|
الانتفاضة العراقية: استعصاءٌ أم استثناء؟
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3303 - 2011 / 3 / 12 - 10:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عندما بدأت موجة التغيير التي اجتاحت البلدان العربية، منتقلة من عاصمة الى أخرى ومن مدينة الى ثانية، لم يكن العراق إستثناءً، فقد شهد الوضع العراقي، وبغضّ النظر عمّا سبّبه الاحتلال من تدمير للدولة العراقية ومرافقها ومؤسساتها، وخصوصاً بعد حل الجيش وانفلات الوضع الأمني، حراكاً وديناميكية غير معهودين، لاسيما بعد نظام شمولي دام ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمان، واتّخذت الحركة الاحتجاجية السلمية شعارات مطلبية وواقعية تتعلق بصلب الاحتياجات الحياتية والانسانية ودون ضجيج آيديولوجي مثلها مثل انتفاضات تونس ومصر واليمن وليبيا والجزائر والبحرين والاردن وعُمان وغيرها، وشهدت المحافظات والمدن العراقية من البصرة وحتى السليمانية والموصل، فضلاً عن الفرات الأوسط وبغداد والرمادي وغيرها تحركات واسعة. وعلى الرغم من أن الشعب العراقي جرّب سلاح الانتفاضة في العام 1991، ردّاً على مغامرة غزو الكويت وهزيمة الجيش العراقي، حين اندلعت حركة احتجاجية وغضب شعبي شمل 14 محافظة كادت تطيح النظام السابق بعد توقيع اتفاق مذل في خيمة صفوان، لكن مساومة دولية حصلت ومفاجأة من جانب "قوات التحالف"، أضف الى ذلك أن إيران وبعض القوى المتعاونة معها استثمرت الهبّة الشعبية الهائلة ورفعت بعض الشعارات الطائفية، التي استفزّت أوساطاً غير قليلة شعبياً، ناهيكم عن دور بعض دول الجوار الاقليمي الذي لم يكن متهيئاً للتغيير، الأمر الذي سهّل مهمّة قمع الانتفاضة. ويبدو أن ما قرّره اجتماع باريس أواخر العام 1990 بخصوص ما سمّي بالنظام الدولي الجديد، وبعده اجتماع برلين في حزيران العام 1991 (بُعيد تحرير الكويت وتدمير العراق) من توجّهات بخصوص التعددية والانتخابات وسيادة القانون في ظل توجّه ديموقراطي على المستوى العالمي، لم يكن قد وضع موضع التطبيق، لا فيما يتعلق بالعراق حسب، بل بمشروع التغيير الديموقراطي في المنطقة ككل، وعند أول بادرة للتغيير تم اكتشاف هزاله وزيفه أيضاً. ولعل التنظيرات للتغيير الديموقراطي، بعد ورطة واشنطن في كابول العام 2001 وبغداد العام 2003، اتّخذت شكل دعوة الى شرق أوسط كبير، وبعد حرب تموز الاسرائيلية ضد لبنان، طرحت كوندوليزا رايس مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، لاسيما بعد تهيئة الأجواء من خلال تنظيرات "نهاية التاريخ" التي جاء بها فرانسيس فوكوياما وصدام الحضارات لصاحبها صموئيل هنتنغتون التي ارتفعت وتيرتها بعد اطاحة أنظمة أوروبا الشرقية، وصعود موجة الارهاب الدولي، التي تعكّزت عليها واشنطن بعد أحداث 11 أيلول الارهابية الاجرامية العام 2001 لشن حرب كونية. وبقدر ما يتعلق بالتجربة العراقية، فقد تمكّنت الولايات المتحدة من الاطاحة بالنظام الديكتاتوري السابق، لكنها لم تستطع بناء نظام ديموقراطي على أنقاضه، فضلاً عن ذلك فإن أزمتها العالمية اقتصادياً ومالياً، وهي جزء من دورة النظام الرأسمالي العالمي المستفحلة، قد تعمّقت بسبب الغرق في المستنقع العراقي، حيث كلفتها الحرب أكثر من 3 تريليونات دولار وأكثر من 4400 قتيل وأكثر 22 ألف جريح حسب الأرقام المعلنة من جانب وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، الأمر الذي دفعها للهروب الى الأمام بعد توقيع اتفاقية مع العراق نقلت فيه الاحتلال العسكري الى احتلال تعاقدي، وستضطر الى الانسحاب من العراق في نهاية 2011، مع أن احتمالات البقاء واردة، بقوة عسكرية مؤهلة وقواعد لا تزال مؤمّنة ومحميّة، ولكن ذلك يمكن أن يتم بتوقيع اتفاقية جديدة مع العراق وفي ضوء التطورات الجديدة. لا يمكن للولايات المتحدة اليوم القول أنها بنت نظاماً ديموقراطيا في العراق، حتى وإن جرت انتخابات وأبرم دستور جديد، احتوى بعض المبادئ الديموقراطية الايجابية، لكن فيه الكثير من الألغام التي يمكن أن تنسف الإيجابيات الواردة فيه، فضلاً عن القيود الكثيرة، بما في ذلك نحو 50 مادة تحتاج الى إصدار قانون، وينتظر الدستور تعديلاً لا يزال مسكوتاً عنه. وقد تفاقم الفساد الى درجة مريعة واحتّل العراق الصدارة بين دول العالم في تقارير منظمة الشفافية الدولية، وارتفعت موجة العنف الطائفي والمذهبي والاثني الى درجة تشظّي المجتمع العراقي، لاسيما في ظل وجود الميليشيات المعلنة أو المستترة، ناهيكم عن جماعات الارهاب الخارجة عن القانون، بما فيها تنظيمات "القاعدة" الارهابية، واستمرت معضلة الخدمات، فالماء الصافي شحيح والكهرباء لا تزال غائبة في معظم الأوقات، والبطالة تضرب أطنابها، والحكومة معوّقة على الرغم من إجراء الانتخابات منذ آذار2010، وبعد ولادة عسيرة دامت أكثر من عشرة أشهر لا تزال الوزارات الامنية فارغة، فأي انجازات ديموقراطية يمكن الحديث عنها؟ ولعل صندوق الاقتراع وحده ليس مؤشراً أو دليلاً على الديموقراطية، إنْ لم يقترن بالمساواة والمساءلة وسيادة القانون والمواطنة السليمة والحريات والعدالة. لقد حذّر رئيس الوزراء العراقي من التظاهر، لاسيما من المندسين وخصوصاً تنظيمات "القاعدة" والبعثيين، وذلك في محاولة لإجهاض التحرك الذي يطالب باستعادة الخدمات ومحاربة الفساد ومساءلة المفسدين وإيجاد فرص عمل للعاطلين وتقليل رواتب المسؤولين وتحسين مفردات الحصة التموينية وغيرها. وإذا كان ذلك مفهوماً و"مبرراً" لأي حاكم يلتجئ اليه، وإنْ كان غير مبرّر، فالدستور على الرغم من نواقصه وعيوبه يكفل حق التظاهر السلمي، وأي تجمّع سواءً كان لزيارة المراقد أو لمناسبة عاشوراء أو غيرها يمكن أن يؤدي الى انضمام مندسّين، الأمر الذي لا يستوجب إلغاءها من جانب المعنيين سواءً الحكومة أو رجال الدين المتنفّذين وما يطلق عليهم اسم "المراجع العظام" والمقصود أربعة أساسيين هم آيات الله: السيد علي السيستاني، والسيد محمد سعيد الحكيم، واسحق فياض، وبشير نجفي. ومرّة أخرى أقول إذا كان موقف رئيس الوزراء مفهوماً، فموقف المرجعية غير مفهوم أو لا يزال ملتبساً ويتراوح بين التأييد والتنديد، وبشكل عام ظلّ ضبابياً، من خلال تصريحات الناطقين باسم السيستاني، وأعني بهما الكربلائي والصافي، اللذين ظلاّ على مدى شهرين يحرّضان بشدّة للدفاع عن بعض المطالب الشعبية مثل عدم استحداث المزيد من المناصب الحكومية لمنع ترهّل الدولة وأجهزتها ويتحدثان عن سوء الخدمات وتفاوت الرواتب واستشراء الفساد والبطالة وعدم التلاعب بمفردات البطاقة التموينية، وهو أمر إيجابي، تبنّاه أيضاً المجلس الاسلامي الاعلى وجماعة السيد مقتدى الصدر وقوى دينية أخرى، لكنه عاد عشية تظاهرة 25 شباط الى إصدار تحذير من الاندساس ووضع شروطاً تقترب من الامتناع عن المشاركة، وهو ما جاء متناغماً مع تصريحات رئيس الوزراء، وقبل ذلك دعا السيد مقتدى الصدر الى تأجيل الاحتجاجات لمدة 6 أشهر لإعطاء فرصة للحكومة. وإذا كانت التظاهرات قد نجحت في لفت النظر على الرغم من العقبات التي وضعت في طريقها وإغلاق الطرق والجسور والاعتقالات، التي شملت بعض الصحافيين، وتوقيعهم على تعهدات تذكّر بتعهدات النظام السابق، وأكّدت استمرارها وتجددها، الأمر الذي اضطرّت معه المرجعية الى التأكيد على لسان من يمثلها أنها مع شرعية التظاهرات إذا ما حافظت على الإطار السلمي دون نسيان التعبير عن قلقها، وشكرت المتظاهرين كما شكرت الذين لم يتظاهروا، بمعنى من استجابوا اليها، ودعت حكومة المالكي الى تقديم الخدمات والاستماع الى المطالب، وقال من ينطق باسمها أن المرجعية طالما حذّرت الحكومة من خطورة هذا الاداء، ولقد صبر الناس طويلاً. أستطيع أن أتفهم حراجة موقف المرجعية التي دفعتها الأحداث الى إبداء رأيها والنطق بعد اضطرار طويل الى الصمت في زمن النظام السابق، كما أقدّر حرصها على حماية الأرواح والممتلكات، فهو أمر مشروع ومفهوم، خصوصاً إزاء محاولات الاندساس والعبث، ولكن مثل هذا الأمر قد يحدث أيضاً خلال الزيارات للمراقد وفي المناسبات الدينية، لكنها لم تتخذ الموقف ذاته، علماً أن القضية لا تتعلق هذه المرة بطقوس أو شعائر أو روحانيات، بل إن المسألة تتعلق بصميم حياة الناس واحتياجاتهم الانسانية، لاسيما الضرورية والاساسية. وسبق للكربلائي ممثل السيستاني أن أجاب على سؤال بخصوص تلك المناسبات التي تكرّس لها الدولة كل طاقاتها، وتتعطل الدراسة أحياناً، وأحياناً أخرى تتعطل دوائر الدولة ومؤسساتها ويُستنفر الجهاز الأمني بالكامل وغير ذلك، قال و" إذا تعطلت الدولة "، فالأمر يستحق ذلك، ولكن ألا تستحق الخدمات والفساد والبطالة تسخير كل شيء في الدولة من أجلها، والضغط على الحكومة لتحقيقها، خصوصاً بعد مرور 8 سنوات على الاحتلال؟ ثم ألا يستحق ذلك دفع الناس للتظاهر حتى تستجيب الحكومة لمطالبهم أو تتنحّى إنْ لم تكن قادرة؟ الغضب العراقي ليس استثناءً كما أنه ليس استعصاءً، فقد شهد التاريخ العراقي احتجاجات كاسحة، ولم يصغ الشارع سوى لعقله وضميره ولحاجاته الانسانية والحياتية، فقد أطاحت الاحتجاجات معاهدة بورتسموث العام 1948 وأسقطت حكومات وقادت انتفاضات وثورات في العام 1952 و1956 و1958، وكادت انتفاضة العام 1991 تطيح النظام السابق لولا تعرّضها لمحاولات تحريف وتجويف ومساومة ومؤامرة ولم تكن للمرجعية حينها الدور الذي تلعبه اليوم، فعسى أن نقرأ التاريخ جيداً!؟
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تناقضات المجتمع المدني ومفارقاته
-
رسالة من منصور الكيخيا إلى المثقفين العرب
-
-اشكالية الهوية والمواطنة في العراق-
-
مستقبل الحوار العربي- الصيني!
-
لغز اختفاء موسى الصدر ومنصور الكيخيا!
-
تونس- مصر: أسئلة ما بعد الانتفاضة!
-
ثقافة السلام
-
كوابح المجتمع المدني
-
عواصف التغيير الديمقراطي: أي خريطة طريق؟
-
أخشى من إجهاض الانتفاضة التونسية
-
العولمة: ربّ ضارة نافعة!
-
خطاب القوة والتطرف معكوساً
-
منولوج جو بايدن!
-
خطاب ما بعد الكولونيالية: مراوغات الواقع
-
ما بعد الانتخابات العراقية: استحقاقات وتحديات المستقبل !
-
الغضب المصري بعد الانتفاضة التونسية
-
قراءة تأويلية عن حضارة وادي الرافدين لكتاب متميّز
-
ماذا بعد استهداف مسيحيي العراق؟
-
صورة تونس النمطية: مقايضة السياسة بالاقتصاد!
-
مفارقات انتفاضة الياسمين ودلالاتها!!
المزيد.....
-
هل يضغط ترامب على مصر والأردن لتنفيذ خطته بشأن غزة؟ حسام زمل
...
-
نتنياهو يجيب على سؤال -هل وجود الجيش الأمريكي ضروري- لتطبيق
...
-
زملط معلقًا على مقطع لترامب حول ضم الضفة الغربية: يتعين علين
...
-
السجن لجندي إسرائيلي أساء معاملة فلسطينيين في سجن -سدي تيمان
...
-
شاهد.. هدية نتنياهو لترامب تخليدا لذكرى هجوم إسرائيل على لبن
...
-
بعد خطاب ألقته من المنفى.. متظاهرون يهدمون منزل رئيسة وزراء
...
-
-غزة أرضنا ولن نرحل-.. فلسطينيون في دير البلح يحتجون على تص
...
-
ضربة موجعة للصين: بنما تتخلى عن -طريق الحرير- لإرضاء ترامب
-
سلسلة زلازل تضرب جزيرة سانتوريني في بحر إيجة
-
مسؤول عربي كبير يحدد طريقة إفشال مخطط تهجير سكان غزة
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|