|
اليسار الفلسطيني .. مهمات ثقيلة
حيدر عبد الرحمن عوض الله
الحوار المتمدن-العدد: 3325 - 2011 / 4 / 3 - 10:39
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
* لم يكن بالإمكان بناء يسار اجتماعي تحت سياط التشرد والبحث عن الذات في خضم معركة التحرر الوطني بمواصفات الكارثة الفلسطينية * الانعطافة الحاسمة في البنيان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة حدثت بقيام السلطة الفلسطينية، * لقد تحولت الوظيفة العمومية، خاصة في درجاتها العليا، إلى ما يشبه الرشوة * منظمة التحرير الفلسطينية، التي أصبحت مؤسسة شكلية لا علاقة لهيئاتها في تقرير مصير ووجهة العمل الوطني الفلسطيني * ما زال اليسار يشكل ثقلاً تمثيلياً معقولاً في مؤسسات م.ت.ف، وفي اللجنة التنفيذية تحديداً وبإمكان اليسار أن يكون أكثر فاعلية في التأثير بالمنحيين الوطني والاجتماعي * يجب أن يتبلور الجهد اليساري بتقديم بدائل ملموسة ومعلنة في جميع قضايا المواطنين واحتياجاتهم
في إطار الحديث عن اليسار الفلسطيني تتفجر جملة من الإشكاليات والتساؤلات تطال بالضرورة قضايا جوهرية لا يمكن القفز عنها، لأنها تحدد بهذا القدر أو ذاك جوهر اليسار ذاته. فهي قضايا ذات طبيعة بنيوية تتناول الجذور الاجتماعية والفكرية المتنوعة لهذا اليسار في إطار بنية اجتماعية عامة متخلخلة وأقرب إلى الهيولى من التموضع والاستقرار، بحكم المشكلة الفلسطينية وما نجم عنها من تداعيات هائلة مست بصورة جذرية البنية السكانية والاجتماعية والاقتصادية لـ "المجتمع الفلسطيني" الذي تشظى إلى مجتمعات بحكم النكبة وتداعياتها المستمرة حتى اللحظة. نحن، إذاً، أمام قراءة لا يمكن لأدوات القياس الكلاسيكية أن تحللها أو تضبط إيقاعها فرزا أو تصنيفاً. إننا أمام حالة متخيلة عن اليسار أكثر مما هي حالة وجود فعلي يسهل رصدها في تجليات اجتماعية واقتصادية وفكرية وأخيراً سياسية واضحة ومميزة. ومع هذا، فإن الخروج بمقاربات تلحظ كل هذه العوامل مجتمعة يمكن أن يفسر الحالة الراهنة لليسار، وفيما إذا كان قادراً على التبلور أو التشكل كقوة ملحوظة ومميزة في النشاط الاجتماعي والسياسي، خصوصاً بعد الانعطافة الجذرية في مسيرة المشكلة الفلسطينية والمتمثلة بولادة السلطة الفلسطينية. إذا استثنينا الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي تشكل في إطار ملابسات تاريخية وقومية فريدة، فإن جل الحركة اليسارية المنظمة تشكلت وتبلورت بعد هزيمة حزيران، ولا يمكن ظلم هذه الحركة بإخضاعها لمعالجات فكرية واجتماعية صارمة لتبيان يساريتها، لأنها وكما تشير ملابسات التأسيس كانت حركات وتحركات مبنية على حماس الوطنية الفلسطينية في وجه مظاهر العجز والهزيمة التي جاءت بها هزيمة حزيران، وكان من الطبيعي أن يتأثر المؤسسون بالاتجاهات السياسية الفكرية التي كانت مؤثرة في الوقت ذاته. ولحظنا جميعاً فلسفة التأسيس لهذه الحركات، ثم مبررات الانشقاق، وهي في نهاية التحليل انشقاقات وتأسيسات استعملت الغطاء الفكري لضمان التميز أو البحث عن سند وتحالف على صعيد القوى العالمية يمكّنها من الاستمرار ليس إلا. وكلنا نذكر عبارات "اليسار القومي" ثم "اليسار الماركسي اللينيني" ثم اليسار "الماوي". الحقيقة الوحيدة التي يمكن وصف هذه الحركات بها هي أنها حركات وطنية لا أكثر ولا أقل. وكل اجتهاد في "يسرنة" هذه الحركات لا يفعل في الحقيقة سوى زيادة البلبلة. هذا في الإطار الذاتي. أما موضوعياً، فلم يكن بالإمكان، أصلاً، بناء يسار اجتماعي تحت سياط التشرد والبحث عن الذات في خضم معركة التحرر الوطني بمواصفات الكارثة الفلسطينية. الثابت هنا أن الشعب الفلسطيني المنكوب لم يتمكن من تطوير وجوده النوعي، أي تطوير هياكله السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولم يتطور موضوعياً في الشخصية الجمعية الفلسطينية سوى هويتها السياسية. هذا الوضع الفلسطيني، سواء على صعيد الأراضي المحتلة، أو الخارج، ساهم في توليد حركة سياسية على شاكلته، أي حركات وقوى لم تولّدها حاجات النشاط الاجتماعي والاقتصادي الفلسطيني، بل ولّدتها موضوعياً حاجات النضال السياسي التحرري. وهذا ما يفسر كثرة القوى والمنظمات الفلسطينية التي كانت تكفي لشرعية أي منها، عملية عسكرية ضد إسرائيل وتبني الكفاح المسلح. هذا على المستوى السياسي العام. أما على المستوى الاجتماعي، فقد تخلّقت أوضاع اجتماعية شديدة التعقيد والتشوه والتشابك في الوقت نفسه. كما عانى المجتمع الفلسطيني من حالة ميوعة وتشوّه في اصطفافه الاجتماعي. لقد أدى الإفقار المنظم للشعب الفلسطيني إلى تحويل الكتلة الضخمة من السكان القادرين على العمل إلى سوق العمل الإسرائيلي. وبسبب الأجرة العالية نسبياً التي يتقاضاها العمال، جرى تشويه آخر للتراتب الاقتصادي والاجتماعي، فتحولت الكتلة العمالية إلى "طبقة وسطى" استهلاكيا مقارنة بالبرجوازية الصغيرة. وبدلاً من أن يتحول هذا الوضع الفريد لأكبر كتلة اجتماعية إلى مقدمات لاستنهاض اقتصادي، تحول المجتمع الفلسطيني إلى مجتمع استهلاكي من الدرجة الأولى بسبب البذخ والكنز السلبي. أما من الناحية الاجتماعية وارتباطها بالنشاط الاقتصادي، فلم يستطع الفلسطينيون أن يطوروا علاقاتهم وهيكلتهم الاجتماعية، رغم التناقض والازدواجية التي نجمت عن ارتباط "المجتمع الفلسطيني" بالمجتمع الإسرائيلي المتمدن، وعدم قدرة هذا الأخير على التأثير في نسق العلاقات الاجتماعية الفلسطينية. وبقيت "العائلة المتمددة" تشكل السمة الأبرز للمجتمع الفلسطيني، أي السمة العشائرية. في إطار هذه البنية الاقتصادية والاجتماعية اقتصر دور القوى والمنظمات السياسية، خاصة "اليسارية"، على تحشيد وتأطير الجماهير، أي الكتلة غير المتعينة طبقياً في مواجهة الاحتلال، ولم يتخذ الفرز والاصطفاف السياسيان اللذان أحدثهما نشاط هذه القوى والمنظمات في أواسط الجماهير أي بعد اجتماعي.
قيام السلطة الفلسطينيةالانعطافة الحاسمة في البنيان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة حدثت بقيام السلطة الفلسطينية، إذ بالرغم من التداخل العميق الذي أحدثه قيام السلطة الفلسطينية بين النضال الوطني والاجتماعي، فإن وظيفة السلطة بإدارة حياة السكان الفلسطيني أحدثت تحولات تدريجية في البنيان الاجتماعي، أدت إلى تصّدع الروح المعنوية للجماهير الفلسطينية وخيبة أملها الثقيلة من انحسار الطموحات الكبيرة التي رسمتها القيادة الفلسطينية لمستقبل الأراضي الواقعة تحت إدارتها، في ظل التراكم السيئ الذي جرى إحداثه على مستوى استحقاق الاستقلال، من جهة، واستحقاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إذ أدت سياسات السلطة، خاصة في مجال التوظيف الذي اتخذ في غالبه طابعاً سياسياً بغية توسيع قاعدتها الشعبية، إلى تحميل "الاقتصاد" الفلسطيني الهش أصلاً، فاتورة ضخمة من رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين. لقد تحولت الوظيفة العمومية، خاصة في درجاتها العليا، إلى ما يشبه الرشوة. هذه السياسية قلبت أولويات التنمية رأساً على عقب، وبدلاً من أن تتحول أموال الدعم إلى استثمار جدي وتأسيس للبنى التحتية، هدرت هذه الأموال لتغطية نفقات جارية للبنى البيروقراطية الضخمة، وأضرت بمصالح فئات عريضة ومتنوعة من الجمهور. لقد وفرت هذه البيئة الاجتماعية– السياسية الجديدة فرصة لقوى اليسار، أولاً من جهة الانتقال من الخطاب النظري إلى الترجمة الفعلية لبرامجها، وثانياً من جهة الالتحام والتعبير المباشر عن حاجات من تمثلهم اجتماعيا. إلا أن العادات السياسية التي نهضت عليها هذه القوى بقيت ذات التأثير الأبرز في سلوك هذه القوى. وظل الصراع السياسي حول الوجهة الوطنية العامة المحركَ الرئيس لاصطراع أو اصطفاف هذه القوى مع من يدير السلطة. ولم يتصد هذا اليسار بصورة منهجية ومستمرة لمفاعيل الآثار الاجتماعية والاقتصادية لنشاط السلطة على فئات عريضة وواسعة من جمهورها. ويعود هذا الوهن اليساري في مواجهة مهامه التقليدية إلى جملة من الأسباب الموضوعية والذاتية. فموضوعياً انحسر المشروع الوطني الفلسطيني بين متعارضتين كبيرتين، متعارضة ثورية تمثل مرحلة التحرر الوطني بممثلها السياسي م.ت.ف، وأخرى محافظة تتمثل في السلطة الفلسطينية. وبسببٍ من هاتين المتعارضتين تولدت طائفة هامة من الإشكاليات والتشوهات التي ضربت بقوة إمكانيات الفرز الاجتماعي والتخندقات الطبقية. ولم يفلح اليسار برمته وألوانه الفكرية المختلفة في أن يجد حلاً جدلياً لمعادلة جدلية اسمها "تداخل الوطني بالاجتماعي". حتى المؤسسات والأطر الجماهيرية التي بناها اليسار، وفي مقدمتهم الشيوعيون، في سياق تعزيز صمود المواطنين على الأرض الفلسطينية المحتلة وتثبيت حضورهم على أرضهم. وكرئات للعمل الجماهيري المنظم، انفصلت بمجملها عن أحزابها السياسية تحت ضغطين هائلين؛ الأول دواعي التمويل الأجنبي وحاجاته، والثاني تطور طموح قياداتها ونخبها للعب دور سياسي مستقل عن الأحزاب المؤسسة، بدعم وتشجيع مباشر من المانحين لأسباب لا يحتمل هذه المقال الإحاطة بها. وبهذا الانسلاخ المؤثر لرئات اليسار الجماهيرية عن حزبها، ينعزل اليسار عن الفئات الاجتماعية المستهدفة، ويزداد انكماشه وتزداد قوقعته التنظيمية صلابة. إن الميوعة في النظام الاجتماعي الفلسطيني، أي عدم تبلور كتلة اجتماعية واضحة الهوية والمصالح تنتج عنها حركة سياسية معبرة عنها في مواجهة كتل اجتماعية مضادة لها بالمصالح والأهداف، أدت إلى تناقض جوهري في الخارطة الاجتماعية للأحزاب الفلسطينية، واليسارية خاصة، لجهة تمثيل كتل وفئات اجتماعية متنوعة ومتناقضة في مصالحها الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن التشوهات الاجتماعية والحضرية التي ينتجها الريف والمخيم كأحزمة فقر تلعب دوراً سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً مشوّهاً.
محاولات وحدوية فاشلةوبالرغم من كل هذا، ما زال "اليسار" على تنوعه يعتقد أن الظروف ناضجة تماماً لولادة حركة سياسية جامعة له، رغم تعثره أكثر من مرة في بناء هذا لإطار، لأسباب عديدة تم ذكرها، بالإضافة إلى "التشاطر" الفصائلي الذي اجتهد في استغلال بعض الأشكال الوحدوية لتحقيق مكاسب تنظيمية صغيرة مباشرة، ثم انهارت. ان مهمة توحيد اليسار تبدو اليوم شبه مستحلية بالرغم من الحاجة الملحة لهكذا إطار في ظل مخاطر تفكيك النظام السياسي الوطني جراء الصراع الطاحن بين القوتين الرئيسيتين: حركتي حماس و فتح. لأنه، أي "اليسار"، لم يصنع وجهته في أتون معارك اجتماعية وفكرية واضحة ومباشرة، بل نما نظرياً على أساس اصطفافات- برنامجية وأيدلوجية ليس إلا. ففي الوقت الذي اكتظت فيه برامجه بالدعوات لتمكين الفئات الكادحة والفقيرة، كانت قوة سياسية مصنفة كرجعية ومحافظة، أي حركة حماس المؤمنة بالتراتب الطبقي كقدر ميتافيزيقي، تقدم إجابات ملموسة لمشكلة كتلة كبيرة من السكان فقيرة ومحتاجة من خلال عشرات الجمعيات الخيرية. وفي إطار هذه المعركة غير المتكافئة بين البيانات اليسارية والكوبونات الحمساوية، استطاعت حركة حماس أن تصوغ قاعدتها الاجتماعية المعدة تكتيكياً لرفعها إلى السلطة. إن تجربة ونتائج الانتخابات التشريعية الثانية دلت بصورة غير قابلة للطعن على الهوة غير القابلة حالياً للردم ما بين برامج اليسار وتخيلاته الاجتماعية وبين الواقع المعقد للمجتمع الفلسطيني، بما في ذلك المصادر الاجتماعية الكلاسيكية لليسار. كما أدى الانقسام العمودي في الحركة السياسية الفلسطينية إلى تداعيات هائلة على الوضع الفلسطيني، ليس فقط من جهة أضراره المباشرة على الوحدة الوطنية كمتطلب أساس لاغنى عنه في مرحلة التحرر الوطني، بل وعلى النظام السياسي الفلسطيني الذي اخذ يحبو باتجاه الشرعيات الانتخابية. وتحت ذرائع سياسية شتى، أغلبها صحيح بالمناسبة، جرى وأد شبه كامل للديمقراطية السياسية، وبدأت تنمو وبطرق متسارعة نزعات ديكتاتورية معادية للديمقراطية، إحداها بلبوس "إسلاموي" في غزة، والأخرى بلبوس" علمانوي" في الضفة. فتحت مبرر عدم تحويل الانقسام السياسي والجغرافي إلى انفصال جرت تصفية أشكال الشرعيات الانتخابية، بما فيها الانتخابات البلدية! وانسحب الأمر على الاتحادات الشعبية والمهنية التي أُعيد إنتاجها في نظام بائس ومضحك للكوتا، كالاتحاد العام للمرأة ونقابة الصحفيين واتحاد الكُتاب. ومن المؤسف أن اليسار الفلسطيني لم يغادر مربع الشعاراتية، وتورط في أكثر من موضع في نظام الكوتا هذا. الخطير في المعادلة الراهنة أننا أمام انهيار في البنى السياسية التي ظلت على وهنها حاضرة في المشهد الدستوري، فبالرغم من اعتبار حركة فتح صاحبة السلطة في الضفة الغربية، فإنها لاتحكم بالمعنى الفعلي، وحكم السلطة الحقيقي تديره نخبة صغيرة تمكنت بحكم موقعها السياسي والوظيفي من إدارة السلطة بعيداً عن مصالح القاعدة الشعبية لحركة فتح نفسها! إن آليات الحكم والهيمنة في الدول النامية والشمولية تكاد تعيد نفسها، ولكن هذه المرة "بخصوصية" فلسطينية. ينسحب الأمر نفسه على منظمة التحرير الفلسطينية، التي أصبحت مؤسسة شكلية لا علاقة لهيئاتها في تقرير مصير ووجهة العمل الوطني الفلسطيني، حتى اللجنة التنفيذية التي من مهامها الإشراف والمرجعية على السلطة والأداء السياسي برمته، تحولت الى هيئة للعصف الذهني، وهي غير مقررة في مجريات الأمور! وبالرغم من تململ ممثلي اليسار في اللجنة التنفيذية من هذا الوضع، فإننا لم نسمع عن أي جهد ذو معنى للتأثير أو الضغط لتجاوز الحالة الراهنة! وكل الدعوات التي أُطلقت لإصلاح المنظمة بقيت عبارات محقة، لكنها غامضة وغير مقرونة بجهد أو خطة قابلة للتنفيذ. إننا أمام حالة عجز مطبق للحركة السياسية الفلسطينية، وفي مقدمتها اليسار، على التأثير في مجريات الأمور، بما في ذلك قدرتها على حماية وجودها من التآكل المستمر في مكانتها وتأثيرها على تطورات الوضع الراهن. لقد عجزت قوى اليسار عن شق طريق واضح وخاص بها، ولم تفلح حتى في إثارة أي نوع من الحراك الاجتماعي على قضايا تمس بصورة مباشرة مصالح الفئات التي تفترض تمثيلها. لم نسمع عن أي خطة أو برنامج بديل عن السياسات الاقتصادية والتعليمية والصحية التي تنفذها السلطة! حتى المنظمات الجماهيرية، المتحولة إلى منظمات غير حكومية، صنيعة اليسار وإحدى فضائله السابقة، تحولت إلى أداة لهدر المال على نخبها، من خلال افتعال برامج وأولويات غير فاعلة وخارجة عن الحاجات الاجتماعية الملحة وضروراتها. ولم تفلح إلا في إضعاف أحزابها السياسية وفي تشويه العمل الاجتماعي و التطوعي والحيلولة دون تحويل أي كفاح اجتماعي إلى كفاح سياسي.
العلاقة مع حركة "فتح"اتخذت علاقة اليسار بحركة فتح تعرجات كبيرة امتدت ما قبل قيام السلطة إلى ما بعدها. والسبب الرئيس وراء تعرج هذه العلاقة هو سلوك فتح المباشر في ادارة السلطة الفلسطينية. فقد وجد اليسار نفسه أمام حركة انفتحت شهيتها المطلقة للسلطة، والهيمنة المطلقة عبرها، على جميع مناحي الحياة، رافضة فكرة مشاركة حلفائها بصورة فعلية في ادارة السلطة ولا حتى من الزاوية الإدارية. فقد انصب اهتمام حركة فتح على السيطرة الكاملة على إدارات السلطة، جاعلة من الوظيفة العامة وسيلة للمكافأة والولاء السياسي المباشر لقياداتها، ليس هذا فحسب، بل استعملت المال- الحصص المالية لقوى منظمة التحرير من الصندوق القومي- أداة في الثأثير على مواقف هذه القوى. إن الموقع التاريخي، الذي صاغته ملابسات متنوعة، لحركة فتح في قيادة الحركة الوطنية المعاصرة نمّى لديها ميولاً استفرادية وفوقية في العلاقة مع القوى الأخرى، جعلها تتحلل تدريجياً حتى من منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها عبئا لا لزوم له، خاصة بعد هيمنتها المطلقة على السلطة. أدى سلوك فتح إلى نفور القوى الأخرى، خاصة قوى اليسار التي انقسمت، بدورها، حول الموقف من سلوك فتح وطرق مواجهته. الجبهة الشعبية، المعارضة لحركة فتح، سواء من جهة رؤيتها لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، أو شكل ونتائج إدارتها للسلطة، راحت تبحث عن صيغ تحالفات جديدة، وإن تكن تكتيكية، لمواجهة الوضع القائم، فوجدت في حركة حماس "حليفاً" يمكن "استعماله" في مواجهة النظام الرسمي الفلسطيني، على اعتبار أن الحلقة المركزية هي مواجهة سلوك فتح سواء تجاه العملية التفاوضية أو تجاه إدارتها للمجتمع الفلسطيني. اختطت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين نفس التكتيك وان بحدة اقل. أما حزب "الشعب الفلسطيني"، الشيوعي سابقاً، فقد اتخذت علاقته بحركة فتح والسلطة مساراً متعرجاً، بدأ برفض الدخول في السلطة والاعتراض على النهج التفاوضي حتى إعادة انتشار جيش الاحتلال في الضفة الغربية، ثم انخرط في السلطة، وبقي فيها حتى انهيار حكومة "الوحدة الوطنية" التي تشكلت عقب الانتخابات التشريعية الثانية بقيادة حماس، فيما اشتركت الجبهة الديمقراطية بحكومة تصريف الأعمال الحالية في الضفة الغربية. لقد بقيت علاقة اغلب اليسار بحركة فتح علاقة متذبذبة، تطغى عليها متطلبات مرحلة التحرر الوطني، تارة، ومصالح حزبية مباشرة، تارة أخرى. وبهذه العلاقة المتأرجحة فقد اليسار قدرته على لعب دور معارض بارز ووازن لحركة فتح، وصار اليسار في نظر الشارع جزءاً من ماكينة السلطة حتى وهو خارجها!! وبهذا، ترك لحركة حماس أن تحتل مساحة المعارضة بالكامل. وكل الفشل وسوء الادارة الذي نجم عن حركة فتح وسلطتها كانت نتائجه تذهب إلى تقوية حركة حماس التي وجدت نفسها في موقع مثالي أمّن لها انتصاراً كاسحاً في الانتخابات التشريعية الثانية، ثم استيلاء كبيرا على السلطة. هذا القصور الذاتي لليسار في مواجهة مهامه ليس ذاتياً فقط، وإنما هناك، أيضاً، عمل موضوعي آخر ومؤثر، لا يكتمل المشهد من دونه، ألا وهو تحول العمل السياسي والجماهيري إلى عمل مكلف، لا يمكن لليسار أن ينافس فية قوتين بارزتين، الأولى تتكئ على مقدرات البلد والمانحين، أي حركة فتح، والأخرى تتلقى دعماً هائلاً وثابتاً من جهات إقليمية ودولية لم تعد خافية على أحد، أي حركة حماس. إن استمرار التداخل في وظيفة حركة فتح كحزب للسلطة، وكقائد للتحالف الوطني في منظمة التحرير الفلسطينية يلقي بمسؤوليات مركبة ومتناقضة على قوى اليسار. فلا يمكن لليسار أن يعلن حالة قطيعة مطلقة مع حركة فتح ولا يمكنه كذلك التحالف معها في إطار استمرار العقلية ذاتها لقياداتها، لأنه سيتحمل تبعات مضرة بصورته ومكانته السياسية والاجتماعية! وهذه المعادلة المعقدة هي الوليد الشرعي لوضع معقد تتداخل فيه متطلبات التحرر الوطني بالبناء الاجتماعي. وليس هناك من أدنى شك في أن حركة فتح تستفيد من هذه المعادلة لصالح تجاوز أي مخاطر قد تنجم عن اليسار الفلسطيني. المفاجأة الكبرى، إن شئتم، جاءت من حركة حماس التي دكت سلطة فتح غير عابئة بالنتائج المترتبة على هكذا سلوك، خاصة من جهة إضراره بالنضال الوطني التحرري، وهنا مكر التاريخ!
العلاقة مع حماسبقيت حركة حماس حتى الانتخابات التشريعية الثانية تلعب دور المعارضة الفاعلة بامتياز، والقادرة في الوقت ذاته على خلط أوراق اللعبة على الصعيد الفلسطيني، مستفيدة إلى الحد الأقصى من تدهور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ومن هزيمة مشروع "التسوية التاريخية" التي أعلنت عن نفسها في الانتفاضة الثانية. فإذا كانت حركة حماس قد لعبت بجدارة دور "الضحية" لأجهزة الامن الفلسطينية والإسرائيلية منذ قيام السلطة وحتى اندلاع الانتفاضة الثانية، فإنها بدت، بمشاركتها ونشاطها في الصدام العسكري، خاصة العمليات "الاستشهادية" ضد إسرئيل، القوة الأكثر شعبية واحتراماً في الأوساط الجماهيرية التي رأت في "حماس" قوة صاعدة وقوية يمكن أن تشكل بديلاً عن مشروع حركة "فتح" التي فشل "مشروعها السياسي"، وفشلت في إدارة حياة المجتمع الفلسطيني. اليسار المثقل بـ "أخلاقيات وعلم الجمال الوطني" تحول، أيضاً، وتحت ضغوط الشعبوية، إلى محايد أو حليف لـ "حماس" في طريقة إدارة الصراع مع الاحتلال في الانتفاضة الثانية. حتى حركة "فتح" راحت تحاكي نفس أساليب حركة حماس، خاصة باستهداف المدنيين داخل إسرائيل! وتحت وقع الدموية اللإسرائيلية غير المسبوقة "توحَّد" الجميع بصورة فعلية تحت مظلة حركة حماس، وما زلنا نذكر كيف كان يمشي الجميع، بمن فيهم قادة اليسار، تحت لافتات حماس وشعارات "خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود". فليس مفاجئاً والأمر كذلك أن تسقط السلطة في حضن حماس كثمرة ناضجة تماماً. واليوم وبعد أكثر من ثلاثة أعوام على انقلاب حماس في قطاع غزة، ما زالت الحركة الوطنية، وفي مقدمتها اليسار، عاجزة عن تلمُّس دورها في مكافحة الانقسام السياسي وسياسة حركة حماس المعادية للديمقراطية والحريات العامة، إذ ما زالت الحركة الوطنية أسيرةً لعادات ثبت عدم صلاحيتها وقدرتها على التأثير في مجريات الأمور، خاصة أن حركة "حماس" أثبتت بالملموس أنها حركة إقصائية ومعادية لكل القيم التي يتبناها اليسار. لقد اقتصرت مهمة اليسار، حتى اللحظة، على دور الواعظ لحركة "حماس" حول مخاطر سلوكها الوطني والاجتماعي، فيما هي ماضية بتأسيس "إمارتها" التي ترى في كل مظهر من مظاهر الحريات السياسية والاجتماعية ضلالة كبيرة!! إن حركة حماس، التي استفادت إلى الحد الأقصى من تردد وعجز الحركة الوطنية للظفر بالسلطة، لا يمكنها التراجع دون عمل تراكمي، ولكن جاد، يجعل من بقائها في السلطة أمراً مكلفاً جداً. إننا بحاجة إلى ما يشبه التأسيس لحالة عصيان مدني متدرج ومتواصل، هدفه النهائي الوصول إلى مايشبه مواصفات الوضع الثوري؛ بمعنى وضع تعجز فيه حماس عن القيادة.
مقدمات للنهوضبالرغم من التعقيدات الهائلة والمركبة التي تعيشها الحالة الفلسطينية الراهنة، فإن مهمة التغيير ليست مستحيلة، وإن بدت في غابة الصعوبة. ولأجل تلمس الطريق باتجاه التغيير علينا بداية أن نقر بأن استمرار المشكلة الفلسطينية وطنياً وعدم حلها وتعدد السيناريوهات الراهنة لهذا الحل ستقرر بالأساس وجهة التغيرات والتطورات اللاحقة للمسألة الفلسطينية برمتها. فلا يمكن والأمر كذلك لقوى اليسار أن تنشغل بالكامل في تغيير المناخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمع الفلسطيني دون أن تلقي بثقلها لحسم طبيعة ومستقبل الكيان الفلسطيني. فالصراع الدائر اليوم على الصعيد الفلسطيني- الإسرائيلي سيقرر بشكل جذري وجهة هذه النضالات وجدواها. والمشكلة لم تكن في غياب اليسار عن الحراك السياسي الوطني العام؛ المتعلق بشكل الحل النهائي مع إسرائيل، رغم ضعفه وقلة نفوذه، بل من حيث استغراقه الكامل في هذا الحراك، وسط تجاهل شبه كامل لحاجات المجتمع الفلسطيني، وللإشكاليات الناجمة عن أداء السلطة. وبإمكان اليسار أن يكون أكثر فاعلية في التأثير بالمنحيين الوطني والاجتماعي. ففي المنحنى الوطني ما زال اليسار يشكل ثقلاً تمثيلياً معقولاً في مؤسسات م.ت.ف، وفي اللجنة التنفيذية تحديداً، ويستطيع بالتعاون مع بعض الشخصيات المستقلة في هذه الهيئة هز العصا في وجه الاستهتار المتواصل باللجنة التنفيذية وطبيعتها التمثيلية. وبقليل من الجهد والمبدئية يمكنه أن يحدث تغييراً تراكمياً لصالح استعادة دور ومكانة المنظمة، سواء من حيث قدرتها على التقرير بالمسألة الوطنية، أو بمراقبة السلطة وأدائها. وتعرف فتح وقيادتها أن منظمة التحرير الفلسطينية هي آخر ما تبقى من بنى مركزية وشرعية لا يمكنها المجازفة بتفكيكها أو نقض شرعيتها، خاصة وسط تعرض المنظمة لحملة واسعة ومتنوعة من الانتقادات، تصل أحياناً إلى خلق بدائل عنها، تحت ذرائع منها الصحيح ومنها المغرض. فلا يمكن لحركة فتح باعتبارها القوة المسيطرة في المنظمة والسلطة أن تأكل الكعكة، وتترك للآخرين ثقبها. وبما إن م.ت.ف هي الإطار الشرعي للحركة الوطنية الفلسطينية، والتي تقتضي دواعي التحرر ضرورات الصراع داخلها، وليس من خارجها، فإن هذا الأمر يجب أن لا ينسحب على الهيئات والمؤسسات الشعبية والنقابية، خاصة بعد أن تغيرت وظيفة هذه الهيئات والمؤسسات من دورها الوطني العام إلى دور اجتماعي ونقابي واجب، جراء قيام السلطة الفلسطينية وبروز مصالح وتناقضات ذات طبيعة اجتماعية ومطلبية. ومن البداهة، والأمر كذلك أن يهجر اليسار الفلسطيني عادات الكوتة المعدة سلفاً، التي تؤَمّن هيمنة أتوماتيكية لحركة فتح على هذه الهيئات والمؤسسات، وتكرس فقدان الثقة والاحترام بهذا اليسار و"تميزه" لدى الفئات الاجتماعية التي يحمل لواء مصالحها. ينسحب الأمر نفسه على المشاركة السياسية في السلطة الفلسطينية، لأن ضرورات التحالف والصراع داخل منظمة التحرير لا تنطبق على السلطة التي أُنيطت بها مهام إدارة احتياجات السكان الفلسطينيين الخاضعين لسلطتها، والتي تمثل بوجهتها العامة وأدائها فلسفة فتح في بناء الدولة، إن كان ثمة فلسفة بالأساس. هنا يجب أن يتبلور الجهد اليساري بتقديم بدائل ملموسة ومعلنة في جميع قضايا المواطنين واحتياجاتهم، بما في ذلك تجنيد ضغط وقيادة معارك اجتماعية مكشوفة ومبدئية ضد سياسة السلطة في هذا القطاع أو ذاك. في إطار هذه المعارك السياسية والاجتماعية، يمكن لليسار أن يظفر بوحدته، وأن يتملى هويته الفعلية باعتباره قوة فاعلة ومؤثرة في مجرى الصراع الوطني والاجتماعي.
#حيدر_عبد_الرحمن_عوض_الله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
النهج الديمقراطي العمالي يدين الهجوم على النضالات العمالية و
...
-
الشبكة الديمقراطية المغربية للتضامن مع الشعوب تدين التصعيد ا
...
-
-الحلم الجورجي-: حوالي 30% من المتظاهرين جنسياتهم أجنبية
-
تايمز: رقم قياسي للمهاجرين إلى بريطانيا منذ تولي حزب العمال
...
-
المغرب يحذر من تكرار حوادث التسمم والوفاة من تعاطي -كحول الف
...
-
أردوغان: سنتخذ خطوات لمنع حزب العمال من استغلال تطورات سوريا
...
-
لم تستثن -سمك الفقراء-.. موجة غلاء غير مسبوقة لأسعار الأسماك
...
-
بيرني ساندرز: إسرائيل -ترتكب جرائم حرب وتطهير عرقي في غزة-
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال ... دفاعا عن الجدل --(ملحق) دف
...
-
اليمين المتطرف يثبت وجوده في الانتخابات الرومانية
المزيد.....
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
المزيد.....
|