أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - الطيب آيت حمودة - اللغة ...إلهام رباني أم صناعة بشرية ؟















المزيد.....



اللغة ...إلهام رباني أم صناعة بشرية ؟


الطيب آيت حمودة

الحوار المتمدن-العدد: 3303 - 2011 / 3 / 12 - 00:56
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


موضوع نشأة اللغة أخذ حيزا واسعا من البحث والمناقشة من لدن الفقهاء وعلماء اللغة منذ القديم عند علماء الدين المسيح كما عند المسلمين ، فكان الإنقسام بيّنا بينهما ، بين ( مدرسة التوقيف) ، (ومدرسة الإصطلاح ) ، وهو ما يعني أن المسألة خلاف و اختلاف حول موضوع نشأة اللغة ، هل هي توقيف و إلهام رباني ؟ أم هي صناعة بشرية ؟ وبمواصفات الإنسان ، خالية من مظاهر القداسة التي وُصمت بها .
وسأحاول عرض الآراء حول الإختلاف ، مبرزا لأهم الحجج التي ساقها كل فريق ، قصد بلوغ تصور عقلاني حول نشأة اللغة ، هذه اللغة التي يمكن تعريفها بأبسط صورها بأنها وسيلة اتصال بين المرسل والمتلقي ، يتم من خلالها بعث رسالة صوتية تعبر عن شيء ما ، يستقبلها المتلقي مطابقة لما أرسله المرسل ، أو أحيانا غير مطابقة تماما ، تبعا لمستواه، وهي متدرجة من حيث السهولة والتعقيد من الحسي إلى المجرد إلى الرمزي ،ويُعرف ابن جني اللغة ((بأ نها أصوات ُيعبر بها كل قوم عن أغراضهم )) [ 1] وهناك من يعرفها تعريفا قاموسيا بأنها من فعل ( لغا) أي تكلم ، ومنه ( اللغو ) .
**تقديري أن الترجيح وإصدار الحكم حول المختلف عليه يتطلب تفكيك الظاهرة ، وفهم مدلولها لتحديد موقف (أتوقيفٌ هي وَوَحْيٌ، أم اصطلاح وتواطؤ[ 2] ، لأن الموضوع شديد الحساسية ، وتطرح فيه غالبا أسئلة من قَبيل ( متى؟ ، وكيف ؟ وأين ؟ ، ولماذا ؟ ) الإجابة عنها تتطلب منهجا علميا ، والعلم كما نعلم لم يفصل بعد ُ في المسألة قيد الطرح ، وهو ما يجعل الأحكام فيها تخمينية ضنية تأويلية أكثر منها علمية ، ولأكون واضحا فسأستعمل لغة اليوم في عرض الأفكار وطرحها :
1)أصحاب الرأي الأول ( اللغة توقيفية ) يعني أن )الله ( مصدر اللغات البشرية جميعها ، فهو الذي علم آدم الأسماء كلهاَ ، وبين الفقهاءُ بأن المقصود بالأسماء هي (اللغة) ، وأنها تقصدُ مسميات الأشياء جميعها ، وبجميع اللغات العالمية من العبرية والسنسكريتية والعربية ...... إلى لغة الزولو . يعني بالمفهوم البسيط ، أن آدم عليه السلام يعرف اسم [ الجبل ] بالسنسكريتية والعربية والأنجليزية و البنغالية الأوردو ، وهو ما يعني أن اللغات منزلة كالقرآن ، لا مجال للإبداع فيها فكل شيء مخلوق فيها مسبقا بتقدير العزيز العليم ، فهي هبة ربانية ومنحة سماوية غرضها التواصل والتفاهم بين البشر .
وقبل تحليل فرضيات هذا الرأي يستحسن دغدغة الفكر بجملة من الأسئلة الإفتراضية التي تدعم آليات الرغبة في الإستزادة وطلب المعرفة والتي يمكن تسميتها بالحوافز ، ولست هاهُنا ملزما بالإجابة عنها )وإن جاءت الأجوبة عن بعضها عرضا ( ، لأني راغب في ترك هامش المناورة لصالح القاريء المتمعن ليصدر تصوراته و رأيه بنفسه ،فالغرض هو إعمال الفكر وتنشيط الذاكرة لبلوغ تصور يرضي الدين والعقل معا .
• هل تفسير الآية ( وعلم آدم الأسماء كلها ) تعني ( اللغة) وهل تعني فعلا أن الله هو خالقُ اللغة ؟ أم أنها تعني خلق استعدادات مفطورة وغرائز قوية في النبي آدم تسمح له بخلق لغة يتفاهم بها مع زوجه وأولاده .
•هل اللغة التي زُود بها آدم لغة واحدة ، أم لغات ؟ وما هي هذه اللغات ؟
•هل اللغة العربية هي لغة آدم فعلا ؟ ، أم أن لغة آدم اندثرت بفعل اندثار البشرية زمن الطوفان ؟
•ماهي المعروضات التي عرضها الله على الملائكة أهي محسوسات أم مجردات ؟
•وهل (هؤلاء ) المذكورة في الآية ( بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) تشير للعاقل أم للجامد .
** وتحليلا للرأي يستحسن الرجوع إلى مصدره الأساس من القرآن من سورةالبقرة الآية 31 (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ،ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ، التي فسرها أهل الحديث بأطناب دون اتفاق ، فقد ورد في تفسير ابن كثير موضحا : ( وقال السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : وعلم آدم الأسماء كلها قال : عرض عليه أسماء ولده إنسانا، إنسانا ، والدواب ، فقيل :هذاالحمار ،هذاالجمل،هذاالفرس)،(وعلمه اسم الصحفة والقدر،قال:نعم حتى الفسوة والفسية (،علمه اسم كل دابة ، وكل طير ): اسم الحمامة ، والغراب ، أسماء النجوم( ،علمه أسماء ذريته كلهم، وصدر إجماع مفاده أن الأسماء مقصود بها اللغة بشمولياتها من أسماء الأعلام ، والدواب ،والأشياء المختلفة ، فالله علم آدم الاشياء وخواصها والحقائق ومعانيها، (الأسماء و ألأفعال والحروف ) ، ولم يكن التمييز بين أسماء المحسوسات والمجردات واضحا في التفاسير .
** أفلاطون بدوره كان يرى بأن اللغة هبه من الله أي أنها) توقيفية( وهي وحي وإلهام من قبل الله ، أوحاها إلى البشر . والفريق الثاني تزعمه أرسطو الذي يرى أنها اصطلاح وتواضع من قبل أبناء البشر، وكانت أوروبا في العصر الوسيط فقد سيطر برهانها على العقل أكثر من النقل .
**أما أهل اللغة ففيهم الجاحظ القائل بالتوقيف ، مذكرا بأن الله فتق لسان اسماعيل بالعربية ، ليكون دليلا على نبوته ، قائلا ( وقد جعل الله اسماعيل وهو ابن عجمين عربيا ، لأن الله لما فتق لهاته بالعربية المبينة على غير النشوء والتمرين ، جعل ذلك برهانا على رسالته ودليل على نبوته ، وصار أحق بذلك النسب وأولى بشرف ذلك الحسب [ [3، وأوضح ابن جني في كتابه الخصائص أن أستاذه ( ابو علي الفارسي ) كان يقول ) بأنها من عند الله ( ، وكان للأعاجم مثل طوماس الأكويني وهراقليطس نفس الرأي .
*أما الكناية الوا ردة ) ثُمَّ عرضهن أَوْ عرضها( فلما قال "عرضهم" عُلم أن ذَلِكَ لأعيان بني آدمَ أَوْ الملائكة، لأن موضوع الكناية فِي كلام العرب يُقال لما يَعقِل "عرضهم" ولما لا يعقل "عرضها أَوْ عرضهن" - قيل: إنما قال ذَلِكَ والله أعلم ، لأنه جَمع مَا يَعقل وَمَا لا يعقل فغلَّب مَا يعقل، وهي سنّة من سنن العرب، أعني باب التغليب. وذلك كقوله جل ثناؤه: "والله خَلق كل دابة من ماء: فمنهم من يمشي عَلَى بطنه، ومنهم مَن يمشي عَلَى رجليْن، ومنهم مَنْ يمشي عَلَى أربع" فقال: "منهم" تغليباً لمن يمشي عَلَى رجلين وهم بنو آدم.
*قال أبو الحسين أحمد بن فارس في فقه اللغة: اعلم أنَّ لغة العرب توقيفٌ؛ ودليل ذلك قولُه تعالى: "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا"، فكان ابنُ عباس يقول: عَلَّمَه الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارفُها الناسُ؛ من دابَّة وأرضٍ، وسهل وجبل، وجمل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
*وورد في الأحاديث في مصادر الجميع أن اللغة التي كان يتكلم فيها آدم ونوح عليهما السلام هي السريانية ، أي البابلية القديمة ، والتي بقي منها إلى اليوم أثر في العراق وسوريا .
مجمل القول في هذه النظرية ( التوقيفية ) أنها تنحو باتجاه الدليل النقلي أكثر من العقلي ، وأن الفقهاء والمفسرين وعلماء اللغة اختلفوا وتباينوا في تفسير ( الأسماء) الواردة في الآية [ وعلم آدم الأسماء كلها ] ، فمنهم من رآها أسماء كلها من ملائكة وبشر وأنعام مثل ابن فارس ، الذي فسر الضمير العاقل (هم) في ( عرضهم على الملائكة ) أنها من باب التغليب ، ومنهم من قال بأنها أسماء ملائكة ، ومنهم من قال بأنها أسماء لذرية آدم ، وفيهم من رأى بأنها أسماء أنبياء ، أو أسماء كل الأشياء ، أو أنها أعلام دون غيرها ، كما اختلفوا بشأن عدم ورود الحروف والأفعال في الآية وهو ما وقع بين السيوطي وابن جني ، وفي هذا الإختلاف مدعاة للتأمل ، لعل تفسيره الأكبر نجم عن اختلاف في التأويل والتباعد الزمني بين الخائضين في الموضوع .
2)أصحاب الرأي الثاني ( اللغة إصطلاحية ) أو ما يسميه ابن جني (بالمواضعة) التي من مشمولاتها ومكونانها الإنسان ، الحرية ، القدرة ، الإبداع ، اللغة ، أي أن اللغة من إبداع الإنسان لما يتمتعُ به من حرية واقتدار .
وهو ما يعني بفهمي المتواضع ، أن الله زود آدم وذريته من بعده بآليات ا لإبداع والإكتشاف وقدرة فائقة على الإصطلاح ، والإتفاق على مدلولات الألفا ظ ، كالتفاهم على مدلول الأسماء المادية ( جبل ، نهر ، طاولة ) والمعنوية ( حرية ، الأبارتيد، الثقة ) ، وهو دال على أن الإنسان مبدع اللغة التي يستعملها في حياته تبعا للبيئة الطبيعية التي يعيش فيها ، أو أننا نقول بأن اللغة صناعة بشرية.
*هل الأسماء تعني تزويد آدم بجميع بالمسميات ، وفي جميع اللغات التي تم تداولها من بعد ؟
وتوارثتها الإنسانية خلفا عن سلف ، ؟ لا دخل للإنسان في صناعتها كمفاهيم تستعمل .
*هل المقصود بالآية ، تزويد النبي آدم بقدرة عقلية منغرسة في ذاته وعقله ( مركز اللغة ) مكنته من معرفة الأشياء بمسمياتها ؟
* هل الإنسان لم يكن له دور في صناعة اللغة التي يستعملها ؟ فهو ورث اللغة واستعملها سابق عن سابق .
**أصحاب هذا الرأي لهم حججهم ومنطقهم ، ودليلهم تطور تبعا لتطور البشرية ،فما كان مبهما اتضح بفعل التمددات الحضارية والإنجازات التي فسرها العلم والعقل ، وصاغوا الكثير من الحجج أذكر بعضا منها تجنبا للإطالة .
2-1 )حجج أهل النقل :
* وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" وهو ما يعني بأن اللغة سبقت الرسالة ،والأنبياء جاءوا على أقوام تتكلّم لغات ،ولو كانت اللغة توقيفية لجاءت بعثة الأنبياء ـالذين علمهم الله اللغة ـ قبل الرسالة. فالقرآن الكريم نزل بلغة قوم العرب الذين يتداولونها بالسليقة ، ليكون حجة عليهم [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ، [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت : 44] .
*"وعلّم آدم الأسماءكلّها " ؛ أي أوجد فيه القدرة على تعلّمها فتعلّمها وحده ،وهذه الآية هي دليل عند أصحاب النظريتين التوقيف من جهة ، والاصطلاح من جهة أخرى) ولكن كلّ اتّجاه فسّرها بشكل مختلف كما ترى.حيث نُسِب وضع الأسماء إلى البشر لا إلى الله.
* ورد في موضع آخر من القرآن الكريم قوله تعالى: ( إن هي إلاّ أسماء سميتموها ) ، )…. أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ([الأعراف : 71] ، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى [النجم : 23] ، وهي دليل نقلي على قدرة الإنسان على تسمية الأسماء والأشياء .
* جاء في سفر التكوين الأصحاح الثاني ما يدعم هذا الرأي، أي القول بأن آدم هو من وضع الأسماء، ولكن الله وضع فيه القدرة على وضعها، ونصه: ( وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حيّة فهو اسمها . (سفرالتكوين 2/19 ) .
2- 2 )حجج أهل العقل :
* فإذا كان الله قدعلّم آدم الأسماء فهذا يعني أنّه كان يشير إلى الشيء بالجارحة (اليد) ثم يسمّيه لآدم ، وهذا غير مقبول ؛ لأنّ الله لا جارحة له. وبما أن اللسان يحتاج إلى الإيماءة والإشارة والحواس ، فإنها أشياء لا تجوز في حق الله ، بل هي من سلوك الإنسان ، ومن ثمة فاللغة من خلقه ( أي الإنسان ).
*عدم جواز وجود لغة ربانية توقيفية مع وجود تضاد فيها (كلفظ " الجون " المحتمل لمعنيين متضادين في نفس الوقت هما، الأبيض والأسود، على السواء )لأن هذا التضاد تناقض يتنافى والحكمة الإلهيّة، كما أنها لو كانت من عند الله ( لما كان للشيء الواحد أسماء متعددة ،وللإسم الواحد معان كثيرة (.ولأن حدوث الترادف، والاشتراك، والتضاد في اللغة - دليل على أن اللغة ليست كلها توقيفا أو إلهاما.
* اكتساب اللغة في نظر العالم النفساني بياجيه ليس عملية إشراطية ،ولكنها عملية إبداعية ، فاكتساب القدرة على تسمية الأشياء والأفعال تكون في البداية عملية تقليد يجري لها تدعيم مناسب فيستمر الطفل في تكرارها وتأديتها دون أن تستقر في حصيلته اللغوية ونظامه اللغوي بشكل نهائي وهذا ما يسميه بياجيه بالأداء أما الكفاءة ،ففي البداية يحتاج الطفل لأن يكون المدلول الذي يعبر عنه بالرمز اللغوي موجودا في مجاله الحسي ولكن ببلوغه المرحلة التي يستطيع فيها أن يكون صورا ذهنية ثابتة أو مفاهيم عن الأشياء والأحداث فإنه يصبح بإمكانه التعبير عنها باستخدام الكلمات (الرموز) الدالة عليها دون الحاجة لأن تكون ماثلة أمامه.
*فإبن جني [4] الذي كان مستحسنا لرأي الإصطلاح الذي يسميه ( المواضعة ) باعتباره مذهبا طبيعيا يجعل من الأصوات المسموعة الأصل في كل اللغات ويقدم أمثلة كحفيف الريح والرعد وخرير المياه ، ولعل في قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل أمثلة صريحة عن ذلك ، وهي القصة التي تدور أحداثها حول طفل نشأ وحيدا في جزيرة من جزر الهند ،تحت خط الاستواء منعزلا عن الناس, في حضن ظبية قامت على تربيته وتأمين الغذاء له من لبنها وما زال معها, وقد تدرج في المشي وأخذ يحكي أصوات الظباء ويقلد أصوات الطيور ويهتدي إلى مثل أفعال الحيوانات بتقليد غرائزها, ويقايس بينها وبينه حتى كبر وترعرع واستطاع بالملاحظة والفكر والتأمل أن يحصل على غرائزه الإنسانية .
*لو أن آدم عليه السلام ألهمه الله كل الأسماء والكلمات والحروف كما يؤول الفقهاء ، أو يرى بعض اللغويين لزوده الله كذلك بأسماء المخترعات الجديدة المتداولة في أيامنا ( صاروخ ، تلفاز ، براد ، ترانزبستور ) وهي غير معروفة سابقا وإنما تم عليها التواضع .
* ترجيح بعض فلاسفة اليونان مثل ديموكريت وأرسطو قول ابتكار الإنسان للغته وقالوا بأن اللغة لا يعقل أن تكون إلهاما وإنما موهبة إنسانية ، مخالفين رأي شيخهم إفلاطون .
*لو أن اللغة توقيفية لما جاز لنا أن نُدخل فيها شيئاً، ولما كانت هناك مجامع لغوية في دمشق والقاهرة ، تترجم وتبحث عن الإشتقاقات لتضع للأشياء والمبتكرات أسماء عربية ، ألا ترى بأن لغتنا العربية اليوم ندخلُ فيها من مصطلحات العلوم والفنون الشيء الكثير ؟ ألا ترى أننا ننقل دلالات بعض الألفاظ كالسيارة، والدراجة وما شابه ذلك ، وكثيرا ما كان العجز ، لأن وتيرة الإبداع فاقت قدرة ترجمة المصطلحات الجديدة .
* يذكر (سيبويه( في المصادر التي جاءت على وزن فَعَلان أنها تأتي للإضطراب والحركة نحو: )النقزان والغليان كجيشان و وهذيان (، (فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال )، وقيل بأن اللغوي إبن جني أخذ بهذا الرأي ورجحه بقوله: ( وذهب بعضهم إلى أنّ أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوِيّ الرعد ، وخرِير الماء ، ونهيق الحمار ، ونعيق الغراب ،وصهيل الحصان ، و بطبطة البطة ، وفحيح الثعبان ، ونقنقة الدجاج ، وأزيز الذبابة ، ومأمأة الخروف ،ونحو ذلك من الأصوات ، ثم ولدتِ اللغات عن ذلك فيما بعد ،وهذا عندي وجه صالح ومذهب مُتقبَّل ) ، وهوما رجحه الكثيرمن علماء العصر الحديث في الغرب ، وأكدوا بأن اللغة نشأت عن طريق محاكاة الإنسان للأصوات الطبيعية التي كان يسمعها من حوله .
3) لغة العرب من لغة آدم إلى لغة أهل الجنة .
المتتبع لما يكتب يلحظ أن العربية تعرضت إلى ما تعرضت لها اللغات الأخرى بشأن الإختلاف هل هي توقيف أم إصطلاح ؟ خاصة وأن التاريخ لم يسجل لنا طفولة هذه اللغة ، التي وصفوها بكونها معجزة الذهن البشري ، وبأنها أقدم من التاريخ نفسه ، وبأنها هي التي أمدت بزادها وألفاظها أكثر لغات العالم ، ففي كل لغة منها أثر ، وأجمع كثير من المشتغلين بها على أنها لغة توقيفية ، ( كإبن عباس ) الذي وضح بأنها توقيف ، وأنها لم تأت جملة واحدة ، ولا في زمن واحد ، فقد علم الله آدم ما احتاجه منها ، ثم علم من بعده الأنبياء العرب نبيا نبيا حتى انتهى الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وعن عربية إسماعيل يقول ابن النديم(المتوفى سنة 438هـ): ((فأما الذي يقارب الحق وتكاد تقبله النفس أنه تعلَّم العربية من العرب العاربة من آل جُرْهُم ... ولم يزل ولد إسماعيل يشتقون الكلام بعضه من بعض ، ويضعون للأشياء أسماء كثيرة بحسب حدوث الموجودات وظهورها. فلما اتسع الكلام ظهر الشعر الجيد الفصيح في العدنانية، وإن الزيادة في اللغة امتنع العرب منها بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لأجل القرآن)) ، وفي قولي ابن عباس وابن نديم يكتشف الحصيف الإختلاف .
وتلك شهادات ذاتية بقيمة اللغة العربية التي وُصمت بهالة من القدسية التي لا تلزم إلا قائليها ، من قبيل أنها لغة ( آدم) عليه السلام ، وبأنها لغة أهل الجنة ، وأنها لغة توقيفية من الله ، وهي اعتقادات خلافية كثيرا ما دحضها الدين و نقضها العقل ، ففي عالمنا اليوم يكفي أن تسأل وتأتيك الأجوبة موثقة بأصولها عبر النت ، وهو ما ساعد على استجلاء الكثير من المعتقدات الباطلة منها ما أشار إليه ابن حزم الذي عاش في القرن 11 ميلادي ، في أحكامه قائلا : (وقد توهّم قومٌ في لغتهم أنّها أفضل اللغات، وهذا لا معنى له ، لأنّ وجوه الفضل معروفة، وإنّما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للّغة، ولا جاء نصّ في تفضيل لغة على لغة ، وقد غَلِطَ في ذلك جالينوس، فقال: "إنّ لغة اليونانيّين أفضل اللغات، لأنّ سائر اللغات إنّما هي تشبه إمّا نباح الكلاب أو نقيق الضفادع". وهذا جهلٌ شديد لأنّ كلّ سامع لغة ليست لغتَه ولا يفهمها، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق. وقد قال قوم: "العربيّة أفضل اللغات لأنّه بها كلام الله تعالى". وهذا لا معنى له ، لأنّ الله عزّ وجلّ قد أخبرنا أنّه لم يرسل رسولاً إلاّ بلسان قومه.( [5]
وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : بماذا يُخاطب الناس يوم البعث ؟ وهل يخاطبهم الله تعالى بلسان العرب ؟ وهل صح أن لسان أهل النار الفارسية وأن لسان أهل الجنة العربية ؟
فأجاب: " لا يُعلم بأي لغة يتكلم الناس يومئذ ، ولا بأي لغة يسمعون خطاب الرب جل وعلا ؛ لأن الله تعالى لم يخبرنا بشيء من ذلك،ولا رسوله عليه الصلاة والسلام ، ولم يصح أن الفارسية لغة الجهنميين ، ولا أن العربية لغة أهل النعيم الأبدي ، ولا نعلم نزاعا في ذلك بين الصحابة رضي الله عنهم ، بل كلهم يكفون عن ذلك لأن الكلام في مثل هذا من فضول القول ... ولكن حدث في ذلك خلاف بين المتأخرين ، فقال ناس : يتخاطبون بالعربية ، وقال آخرون : إلا أهل النار فإنهم يجيبون بالفارسية ، وهى لغتهم في النار . وقال آخرون : يتخاطبون بالسريانية لأنها لغة آدم وعنها تفرعت اللغات . وقال آخرون : إلا أهل الجنة فإنهم يتكلمون بالعربية" وكل هذه الأقوال لا حجة لأربابها لا من طريق عقلٍ ولا نقل بل هي دعاوى عارية عن الأدلة والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم [6]
4)ملا حظات أراء :
* قد يرى الكثير من السلفيين أن معالجة هذا الأمر ضلالة ومن فضول القول ، وأن الكلام الصحيح ما قاله سبحانه وتعالى من أنه ( علم آدم الأسماء كلها ) ، وأنا أرى كما يرى الكثيرون من أمثالي بأن تشديد القول بالتوقيف لم تستوجبه العقيدة ، والقول بالإصطلاح لا يشوش عليها ، فمقولة التوقيف ليست بالسنية المحضة ، وإنما قال بها المعتزلة ، كما أن مقولة ( الإصطلاح ) ليست معتزلية بتمامها ، فقد رجحها الباقلاني وهو ليس معتزليا ، كما أن ابن تيمية قد أشار بأن المعتزلة ليسوا في مرتبة واحدة .
* لا أستطيع التقيد بما ورد على لسان أهل الحديث من تفسيرات فهم جناح ، رأيه لا يكتمل إلا بالمقابلة مع أهل الرأي ، الذين يمثلون جناحا آخر بفضله يتم الطيران ، فقد يكون في تأويل الآية المعنية ما لا يتطابق مع فكر اليوم مادام ديننا يتطابق مع كل زمان ومكان ، كما أن عقيدتنا حرضتنا على استعمال المنطق والعقل ، فقد ورد في كتابنا العزيز عبَارة ( العقل في 49 آية باللفظ ، وزهاء 300 آية أخرى مرادفة للعقل ، كما أن عقيدة المقلد غير صحيحة إذا لم يتوافق فيها صريح المعقول مع صريح المنقول ، فالعقيدة يا سادة مسألة نظر واستدلال .
* فأنا في حقيقة الأمر قبل ولوج موضوع نشأة اللغة والإطلاع على ماورد فيه من رأي مختلف ، كنت مقتنعا في داخلي بأن اللغة صناعة بشرية ، فالله زود الإنسان بقوة فكرية وذكاء ، وقدرة على التوليد والمحاكاة سمحت له بابتكار لغة متجاوبة مع نمط عيشه وبيئته ، فاللغة العربية التي نجيدها وليدة البيئة الصحراوية ، فلهذا فهي تأخذ صفات البيئة التي نشأت فيها ، تسميات الحيوانات البرية وظروف الطبيعة وعلائق الإنسان بالرمال ، وتعدد مرادفات الأشياء التي لا يمكن أن نجدها في اللغة الأنجليزية التي تشكلت عند أقوام مختلفة بطبائع أخرى وبيئة مخالفة باردة تكثر فيها تسميات متباعدة عما هو في العربية .
* تفسيرات وتأويلات ومفاهيم أجيال الماضي تختلف عما هو الآن ، فالقول بنشأة اللغة التوقيفي يتعارض وحقائق اليوم ، حيث الإبداع البشري بلغ مستو رفيعا يفوق التقديرات ، وهو ما يشير إلى أن ابتكار اللغة أمرا ميسورا عند البشر ، فهو الذي اخترع الطائرات النفاثة ، ورصد الفضاء وبلغ القمر ، واخترع الكمبيوتر و أجهزة التَّحسيس القريب والبعيد ، و ابتكر لغات الحواسب ، فالله هو الذي زوده بإمكانية الإبداع والخلق .
* مسألة خلق اللغة ، شبيهة بالكلام في ( خلق القرآن ) ، وهي أقرب من مسألة (الجبر والإختيار) ، وتلك كلها مسائل نالت حظها من القول والقول المضاد ، وتسببت في حدوث مدارس كلامية حول الشأن ، وتلك ظاهرة ايجابية خلقت دينامية فكرية أيام العباسيين تحت تأثير الترجمة ونشاط بيت الحكمة في بغدان .
-الهوامش------------------------------------------------
[1] و [2] ابن جني ، كتاب الخصائص ، ص10 إلى 12.
[3] عبدالصبور بن شاهين ، علم اللغة العام ، ص 69/70 .
[4]عثمان بن جني الذي عاش في القرن ( الرابع الهجري ) في كتابه ( الخصائص ) برأي منقسم بين التوقيف والإصطلاح إلا أنه كثيرا ما يرجح رأي المواضعة في نشأة اللغة .
[ 5] ابن حزم ،(الإحكام في أصول الأحكام، 1/32(.
[6] ابن تيمية ، "مجموع الفتاوى" (4/299) .



#الطيب_آيت_حمودة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لسنا الأفضل.... ولغَتنا ليست أفضل اللغات.
- الناطقون بالعربية من غيرالعرب .... هل هم من قومية عربية ؟
- الأزمة البربرية (BERBERISMES ) ومفهوم (الجزائر الجزائرية ).
- سيفُ القذافي ... إن لم يُقطع قطعَ !!؟ .
- القذافي وليبيا ، أين المنتهى ؟
- نجاح ثورة ليبيا ... هي إنذار ثالث للأنظمة العربية .
- الجزائر .... وعبرة الإنتفاضات المجهضة .
- أين الخلل في بوتفليقة أم العسكر ؟
- ثورة مصر في الميزان .
- الريس بين التنحي الرحيم .... والتنحي الرجيم ؟!!
- من يوم الغضب ...إلى يوم الرحيل .
- في ميدان التحرير.....مصر لمن غلب !!
- المظاهرة المليونية .... وخطاب حسني مبارك ؟؟
- في مصر ... جيش ، شرطة ، بلطجة ..وأشياء أخرى .
- .... مصر ثانيا .... فمن الثالث ؟
- ثورة تونس ! ... ياصاحبة الجلالة والعظمة!
- علي الحمامي والقومية المغربية (*) .
- من يريد إجهاض ثورة تونس ؟
- دستور الجزائر 1963 ، من منظور أول رئيس للمجلس التأسيسي الجزا ...
- ثورة يناير بتونس ... دروس وعبر .


المزيد.....




- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...
- “ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي ...
- طقوس بسيطة لأسقف بسيط.. البابا فرانسيس يراجع تفاصيل جنازته ع ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - الطيب آيت حمودة - اللغة ...إلهام رباني أم صناعة بشرية ؟