أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نقوس المهدي - العقيد في متاهته















المزيد.....

العقيد في متاهته


نقوس المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 3299 - 2011 / 3 / 8 - 19:43
المحور: الادب والفن
    


العقيد في متاهته


كان العقيد في منتهى إنهاكه البدني حين قرر الدخول الى غرفة الحمام بعد جولة ميدانية أمطر خلالها أعدائه بوابل من القذائف والبارود والقنابل والشتائم، كانت الغرفة واحدة من إثني عشر حماما، لا يزيد طولها وعرضها ولا ينقص عن عشرة أمتار، علقت على بابها حدوة حصان جلبا لليمن ودرءا للعين.
تمدد في الحوض المرمري الفسيح، فتح الصنبور فسال منه خيط رفيع من الدم القاني، أحس باللزوجة فوق جسده، واستسلم لسخونة السائل، الحقيقة أن دفء الحوض ورفاهية الغرفة منحا العقيد شعورا باللذة والإسترخاء والكسل والأمان والطمأنينة، فداهمته الهواجس وشرع في رسم مخططات جهنمية عن كيفية التخلص من شعب فطن لأسرار اللعبة، ولم تعد تنطلي على افراده الحيل والدسائس، ولا تجدي معهم فنون الخداع، وبدات الوساوس والشكوك والملل يتسرب الى دواخلهم ويتمكن من نفوسهم، فلم يعودوا يطاوعونه، حتى أنه فكر في لحظة طيش بأن يبيدهم باكملهم، وراهن على سبعة ايام وثمانية ليال باشراقاتها وغروبها بحرها وبرودتها بلياليها ونهاراتها، بجوعها وعطشها، لتطهير البلاد من الجرذان شبر شبر... بيت بيت... دار دار... زنكَه زنكَه... فرد فرد.....، واستبدالهم بمواطنين آخرين مغايرين لهم تماما في اللون واللغة والدين، يستوردهم من أقاصي أدغال افريقيا، أكثر لطفا ورقة وطاعة، وأكثر جلدا على الإهانة والأذى والحرمان، وأكثر تعقلا وتحملا للجوع والتعب والمصائب، وأكثر صبرا على الإضطهاد والإذلال، شعب جديد أقل غضبا وإلحاحا، طيع مسالم ووديع كالدجاج، وقادر على استساغة نظرياته الشيطانية من دون رد فعل ولا رد كلام.


راقته الفكرة فبدأ يدندن بمقطع أغنية ريفية أفلحت الجدران الأربعة وكثافة البخار بتفخيم نبراتها وترديد صداها، وأسلمته لأحضان غفوة لم يوقظه منها سوى حلما رأى فيه نفسه يمشي قي صحراء واسعة مترامية الأطراف، تتململ كثبانها في نحو تجاذبي تود ابتلاعه، وثعابين صفراء وزواحف تحاول الدخول من شق ثغره، شعر بالإختناق، كان الدم يبقبق على مستوى أنفه، ويسيل من حافة الحوض على أرضية الحمام، وفمه المتهدل النصف مفتوح ممتلئ بقطع من الدم المتختر، وفلول الضياء تتقهقر أمام غبش الغروب الوشيك ..


أحس باختلاج في جفن عينه اليسرى، وأدرك أنه لم يكن في حلم، بل في يقين لحظة حاسمة لا يطيق تحملها، فحاول يائسا طرد أطيافها بكل التحفظ بأحلام أخرى مخملية ووردية، وخلق أحداث جديدة أكثر أشراقا وزهوا، تكون أجدى ملاءمة لحالته النفسية المخزية، لكنه ظل عاجزا عن لملمة شتات أفكاره، وحاول التخلى عن إصراره العنيد دون جدوى، هو الذي لم تجرؤ قط ذبابة على أن تحط فوق أرنبة أنفه، ولم تسلم دون أن تنال جزاءها ..


كانت رؤى المفازات والثعابين والخفافيش والعظايا والحيوانات الكاسرة هي الأشياء التي تراود أحلام لياليه الموحشة على الدوام، بقايا من ذكرياته الآبقة من سنين الجذب والحرمان حين كان يفترش خشونة الحلفاء في أعماق الصحاري القاحلة الموجعة، حيث رأى النور لأول مرة من أم نحيفة محدودبة الظهر على مشارف سن اليأس، وأب قليل الكلام كان يشغل راعي إبل لدى إحدى أفخاد قبيلة زناتة البربرية. وأمر بإحضار كافة مفسري الأحلام والعرافين والمنجمين وكتاب التعاويذ والحواة على وجه السرعة كي يفتونه في أمره، بما يسعفهم به كتاب " تفسير الأحلام " لإبن سيرين، وكتابا " الرحمة في الطب والحكمة " و" بدائع الزهور في وقائع الدهور"، وبما يستطيعون إسعافه به من أشربة وعقاقير يحشون بها جوفه، وتمائم وطلاسم ورقيات تهدئ من روعه وتجبر خاطره .


في الخيمة، ولأنه كان دائم الظهور بمنظر المتقشف في عيشه، تحامل على عجزه وغضبه وتوثره وشروده، وتظاهر بالجد والحزم كي يبدو متماسكا أمام ناظريه، استعرض تشكيلة من الكواعب الحسناوات اللينات الطريات اللحم كالزبد، وصيفات، وحاجبات، وطاهيات، وحارسات، ومدربات، ونديمات، وممرنات، ممرضات، وراقصات، ومقلمات اظافر، ومدلكات، وحلاقات، وكاتبات خطب ورسائل وتواريخ، وقارئات كف، وحكواتيات، ومدونات مذكراته وسيرته الذاتية جئن لعرض خدمات وخطب وبرقيات وكراريس وجذاذات أفنين أبصارهن في نسخ ومحو تفاصيلها المملة، لم يكن يعنيه في الدنيا سوى التفاخر وجمع المال والثروات، ولم يكن قد راى في صباه نسوة قط، ولا سهر الليالي تحت نافذة حبيبة مستحيلة، كانت حياته جافة خالية من كل ملذات الدنيا، وكل الأشياء مثل باقي الأشياء، لايختار منها إلا ما يعينه على إعلاء صورته في عيون نسوة الرعية، وما تسبغه عليه المدائح من أوهام فاسدة كافية لشد أزر مجده الآفل والآهل للسقوط ..


امر كاتبة خطبه بأن تعد له خطبة وطنية لا تتجاوز مدتها أربعين ثانية، أربعين ثانية كافية لكبح جماح شعب غاضب، يعيد قراءتها كما وضعتها في أذنه، وهو تحت فيء مظلة شتوية، كان عندها في عامه الواحد والأربعين من حكمه المطلق، وفي السنة السبعين من عمره حين أرغمته ظروف هزيمته وغضب الشعب على التنقل متنكرا بين العشائر والقبائل والمداشر ممتطيا ناقته العشارية، معتمرا قلنسوة من تروس السلاحف، ومتلحفا ب" جرد " بني أشد مقاومة للأوساخ، مشغول بوبر عشرين جملا. مسترجعا حلمه المرعب، ومتبوعا بتجريدة من نساء المايا الخلاسيات، لا أسماء محددة لهن، يكتفي فقط بمناداتهن بعيشة، وعويشة، وعيوشة تيمنا بابنته الوحيدة التي اردتها رصاصة طائشة حين كان يقنص الوحيش في الصحراء.


لم يكن أكثر جرأة ليقترب من غضب المتظاهرين الذين رابطوا حول خيمته، وتجرأوا على مخالفته، والذين كان يتوعدهم دوما بالحاق شتى العقوبات الجزرية بهم، ولا يتورع عن تهديدهم بدفنهم أحياء، أو بحلق رؤوسهم في الوقت المناسب بشظايا الزجاج .


كان العقيد يهاب دوما الموت بالسم أو بطعنة خنجر، ويشعر بأن الكل يتجسسون عليه، ويحاولون استغفاله، ولم تزده السنون التي أمضاها مهووسا بجمع المال والنساء إلا شكوكا في أقرب المقربين إليه، ومزيدا من الكرب والعناد والصلابة والغرور أكثر مما منحته من الفطنة واللباقة وطول الصبر ورباطة الجأش. لهذا ظل يتوقع خطرا محدقا من غزاة وهميين قادمين من بعيد، وعلى وشك الإقتراب من مضارب عشيرته، ويخيل إليه أن ظلال فلولهم تتماج على كثبان الرمال المتحركة، وتتناهى إلى مسامعه وثبات خفوفهم، وصليل سيوفهم وصنجاتهم كالهمس، أيقن أن قتاله لافائدة من ورائه، وأن مقاتليه الذين كانوا يكافحون بتفان عن فك عزلته سيتخلون عنه لامحالة، وأن حتفه أصبح وشيكا، وجثته ستدوسها سنابك الخيل، وتلغ فيها الضباع والعقبان، وليس هناك من حصان طروادة كي يختبئ في جوفه.


في الهزيع الأول من الليل شوهد العقيد وهو يتسلل من تحت الستار الخلفي للخيمة، مهرولا عاضا على طرف برنسه بأسنانه المدببة، وقد خيل لمن رآه انه كان في حالة ارتباك قصوى، كمن أدركته الحاجة، أضرم النيران في خيام العشيرة، هدم جميع تحصيناته، دك خزائن مؤونته، وساق بهائمه، وهام على وجهه متوغلا في أعماق بيداء لا قرار لها، تصده قبيلة، وتطرده أخرى، وتطارده قبائل، وتعوي في أذنيه ذئاب البراري الجائعة، كان على دلتا النهر الإصطناعي العظيم حين أطبقوا الطوق عليه، وسدوا بوجهه كل المنافذ والسبل، أحس أنه ساقط لامحالة، سحب المسدس أمام دهشة واستغراب الجميع، داس على الزناد، وسمع دوي في الجهات القصية للكون، قبل أن تسكن الإطلاقة داخل تجويف الصدغ الأيمن ..



#نقوس_المهدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تنظيم القاذفان في ليبياستان
- العقيد الهمام وابنه زيف الأحلام
- القذافي بين ليبيا والفوبيا
- مصر التي في خاطري...
- يا أيها الغالب في مدائحي
- حتى انت يا جابر عصفور
- المدام ذات الكعب العالي - أقصوصة
- مقامات العنين والبهكنة
- رمز السندباد في شعر محمد علي الرباوي -2-
- محمد علي الرباوي; ما يشبه الشهادة أو أقل
- رمز السندباد في شعر محمد علي الرباوي
- مواقف ومخاطبات لا تلزم النفري
- حين كان الحب ديني وإيماني‏‏
- مضاعفات الفروقات اللغوية
- جئت لأزف إليكم بشرى موتي
- وليمة سقراط الأخيرة
- أربع سنوات على تأسيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالي ...
- لا عدالة ولا تنمية في حزب العدالة والتنمية
- المواطن المغربي بين سيف المس بالمقدسات واهانة الموظفين
- اليوسفية وفوسفاطها ... هل من حساب ؟


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نقوس المهدي - العقيد في متاهته