|
مع ناهض حتر من العقائديات إلى واقعية علم الاجتماع السياسي
صفاء بطاينة
الحوار المتمدن-العدد: 3285 - 2011 / 2 / 22 - 15:04
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
يشكل الربط بين النظرية والواقع – أي الانتقال من النقاش العقائدي إلى واقعية علم الاجتماع السياسي – محورا أساسيا في فكر ناهض حتر, الربط الذي لا بد منه من أجل تقدم الدول العربية واستقلالها, حيث يعتقد أن النتاجات النظرية العربية لا تتفاعل مع فكر سياسي عميق مما يؤدي إلى عدم تكون رؤية واضحة وواقعية لليسار العربي. ويمكننا تلمس ذلك الاهتمام في الكم الكبير من المقالات التي يقدم فيها قراءات وتحليلات معمقة للواقع السياسي والاقتصادي والثقافي الأردني والعربي, دون أن يبعده الخوض في تفاصيل ذلك الواقع عن المحاولة الضرورية لربط الواقع بالنظرية, حيث يقدم عددا من الأفكار و الطروحات الجذرية في تشخيص الواقع وسبل تجاوزه نحو الاستقلال والتقدم والعدالة. ذلك الاستناد إلى الواقع هو الذي يفسر الحرية والجرأة في كتاباته على تجاوز الأفكار التقليدية النمطية. يظهر جدل النظرية والواقع خصوصا في كتاب ناهض حتر الأخير " يساري أردني على جبهتين" الذي تحتوى نصوصه معظم تلك الأفكار والطروحات والتي يمكن أن تشكل مقدمة لحوار تأسيسي نحو نظرية مطابقة لاحتياجات التقدم العربي. هذه محاولة لعرض بعض تلك الأفكار ومناقشتها ضمن الخط الفكري الذي اعتقد أنه يجمعها.
******** لم يتطور العالم العربي في المسار نفسه الذي تطورت فيه أوروبا نحو الرأسمالية، ولم تنجز فيه ثورة صناعية كتلك التي حدثت في الغرب وانقسم المجتمع، في سياقها، إلى طبقتين رئيسيتين: هما الطبقة البرجوازية والطبقة العاملة الصناعية (البروليتاريا)، لكل منهما فلسفة ومنظور ومنهج وتنظيم. قامت عدة محاولات فكرية عربية لفهم الوضع الطبقي في العالم العربي من خلال ارتباطه مع أوروبا بدءا من الاستعمار الذي رأى المفكرون اليساريون انه منع التشكل الرأسمالي القومي في الدول العربية، بل جعل هذه الدول دولا طرفية هامشية في النظام الرأسمالي العالمي. فقد لجم الاستعمار القوى البرجوازية العربية عن التطور وفق الحاجات الإنتاجية الوطنية وجعلها تابعة للمراكز الرأسمالية من خلال اشتغالها في وكالة المصالح والشركات الأجنبية (الكمبرادور). وترافقت التبعية الاقتصادية مع تبعية سياسية للدول الرأسمالية. وعملت الدول التابعة ـالعاجزة عن بناء نظام إنتاجي محلي مكتمل غير تابع ـ إلى إعادة إنتاج العلاقات التقليدية ما قبل الرأسمالية بشكل مشوه على قاعدة التبعية التي استلزمت تطوير بعض القطاعات بما يتماشى مع حاجة المراكز الرأسمالية وإهمال قطاعات أخرى، فتكونت علاقات اقتصادية واجتماعية مشوهة مهجنة، يندمج فيها الحديث مع القديم المعاد إنتاجه في صورة مسخ.. لم تنشأ طبقة عاملة صناعية واسعة متقدمة تقنيا ومتماسكة، مما جعل ممارسة السياسة بالشكل النموذجي الغربي القائم على صراع الطبقتين الرئيسيتين، البرجوازية والبروليتاريا، غير واقعية. فالبنى التقليدية هي أقوى من أي تنظيمات تتشكل على قاعدة طبقية. لتجاوز هذه الحالة التبعية، قدمت حركات التحرر العربي إسهاماتها السياسية والفكرية. بعضها ربط بين التحرر الوطني والقومي وبين الماركسية، وبعضها فصل بينهما وتكرس النهج الثاني منذ الثلاثينيات بدعم من الاتحاد السوفييتي. على المستوى الفكري غالبا ما استوردت النظريات الأوروبية وفرضت على الواقع العربي رغم ان تلك النظريات، بما فيها الماركسية، لم تتحرر من أسر المركزية الأوروبية. بل كان هناك إصرار على ضرورة الانتقال إلى المرحلة الرأسمالية بقيادة " البرجوازية الوطنية " تشبها بما حدث في أوروبا . وقد انتهت محاولات اللحاق والتقليد تلك بالفشل. وفي المستوى السياسي، راهن الكثيرون على الدعم الخارجي، بالتحديد من الاتحاد السوفييتي في التحول نحو الاشتراكية. وقد انهارت تلك الرهانات مع انهيار الاتحاد السوفييتي. نلاحظ ان المحاولات المختلفة حتى من جانب القوى الراغبة بالتغيير بما فيها غالبية الحركات الشيوعية لم تخرج عن التبعية السياسية والفكرية للدول الأخرى الأكثر تطورا ومحاولة تقليد نموذجها أو اللحاق بها سواء أكانت هذه الدول رأسمالية أو اشتراكية. ضمن هذا السياق، وضمن محاولات تجديد حركة التحرر الوطني في الدول التابعة، يمكننا قراءة الطروحات الجديدة ـ الإشكالية ـ في كتابات ناهض حتر الجديدة، والتي يمكن وضعها في إطار البحث عن يسار جديد يعتمد على المحركات المحلية للتغيير بعد فشل النماذج المختلفة لتحقيق التحول نحو الاشتراكية في العالم، وفشل العرب في اللحاق بالغرب. وفي هذا المجال يركز ناهض حتر على الأهمية الاستثنائية للثقافي المحلي في العملية التاريخية وعلى ضرورة الربط بين الواقع المحلي والنظرية الكونية بدلا من إعادة إنتاج الكليات الماركسية. يرى ناهض حتر ان التحليل الماركسي الكوني القائم على مركزية صراع البرجوازية والبروليتاريا في التحول الاجتماعي وكمحرك للتاريخ، غير منتج معرفيا في المجتمعات العربية بسبب اختلاف السياق التاريخي كله. وبالتالي، فهو تحليل عاجز عن بلورة نظرية للتحرر الاجتماعي مطابقة لاحتياجات التقدم العربي، والتي لا بد, من أجل تحديدها، من دراسة المجتمع العربي والقوى الفاعلة فيه دراسة علمية مادية لكشف النزعات الفعلية الموجودة لهذه القوى وقدراتها وإمكانياتها والانطلاق من هذا الفهم نحو التغير. لا يتوقف ناهض حتر عن استخدام المنهج المادي على مستوى التحليل، ولكنه يستخدمه لفهم الواقع العربي كما هو وليس بإسقاط نماذج مثالية أوروبية عليه. فالتحليل الاجتماعي السياسي، عنده، ليس له طابع كوني، بل هو مرتبط بكل بنية على حدة، فأي نظرية للتغيير الاجتماعي في بلادنا يجب أن تعتمد على الفهم المادي للواقع المحلي والبحث عن إمكانياته التقدمية وقواه القادرة على إحداث التغيير المطلوب والتي لها مصلحة في التغيير، وعلى فهم علاقات القوى المتصارعة وارتباطاتها الخارجية الدولية. وفي دراسته للواقع العربي يوجه ناهض حتر الأنظار إلى اتجاهات الواقع السياسي الثقافي العربي، ومن أهمها واقع انقسام المجتمع العربي على أساس عصبيات فائتة، ولكن لا يمكن تجاهلها، ولا بد من الاعتراف بها في سبيل تجاوزها. فيطرح لاستيعابها وتجاوزها مفهوم "التوحيد" ـ الاجتماعي الوطني ـ بدلا من مفهوم "الوحدة" ـ القومي ـ. كما يطرح مفهوم الديمقراطية المضادة، الديمقراطية من تحت، لإحداث التغيير انطلاقا من الواقع الفعلي بوصفه عملية تاريخية ـ ميدانية، لا مجرد عملية سياسية. وهذا يعني أن "الممارسة الديمقراطية في المجال الاجتماعي الثقافي الوطني تكتسب، بحد ذاتها، القدرة على تبرير نفسها بنفسها، فهي ضرورية بحد ذاتها". وعلى صعيد مواجهة الرأسمالية يعيد حتر الاعتبار إلى الأيديولوجيا وأولويتها في صراع خاضته الرأسمالية الإمبريالية، أولا، على المستوى الأيديولوجي، بينما كانت الحركات الاجتماعية تغرق في المساومات البراجماتية والنقابية. أولوية العصبيات نتيجة عدم تحول الدول العربية إلى دول رأسمالية ينقسم فيها المجتمع على أساس طبقي إلى طبقتين رئيسيتين، بروليتارية وبرجوازية، ونتيجة عجز الدول العربية، بحكم تبعيتها، عن تطوير علاقات الإنتاج إلى علاقات رأسمالية كاملة، بقيت العصبيات التقليدية هي الأساس في الانقسام والانتماء في البلدان العربية. بل عملت تلك الدول على إعادة إنتاج البنى الاجتماعية ما قبل الرأسمالية، وأبقت على العصبيات رغم فواتها التاريخي. ويلاحظ ناهض حتر عددا من الأمثلة التي لا يمكن تفسيرها إلا وفق منطق العصبيات وأولويتها. مثل الإنشقاق العنيف لحزب البعث إلى جناحين سوري وعراقي. ومثل المآل الشيعي للحزب الشيوعي العراقي، ومثل فشل النخب الليبرالية والماركسية في سوريا في إحداث أي إصلاحات ديمقراطية، تبين أنها محاولات نخبوية هامشية، بينما سعى النظام السوري تجاوز الانشقاق الداخلي وتعزيز صفوفه من خلال الاعتراف الضمني بوجود العصبية السنية ومصالحها ومطالبها، وضرورة إدماجها داخل النظام. ويرى ناهض حتر ان أي منهج للتغيير يتجاهل هذه العصبيات ليس منتجا، معرفيا وسياسيا، من حيث هو يتجاهل ويهمش الواقع ويفرض نماذج فكرية جاهزة عليه أُنتجت في مجتمعات مختلفة عن مجتمعاتنا في مستوى التقدم الاجتماعي وطبيعة العلاقات الاجتماعية. بالطبع، يستهدف حتر، كتقدمي، تجاوز العصبيات، ولكنه يشترط للنجاح في ذلك، الاعتراف بها. وهنا، يركّز حتر على نموذج التوحيد العربي الإسلامي الذي يعترف بالخصوصيات والمكونات الفرعية مقابل نموذج الوحدة الغربي القائم على التماثل. من المفكرين الذين حاولوا دراسة الماركسية الكونية في تميزها المحلي، اللبناني مهدي عامل الذي راهن على الدور الوظيفي الذي تقوم به العصبيات في بنية اجتماعية كولونيالية. بالطبع، لا يمكن النظر بجدية إلى هذا التحليل إلا على خلفية الحرب الباردة والدعم السوفييتي لقوى طائفية تلعب في البنية اللبنانية ـ وهي موضوع التحليل ـ وظيفة الطبقة العاملة الغربية. فالعصبيات بحكم وجودها في الدول الطرفية في النظام الرأسمالي العالمي قد تجد نفسها، موضوعيا، منتظمة في صراع كوني. فمثلا في لبنان تموضعت طوائف ـ لأسباب بنيوية داخلية ـ في خدمة الإمبريالية وبالمقابل، تموضعت طوائف في سياق مضاد. لكن، التطورات اللاحقة، الكونية والمحلية، عصفت بهذا التحليل. فالدور البنيوي الوظيفي على واقعيته لا يمكن ان يكون فعالا في التحول الى الاشتراكية, فالعصبيات لا يمكنها أن تلعب وظيفة تقدمية أو معاكسة، بقدر ما تفيد هي ـ العصبيات ـ من هذا الصراع في تحقيق أهدافها كعصبيات، أي في تأكيد حضورها وبقائها وتحقيق مصالحها ومصالح زعمائها في إطار دولة تابعة، تظل عصية على التغيير. لا بد من فهم أسباب بقاء العصبيات في البلاد العربية التي هي خارج التاريخ الحديث، من حيث هو تاريخ الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا، بين الرأسمالية والإشتراكية. ولا بد أيضا من فهم شكل هذه العصبيات وموقعها ودورها في الدولة العربية الحديثة، ومدى اختلافها ـ النوعي ـ عن العصبيات في العصور الماضية ودور الدولة التابعة في إعادة إنتاجها وتجديدها، ومعرفة آليات تجديدها وبقائها. وهل يمكن إلغاؤها أم استيعابها والى أي مدى؟ وهل لابد من إلغائها ـ نظريا وسياسيا بالتجاهل والقمع ـ أولا من اجل فرض التقدم أم أن التقدم الاجتماعي كفيل بإلغائها؟ وهل يمكن استيعابها؟ تحييدها؟ استخدامها؟ في مشروع تنموي وطني. العرب يعيشون على هامش العالم الحديث, فعلاقتهم بمراكز هذا العالم هي علاقة تبعية سلبية. هذه العلاقة التبعية تعيد تشكيل البنى التقليدية القديمة على الصعيد الاجتماعي بشكل ممسوخ يخدم السيطرة الإمبريالية على العالم ويديم علاقات التبعية، وإدامة العلاقات الاجتماعية القديمة تكون من خلال البنية الفوقية في المجتمعات التابعة و تعتمد على وسائل سياسية وايديولوجية وثقافية وفي مقدمتها طبيعة الدولة التابعة نفسها. لذلك فحتى الدول العربية التي حكمت بسياسات نيوليبرالية لم تستطع تجاوز هذا الواقع، لأنها عاجزة عن إلغاء العصبيات أو حتى عن استيعابها ودمجها في الدولة، بسبب عجزها عن بناء دولة مستقلة، حيث ان القوى الليبرالية العربية لا تحمل مشروعا للتقدم والتنمية، بل مشروعا للتحديث الجزئي الكمبرادوري يحدث بالارتباط التبعي مع المراكز الرأسمالية. إن حل تلك المشكلات هو أولا سياسي قبل أن يكون اقتصاديا. فأي نمو اقتصادي يبقى دون اثر ايجابي داخلي إذا كان موجها في الأساس لخدمة مصالح القوى الخارجية من دول ومستثمرين. بل يمكننا أن نلاحظ انه كلما انفصلت الدولة عن المجتمع وهمشت قواعده الاجتماعية كلما تفكك المجتمع إلى عصبياته الفرعية، كما نلاحظ من انتشار الفلتان العنفي العشائري في الأردن المترافق مع التحديث الكمبرادوري. فالعشائر في الأردن كانت قاعدة أساسية لبناء الدولة واستقرارها وتطورها عندما توحدت وتحالفت وراء مشروع وطني, بينما أدى تنافسها وصراعها بسبب السياسات الحكومية وخاصة قانون الصوت الواحد إلى تفكيك المجتمع. نلاحظ هنا أسلوبين تتبعهما الدول نحو البنى والقوى التقليدية: الأول إدماجها بشكل مشوه بالدولة من خلال تقديم التنازلات لها لإدامة ولائها وللمحافظة على الدولة كوسيط للمصالح الرأسمالية دون تغييرات جذرية في طبيعة الدولة، والثاني تهميش هذه القوى بل محاربتها ولكن من دون وجود نظام محلي للإنتاج قادر على استيعاب أفرادها خارج الأطر التقليدية مما يؤدي إلى تهميش فئات متزايدة تجد ملجأها الوحيد في إعادة إنتاج العصبيات الفرعية. ويمكننا أن نفكر فيما يمكن أن يحدث عندما تعجز الدولة، جراء الخصخصة والفساد والتحديث الكمبرادوري المترافق مع تهميش فئات أوسع فأوسع، عن القيام بدورها في إعادة تدويرـ ولو جزئي ـ للدخل الوطني أو تقديم الخدمات العامة, خاصة في ظل أزمة الرأسمالية. إن انقلاب العصبيات على الدولة، والفوضى، سيكونان البديل. الطبيعة التبعية للدولة هو سبب استمرار علاقات الإنتاج المتخلفة والعلاقات والبنى الاجتماعية والثقافية الفائتة. ولذلك، فمن اجل تجاوز العصبيات لا بد من تغيير طبيعة الدولة من دولة تابعة إلى دولة مستقلة ومنتجة، تسيطر على علاقاتها الخارجية وتعيد انتاج قدراتها وفق تعضيد العناصر الوطنية في اقتصاد متعاضد. تتحول الدولة إلى دولة مستقلة من خلال فك الارتباط التبعي مع المراكز الرأسمالية والشروع في بناء دولة وطنية جديدة من خلال التنمية المتمحورة على الذات وتوجيه كل علاقات وتعاملات الدولة الخارجية نحو خدمة الأهداف الداخلية. وهي عملية تحتاج إلى قوى اجتماعية قادرة على القيام بها، قوى متضررة ـ أو مكبوحة الجماح ـ جراء السياسات التبعية، ولا ترتبط مصالحها مع الخارج أو مع النخب المسيطرة التابعة، أي انها قادرة على فك الارتباط أيضا بالقوى المسيطرة في الدولة التابعة - واعني بالدولة جهاز الدولة كله، وليس، فقط، النظام السياسي. أي فك الارتباط مع الدولة والياتها (مقاطعتها) بما هي دولة تابعة، في سياق نضالي: إعادة بنائها كدولة مستقلة، ولكن كصيرورة لا تؤجل تنفيذ الأهداف المتوخاة حتى يتم إنجاز البعد السياسي من إعادة البناء. أي أن الشروع في هذه الصيرورة ممكن منذ الآن، ومن دون شرط الاستيلاء على سلطة الدولة كشرط مسبق. وهذا يقودنا إلى فكرة ناهض حتر حول الديمقراطية المضادة، الديمقراطية من أسفل، من القاعدة. الديمقراطية المضادة لا يؤمن ناهض حتر بقدرة المنظومة السياسية القائمة - بمؤسساتها وقواها وأحزابها الموالية والمعارضة - على إصلاح ذاتي, وذلك بحكم بنية السلطة السياسية المنفصلة عن المجتمع، والتي، لذلك، تجد أن أي إصلاح ديمقراطي يهدد مصالح ونفوذ أفرادها. فعماد هذه السلطة هي الكمبرادورية السياسية والاقتصادية. "الأولى تقوم على معادلة الدعم السياسي والأمني للإستبداد الداخلي مقابل خدمات سياسية وأمنية. وهي حلقة متداخلة تستبعد الديمقراطية الليبرالية التقليدية، لأن الأولى بالثانية تنكسر. وقد أخذت هذه الحلقة، في العقد الأخير من اللبرلة الإقتصادية، القائمة على وكالة المصالح والشركات الأجنبية، تتقاطع مع حلقة إجتماعية تتمثل في الارتباط العضوي للطبقة الكمبرادورية مع قوى المال والسلطة في المنظومة الراسمالية. وهكذا تكون المخارج الإصلاحية قد إنغلقت. ولا تنفتح، تاريخيا، إلا بتغيير المنظومة المسيطرة جذريا من قبل قوى وطنية ـ من حيث كونها محلية وتوحيدية ـ ومرتبطة بالمجتمع واحتياجاته وطموحاته، ما يقودها إلى نموذج تنموي مختلف جذري، يرتبط بأولويات التقدم الاجتماعي". هذه القوى لم ولن تستطيع التغيير عن طريق إصلاح ديمقراطي شكلي يقوم على الانتخابات و البرلمان والأحزاب الخ ولذلك لا بد لها من إعادة توحيد صفوفها وبناء قدراتها من خارج مؤسسات الدولة. وهو ما اسماه ناهض حتر بالديمقراطية المضادة، و التي تقطع مع الديمقراطية المقيدة والشكلية ومفاهيمها الليبرالية، مع السلطة ومع المعارضة معا، وتندرج في مشروع البحث عن طرق عملية لإدارة الحياة الديمقراطية من أسفل، من البنى الوطنية الأصيلة والتي تعبر عن المجتمع الحقيقي: العشائر و النقابات والجمعيات والجامعات والهيئات الاجتماعية والثقافية المختلفة. على الأغلبية الشعبية، إذاً، بلورة مشروعها السياسي المضاد والقيام بحرب مواقع على كل المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية، لتشكل بذلك مرجعية وطنية فكرية وأخلاقية يمكنها التأثير في القرار بسبب القوة المعنوية التي تستمدها من التزامها بالمصالح الوطنية وارتباطها بالمجتمع وتمثيلها للأغلبية الشعبية. وهنا "يجب التفكير في الشروط التي تحتاجها هكذا تجربة كي تؤدي في سياق صيرورة واحدة، عدة عمليات: (1) تطوير الشبكات الاجتماعية الوطنية، الإنتاجية والثقافية والسياسية، بما في ذلك مكافحة الجوع والتهميش والمرض وانحدار مستوى التعليم الرسمي وإحياء المهارات الشعبية التراثية الخ والدفاع عن مصالح الفئات الاجتماعية المستضعفة، (2) وممارسة هذه الشبكات، الضغوط المتواصلة من أسفل من أجل فرض تغييرات في الممارسات السياسية للسلطة والمعارضة معا، (3) والنضال في سبيل الحريات، حرية الفكر والنشر والتنظيم (4) الشروع في حرب ثقافية من أجل الهيمنة (5) وكل ذلك في مسار هو مسار تشكيل الكتلة الاجتماعية الوطنية التقدمية القادرة على إعادة بناء الدولة الوطنية المستقلة الحديثة التي لا تغدو، هنا، مجرد هدف، بل ممارسة شاملة لا تتوقف، طالما أن التقدم عملية محكومة بألا تتوقف.
لا مكان في الديمقراطية المضادة لفشل كبير، أو لجلد الذات، أو الخيار بين البطولة والسقوط، بين المبادرة والنكوص، لأننا لسنا بصدد هدف كبير نهائي غائي، ولكن بصدد صيرورة من الأهداف الصغيرة والمتوسطة والمتعددة الأشكال والألوان والظروف. وفي هذه الصيرورة، سيكون هنالك مكان لكل الفئات والأفراد والمبادرات القطاعية، النقابية والاجتماعية، التنموية والمدنية، المسيسة واللامسيسة، ولكنها تحدث جميعا في سياق تاريخي هو سياق إنشاء الدولة الوطنية التقدمية." أولوية الأيديولوجيا يرى ناهض حتر أن الرأسمالية خلال القرن الماضي كانت تتغلب على أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الواقعية من خلال الايديولوجيا والحرب الأيديولوجية، مستخدمة وسائل قوة الدولة والحرب والاعلام والإعلان والفنون والاقتصاد الافتراضي. أولا، تدخلت الدولة الرأسمالية، بصورة غير مسبوقة، في السوق على الضد من الفرضية الرأسمالية التي تقول بقدرة السوق على تنظيم نفسه بنفسه، وثانيا بالحروب ونهب العالم من اجل تمويل التسوية الاجتماعية مع الطبقة العاملة خلال الحرب الباردة. ولكنها استخدمت في الحرب الباردة، الحرب الإيديولوجية, تحديدا, كسلاح رئيسي. وبعد الحرب الباردة، خاضت الرأسمالية ـ الأميركية، بخاصة، حروب السيطرة الاقتصادية والسياسية والأمنية، انطلاقا من الايديولوجيا أيضا (صراع الحضارات ونشر اللبرلة الاقتصادية والسياسية ). فخاضت صراعها، منذ التسعينيات، باسم الحرب ضد الإرهاب بهدف إعادة تشكيل العالم حسب المصالح الرأسمالية. الرأسمالية تجاوزت الواقع أيضا عندما انتقلت إلى الاقتصاد الافتراضي الذي يفصل العرض عن الطلب ويخلق ـ بالأيديولوجيا ـ طلبا اصطناعيا يتم تمويله بوسائل مالية إصطناعية. وهو ما انتهى إلى انفجار الأزمة المالية والاقتصادية في الغرب الرأسمالي والدول التابعة له. فقد اتضح أن الصين، كإمبراطورية لرأسمالية الدولة الوطنية، لم تصبها الأزمة بضرر يذكر. بالخلاصة، وبينما كان المعسكر الاشتراكي، ولاحقا القوى المضادة للإمبريالية، والمجتمعات والدول، تسعى إلى تسويات واقعية مع الغرب الرأسمالي، كان الغرب، طوال الوقت، لكن خصوصا في الثلاثين سنة الأخيرة، يشن حربا أيديولوجية لفرض نموذج ليبرالي وحيد على العالم، في الاقتصاد والسياسة والثقافة، في ما سمي العولمة. لكن إنفجار أزمة الرأسمالية أعادتها، فكريا، إلى الواقع المرير حيث كان ماركس بالانتظار. إنها، بنزعتها البراجماتية، أخذت تعيد قراءة عالم الاقتصاد ماركس، للبحث عن حلول واقعية لأزماتها. لذلك يرى ناهض حتر أن واجب اليسار الآن هو عدم الوقوع في مطب السجال على أرضية الماركسية الواقعية ـ في الاقتصاد السياسي ـ بل بالعودة إلى ماركس الثائر، وبالتالي: نقل المعركة مع الرأسمالية إلى جبهتها الخاسرة وهي الايديولوجيا. فالرأسمالية الآن مهزومة فكريا، إنسانيا وروحيا وأخلاقيا. وهي لحظة تاريخية مؤاتية لشن حرب ايديولوجية مضادة على روح الرأسمالية وأفكارها وأخلاقها. اليسار الجديد يرى ناهض حتر انه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أصبحت الفرصة مناسبة للقوى اليسارية العربية لإعادة تأسيس اليسار العربي برؤية مستقلة مطابقة للاحتياجات المحلية وإمكانيات التغيير الممكنة، لتحقيق انجازات وطنية تقدمية تقود إلى اشتراكية مرتبطة بالواقع المحلي. فبعد ألازمة المالية العالمية خاصة أصبحت الاشتراكية ممكنة وان كان تحقيقها تراكميا. فهذه ألازمة جعلت العالم أمام لحظة ثورية، لكنها لحظة ثورية بالمعنى الموضوعي، وستتبدد من دون شن هجوم ايديولوجي شامل على الرأسمالية وكل الايديولوجيات التي نشأت كنتيجة لها في العالم العربي: الليبرالية والسلفية والقومية. المطلوب من القوى اليسارية الآن هو تأسيس مرجعية سياسية فكرية جديدة تقود الأغلبية الشعبية نحو التفكير والعمل وإعادة تأسيس منظماتها في أشكال تنظيمية مستحدثة شرطها إحداث التغيير في مجتمعاتها بهدف الانتزاع التراكمي للقرار الاقتصادي والاجتماعي، في سياق حرب أيديولوجية ضد الليبرالية وضد الخصخصة والفقر والتهميش ومع الدور الاقتصادي الاجتماعي للدولة. والصيغ المستحدثة المقترحة تشمل هيئات وجمعيات نقابية وبلدية وثقافية وبيئية وشبابية منظمة في اطر موقعية محلية، يمكن إيجاد طريقة لتوحيد خطها وجهودها، وهو ما يؤشر إلى الحاجة الملحة لاكتشاف وسائل جديدة "لربط الناس بالسياسة وإعادة السياسة إلى الحياة". ولتكون الحركات اليسارية أكثر قوة يقترح حتر إنشاء فدرالية لليسار في المشرق العربي، بهدف توحيد قوى اليسار وتأمين الحماية والدعم المتبادل فيما بين حركات اليسار المحلية. اليسار، عند ناهض حتر، هو الوحيد المؤهل لقيادة حركة التحرر العربية. لكن، فقط، إذا تصالح مع ثقافة المجتمع وتراثه المتعدد الأشكال و عبّر عن مصالحه العيانية, وبهذا الصدد على اليسار أن يعيد تملك هذا التراث الإسلامي ضد العلمانية الليبرالية وضد السلفية معا. وان يبلور نظرية للعروبة الديمقراطية التوحيدية من خلال الاعتراف بالمكونات الطائفية والمذهبية والإثنية والخصوصيات المحلية في إطار رابطة عربية مدنية.
#صفاء_بطاينة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الملك هو الملك
-
-النبوة- عند الفلاسفة المسلمين
-
فكرة الله في التاريخ الاسلامي كانعكاس للواقع الاجتماعي
المزيد.....
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|