاگروس ، ربما في لورستان الحالية (6). و رغم كونها تشكل إمتداداً طبيعياً للمنطقة المتموجة الكائنة على حافات للسهل الرسوبي العراقي ، و على العكس من وسط وجنوب العراق ، فلم تكن منطقة سفوح الجبال البرية و الوعرة تلك قد عرفت الحضارة بعـد ؛ بمعنى عدم إنتشار المستوطنات المدنية الكبيرة فيها و عدم وجود سلطة محلية ، و لذلك فقد كان النشاط الإقتصادي الأساسي الذي يمارس فيها هو إستخدامها كمنطقة رعي من قبل الرعاة السومريين . إن البون الحضاري و الزمني بين نمطي العيش الموصوفين أعلاه و المتداخلين زمنيا في الملحمة كبير جـداً ، حيث يؤشر اختراع الإنسان لأدوات العمل النافعة أكبر قفزة في تاريخ البشرية تحوَّل بفضلها الإنسان من مملكة الحيوان إلى مملكة البشر بفضل العمل الغائي المنتج ، و هذا ما تشير إليه الملحمة ضمناً عندما تصف بنية وأسلوب عيش أنكيدو وصف الوحوش ، في حين لا تـتطرق في وصفها للراعي إلا إلى إيراد مشـاعره الإنسانية الداخلية كالحـزن و الإحباط الذي ينتابه إزاء ظهور من يمنعه عن ممارسة عمله الغائي المشروع في صيد الحيوانات . ومثل هذا التهديد الجدي للأرزاق يتطلب اتخاذ التدابير اللازمة لوضع حد له ، و من هنا ينبع الدافع الاقتصادي لهذا الصراع . والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا يعمد أنكيدو إلى تخريب فخاخ الراعي الصياد ؟ لا تقدم الملحمة نصاً صريحاً بصدد الدواعي التي تدفع أنكيدو إلى الإقدام على مثل هذا الفعل ، وإن كان من اليسير تخمين أسبابه . و أول سبب معقول هو إنه وسيلة للدفاع عن النفس و حفظ الذات لأن الفخاخ و حفر الصيد لا تميز بين الإنسان والحيـوان . ولما كان أنكيدو يرعى سوية مع الحيوانات كما لو كان واحداً منها ، فهو ، إذاً ، أحد الأهداف المحتملة للوقوع في فخاخ الصياد . وعليه يكون تصرفه في تخريب الفخاخ و ردم حفر الصيد عملاً وقائياً دفاعاً عن النفس ضد خطر محتمل . و السبب المعقول الثاني يتعلق بأسلوب عيش الإنسان البدائي مع قطعان الحيوانات قبل أن يكتشف الإنسان إمكانية أسر بعضها و حيازتها بتدجينها . لقد عرف الإنسان البدائي الأهمية الغذائية لحليب الأبقار و الجواميس و الماعز و الشياه و غيرها من الحيوانات البرية المشاعة قبل وقت طويل من تعلمه الأسلوب الإنتاجي المتمثل بتدجينها عن طريق تحويلها من ملك مشاع إلى ملكية شخصية . و لما كانت هذه الحيوان التي يعيش أنكيدو بين ظهرانيها تتيح له مصدرا غذائياً يسيراً لا يعوض قبل اكتشاف الإنسان للزراعة ، لذا فقد أملت هذه الضرورة الاقتصادية على الإنسان البدائي اختراع فكرة تقديس هذه الحيوانات الحلوب التي يعيش بينها بجعلها طواطم يحرَّم صيدها أو قتلها لضمان مورد غذائي مجاني مستديم و بقدر ضئيل من المجهود (الحلب فقط) لا يمكن مقارنته بالعمل الإضافي المعـقَّد الذي تتطلبه عملية تدجـين الحيوانات مثل صـيدها ، و إعداد الموائل لها ، و توفير الماء و العشب لها ، وحراستها و غيرها من الأعمال ؛ و هو الأمر الذي يتطلب عملياً تغيير أسلوب العيش البشري برمته . لقد انتشرت مثل هذه الأيديولوجيا الدينية في كل أنحاء العالم القديم ، و اتخذت موضوعات شتى لأسباب اقتصادية بحتة ، و ما تزال تمارس ضمناً أو صراحة إلى اليوم بخصوص هذا النوع من الحيوانات أو ذاك (يلاحظ تقديس الأبقار عند الهندوس ، مثلاً ، بسبب وظيفتها المؤثرة في الحراثة و الزراعية و توفير الحليب) بعد أن اكتسبت سربالاً دينياً تارة أو بيئياً تارة أخرى (الحفاظ على الأنواع أو التوازن البيئي) . و سنرى بعدئذ كيف أن تجاوز أنكيدو على إحدى مثل هذه المحرمات الطوطمية (الثور السماوي) هو السبب الذي يدفع بالآلهة إلى الحكم عليه بالمـوت المفاجيء . هنا تضعنا الملحمة إزاء الصراع بين نمط العيش القديم و الجديد من أجل البقاء ، و سنتعرف على الحل الذي تقدمه لحل هذا الصراع : قبول التغيير مع كل ماينطوي عليه من مخاطر . و الأمر المهم الآخر في النص أعلاه يتعلق بقيام الراعي الصياد باستشارة أبيه مالك القطيع حول كيفية التصرف إزاء الخطر المتمثل بقيام أنكيدو بتخريب فخاخه و إطلاق سراح طرائده ؛ و دواعي عدم أخذه زمام المبادرة بنفسه بالذهاب مباشرة إلى البغي "شـمخة" لجلبها إلى مكان تواجـد أنكيدو لإغـوائه و "ترويضه" ، خصوصاً وأن مثل هذا التصرف من شأنه أن يفيد حبكة الملحمة لكونه يسرّع وتيرة أحداثها و لا يؤثر على تلاحمها مع الأحداث اللاحقة . باعتقادي أن أسلوب التصرف هذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتقليد إجتماعي إقتصادي بالغ الأهمية نجده موثقاً لأول مرة في التاريخ عبر نصوص هذه الملحمة وغيرها من الآداب السومرية ، وسأسمي هذا التقليد " ثقافة الشورى" . و هذه الثقافة هي إحدى تجليات مرحلة متقدمة في السلوك الحضاري و التي تطورت بعدئذٍ بعدة أشواط ، وأحد مبادئها في وقتنا هذا هو مبدأ "أرجحية الرأي الجماعي على الرأي الفردي" ؛ فما هو منشأ هذا المفهوم ؟ لقد نشأ هذا المفهوم أولاً لأسباب اقتصادية-اجتماعية في ظل تقسيم العمل بين أفراد المشاعة العائلية و العشائرية الابتدائية . و أساسه الواقعي هو إن من شأن أي تصرف من التصرفات المرتبطة بالنشاط الاقتصادي للمشاعة و الصادر من طرف أي عضو من أعضائها أن يؤثر على رفاهية و مستقبل كل الأعضاء الآخرين في المشاعة . فمادامت الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج هي الشكل السائد للملكية في المشاعة البدائية ، لذا فان من واجب كل فرد أن يأخذ رأي بقية شركائه من "أصحاب الشأن" بصدد الأخطار المؤثرة على رفاهية الجماعة قبل اتخاذ و تنفيذ أي قرار من هذا النوع . هذا التقليد الديمقراطي الذي أملته الاعتبارات الاقتصادية تَكَرَّس إجتماعيا بعدئذ و بشكل مخفف و ذلك لنفس الاعتبارات مع بروز الملكية الفردية في ظل النشاط الاقتصادي الرعوي و ضمن المجموعة العائلية الأبوية التي تتقاسم الأعمال تحت سلطة الأب الذي أصبح هو المالك لوسائل الإنتاج (القطيع و أدوات الصيد هنا) ، و بات من الضروري على إبن الراعي الصياد أن يأخذ رأي أبيه باعتباره هو المالك "صاحب الشأن" قبل التصرف حيال أنـكيدو . هنا ، في ظل المجتمع الأبوي ، تحول مبدأ الشورى من مبدأ عرفي-ديمقراطي واجب التطبيق في القضايا الأقتصادية المهمة لأختصاصه بكل الشركاء ذوي الشأن في المشاعةالبدائية ، إلى مبدأ نخبوي يهم ، أول من يهم ، الآباء و الشيوخ و الأرشدين في العوائل وذلك حسب "الأقدمية" ، و على قاعدة أن "من هو أكبر منّك بيوم ، أفهم منك بسنة" . و سنرى بعدئذ كيف أن ثقافة الشورى هي الطابع العام الذي يسم كل تصرفات أبطال الملحمة بعد أن تحولت إلى مبدأ شخصي وعرفي مجرَّب و متّبع حتى في اتخاذ القرارات الشخصية التي ليس لها بالضرورة تأثيرات اقتصادية جماعية . و هذه هي إحدى الأمثلة المهمة (و قد مر بنا سابقاً مبدأ الطوطمية أيضاً) على ترسخ عدد قابل للتعيين من التقاليد الاجتماعية ذات المنشأ الاقتصادي حتى بعد انتقال تلك المجتمعات من تشكيلة اجتماعية –اقتصادية إلى أخرى كلما كان بالإمكان "تكييف" وظيفة هذه التقاليد لخدمة المصالح الاقتصادية الناشئة حديثاً ، أو بانت لها منافع اجتماعية أو تداولية أو دينية ، وسأعود إلى هذا الموضوع لاحقاً. و يلاحظ أيضاً من كلام والد الراعي الصياد وجود وعي متجذر عند عقلاء العراق القديم بأن الأنسان لا يجوز له الإعتماد دوماً على القوة المحضة لدرء الأخطار المحيقة به ، لأن القوة بحد ذاتها ، مع أنها قد تكون مطلوبة في سياقات معينة ، لا يمكن أن توفِّر الحلول الناجـعة لكل الأخطار ، ناهيك عن المخاطـر و التكاليف الباهضة المترتبة على اللجوء إليها . و أن لكل خطر داهم أسلوب ناجع في المواجهة . و أحكم أمر هنا هو اكتشاف الأسلوب الأنجع المتاح للتصرف ، فما كان بالإمكان حلّه سلماً لا يجوز الركون فيه الى الحرب ، حسب مفهوم "قارع بأنجع حيلة و أرخصها". هذا الوعي التفاوضي-التحسبي في حل الخلافات أمر اجتماعي مهم في تسيير مختلف امور العائلة أو المجتمع أو الدولة ، و هو الأساس الذي تقوم عليه الدبلوماسية المتحضرة في التاريخ. و لهذا نجد أن والد الراعي يحذِّر إبنه من الركون إلى القوة في الصراع مع أنكيدو القوي لأدراكه بأن سحر المرأة بالنسبة للرجال من طراز أنكيدو أبلغ وقعاً من قوة العضلات .
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة : يوم جمعة في حياة جندي مكلف عراقي
-
حكاية الموت الغريب للفيل -جَلا-
-
ملاحظات حول حركة حقوق المرأة و مدرسة النقد الأدبي الأنثوي
-
خَلَفْ
-
دِشَرْ
-
ستراتيجيات سلطة الاحتلال الأمريكي للعراق خلال الفترة 2003-20
...
-
قصة الخنزير البهلوان -نجم-
-
رسالة قصيرة
المزيد.....
-
رئيس الوزراء الفرنسي يدعو النواب لـ-التحلي بالمسؤولية- وحكوم
...
-
سوريا.. مدى تهديد فصائل المعارضة وتحركاتها السريعة على بقاء
...
-
أكبر صندوق ثروة سيادي في العالم يعاقب إسرائيل
-
هل فعلا يجب شرب 8 أكواب من الماء يوميا؟
-
نصائح لتعزيز منظومة المناعة في الشتاء
-
مصر ترفع اسم ابنة رجل أعمال شهير من قائمة الإرهاب
-
عيد البربارة: من هي القديسة التي -هربت مع بنات الحارة-؟
-
من تاباتشولا في المكسيك إلى الولايات المتحدة.. مهاجرون يبحثو
...
-
منطقة عازلة وتنازل عن الأراضي.. كيف يخطط ترامب لإنهاء الحرب
...
-
رغم العقوبات على موسكو.. الغاز الروسي مازال يتدفق على أوروبا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|