|
ملاحظات عن المسألة الديمقراطية.. [ المقال الأول]
عزيز الحاج
الحوار المتمدن-العدد: 3280 - 2011 / 2 / 17 - 16:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مع ثورتي مصر وتونس، وتحركات الشارع العربي والإيراني، عادت المسألة الديمقراطية في المنطقة العربية لتطرح نفسها بمزيد من القوة والإلحاح.
لا شك في أن ما حدث في تونس ومصر هو بداية ثورية سلمية رائعة، لأن مجرد إسقاط الحكم المستبد، في بلد منغلق سياسيا، هو أول الطريق الشاق نحو بناء الدولة الديمقراطية العلمانية، التي تضمن الحرية والعمل، وتحسّن المستوى المعيشي لذوي الدخل المحدود والفقراء، وتلتزم بحقوق الإنسان، وخصوصا مساواة الجنسين والحرية الدينية وحقوق الأقليات القومية والدينية.
وبهذا المعنى، فإن عقلية التفاؤل المفرط والمزايدات، وتصعيد المطالب، ونزعات الانتقام، وتبسيط المشاكل، وإنكار العقبات، لا تخدم مهمة تحقيق الأهداف المنشودة في قيام الدولة المدنية الديمقراطية، التي تفصل بين الدين والدولة.
في 2003، ألقى جورج بوش حطابا في واشنطن وآخر في لندن عرض فيهما إستراتيجيته لما عرف بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط. وكانت منطلقات المشروع أن أنظمة الاستبداد والانغلاق السياسي والفساد، وأن الفقر والبطالة، تساعد على خلق مناخ يستثمره المتطرفون الدينيون ودعاة العنف، ويفرّخ الإرهاب الذي ينتقل من الدول الإسلامية إلى الغرب والولايات المتحدة نفسها، أي يهدد مصالح الأمن القومي. وبعبارة، فإن مشروع بوش كان جزءا أساسيا من سياسة مكافحة الإرهاب الإسلامي، الذي ضرب ضربته الكبرى في 11 سبتمبر. وكون المشروع أميركيا وهدفه الأول حماية الأمن القومي الأميركي، لا يعني أنه لم يكن يلتقي مع طموح وأهداف القوى الديمقراطية العلمانية في منطقتنا، ومع تيارات الاعتدال والانفتاح كافة.
عندما كانت قرارات مجلس الأمن في إدانة نظام صدام تصدر تباعا، كتبنا مرارا كثيرة أنه كان من الواجب عدم قصر القرارات على موضوع التسلح وحده، بل وقرنه بموضوع حقوق الإنسان وحماية القوميات الصغيرة والأقليات الدينية. وكان هناك قرار واحد قد صدر عام 1991 عن حماية الأقليات القومية، والشعب الكردي خاصة، ولكنه لم يكن ضمن باب العقوبات من ميثاق الأمم المتحدة. وقد قصّرت المعارضة العراقية عهد ذاك في عدم الإلحاح على موضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان في مجمل نشاطها الدولي السياسي والإعلامي. وكانت تجربة الحرب في البوسنة وكوسوفو في عهد كلينتون قد فرضت شرعيتها الإنسانية على المجتمع الدولي، أي حق التدخل الإنساني؛ فقد اندلعت الحرب على نظام ميلوسوفيتش بلا قرار من مجلس الأمن، ولكنها لم ثر ضجة احتجاجات واسعة في الشارع الغربي كما حدث مع حرب إسقاط صدام. ونعرف معارضة اليسار الغربي وحكومات ألمانيا وفرنسا وروسيا والصين لتلك الحرب، وقلة من ساندوها من بين المثقفين الغربيين. وكان من بين تلك القلة الفيلسوف أندريه غلوكسمان، الذي أصدر كتابا يناقش فيه مفكرين آخرين عارضوا الحرب. واستشهد المؤلف بقول فيجتور هيجو: "المتوحشون الذين يرتكبون هذه الآثام يخيفون؛ وأما المتحضرون الذين يسمحون لهم بذلك، فهم مرعبون." وسرد المؤلف نماذج من جرائم العهد السابق وحروبه ومجازره واستعمال الغاز وأساليب التعذيب، وأورد مثال أحد الضحايا، جمال مجيد ذي الخامسة والثلاثين، الذي سجن لهروبه من الجندية، فتعرض للتعذيب ليل نهار، وقلعت أسنانه وأظافره، وجدع انفه، ووشمت جبهته، وعميت عيناه. وقال غلوكسمان إن مجلس الأمن لم يعمل للحيلولة دون مجازر كمبوديا ورواندا والبوسنة وغيرها، وظلت الأمم المتحدة تتفرج والضحايا يتساقطون بالملايين.
لقد سقط النظام البعثي في العراق بالقوة الخارجية، ولكن العراق لا يزال بعيدا عن بناء الدولة الديمقراطية. والخطأ الرئيسي في مذهب بوش والعقلية السياسية الغربية هو اعتبار الانتخابات وحدها معيارا للديمقراطية، في استنساخ لما يجري في الدول الديمقراطية الغربية العريقة حيث أن انتخاباتها طريق للتداول السلمي للسلطة وللتغيير والإصلاح. وقد ضغط الغرب لإجراء انتخابات في غزة، ففازت حماس الإخوانية لتقيم دويلة طالبانية تابعة لإيران وسوريا. وأما الانتخابات العراقية الثلاث، فجاءتنا بهيمنة الأحزاب الدينية وبدستور ممسوخ قائم على أحكام الشريعة، وبالتضييق المستمر على الحريات الشخصية والعامة، وبالفساد الطاغي وتدهور الخدمات وانتشار الطائفية. فالانتخابات تمت في ظرف لم يكن فيه العراقيون على استعداد وأهلية لها. وكانت المرجعية الشيعية وأحزابها، مع الضغوط العربية، هي التي جعلت الانتخابات مهمة الساعة قبل توفر الشروط المطلوبة لها: من استقرار، ومن درجة مناسبة من الثقافة السياسية المنفتحة ودرجة من التقاليد الديمقراطية، واحترام الآخر وروح الحوار- وقبل كل شيء، الانطلاق من الولاء للعراق أولا، لا من القواقع الفئوية والمذهبية.
إن هناك فرقا كبيرا بين حرية الصناديق الانتخابية، في مجتمع تعلو فيه المشاعر والأفكار الفئوية على مبدأ المواطنة والمعيار السياسي، وبين الانتخابات كخطوة كبرى نحو بناء الدولة الديمقراطية. في تلك الظروف العراقية كانت الأحزاب الشيعية والجبهة الكردستانية الطرفين الأكثر والأقوى تنظيما وشعبية بينما كانت القوى الديمقراطية واليسارية العراقية وسائر القوى اللبرالية مهمشة بفعل القهر الدموي المستمر في العهد السابق. ومع أن الطرفين الكرديين الأساسيين علمانيان، فإنهما دخلا في تحالفات إستراتيجية مع المجلس الأعلى وغيره من قوى الإسلام السياسي، وقد رأينا كيف تم الالتفاف على نتائج الانتخابات الأخيرة في مناورات بائسة برهنت على تخلف سائر أطراف القوائم الثلاث الفائزة وعلى ميول الاستئثار والانفراد المخالفة لأبسط مبدأ ديمقراطي.
ومن العقد الغربية الأخرى التطير من العسكر بناء على تجارب الانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية والبلدان العربية، كسوريا ومصر الناصرية وغيرها. وهذا التقييم صحيح من حيث الحالات الغالبة. ولكن هناك استثناءات، نذكر منها دور الجيش التركي كحارس للعلمانية، ولذا نجد الحزب الإسلامي الحاكم يوجه ضربة بعد أخرى للجيش في تهم مؤامرات يظهر أن معظمها مختلق. ومع هذه الضربات، جرى استفتاء ضمن تدخل الدولة في القضاء كما أبطل الحزب الحاكم قانون العلمانية في الجامعات بصدد الحجاب. والاستثناء الآخر دور الجيش المصري في الوقت الحاضر، الذي نميل إلى مصداقية تأكيداته عن نقل السلطة لحكم مدني. والاستثناء عندنا حكم عبد الكريم قاسم، الذي كانت الحريات مضمونة في زمنه، و خدمة الفقراء والتنمية والمساواة بين الجنسين وحقوق الأقليات الدينية والمذهبية والقومية، مع أنه لم تكن هناك انتخابات وبرلمان.
لقد نشر المحلل "بيترو فرونس"، مؤخرا، مقالا في نيويورك تايمس بعنوان " انتخابات في كل مكان، والديمقراطية في لا مكان." والمقال مكرس للدول الأفريقية، إذ ستجري هذه السنة سلسلة انتخابات رئاسية وبرلمانية في دول كثيرة منها، عدا مصر، وعدا انتخابات جنوب السودان التي تمت فعلا، وانتخابات ساحل العاج التي انتهت برأسين!: أفريقيا الوسطى وزامبيا وكونغو ومدغشقر وأوغندا. ونحن بانتظار الانتخابات المصرية القادمة، وبانتظار مسار ومصير جمهورية جنوب السودان. وبالنسبة لدول أفريقيا الاستوائية عامة، فإن الكاتب غير متفائل من نتائج الانتخابات، ويرى أن التجارب قد برهنت على أن الانتخابات كانت تؤجج النزاعات والخلافات بدل تهدئتها. ويذكر أن الباحث الزامبي "مويو" يرى أن ما تحتاجه دول أفريقيا هو حاكم قوي حازم ومتنور. والمؤلف البريطاني "بول كوليه" يرى أن الديمقراطية في البلدان الأكثر فقرا ليست فقط لا تحل مشكلة العنف، بل وتزيده. ولعل تجربة ساحل العاج تبدو مع هذا الاستنتاج.
أما ما أراه، فهو أن هذه الطروحات هي في الغالب الأعم تجعل الديمقراطية مجرد انتخابات لا غير. وهنا الخطيئة الكبرى في التحليل والطرح. نعم، لو كانت المسألة مجرد انتخابات، لكان لهذه التقديرات وجاهة. فالانتخابات لوحدها قد تأتي بالمآسي حيثما لا سوابق من ممارسة حرة ولا ثقافة ديمقراطية معينة ولا سيادة لمبدأ المواطنة، وحيثما تسود الأفكار والغرائز القبلية أو تتأجج المشاعر الدينية والمذهبية لحد رفض الآخر. فالديمقراطية هي، قبل كل شيء، وقبل أن تكون منظومة مؤسسات، نظام المواطنة والعدالة والمساواة بين المواطنين.
إن الزلزالين المصري والتونسي سيغيران الكثير من الأفكار المسبقة عن عدم أهلية الشعوب العربية للديمقراطية، وشجعا، ويشجعان، بقية شعوب المنطقة والعالم الإسلامي على المطالبة بالتغيير نحو الأفضل. ومن هنا أهمية أن تنتهي التجربتان، والتجربة المصرية خاصة، [كالدولة العربية الكبرى]، إلى بناء نظام الحرية والعدل والمساواة والاستقرار، وأن تُهزم محاولات سرقة الثورة، وخصوصا من جانب الإسلاميين المتربصين، الذين يتصرفون بمنتهى الدهاء والمكر وفقا لمبدأ التقية السياسية، مخفين أهدافهم البعيدة في الدولة الدينية القائمة على أحكام الشريعة المناوئة لشرعة حقوق الإنسان. والطريق شاق ومزروع بالأشواك، ومحاط بالأخطار الداخلية والإقليمية. ولنأمل أن يكون شباب مصر وجيشها وقواها السياسية العلمانية قادرين على النهوض، بنجاح، بعبء المسؤوليات الجسام.
الحوار المتمدن في 17 شباط – فبراير – 2011
#عزيز_الحاج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقاربة عن الثقافة العربية ، والثقافة السياسية بالذات
-
أيديولوجية الإسلام السياسي: استئصال الأخر وهدم الثقافة...
-
المسجد: نعم، لماذا في هذه البقعة بالذات؟!!
-
نعم كانوا شهداء وأكثر!
-
مقدمة الجزء الأول من كتاب - من أوراق الرحيل- [راحلون وذكريات
...
-
ميناس ميناسيان.. الصديق الذي لم ألتقِ به... راحلون وذكريات
-
الدكتور جعفر محمد كريم... راحلون وشخصيات..
-
الدكتور علي بابا خان.... راحلون وذكريات
-
راحلون وذكريات ...الجواهري، أبو فرات، لو كان بيننا !!
-
راحلون وذكريات: -رحلتي- مع عبد الكريم قاسم
-
راحلون وذكريات: عبد الفتاح إبراهيم، والحاجة لدراسة وتقييم ال
...
-
راحلون وذكريات.. عبد الرحمن قاسملو..
-
راحلون وذكريات ... زاهد محمد زهدي
-
كتاب راحلون وذكريات [الفصل الثالث] - هكذا عرفت جعفر الخليلي
-
من كتاب عزيز الحاج [ راحلون وذكريات]2
-
من كتاب -راحلون وذكريات- لعزيز الحاج (1)
-
عامر عبد الله في ذكراه العاشرة..
-
11 سبتمبر وحرب الإرهاب الدولية..
-
أوقفوا الحرب القذرة على الأقليات العراقية!
-
مرة أخرى عن- غزوة- المالكي لمعسكر أشرف..
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|