جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3323 - 2011 / 4 / 1 - 12:29
المحور:
كتابات ساخرة
الآن تجلسُ زوجتي إلى جواري تنظرُ فيما أكتبه ولأول مرة أراها مهتمة بهذا الشكل بالذي أكتبه وكأن الموضوع عندها أو بالنسبة لها خطيرٌ جدا, فهي تسألني: شو ابتكتب؟ فأقول الموضوع يُهمك؟ فتقول: اسمعت انك تقول بأن الانسان رقم, فقلت : طبعا رقم..أنا أكتب موضوع عن الإنسان الذي أصبح رقما..رقماً..مجرد رقم لا أكثر ولا أقل, فامتعضت مما أقوله وقالت: يا زلمه اتقي الله, فضحكت: شو أتقي الله هل هذه نظرية بحاجة إلى تكفير؟ أنا رقم وحياتي كلها أرقام , فشربت رشفةً من فنجان القهوة وقالت: أنت كنت تقول بأن أصل الإنسان قرد وحيوان ابن حيوان, وقلنا ماشي خليه على دلاله, والآن تدعي بأنه رقم!!..مجرد رقم..!!! فقلت: طبعا رقم: ديوان الخدمة المدنية يعطون لكل المنتظرين أرقام يحفظونهاوفي المستشفيات يعطوننا أرقاماً نحفظها..إلخ وأنت بس اتروحي تراجعي في عيادة الأمومة الطبية هل ينادونك الآن باسمك أم برقمك؟ فتقول: لا برقمي يعطونني رقم فأجلس أنتظر أن ينادونني على الرقم, فقلت وأنا وأنت وكل الناس أصبحنا أرقاما, نعم أرقام, بدأنا حياتنا قروداً تتسلق الأشجار وتسكن الكهوف وانتهينا إلى مجرد رقم لا أكثر ولا أقل والآن أينما أذهب أعرف بأن لي رقما وليس اسما, وأينما أقف أمسك بيدي (فيشه) عليها رقم سواء في أزمة المواصلات أو في أي دائرة حكومية , وأمتعض جدا حين ينادونني : تعال يا (15) وروح أقعد هناك يا (15) وأتضايق جدا حين ينظر في وجهي أي موظف سائلاً: شو رقمك؟ وأستحي من الإجابة ولكن لا أستطيع الهروب من كوني رقم مجرد رقم لا أكثر ولا أقل, إذا فقدت رقمي أفقد حقي وإذا فقدت رقمي أفقد شرفي, , وهذا بخلاف أيام زمان حيث كنت فخورا بنفسي وبأصلي غير الرقمي ولا أُخفي عليكم بأنني كنتُ وأنا طفل صغير يلعب في الحارة أتعمد الوقوف في وجه النساء والرجال من كبار السن وذلك ليسألونني : أنت ابن مين يا ولد؟ فأقول أنا ابن : علي المحمود المرعي العلاونه , وكنتُ أطرب لِما يقولونه عن أبي وعن جدي وعن مآثر جدي وأعماله ووعيه وخصوصا الوعي والذكاء الذي كان يتصف بهما أبا جدي الذي كان يخبأ القمح والشعير وما يملك من مواشي عن أعين الدولة العثمانية..إلخ وكنت أقول-ُ لمن يسألني ابن من أنت- بالصوت العالي وبالنَفَسْ القوي: أنا جهاد ابن علي المحمود, أما اليوم فكما قلت لكم لا أحد يسألني أنت ابن من؟ بل كلهم يقولون لي: شو رقمك؟ حتى أنني نسيتُ اسمي أو كدتُ أن أنسى اسمي ذات مرة في إحدى مواقف الباصات وأنا قادم من عمان العاصمة إلى محافظة إربد حين ناداني صديق لي قديم التقيت به بالصدفة: فقد كان ينادي:جهاااااد...جهاااااد, ومن ثم اقترب مني وضربني أو وكزني على كتفي قائلا: شو مالك صاير اطرم أم نسيت اسمك؟ فقلت: لا بس أنا معتاد أن أقطع (فيشه) وأن أصطف على الدور وأن أحفظ رقمي ورقمي الآن هو (51) ولو قلت لي من بعيد (51) لسمعتك بدقة, فقال صح وأنا رقمي (33).
و يقال من أن أساليب التعذيب الإستخبارية للمعتقلين في السجون هو أنهم كانوا ينادونهم بأسماء ليست أسماءهم , وأنا شخصيا صادفت رجلا قضى في السجن عشرون عاما وكان الحرس ينادونه باسم ليس اسمه حتى نسي اسمه الحقيقي, واليوم أو في هذا العصر المتقدم تتجه الأتمتة (الحوسبة) إلى قلب حياتنا إلى مجرد لغة أرقام لا أقل ولا أكثر وبالتالي أصبح لكل شارع رقم ولكل منزل رقم وحياتنا فقط مجرد أرقام ولم تعد الناس تعطي عناوين محل إقامتها كما كانت بالسابق حين كانت تتخذ من المعالم الأثرية ومن المشاهير وأسمائهم دليلا على وجودهم, اليوم تحولنا إلى أرقام فصديقي أعطاني عنوانه في عمان في حي رقم (3) في شارع (6) في عمارة رقم 101 في الشقة رقم (4) أنا مواطن لي رقم وطني ولكل زبون في كل دائرة حكومية يدخلها رقما يأخذه فيحفظه لينادونه به بدل اسمه, وأنا كمواطن يحمل رقما في الشارع ورقما في البيت ورقما في الدكانة التي يشتري منها قد نسيت اسمي على الإطلاق وأذكر بأن اسمي قد كان (جهاد علاونه),وكنتُ فرحا بهذا الاسم الذي اختاره لي أبي وهو في السجن ولم يكن يخطر ببال أبي أو جدي بأن زحمة الحياة والدنيا وأزمة المواقف ستختار لي اسما جديدا مؤلفاً من مجموعة أرقام فردية وزوجية , ولو كان يعلم أبي بهذا لأختار لي من بداية مولدي رقما جميلا مهما وسهل الحفظ يتكون من أرقام فردية أو زوجية,تماما كما تختارُ بعض الناس أرقام موبايلاتها وشاءت الأقدار أن يختار لي الناس رقما يعرفونني به عندما يريدونني, حتى أن أمي قد وصلتها الأتمتة والحوسبة فحين تريد أن تطلبني من تلفونها المحمول تكبس على رقم (4) فتقول (4) هكذا وتضغط على الرقم بإصبعها وأنا بنظر أمي مجرد رقم (4) في كل شيء وإذا أرادت أن تطلب أخي تضغط أيضا على الرقم 2, فأخي رقمه 2 وأنا رقمي 4 وزوجتي رقمها 8وكل فرد من أفراد عائلتنا بالنسبة لها يحملُ رقما خاصا به.
وفي هذه الأيام نادرا ما أتذكر اسمي لأن جميع الناس لا ينادونني به بل يتخذون رقما بدلاً عن اسمي, وحين أذهب في الصباح لشراء الخبز يأخذ مني صاحب الفرن نصف الدينار ومن ثم ينظرُ في ورقة أمامه وهو يمسك قلما بيده الشمال يقول لي دون أن يرفع عينه أو وجهه في وجهي : أنت رقمك 11, احفظ رقمك, وأحيانا يكون رقمي عنده 13 وفي بعض الأيام 9 أو 8 أو 1 أو 2 وذلك كله يتوقف على عدد الزبائن المتواجدين عنده قبلي, ومنذ فترة لم أسمع أحدا في أي مكان أذهب إليه ينادي الناس بأسمائهم فكل الناس تحمل أرقاما ورموزا.. وأنتم تعرفون اسمي ولكن عمّا قريب ستنسون اسمي وأسماء كل أصحابكم وستنسون حتى أسماءكم كما نسيتُ أنا اسمي وستستحيلون إلى لغة أرقام معقدة نوعا ما , وصدقوني بأن غالبية الناس الذين أتعامل معهم يومياً قد نسوا اسمي على الإطلاق لأنني حينما أصل أي موقع أو أي دكانة أو أي محل تجاري أستحيلُ فورا إلى رقم , فالحاج أبو (عامر) كلما دخلتُ عليه لأستدين من دكانته بعض المشتريات أو حينما آتيه وريشي منفوش لأسدد له بعض ديونه فورا يسألني شو رقمك؟ فأقول له اممممم..وأتلكأ كثيرا, ومن ثم يعيد الطلب والسؤال ثانية فأقول له: اسمي جهاد أو أبو علي أو الشاعر كما تناديني في بعض الأحيان, فيقول لي : يا رجل أنا بدي أظلني أعلم فيك وأشرحلك؟ كم مره حكيتلك احفظ رقمك..الدفتر عندي مليان أسماء,أنا يسألك عن رقمك أعطيني رقمك على شانه أفضل من اسمك, فأرد عليه وأنا أهتز بجسمي بأسلوب كله دلع مثل دلع الصبايا ( يا سلام صار اسمي مقرف أو عيب ؟ الله يرحم أبوك بس كان يشوفني كان يترحم على جدي ويحكي والله انك زلمه من ظهر زلمه ) فيقاطعني قائلاً: يا رجل شو رقمك؟ فأقول (والله إني أنسيت رقمي ) فيبحث عنه ويعطيني إياه ويقول لي (أحفظه جيدا رقمك هو 19) وفي المرة القادمة حين تأتيني للدين أو لتسديد الدين لا تقل لي عن اسمك بل عن رقمك وهو (19) فأقول له شكرا يا حج وأخرج من عنده وأنا أحفظ برقمي وأردده شفاها مثل طفل صغير أمرته المعلمة في المدرسة أن يحفظ جدول الضرب ولو مررت أنت يا عزيزي من أمامي لسمعتني وأنا أردد قائلاً: (19)....(19)...إلخ, وكلما دخلت عليه وكلما خرجتُ من عنده يناديني برقم (19) حتى أن أولاده يقولون عني (جاء 19) وذهب (19) وكل الزبائن عنده يعرفونني برقم 19.
وليس الحج صاحب السوبر ماركت من نسي اسمي فأيضا شركة الاتصالات الأردنية أو مجموعة الاتصالات الأردنية أورنج قد نسوا اسمي أو أنهم لا يعترفون باسمي واليوم مثل نهاية كل شهر ذهبتُ إليهم (الحراميه) لتسديد فاتورة الإنترنت وحين دخلت وجدت على الباب جهازا وعليه خيارات : إذا أردت تسديد الفاتورة الرجاء الضغط على هذا الزر, فضغطت عليه فخرجت لي ورقة صغيرة تقول لي بأن رقمي هو 339, وجلست أنتظر دوري حتى سمعتُ صوتا يقول: رقم 339 الرجاء التوجه على شباك رقم (2) وحين وقفت على شباك رقم (2) قالت لي الموظفة : تفضل فقلت لها اسمي جهاد علاونه وأنا..., فقاطعتني قائلة: الرجاء أن تعطيني رقمك كزبون هنا , فقلت لها : اسمي (جهاد) أنا جهاد, فقالت: يا أخي من غير تضييع للوقت أعطني رقمك كزبون فقلت لها لا أعرفه, فقالت لي: ماشي أعطيني رقمك الوطني , فأعطيتها رقمي الوطني أو بطاقتي الشخصية لتنقل عنها الرقم الوطني, وأدخلته في الحاسوب ثم قالت لي رقمك هو 891 بالإضافة إلى رمز المفتاح, احفظه للمرة القادمة, شكرا لزيارتك...إلخ.
وخرجت من عندها وكانت شقيقتي تنتظرني في المستشفى لكي تعرض طفلها على طبيب أخصائي صديق لي وتريد مني مرافقتها كواسطة ومعرفة, وحين وصلت قاعة الانتظار سألت الممرضة عن الطبيب فقالت لي (5) فقلت لها شو خمسه, فقالت: يعني الطبيب في العياده رقم خمسة(5) فقلت لها متبجحاً: يا سلام يعني ما ابتعرفيش تحكي الدكتور (محمد العلاونه) ؟ وحين أردت الدخول نادتني قائلة : وين يا أخ هي العياده كاينه وكاله من غير بواب!!, فقلت : استغفر الله, ولكن أنا (جهاد علاونه)...والدكتور..إلخ , فقالت لي : لا, أنت رقمك (32) وبس تسمع 32 بتقوم من مكانك , وطوال فترة الجلوس وأنا جالس وأحفظ في رقمي وأكرره حتى لا أنساه أو أغلط به وأنا أقول هكذا (32).....(32),وجلست إلى جوار أو بجانب رجل سمين جدا وطويل جدا وبعد نصف ساعة نادت عليه قائلة (12) فقلت: معقول كل هذا العرض والطول ورقمه (12) فقط لاغير.. وكنت أردد طوال وقت الانتظار بقلبي وبصدري رقمي وأحاول حفظه وعدم نسيانه وكنتُ أردده بصمت خشية أن يسمعه أحد فيسرقه مني فيصبح موقفي صعب جدا بين الناس والمعارف والأصدقاء فكيف سأمشي بدون رقم؟, وكيف سأدخل الحمامات العامة (لأفرفر) ماء بدون رقم, وكيف سأستدين من الدكانة بدون رقم وكيف سألقى الله يوم القيامة بدون رقم حين يسألني عن رقمي قبل أن يسألني عن ثقافتي وعن ديني وعن شهادة ميلادي.
ولم أكن أعرف أنني أستحلتُ إلى رقم أو إلى مخلوق مسخ نصفي رقم ونصفي الآخر حروف متقاطعة أو كلمات متقاطعة أو كلمات ضائعة, أنا ضعت ولم يعد لي كيان ولم أعد أشعر كأيام زمان بأنني جهاد العلاونه ذلك الرجل العصامي المشهور في تمرده وتمرداته والذي قاد عصيانا مدنيا في يوم من الأيام كلفه زهرة شبابه, أنا أصبحت مجرد 18 أو 19 أو 339 أو 400 ولم يعد أخي اسمه من اسمي ولحمه من لحمي بل أصبح أيضا رقما مثلي يحمله أينما ذهب ولم تعد أمي تتذكر اسمي فدائما تناديني تعال يا (4) اطلب لي 2, أو 8, لم تعد الناس تحفظ اسم أبي الذي أفتخر به دائما بين الناس فأنا اعتدت أن يسألني الناس : ابن مين أنت؟ فأقول : أنا ابن علي الواعي أو أنا ابن علي العلاونه وجدي هو محمود المرعي, فيترحمون على اسم جدي ويتنهدون لذكر اسمه وليس لذكر رقمه وهم يقولون (ألله ألله عليك يا محمود المرعي يا أبو علي ..ألله عليك وعلى أيامك الحلوه وسهراتك الحلوه) فأتنهد مثلهم وأشعرُ بأن جدي كان رجلا عظيما وأشعر كم أنا عظيم لعظمته, ولكن اليوم أنا مجرد رقم تافه لا راح ولا أجا, أنا مجرد 223 أو 14 أو 656, ولم يعد قلبي يهتف أو يرف, لقد مات الشعور بداخلي ولم أعد أشعر بأردنيتي وبأنني أردني من محافظة إربد ومن لواء الطيبة وبأن جدي كان سيد المنطقة والمختار والقائد والبطل والمخلص والشجاع..وأخشى أيضا على ابنتي برديس هي أيضا أن تصبح رقما وأخشى على علي بأن يصبح أيضا رقما مثل أبيه وأخشى بأن تصبح عائلتي كلها عائلة رقمية(ديجيتال) بالوراثة فينسون اسمي وأسم جدي وينسون منجزاتي وكتاباتي فينادون الناس أولادي في الشارع : تعال يا 9 يا أخو ال10 وال8 هذا طبعا على اعتبار أن علي رقمه 9 وبرديس 10 ولميس 8, حتى الأموات صارت قبورهم تحمل الأرقام فيترحم ذويهم على رقم 1 ويقرءون الفاتحة على رقم 6 ويقفون في المقابر وهم يسألون عن رقم المرحوم أو عن رقم قبر المرحوم .
وفي النهاية أنا مجرد رقم, أتيتُ إلى هذا العالم وأنا أحمل معي رقما ودخلت كافة المؤسسات الوطنية والإقليمية والعالمية الرسمية وغير الرسمية وأنا في كل مرة آخذ رقما جديدا, وسأغادر العالم وأنا أحمل رقما وسيكتبون على قبري هنا يرقد رقم 6 ابن الرقم 55.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟