|
الـمُـعـــــــــــادِلاتْ 3
هادي الخزاعي
الحوار المتمدن-العدد: 988 - 2004 / 10 / 16 - 11:34
المحور:
الادب والفن
( القسم الثالث ) لم تنقطع في البيت، لا الحركة، ولا رنين الملاعق وهي تدوف الشاي في الأقداح ، طوال الساعات التي سبقت التحرك الى المواقع التي منها ينبثق صوت الطلق، ومخاضات القتال. غير أنها لم تكن بحماسة البداية، فحتى الزمن، كان متأن، غيرآبه للعجالة التي تزمجر كريح الخريف، كما لو كان يشاطرهم الراحة المقتنصة من سويعات الليل، بعد أن حصنتهم زاويتهم القصية بواق ضد الشعوذات والزيف الذي كان يحكم الذين ربطوا أنفسهم وأرواحهم بعجلة ذلك النظام الذي أحل دماهم، وجعلهم وجودهم مشروعا للقتل المجاني. كانت هذه السويعات تتدفأ من حرارة موقد الحياة, وزفير هذه الكائنات المستسلمة بوعي لليوم الذي لم يحنْ بعد. أفاقت بامرني على وقع أقدام، تنتعل الحذر في تنقلاتها، وحركة غير ملحوظة، شدت جلبتها وقرقعة أحمالها الحديدية بحبال قوية من الصمت والأنضباط المنسوج بتحذيرات متعاقبة. أو صفير غير مؤتلف، أحتياطا لغير المتوقع. واصلت المجموعات تقدمها الحذر، الى ما هو مرسوم لها من أهداف، مجتازة منحنيات الطرق وتموجات الأرض الخدرة بعبق الوحول الفتية، وبريح الخريف التي تكنس من فوقها اليباب. تنتقل الثواني بلا كلفة من فم القادم من زمن، الى أحشاء الماضي، لتقترب من اوان لحظة التنفيذ. كانت خطوات الوصول الى الأوان الجهنمي تسيرعلى أيقاعات بوصلة لا تفسر أحيانا. في خضم هذه الأنسياب البشري وفطرة الطبيعة، كانت تفيض جبهة الفضاء الصامتة كالقبر، بموجات لاسلكية مشفرة، توجز شكل اللحظات والدقائق التي ستكون. - ... من واحد الى جميع النقاط... أتسمعني؟.. أكرر.. من واحد الى جميع النقاط.. أتسمعني؟ - مسموع جيدا... مسموع جيدا... باشر .. باشر.. - نصف ساعة تاجيل حسب الخطه.. مفهوم.. - مفهوم مفهوم.. ومن جانبنا لا يوجد جديد.. - طيب الى المعين.. الى المعين.. - الى المعين. أستلمت جميع النقاط التوجيه الجديد، ووطنت المجاميع نفسهاعلى لحظة الميلاد الجديدة للتنين المتمرد على القمقم الذي حُبِس به. أنجلت الغيوم تماما، فبدت السماء كمرج فضي أملس، وكشف البدر، بهالته القزحية الباهرة، كل متون الأرض وانكساراتها، ورسم فوقها ظلال الأكمات والشجيرات القليلة، الظاهرة كثآليل على جسد بلا تضاريس، الأمر الذي لم يدفع ببعض المجموعات من الأقدام على الأستعجال، خوفا من هفوة أو خطأ يجتلي أو يتنفس المغامرة، فتجعل من أفراد هذه المجاميع، هدفا أو صيدا سهلا للبنادق الجاهزة للأطلاق بذلك النوع من العيارات الخطاطة المذنبة، التي لا تحط إلا بين ألياف العضل وكسرات العظام، لتهب الموت، أو العوق المؤبد، وهي الخسارة التي يخشاها الأنصار في حياتهم المترجلة عن أي علو. حرصوا أن لا تكون لهم حركة منظورة أو محسوسة، فالرصاص الأعمى والقلق، سرعان ما ينطلق ، حتى ولو على أدنى حركة تلوح في أفقنا، تتوهمها زحمة القلق والخوف والترقب التي تعشعش في رأس الحارس المشوش بصورة كفنه، في لحظة لا تشبه في عاقبتها أي لحظة أخرى. من جديد أخترقت موجات الأثير ذبذبات متوترة ، تؤكد تمديد التأخير لنصف ساعة جديدة فثمة وضع لا يدعو الى الأطمئنان، يتبدى من وهج النار المتقدة منذ عشرين دقيقة في محرس بناية المطار، وأيضا من نور قوي متطامن يشع من المطبخ، كشف عن وجود حركة لجنديين او اثنين من الجيس الشعبي الحكومي، يتجاذبان حديث مسكون بالتوجس ومدموغ بعلامة الممنوع والتمرد الخفي، الذي لم تتشكل له ملامح أو ابعاد بعد... - ... منذ أكثر من سبعة أشهر. - ولم تكتب لهم؟! - ما كتبته .. مزقته. - مزقته؟! حدثني .. هل لديك مشاكل من نوع معين؟! - صحيح أنني لم ازل شابا.. ولا يبدو أني أعيش مشكلة ما.. فهذه الأمور هي تزود الأنسان بالتجربة والخبرة في شؤون الحياة.. غير أنها قد علمتني الكثير... - هكذا يقولون... الحياة مدرسة، وفيها الكثير من الأمتحانات.. ربما هذا صحيح، لكني شخصيا لم أدخل بعد أي من امتحاناتها. - أنا دخلت ... وفشلت. - كيف؟ - هربت من الحرب. - وماذا يعني؟! فكل الموجودين هنا هربوا من الجبهة، وكلنا يعرف بأن وجودنا هنا هو عقوبة، فلا شيء يحمينا هنا غير حضوضنا.. - وهربت من أهلي أيضا. - سرقت؟ - ليتني فعلت. - أذاَ هناك فضيحة، أو نزق شبابي مع بنت الجيران!... - لا..لا.. - ماذا أذاَ؟! - أنها قصه غريبة.. - قصه ؟! - أراد أبي الوشاية بي .. - عن سرقه ؟! - لا.. عن هروبي من الجبهه. - هاهاها.... - لماذا تضحك؟! - لقد فعلت أمي بي نفس الشيء... فاضطررت للآلتحاق بالجحوش حتى أخرج من المأزق الذي اوقعتني به أمي... أكتب لهم رساله لتطمأنهم يا أخي. - لاأرغب بذلك... أشعر بالكراهية نحوهم. - ولكنهم أهلك.. والأظفر لا يتبرأ من اللحم. - كانوا أهلي.. - ربما خاف عليك والدك... أنت تعرف الوضع.. هكذا قالت لي أمي عندما قبضوا علي.. - أنه زوج أمي.. - ها.. - كان يحقر بي دائما..ولكنه فشل في أن يجعلني أشعر بالدونية.. - الدونيه ؟! - أسمع عبدو.. عندما يريد أحدهم استعبادك أو أستغلالك، يعمل المستحيل كي يجعلك تشعر بالدونية بالمقام الأول.. - حبيبي .. أننا في طريقان مختلفان.. أن عقلك كبير الى حد الرمي بالرصاص.. فأتركني رجاءا... - أنه الأذلال والأخصاء اليومي الذي يواجهنا في كل مكان.. - وداعا حبيبي.. كلامك مجنون.. يؤدي الى الموت.. ليس لك وحدك ، ولكن للذي يسمعك أيضا.. وداعا. - لابد من كارثة شاملة تحرر الروح من هذا الأحتقان!... - أقول لك أترك يدي.. أترك يدي.. - ولكن أسمع ما اقوله حتى النهايه. - لا اريد أن اسمع.. انت تشتم السلطه.. وهذا يعني الموت .. يعني الموت ..ألا تفهم؟! - أن لهذه السلطة بديهية مطلقة.. أخصاء الجميع.. مثل زوج امي.. - أترك يدي ارجوك.. - لا مفر من وجه الفاجعة القبيح يا صاحبي.. وها أنا أترك يدك.. لقد انتهيت مما اريد أن اقول... - أحذر أن يسمعك واحد من السفلة الموجودين هنا.. عندها لا يعرف الذباب الأسود طريقه اليك.. - لقد متنا منذ زمن بعيد يا صاحبي. - بل ولدنا أيها الغبي.. ففي كل الأحوال نحن افضل حالا من الذين يأتون من الجبهة بلا يدين أو بساق واحدة، أو محشورين في كيس من اكياس النايلون كدجاجة مجمدة.... لم يمهله فسحة من الوقت ليكمل جمله المنتفضة كحمل مذبوح، يرفس الفراغ بأرجل يتسرب أليها الخور مع كل رفسة تائهة في بركة دمه الآخذة بالتخثر. - ليسمعني من يسمعني .. فكلهم مخصيين مثلي... كلهم مخصيين... اقتعدت المجموعة المكلفة بمهاجمة بناية المطار، ساقية جافه، إلا من الوحل، لاتبعد اكثر من مائة متر عن هدفها. كانت هذه الجماعة في أتم حالات الأستعداد الذي لم يكن خلوا من تواترات باطنية، لم تجد منفذا للتسرب، فبقيت أنفعالاتها متشرنقة في جزيئات الأعصاب والمفاصل، تضرب بعنف في تجاويف القلب وشرايينه، كساعة دقاقة كبيرة، تسبق الزمن بدقائقها المهرولة بلا رتابة في ثنايا الرأس وطيات المخ. غير أن الزمن الوجيز قد أرخت من هذا التوتر ، ومنحت الأصابع والأكف هواصل من الأنعتاق المؤقت عن مقابض البنادق وزناداتها، فأنبرى الهمس متحررا من محور الوحشة والترقب، وامتطت الكلمات، الألسن الجافة، لتخرج من مغارة الفم حذرة شديدة السكون، فتدخل تجاويف الآذان، خالية من الدوافع، ميتة الماضي، وكأنها خرجت فقط لتعلن عن وجود هامسها... - .. تعرف .. - أخفض صوتك... - حلمت أثناء أخفاءتي قبل المجيء الى هنا بأنـ ... - أنك قضيت برشقة واحدة علـ.. - لالا.. لقد حلمت بأني متزوج.. وقد ولدت لي هذه الزوجة التي نسيت ملامحها.. دزينة من الأولاد بعد مضاجعتي لها مباشرة!!! - مبروك.. لك هسه أحنه بيا حال.. ولم يستطع كظم ضحكته ، فكتمها بكفه قبل أن تنطلق، وهو يقهقه بلا صوت... - لا تضحك يا طنطل.. - العفو.. أنني لا أضحك.. أنني ابكي.. - تعرف؟! - ماذا؟؟؟ - أشعر بحنين يشدني من أعماقي لهذا المنام المجنون. - لتضاجع زوجتك؟ - لا يا طنطل.. لكن لأحتضن أطفالي العشره.. - مجنون .. والله مجنون.. - أنه الحب يا طنطل.. - الحب ؟! - كيف حصلت على الدكتوراه وأنت لا تعرف ماذا يعني الحب.. الحب يا عزيزي أعلى درجات الثورة يا طبيب... - ثوره؟! ثوره على منْ ؟! - على هؤلاء التافهين الضيقي الأفق.. الذين يضعون العصا في العجله.. - تقصد الجحوش؟ - وكل تافه يزرع دمعه بدل البسمه... - قلة هم الذين يفكرون هكذا.. - هذا هو نزيفي .. هذا هو نزيفي يا رفيق... - أتبكي يا أبو كريم؟! معقول! - أسف.. رغما عني.. أنه الوطن، واقعه، تأريخه، جراحه، نزيفه.. أشياء كثيره في حياتي لم أعتد التعبير عنها صامتا... - أين السخرية ؟!.. أين الهزل ؟! - السخريه أولى درجات سلم التمرد... ونحن الآن في ذروة الحب. أختفى صوتيهما في زوبعة الصمت المختصر، فلم يكنا قادرين على أن يفرضا على الصورة ما ليس فيها، ولم يكنا ايضا قادرين على التنكر لقناعة عميقة في داخلهما تقول؛ بأن شيئا لا يبدو الآن ، لابد وان يولد فيها بعد حين. ( يتبع القسم الرابع )
#هادي_الخزاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المُعـــــــــــادِلاتْ 2
-
المعادلات ( رؤية تسجيليةعن أستشهاد النصير أبو كريم في العملي
...
-
طابا التي تأن، من يان لها؟!
-
لم ترحل أيها الشفيف سلمان شمسه
-
لفت انتباه للسيد صلاح عمر العلي
-
رحلة المهام النبيلة للمجلس الوطني العراقي
-
أسئلة غير محرمة للمناضلة الرفيقة سعاد خيري
-
سكاكين مثلومة؟! تضامنا مع الكاتب يوسف أبو الفوز
-
مكاييل عربية!؟ القوات السورية في لبنان والقوات متعددة الجنسي
...
-
مكاييل عربية؟! حسين الحوتي ومقتدى الصدر نموذجا
-
عراقيامطلوب أشراك الجماهير الشعبية في أدانة سارقي قوتها وأمن
...
-
خرف العمر يا سعدي يوسف أم جفاف القريحة؟!
-
هل سيكون الأول من تموز ميلاد جديد للعراقيين؟
-
- يا رفاق الفكر والدم ناضلو....أحنه وأنتوا بدرب فرج الله الح
...
-
الشهيد الشيوعي الفنان التشكيلي العراقي معتصم عبد الكريم
-
من يعوض العراقيين عن قتلاهم؟
-
الجلبي وتحت موس الحلاق
-
الباججي و يا مغرب ، خرب
-
الحكومة الجديدة، مشروع للضمير العراقي القادم
-
المؤتمر الوطني للسلم والديمقراطية في العراق،تأسيس لعراق المس
...
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|