|
رحلة إلى العالم الآخر- قصة قصيرة
طالب عباس الظاهر
الحوار المتمدن-العدد: 3303 - 2011 / 3 / 12 - 12:23
المحور:
الادب والفن
رحلة إلى العالم الآخر طالب عباس الظاهر غيوم منتشرة في الفضاء الواسع ممتدة إلى ما لا نهاية على عرض السماء الرحبة ؛ فتبدو وكأنها تسبح بفرح في الأعالي ، مكتسية ثوبها الأبيض الناصع ، وخيوط الشمس المتسللة إليها من البعيد.. تزيدها صفاء وجمالا.. خلالها تطل السماء بلونها الأزرق الفاتح ، مكونة معها انسجاما كونيا بديعا.. وثمة نسائم باردة تهب بلطف بين الحين والآخر.. لتزيد الجو سحرا وجلالا في تلك اللحظات من صباح احد أيام نيسان المعتدلة. إلا إن هناك شيئا غير طبيعي ...أعمدة دخان تتصاعد من أكوام وبقايا حديدية متشابكة ، هناك أيضا جثث بشرية ممزقة ومرمية بشكل مريع ، وبأماكن متفرقة على طول ارض صحراوية مستوية تقريبا ، غطتها الرمال الصفر المتلألئة. ما هذا التناقض في صورة الحياة التي أحياها وأراها الآن أمامي؟ الأرض يبدو عليها وكأن أيادي شريرة وعابثة ما عرفت الرحمة سبيلا إلى نفوس أصحابها ؛ عبثت بحقد بكل شيء عليها وحولته من صورته الجميلة الهادئة إلى صور بشعة، إلى مناظر للخراب والدمار، إلى نار ورماد ، إلى دماء امتصت منها الرمال حتى ارتوت ، والى سيقان واذرع ورؤوس مبعثرة. أما السماء فإنها تبدو على أحسن صور جمالها وبهائها..هناك الزرقة الصافية مطرزة بألوان الغيوم القطنية.. وهناك الجو البديع والشمس الدافئة.. إنها أشبه ما تكون بعالم الخيال... آه لقد تذكرت.. أين أنا ؟ ومن أكون من هذا العالم الفسيح ؟! إني الآن اشعر بخفة وبصفاء ذهن عجيب ، وأكاد أطير خفة ورشاقة ، واشعر كأنني تخلصت من حمل ثقيل كان مرميا عليّ طوال السنين التي مضت ، والآن فقط ولأول مرة في حياتي اشعر براحة عجيبة لم أصادفها مرة أو حتى خطرت ببالي ، وفوق هذا إنني استطيع الحركة والانتقال إلى أي مكان وأية جهة أريدها بسهولة تامة وعجيبة أيضا ، ولكن أين ذهبت يا ترى ليلة أمس؟ تلك الليلة العصيبة ؟ وتلك الظلمة الحالكة وأصوات الإطلاقات والإنفجارات المدوية تمزق السكون والليل وكل شيء، وتزرع الرعب والهلع في القلوب ، وتنشر الدمار في كل مكان تحل فيه غير مكترثة لشيء وكأنها القدر ، بخطواته الثابتة ، بقبضته الفولاذية ، بقلبه المتحجر، وأصوات الاستغاثة وصيحات الألم المخنوقة ، تتناثر في جوف الظلام الدامس كتناثر الزجاج بين مطارق من حديد ، والموت ماثل أمامنا كالجبل الشاهق ، نراه مرة في صورة الظلام ، ومرة في دوي الإنفجارات ، وأخرى في صيحات الألم ... يا ترى أين ذهب كل هذا؟ يبدو انه تبخر بطلوع الفجر، إنها ليلة عصيبة حقا مرت كمرور الكابوس ، لكن الكابوس هذه المرة أصبح حقيقة لا مجرد حلم مزعج ينتهي مفعوله بمجرد اليقظة من النوم ، بدليل إن الأحلام حين تأتي لا تخلف شيئا يلمس خلفها ، ولكني الآن أرى مخلفات ذلك الكابوس اللعين ، ماثلة أمامي وفي نفسي ، انه خلق الموت والدمار. يا للعجب لهذا الإحساس الغريب الذي أعيشه الآن.. إنني أحس بأني تغيرت كلياً وكأنني ولدت لأول مرة في هذه الدنيا ، وينتابني شعور كأني كنت نائما.. والآن فقط اشعر باليقظة الحقيقية .. نعم الآن فقط استيقظت من سبات طويل دام لأكثر من عشرين عاما! لكن ما بال الناس لا يستيقظون من نومهم هذا؟ ليروا هذه الحياة الصافية..إنها أجمل وأنقى من حياة النوم التي كنت أحياها.. لا بل وان قلت الصحيح إن ليس هناك مجال للمقارنة بينهما ، لكني سأعمل بكل جهدي لكي افهمهم وأقنعهم بما أنا فيه الآن ، ولكني قبل هذا لأبحث عن رفاقي وأتعرف على حالهم وما وصلوا إليه؟ ولكن لا اعرف من أين أبدأ رحلة البحث عنهم ..لأني نفسي لا اعرف أين أنا ؟ وأين مكاني بالضبط من هذا العالم؟ إني اشعر وكأنني في كل مكان وبكل شيء...!! ماذا جرى إني أصبحت خارقاً، لا يستعصي علي فعل شيء.. إني استطيع أن أرى الأشياء على بعد لا يستطيع أقوى ناظور عندنا أن يراه ...ها هم الأعداء أمامي يتحركون.. إني أراهم بوضوح تام .. وهاهي معداتهم وحتى أدواتهم البسيطة والصغيرة أيضا.. مثل الأزرار والرتب العسكرية. يا للعجب إني استطيع أن أرى حتى ما في داخلهم وما يجري في عروقهم ... ولكن أين هم الرفاق الآن؟ لقد تعاهدنا على أن لا نفترق أبدا ومهما يكن السبب ولكن الموت وحده الذي يستطيع تفريقنا.. وها هو يأخذهم مني ليتركني وحيدا في هذا المكان الموحش من رائحة الموت التي تملأ المكان بين تلك الرؤوس المتناثرة والأجساد المشوهة. يا ترى أين هو عبد الجليل ؟ صديقي وأخي وأعز ما في دنياني.. وأين هم أصحابنا؟ هل تدوم الفرقة بيننا إلى الأبد.. أم ماذا ؟ ثم لا ادري كم من الوقت وأنا في حالة الدهشة والانبهار بكل شيء حولي.. وكأنني طفل جاء إلى الدنيا في سن العشرين!! ثم لاحت مني التفاتة إلى الخلف... فشعرت بسريان هزة عنيفة لكياني .. ماذا أرى؟ يا لفرحتي .. ها هم بعض الجنود ومعهم عبد الجليل.. لقد جاءوا لينقذوني من هذه الوحشة الرهيبة . إني أكاد أطير فرحا.. والدنيا بوسعها لا تستطيع ضم فرحتي ، الحمد لله .. أنهم ما زالوا أحياء , وها هو عبد الجليل يتقدم نحوي بخطىً بطيئة وثقيلة جدا، وساقاه تخطان بالأرض خطاً .. الظاهر انه لم ينتبه إليّ بعد ... ورحت صائحاً بشوق : عبد الجليل .. عبد الجليل..الحمد لله على السلامة.. لقد أقلقتني عليك .. شيء غريب حقا .. إنه لا يبالي بي ولا حتى يرفع عينيه عليّ .. ولا الذين معه !! يا الهي .. ماذا جرى بهذه الدنيا ؟! يا للعنة إنهم يتركوني خلفهم ، وعقلي يكاد يطير من رأسي .. فتبعتهم وأنا من الدهشة والغضب في نهايتها . ماذا بكم لا تجيبوني هل تسمعوني .. اخبروني ماذا جرى ؟! لكن ما من مجيب !! ونفذ صبري وقررت أن لا اكلمهم الآن .. إنهم يواصلون السير وقد ظهرت أمارات الأسى واضحة على وجوههم السمر، وقد غطت وجوههم وأجسادهم طبقة من الأتربة الصغيرة المتطايرة ، وظهروا وكأنهم جاءوا من أعماق التاريخ !! ماذا أرى أمامي؟ إن عبد الجليل انحنى بقوة وسرعة نحو جثة وكأنه سقط عليها من فوق مكان شاهق الارتفاع.. انه أجهش بالبكاء والدموع تتدفق من عينيه بغزارة.. إنني اشعر وكأن الدموع تكاد تنهمر من عيني أنا أيضاً . ما يفعل ؟! انه يقلبها إلى الأمام بعد أن كانت مرمية على وجهها ثم يدفن وجهه في صدرها ويبكيها بمرارة وجزع . يا ترى لمن تكون هذه الجثة ؟ أكيد إنها لأحد أصدقائه الأعزاء عليه .. ولكن جميع أصدقائه هم أيضا أصدقائي !! فتقربت وأمعنت النظر فيها.. فإذا بي أرى صورتي في هذه الجثة .. يا الهي هي جثتي أنا بلا شك.. وها هو وجهي وجسمي .. وها هو أيضاً الجرح القديم الذي تحت فمي . [email protected]
#طالب_عباس_الظاهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رمياً بالزواج - قصة قصيرة
-
الزهايمر - قصة قصيرة
-
الإنتقام الصامت
-
قصة قصيرة جداً الموناليزا طالب عباس الظاهر نظر إليها، كان ال
...
-
رؤيا
-
باراسيكلوجي
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|