|
ملاحظات هامشية على ضوء الهبة الثورية في المنطقة العربية
يحيى الشتوكي
الحوار المتمدن-العدد: 3272 - 2011 / 2 / 9 - 21:44
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
أنتمي إلى جيل مناضلي النصف الثاني من التسعينات ممن انخرطوا في النضال من أجل التغيير الثوري للنظام السياسي و للبنى الرأسمالية للمجتمع بغية دحر الاستغلال و الاضطهاد. لم تكن تلك القناعة الثورية نابعة من وحي زخم نضالي يرسم معالم ديناميكية جماهيرية تبشر بإمكان تطورها الوشيك إلى قلب موازين القوى مع الدولة القائمة عبر كفاحها الميداني – و بالتالي الإمكانية الملموسة للثورة –، بقدر ما كانت صيرورة معقدة (شبه فردية) لتبلور وعي ثوري يتداخل فيها الوازع الأخلاقي ضد الظلم، الاطلاع النظري الماركسي/التحرري و دروس الثورات التاريخية، التنظيم و الانخراط في الأشكال المتفرقة للنضال، إلخ. بالفعل، إن ما يسِم تجربة مناضلي جيلي الثوريين من تعقيد هو كونها صيرورة لتبلور وعي ثوري في أحلك مراحل الردّة الثورية، و ذلك إن على مستوى الحِراك الجماهيري أو على مستوى الإيمان بالثورة كحدث ملموس ممكن لا كاستعارة جمالية ل"يوم الخلاص" مخول لأجل غير مسمى. لم أعرف، كما العديد من أبناء و بنات جيلي، الانتفاضات الشعبية للشعب المغربي (1965-1981-1984-1991...) و لا الإضرابات العمالية البطولية، ولا عنفوان الفعل الطلابي الوحدوي و الكفاحي السابق – اللهم النشاط التوتاليتاري ذو البعد الجماهيري للإسلام السياسي بالجامعات –، بل إن ما خبرته هو العمل النضالي في ظل انحسار حاد للفعل الجماهيري. سادت التجربة النضالية لأبناء جيلي أشكال النضال "اللاجماهيري" و القابل بالتالي للتحكم فيه و تطويقه من قبل السلطة : وقفات احتجاجية نخبوية لا تغني و لا تسمن من جوع، اجتماعات لامتناهية تعج بالحساسيات الذاتية و المناورات الحزبية ذات المستوى الأخلاقي الساقط ناهيك عن الإفلاس السياسي لهذه الأخيرة (أزمة أطاك نموذجا)، قمع شرس لأبسط التحركات ذات البعد الجماهيري (المتجاوِز لدائرة المناضلين الدائمين)، وأدٌ ممنهج للنضالات العمالية المعزولة الرازحة بين الاحتواء البيروقراطي لمركزيات مستسلمة تساوم بالعمال و قمع البوليس و مليشيات أرباب العمل، واقع طلابي مُجزّأ الحِراك تنخره العصبوية و العنف الطلابي البليد. بالمقابل، استوطنت عقول قسم كبير من اليسار ثقافة النضال الجمعوي المدني ذو البعد القانوني (المواثيق الدولية) متبنية بسذاجة الأساليب الرمزية للتنديد : وقفات الاحتجاج المعزولة عن الشعب، العرائض التنديدية، إلخ. لحسن الحظ أن الديناميكية الاجتماعية للكادحين حبلى بما يطفح عن الإطار الافتراضي لأشكال النضال الرمزي. في هذا الصدد تتأتي الحركات الجماهيرية التي شهدها المغرب في السنين القليلة الماضية مثل ما حدث في سيدي إفني، صفرو، مدن الصحراء الغربية و قبلهم طاطا و بوعرفة. جاء هذا الفعل الشعبي الجذري ليذكّر بأن الفعل الجماهيري الميداني صميم مجتمع التفاوت الطبقي و الاضطهاد و بأن حلبة النضال المُجدي هي احتلال الشوارع و الفضاءات المحمية و المطوقة من قبل الدولة – أوَ ليس النزاع عن من يحتل الفضاء العمومي مدخل للنزاع عن من يملك السلطة، الشعب أم البوليس ؟ رغم ذلك، اتسمت هته الهبات الشعبية الكفاحية بطابعها المحلي و لم يتسَنّ لها أن تُحدث اندلاع تحركات مشابهة في مدن أو قرى أخرى لتنتقل بالتالي من الصراع المحلي الخاص إلى صراع ذو طابع شامل (وطنيا)... أقول أن وعي جيل آمن بالثورة، و قد تبلور في غياب لأي تجربة ملموسة لهبة شعبية ذات بعد شامل (غير محلي على الأقل)، و في ظل انحسار عام للفعل الجماهيري و الهزائم المتتالية للمعارك المعزولة، و في ظل بحر من اليأس و السََّلبية و الذاتية و الكُفر بالمستقبل و بجدوى التضامن، الخ، هو وعي منقوص بالضرورة، تنقصه ما رفعت عنه الحجاب الثورتين التونسية و المصرية.
أتاحت الثورتين التونسية و المصرية الفرصة لجيل بأكمله من المناضلين – كما لكل تواق لدحر الاستبداد و الحرية و العدالة الاجتماعية – أن يتابع عن كثب، و في تفاصيل تطور الأحداث، كيف أنه إذا ما الشعب يوما أراد الحياة يتحول بسرعة مذهلة إلى قوة جارفة تهز أركان ما كان يبدو – زيفا – غير متزحزح و أزلي. أعطت الثورتين لكل من يِؤمن بالثورة فرصة غنية لإعادة إحياء و تقويم المنظومة المفاهيمية لتصوره الثوري و تلقيحه بالمثال الحي الملموس. ما من شك أن تصنيفات مفاهيمية من قبيل "القيادة الثورية"، "انتهازية الأحزاب الإصلاحية"، "الثورة المضادة"، "التنظيم الذاتي"، "الدفاع الذاتي"، "الديمقراطية المباشرة"، "الثورة الديمقراطية"، "ازدواجية السلطة"، "المجلس التأسيسي"، "الحكومة الانتقالية"، "الثورة الدائمة (الربط المتواصل للثورة الديمقراطية بالثورة ضد الرأسمالية)"، "الديناميكية الأممية"، "التحالف الطبقي"، "التدخل الإمبريالي"، "تأرجح الجيش"، الخ. ما من شك أن هكذا تصنيفات مفاهيمية قد ارتوت بالحدث الملموس و خرجت من فضائها النظري الافتراضي إلى المحك المتشعب و المركب للواقع الملموس. ولعل التجربتين الثوريتين سوف يكون لهما – كما قد يكون لأحداث ثورية أخرى قريبة محتملة – إسهام كبير في استخلاص الدروس و تقويم الفهم السياسي و النظري لثوريي المنطقة العربية و باقي العالم.
في هذا الصدد، و كوني من أولائك المشدوهين بغبطة أمام أول إنجاز ثوري يحدث في مساري النضالي، أتقدم ببعض الانطباعات الشخصية :
(1) الثورة تحرير مفاجئ وعنيف لطاقة جبارة كامنة، عنوانها الحرية. معلوم أن الاستغلال و الاضطهاد و الحرمان يولدون الغضب و النقمة و التوق للحرية و الكرامة و العيش الكريم إلا أنه لا أحد بإمكانه التنبؤ بأنَّ من كانوا يقضون أيامهم سَلبيين منهزمين أمام البرامج التلفزية أو في المقاهي أو منتكسين مغتربين في دوامة العمل المأجور قد يصبحون، بين ليلة و ضحاها، في واجهة أحداث تدفع بقوى الاضطهاد إلى التراجع ثم الاهتزاز ثم الارتباك ثم الاندحار. ينتقلون بجموعهم الغفيرة من الانهزامية إلى القتال ببطولة و بقناعة صلبة لا يقوى على إخماد لهيبها حتى الرصاص الحي. صحيح أنه يجب دحض أسطورة "الثورة العفوية المطلقة" و التي تحاول أن تصور الثورة التونسية مثلا كما لو كانت مجهولة الهوية و التنظيم، عديمة الشكل، كما لو أنها تراكم عددي خطي لأفراد لا جامع بينهم سوى سخطهم على النظام. بل إن كل مَنْ خَبرَ النضال عن قرب و كان على اطلاع و لو بسيط للتاريخ القريب أو البعيد للنضال الكفاحي بتونس يعرف أن النقمة الشعبية التونسية تكوَّمت منذ لحظتها الأولى حول الأنوية الكفاحية المنغرسة من قبل في الشعب التونسي الكادح و المتمرسة في العمل الميداني. يكفي التذكير بأنوية العاطلين عن العمل، النقابيين، الطلبة، الخ. صحيح أيضا أن السيل الدافق للشعب الثائر قد يتجاوز لا محالة – في مبادرته، في جرأته، في تنظيمه – ما قد لا تتيحه شبكة المناضلين القائمة. بيد أن هذه الأخيرة هي من تتيح – اعتمادا على خبرتها – الشعارات و المطالب السياسية الموجهة، الهيكل التنظيمي الشبكي، الخ بما يتيح بناء حركة ذات وعي سياسي تتحرك و تتراكم بحد أدنى من التنظيم. لكن، هذا التداخل و الانتعاش الجدلي بين التنظيم و العفوية وارد في كل حركة شعبية جديرة بهذه التسمية – أي كل حركة تغذيها عفوية الثائرين "المجهولين" من أبناء الشعب المقهور أكثر مما تفعله شبكة المناضلين المتمرسين – و مع ذلك ليست كل حركة شعبية جذرية قادرة على تحرير ذلك السيل المتواصل و المتراكم الذي يؤول إلى الانتفاضة الشاملة. لا تنقص الأمثلة في التاريخ القريب للمغرب عن حركات احتجاجية شعبية ذات بعد انتفاضي، غذّاها و استبسل فيها المجهولون من الشعب الكادح كما المناضلون الأقحاح – صفرو و سيدي إفني كمثال ؛ كما لا ينقص الوضع الاجتماعي و السياسي المغربي أبشع مظاهر الاستغلال و الاضطهاد و الإهانة و استفزاز تكدس الثروات و السلطة و الطابع العائلي للنظام و الاقتصاد... رغم كل ذلك، لم يحدث بعد أن توَلَّدت عن حركة شعبية كفاحية محلية موجة الاحتجاج الآيلة للانتفاضة الشاملة كما حدث و يحدث في مصر و تونس. متى إذن يمكن لثورة ما أن تندلع ؟ لا أحد يمكنه تقدير ذلك على الإطلاق، و لو حتى الثوريين الأكثر قناعة و الأكثر انغراسا في الحركة الجماهيرية. الثورة "خط انفلات" (التعبير للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز) يندلع في لحظة دقيقة تتكاثف فيها، بشكل استثنائي و لحظي، عوامل عدة كامنة و متواجدة مسبقا إنما بشكل غير ممركز.
(2) هل يعني كلامنا هذا أن الثورة حدثا "لاهوتيا" لا يعلمه إلا السميع العليم، حدث لا يمكن استباقه، يظل مستعصيا على الإدراك العقلي ؟ و أن على المناضلين ألا يسعوا لافتعاله، إنما ما عليهم سوى انتظار انكشافه المباغت ؟ و ماذا عن ميزان القوى و صيرورة التدخل الواعي و المنظم لقلبه لصالح التغيير الجذري ؟ أجوبتنا عن هذه الأسئلة ليست لا بالنفي و لا بالإيجاب القطعي. نعم، نعتقد أنه مهما بلغت الأشكال التنظيمية (الحزبية، النقابية، الاجتماعية، الخ) من التطور فذلك وحده لا يولد الانتفاضة، والدليل على ذلك هو أن أغلب الثورات الأصيلة عبر التاريخ الإنساني الحديث تجاوزت فيها الهبة الجماهيرية العفوية النطاق المنظم و الواعي لأشكال التنظيم السياسي القائمة (الثورة الفرنسية، كمونة باريس، روسيا فبراير 1917، إسبانيا 1936، فرنسا 1968، إيران 1979...)، بل و أن أغلبها انطلق بمبادرة هامشية عفوية غير منتظرة. قد يكون السبب المباشر لاندلاع الانتفاضة الشعبية مبادرة سياسية منظمة مثل الدعوة للإضراب العام (المغرب 1981) أو مبادرة الفايسبوك للثورة المصرية القائمة، إنما ذلك لا يغدو أن يكون سوى الشرارة التي تفسح المجال لتحرير قوة انتفاضية تفاجئ الجميع، و من ثمة فالمبادرة المنظمة تغدو شأنها شأن الحادث العرضي (الحادث المأساوي للبوعزيزي مثلا). خلاصة القول، نريد أن نؤكد بأن الانتفاضة الشعبية لا تُحدَث و لا تُبعَث بأي حال من الأحوال، بل إن اندلاعها يخضع لمنطقها الخاص الذي لا يمكن لأي عمل منظم أن يضبطه، فقط يمكن لهذا الأخير التفاعل مع الانتفاضة بما في ذلك محاولة إحداثها. بالمقابل، إذا كانت نقمة الشعب تعبر عن نفسها هنا وهناك في شكل مواجهات عنيفة الأكثر عفوية مع السلطة في جل مظاهر الحياة اليومية (مواجهات مشجعي كرة القدم مع البوليس، مواجهات بائعي الخضر مع أعوان السلطة، عنف شباب الأحياء الأكثر تهميشا و فقرا ضد رموز الدولة...) فإن تلك الطاقات المتحررة لا تتكوَّم و لا تتراكم و لا تنتشر إلا إذا ما التقت مع شبكة أنوية النضال السياسي المنغرس، هذا من جهة. و من جهة أخرى، لا يجب الاعتقاد التبسيطي الذي مفاده أن السخط الشعبي هو محض وليد الشروط المادية المباشرة لشظف العيش و الاستغلال فقط، بل إن الوعي السياسي – ولو في أشكاله الأكثر بساطة – تتداخل في تكوينه عوامل مركبة عديدة من بينها (و من أهمها) ما يلتقطه الوعي الشعبي عن الحراك السياسي المنظم، سواء كان ذلك الالتقاط مباشرا أم غير مباشر، عقليا أم حسيا، منظما أم متفرقا. بصيغة أخرى، نعتقد أنه مهما كان التدخل النضالي المنظم محصورا فإن صداه يصل، بشكل أو بآخر، إلى الوعي الشعبي و يتراكم في الذاكرة الجماعية. على أساس ذلك، نحن على قناعة أن الحركات النضالية الشعبية المحصورة كالتي اندلعت في سيدي إيفني أو طاط أو الحسيمة، الخ مهما كانت النتائج التي آلت إليها فإنها لا تزال حية في الضمير الشعبي الذي يرى وضعه الاجتماعي فيها. ليس التاريخ تعاقبا خطيا يضمحل السابق فيه لحساب اللاحق، بل هو، كما يعلمنا الفيلسوف الألماني فالتير بنيامين، كوكبة حية من الأحداث السابقة و الآنية تتداخل و تتواصل فيما بينها باستمرار. إن الظاهر الآني لمجتمع تبدو فيه الدولة ممسكة و متحكمة بمصير العباد و البلاد و تبدو فيه الحياة روتينية سَلبية، يخفي تراكما باطنيا للتجارب التحررية الموءودة لا تلبث أن تستعيد الحياة و تنتزع القدر بعنف خلال الحدث الثوري. نضيف أيضا أنه لمِن البديهي أن العمل النضالي المنظم، و إن كان لا يمكنه لا التنبؤ و لا إطلاق و لا التحكم في الهبة الانتفاضية، فإنه بالمقابل يُنضج حتما الشروط المواتية لهذه الأخيرة و ذلك من خلال تدخله الميداني، بنائه لأدوات النضال الناجعة (نقابات ديمقراطية كفاحية، إطارات التدخل المباشر...)، تغذية الوعي السياسي من خلال الدعاوة و التكتيك السياسي (جريدة، منشورات، مشاركة في الانتخابات، مشاركة في الائتلافات السياسية...)، كل ذلك بهدف جعل ميزان القوى يترنح لصالح المقهورين.
(3) اعتبارا لما سبق، نعتقد أن الثورة – بما أنها تحرر عنيف و مفاجئ لطاقة تحررية شعبية كامنة – تنفلت، في تنبئها و قياس عظمة قدرة دفعها، من الإدراك العقلي. و لحسن الحظ أنها كذلك و إلا لما كانت هناك إمكانية لحدوثها. فرغم "دهاء المحللين السياسين" و رغم كم أرقام الإحصائيات و الدراسات الميدانية التي من خلالها تسعى البرجوازية إلى استباق و احتواء النقمة الشعبية فإن البركان ينفجر على حين غرَّة ليهُزّ كبرياء الخبراء و يمزق خططهم. كيف لا و أن ما يتحرر و ما يتراكم هو نسيج مشعَّب مطمور من السخط الفردي و الجماعي لا يمكن للرصد العقلي أن يستوعبه في حراكه الشديد التعقيد. و ما محاولات البرجوازية لحصر و ترويض الغضب الكامن من خلال مؤسساتها المدروسة بوصفات عقلية – إضافة إلى القمع طبعا – إلا ترقيع بليد و عبثي لا يلبت الحراك الشعبي أن يطفح عنه و يتجاوزه. لا يمكن التقاط الطاقة الكامنة الحية للسخط الشعبي في عمقها و تعقيدها بالإدراك العقلي، بل بالإدراك الحسي (الحدسي) الذي وحدهم المناضلون قادرون على تفعيله. إن نوع المعرفة التي يطورها المناضلون الميدانيون ليست فقط معرفة مرتكزة على العقل المفاهيمي (التكوين النظري، التنظيم و التأطير العقلاني...) بل هي معرفة من نوع خاص : معرفة حسية و ليست عقلية، معرفة عمَلية وجدلية و ليست تأملية و استباقية، وسيطها ليس المفهوم العقلي بل الوازع الأخلاقي، الأمل و التفاؤلية. وحدها هذه المعرفة لدى المناضلين الميدانيين الصادقين أخلاقيا و المتواضعين قادرة على التقاط ما يبدو سرا خفيا لدى المحللين و الاختصاصين لاندلاع هبات شعبية لا تقاوَم و لا تُقهر و تربك كل التخمينات. إن ما يُنعت به المناضلين الثوريين في ظروف التقهقر من سذاجة، طوباوية، حُلم مراهقين هو الوحيد المهيأ و المخول للالتقاط الحدسي و التفاعل العضوي مع ما يطفح على سطح الظاهر "المستقر" لمجتمع الاستغلال و الاضطهاد الطبقي.
(4) استنادا على ما ذكِر، نود أن نثير بعض التحفظ عن ما شاع في الماركسية الدوغمائية من فهم ضيق لل "حتمية التاريخية" و للإدراك "العِلمي" لتطور التاريخ. تقدِّم الماركسية – كفكر نقدي حي و منفتح لا كخطاب خشبي واثق من صوابه حد العنجهية و السلطوية – أدوات التحليل الاقتصادي و الاجتماعي للرأسمالية بما يمكن أن نفهم الأزمة الصميمة لهذه الأخيرة حيث لا تستطيع تدارك ما تنتجه من تناقضات و تدمير للإنسان و البيئة. إلا أن ذلك لا يُنتج إلا الإمكانية الكامنة لتجاوزها الثوري. نعتقد أنه يجب فهم "الحتمية" من هذا المنطلق : الممكن. و الممكن نقيض الحتمي. أما جعل الممكن حدثا، فتلك مسألة مرهونة بالتدخل المنظم و الواعي الذي يستطيع فقط إنضاج شروط التجاوز الثوري للوضع القائم. و كما رأينا، لا يمكن لهذا التجاوز أن يحدث بشكل عميق و أصيل – لا كانقلاب مدروس، أكان عسكريا أم حزبيا – إلا إذا اقتحمت جموع الجماهير العفوية حلبة السياسية و صنعت بنفسها الغير مسبوق (l’inédit). إن الثورة الأصيلة لا تكون إلا بانتفاضة تبدعُ واقعا غير مسبوق و غير مرسوم سلفا. وهي بالتالي صيرورة تتداخل فيها المعرفة العقلية (النظرية و تراكم الدروس السابقة) مع المعرفة الحدسية ذات البعد الأخلاقي و العاطفي، كما يتداخل فيها – على حد سواء – العفوي بالمنظم. من ثمة، فالثورة هي الحدث الاجتماعي التاريخي الأقرب إلى الفن (و الأبعد بالضرورة عن العِلم). إن فهم الثورة من منظور الممكن، لا الحتمي، لمن شأنه دحض الفهم اللاهوتي و التبشيري للثورة – بمثابة "يوم القيامة"، (ألكَم هم كثرٌ من فهموا الثورة كذلك فانقلبوا محبَطين بعدها ليتحولوا إلى براغماتيين ليبراليين !!) – ليجعلها صيرورة جدلية آنية وجب التقاطها و الإصغاء إليها في كل تحرك شعبي مهما كان جزئيا. المفهوم "الممكن" للثورة – ضد القدرية الحتمية – يجعل من الثورة ثورة قبل الثورة، ثورة خلال الثورة و ثورة بعد الثورة، أي أن الممكن بالضرورة سعي للإبداع المتواصل و ليس الاكتفاء بالنموذج "الحتمي".
(5) الثورة ملحمة شاعرية جماهيرية، أي نعم، لكن مُحدثها و مُحرّر سيلها أولائك "المجهولون" الذين يهبّون من سراديب الاستسلام اليومي كي يصنعوا التاريخ، يرمون بأجسامهم لمواجهة و صد القمع الدموي العنيف لأجهزة البوليس و الجيش. أولائك الصامدون على خط الصدام الأمامي ببطولة و بشجاعة و تضحية. هم الذين يدفعون بعنجهية الدولة إلى التراجع و بالتالي قلب الصورة و الانتقال إلى جوهر دينامية الثورة : الانتقال من الدفاع إلى الهجوم. الثورة ليست في الشِعر و الأغاني بل في صلب الألم و الصمود في وجه القمع. الثورة خلابة و قبيحة في نفس الآن.
(6) نود الإشارة للعامل الثقافي في ديناميكية الثورة : الدين أولا. لعل كل شغوف بما يحدث في مصر الآن قد لفتت انتباهه تلك الروح الإنسانية الرهيفة و المحَبّة الجياشة التي أينعت وسط الملايين الثائرة و لاسيما في "الحرم الثوري" (ميدان التحرير). فمثلما سبق لكارل ماركس أن لاحظ ذلك في تطرقه لكمونة باريس (انعدام السرقة، اختفاء الدعارة...) تأتينا أخبار من نفس القبيل حيث اختفت بين الشعب الثائر في مصر مظاهر التحرش الجنسي، و اختفت السرقة، و ذابت الطائفية، كما تبخرت الحساسات السياسية الموروثة (إمام إسلامي متأثر بما رآه من حرية اعتذر علنا عن ما كان يتهجم به ضد الشباب العلماني من على منبر مسجده سابقا). و لعل خطبة "جمعة الغضب" المؤثرة لَخير دليل عن هذه الروح. و من الطبيعي أن تتخذ هذه القيم النبيلة أشكال تعبيرها من البوثقة الرمزية و الأخلاقية الأكثر رسوخا ألا و هي الإسلام. لا يمكن اختزال المظاهر الدينية التي تطبع الثورة المصرية (و بشكل أقل الثورة التونسية) في عمل دعوي إسلامي عن سبق إصرار و ترصد. لا يمكن تفسير دور المساجد في إسعاف و تأطير الشعب الثائر (من خلال توجيه النداءات عبر الصوامع)، و لا مشهد الصلوات الجماعية و لا عبارات التضرُّع لله بحصرها الضيق في أساليب الاستثمار الحزبي للإخوان المسلمين. بل نعتقد أنها التعبير الرمزي و التضامني لقيم نبيلة يعبر عنها الشعب الثائر بطريقته الصادقة. صحيح أن كل من احتك ميدانيا بجماعات الإسلام السياسي أدرك بسرعة مدى خبثها و نفاقها و خسة أساليبها، كما أدرك لا محال زيف المظاهر الدينية التي تتحلى بها و توظفها للمزايدة و للاستثمار السياسي السريع. فالكل يعلم أن صيحات "الله أكبر" تُفتعل غالبا بنيَّة مبيَّتة لطبع احتجاج ما بخاتم الحزب الإسلامي، أو في أحسن الأحول للتعبير عن ثقب في الوعي السياسي يحُول دون التعبير عن الشعار السياسي المطلوب. بيد أنه يجب التفريق ما بين حالات الاحتواء الحزبي الإسلامي و التعبير العاطفي ذو المضمون السياسي و الأخلاقي الصادق للشعب المتدين. يجب التخلص من السلوكيات الصبيانية و النرجسية لدى اليسار الثوري التي تزدري التعبيرات الدينية للشعب. و هنا نود أن نفتح قوسا صغيرا لإشكالية عظيمة. لا يمكن لأي تيار ثوري يحمل على عاتقه بشكل جدي الإسهام الفعال في ثورة شعوب المجتمعات المسلمة ضد الاضطهاد و الرأسمالية أن يكون حزب إلحاد أو، على الأقل، أن يهمل المسألة الدينية و الثقافية بشكل عام. الكل يتفق أن ما يدفع الشعب الثائر في تونس و مصر إلى قلب النظام ليس فقط رفع الحيف الاجتماعي و السياسي بل هي مسألة كرامة و إعادة الروح الجماعية لقيم إنسانية نبيلة اندثرت في ظل نظام قبيح و مقيت يرتوي بالكراهية و الشوفينية و الكذب و الأنانية. الدافع المادي وحده لا يفسر استعداد الناس للشهادة ما داموا لن يموتوا جوعا في كل الأحوال، إنها مسألة كرامة. و بالتالي، فإن كل ثوري صادق و متواضع سوف يُدرك بأن القيم الأخلاقية النبيلة لمجتمع متدين تتخذ تعبيراتها من داخل قيمه الرمزية الراسخة قرونا خلت – و في مقدمتها الدين، و أن القناعة اللادينية لدى اليساريين لا تكفي لطمس هذه الحقيقة أو التغاضي عنها . ما يجب المضي في اتجاهه في إطار تحرير المجتمع من الاستغلال، الاضطهاد و الاغتراب (الاستلاب) ليس تحرير الإنسان من تاريخه و ثقافته و تراثه – بما فيها الدين – (وحده النظام الشمولي يدعي القدرة على ذلك في مقابل سحق الجميع) بل "بتحرير الدين من الدين". بصيغة أخرى، تحرير الدين مما تكلس فيه من سلطوية و تحجر و أحادية الرؤية. و هنا تكمن الأهمية القصوى للنضال من أجل حرية المطلقة للاختلاف بما في ذلك – و على الخصوص – المسألة الدينية التي يجب إقحام الفكر الجدالي و النقدي فيها. و هنا تكمن الحاجة الماسة لمثقفين من طينة الفقيد نصر حامد أبو زيد و قراءته للدين من وجهة نظر تعيد له الحياة و قيم الحرية و الإبداع. نعتقد أنه عندما سيلتقي اليسار مع مشروع تحرير الدين من الدين، يومئذ سيصبح الإسلام السياسي قاب قوسين أو أدنى من الاضمحلال.
(7) العروبة ثانيا : لا أحد يمكنه تفسير الانتفاضة الثورية للشعب المصري في معزل عن ما حدث في تونس. لا بل إن المثال التونسي هو الذي أحدث الصدمة المفاهيمية و النفسية التي حررت عزيمة شعوب المنطقة العربية بما أتاح للشعب المصري – وفق الظروف الخاصة به – أن ينتفض بكل هذا الزخم و القوة و العنفوان و الجمال. لقد أحدثت الثورة التونسية انقلابا عميقا في مفهوم "التاريخ" لدى شعوب عربية طالما رزحت تحت أنظمة استبداد "أزلية"، لا بل و لدى حتى المناضلين الأكثر قناعة ب "حتمية" التغيير الجذري. لن يظل مفهوم التاريخ استسلاما و رضوخا لوضع قائم وجب التأقلم معه كلٌ بطريقته الفردية. سوف يكون للحدث التونسي مفعول صدمة نفسية و مفاهيمية تكنس الانطباع المتوقف للتاريخ لتجعل منه حقلا مفتوحا للممكن و للصنع الجماعي للمستقبل – أوَ ليس دور الماكينة الإيديولوجية هو ترسيخ الاعتقاد بأن ما هو قائم هو الممكن الوحيد ؟ تونس دحضت ذلك بجرّة انتفاضة. إن هذا ما يفسر ما يحدث في مصر و ما سوف يحدث من هنا فصاعدا في باقي المنطقة العربية، إذ أن حقبة تاريخية و سياسية جديدة فتحتها الثورة التونسية و لن تتوقف مع الثورة المصرية. و هنا نود أن نلفت الانتباه أن ما يجمع هذه الشعوب من تاريخ و من ثقافة مشتركة ليس بمنأى عن ما يتوسط هذه الدينامكية "الأممية العربية". معلوم أن ما يعطي معنى للأممية العمالية هو نظام الاستغلال الرأسمالي العالمي، إلا أن عوامل تواصل و توسط أخرى تجعل من هذه الأممية "الموضوعية" المبدئية شبكة معقدة من الصيرورات الخصوصية ذات الطابع الثقافي و التاريخي المشترك. فشعوب المنطقة العربية مثلا تتأثر أكثر من غيرها بما يحدث بفلسطين، و شعوب المغرب الكبير تتأثر أكثر من باقي الشعوب العربية بنضالات العمال و الطلبة الفرنسيين بحكم الارتباط التاريخي و الثقافي الذي خلفه الاستعمار، الخ. على هذا الأساس يجب استيعاب العروبة : كإطار تاريخي و ثقافي موحَّد للتضامن العمالي و الشعبي و للثورة العربية الدائمة – السائرة. إن الانهيار الذي أحدثته الثورة التونسية لإيديولوجية التاريخ المتوقف يلقى صداه بشكل أساسي داخل الحقل الثقافي الذي تشكلت و انتعشت فيه هذه الإيديولوجية، ألا وهو البوثقة الثقافية العربية. بالطبع، عندما نتحدث عن العروبة نقصد بذلك إطارا تاريخيا و ثقافيا موحدا – في انفتاحه على ثقافات أخرى – تشكل منذ العصر الأموي إلى يومنا هذا، و مرجع "العروبة" هنا ليس عرقيا و لا حتى لغويا بل تاريخيا و ثقافيا تشكل اللغة العربية الفصحى فيه فقط أداة للتواصل المفاهيمي و لا يمكن اعتبارها إحلالا للتعدد اللغوي و الثقافي داخل الإطار الواحد. بالتالي، إن الفهم الذي نطرحه لمنظور العروبة يتناقض جوهريا مع العروبة كإيديولوجية قومية برجوازية بيروقراطية سلطوية (بعثية، ناصرية،...)، بل مفهومنا يرتكز على وعي بالأهمية الجوهرية للتاريخ و للثقافة كبوثقة منفتحة للتضامن و التحرر في إطار التعدد اللغوي و اختلافات الخصوصيات المحلية. إن تحرر الإنسان ليس في انعتاقه المادي الاجتماعي فحسب، بل و بالأساس انعتاقه من اغترابه و انسلاخه عن نفسه، و ذلك ليس ممكنا إلا باسترداده لما هو حي مشرق في التاريخ و الثقافة، ليصبح هو التاريخ و الثقافة.
#يحيى_الشتوكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تركيا تسمح لحزب مؤيد للأكراد بزيارة عبدالله أوجلان
-
الدفاع التركية: تحييد 14 عنصرا من -حزب العمال الكردستاني- شم
...
-
-حل العمال الكردستاني مقابل حرية أوجلان-.. محادثات سلام مرتق
...
-
عفو «رئاسي» عن 54 «من متظاهري حق العودة» بسيناء
-
تجديد حبس المهندس المعارض «يحيى حسين» 45 يومًا
-
«نريد حقوق المسيحيين» تظاهرات في سوريا بعد إحراق «شجرة كريسم
...
-
متضامنون مع المناضل محمد عادل
-
«الصيادون الممنوعون» في انتظار قرار مجلس الوزراء.. بشأن مخرج
...
-
تيار البديل الجذري المغربي// في خدمة الرجعية يفصل التضامن م
...
-
جريدة النهج الديمقراطي العدد 585
المزيد.....
-
اللاعقلانية الجديدة - بقلم المفكر الماركسي: جون بلامي فوستر.
...
/ بندر نوري
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
المزيد.....
|