ميثم سلمان
كاتب
(Maitham Salman)
الحوار المتمدن-العدد: 3307 - 2011 / 3 / 16 - 08:52
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة
زرت مع صديقين مدينة لم نر فيها أي رجل يمشي بكامل الأطراف. بعضهم يضع أياد أو أقدام اصطناعية، آخرون يستعينوا بعكازات، آخرون فقدوا كل أطرفاهم- يجلسون على كراسي متحركة يدفعها أبنائهم. هناك مجاميع من شخصين أو ثلاثة ألتحمت ببعضها لتكوين جسد بأربعة أطراف.
سأل صديقي الأول باستغراب: "ماذا حل بهذه المدينة؟".
علينا معرفة الجواب من أحدهم، رد الثاني.
قلت: "لا نعرف الحقيقة ألا من شخص تام الجسد".
كانت هناك العديد من المقاهي: مقهى اليد المبتورة، مقهى الأذن المقطوعة، مقهى القدم الواحدة، مقهى الكسيح، مقهى العجائز...
لا يمكن العثور على شخص سليم في غير مقهى العجائز، قال الثاني. أقتربنا من رجل مسن يفترش إحدى الأرائك ويحرك مسبحة طويلة جدا لاستيعاب ما يجتره من ذكريات. تبدو على ملامحه خلافه العميق مع الحياة. قبل جلوسنا سأله الأول: "هل لك أن تقص علينا حكاية هذه المدينة؟".
سحب العجوز كل ما حوله من هواء يكفي للعيش ثمان سنوات، قذفه مصحوبا بحسرة منتجا صوتا كصفارة الإنذار. أنفجر فمه بالكلمات كبركان. تحركت يداه بسرعة فائقة محاولا تصوير مشاهد الحرب. تناثرت من فمه الشظايا، الدماء، أصوات الراجمات، الطائرات، القصف الكيمياوي، المدافع، البيانات، الأوجاع، النيران. ولما أحتدت وطأة المعارك تفاقمت سخونة الكلمات لينقطع الاتصال بين إيماءاته ومعاني الكلمات، حيث لم تلحق يديه بسيل كلماته العارم.
كان صديقي الأول يفقد تدريجيا أحساسه بقدمه اليمنى حتى أنفصلت عنه تماما، تبعتها الأخرى، فسقط. ثم أخذت ذراعاه بالذوبان مصغيا لحكاية الحرب.
داوم العجوز بقص الحكاية ويداه تستغلان كامل الفضاء المتاح لهما؛ تدوران، ترتفعان، تنزلان، تشتبكان، تضربان رأسه وصدره. ثم تحول جسده إلى فم هائل ينفتح وينطبق لالتهام كل ما حوله. لم يبق لصديقي الثاني إلا قدم واحدة مكنته من القفز بعيدا عن العجوز.
هربت خارج المدينة تاركا المقهى والعجوز/الفم يهذي لاهثا. كنت محظوظا لاحتفاظي بأطرافي الأربعة لكني فقدت أذني.
#ميثم_سلمان (هاشتاغ)
Maitham_Salman#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟