|
فراس عبد المجيد شاعر يخرج من ركام الأزمنة المرة...
جواد وادي
الحوار المتمدن-العدد: 3269 - 2011 / 2 / 6 - 20:11
المحور:
الادب والفن
من الطبيعي أن يشكل حضور المبدع الفاعل في المشهد الإبداعي رافدا هاما لاغناء التجربة الإبداعية بشتى أجناسها، فتتعدد التجارب من حيث الكم والكيف، وصولا ًإلى الصورة التي يرومها المبدع، وتحديداً بالنسبة للمتابع الفطن الذي يلتقط الهم الإبداعي بعين راصدة، والمشاركة في إثراء تجربة المبدع، وكشف الهنات التي قد تشوب العمل لتجاوز المثالب غير القصدية التي قد يقع فيها مبدع النص، وهنا تكون المشاركة الفاعلة تحقيقا للهدف الذي يسعى إليه الطرفان، مبدعاً وقارئاً ندياً. للعمل. بمعنى آخر أن المبدع يمارس دوراً تحريضياً للمتلقي، ليحفزه على التفاعل العاشق للنص. وقد تقود هذه العلاقة إلى خلق حالة صحية يحتاجها المبدع لتهذيب التجربة، وكشف المثالب. زكما يقول رولان بارت: (يجب على النّص الذي تكتبونه لي، أن يعطيني الدليل بأنّه يرغبني.و هذا الدليل موجود، إنّه الكتابة. لتكمن في هذا ،علم متعة الكلام ،و لم يبق من هذا العلم سوى مصنف واحد،إنّه الكتابة نفسها ). وهكذا كانت علاقتنا بالمبدع الشامل فراس عبد المجيد، فناناً تشكيلياً، وصحفياً مرموقاً أشرف على البيت الثقافي للمبدعين الشباب، من خلال إشرافه على أهم منبر ثقافي آنذاك، ناقداً صارماً، وعرّاباً حقيقياً لجيل بات يشكل ظاهرة في المشهد الشعري والقصصي والثقافي الآن. لكننا لم نعرف انه منتج لنص شعري بهي ولافت، إلا حينما فجّر مفاجأته الشعرية بإصداره ديوانه الأول الموسوم (نخلة الروح). وبقدر ما يتعلق الأمر بمقاربات تقودنا إلى السبب الذي يجعل من المبدع الموهوب يلوذ بالصمت، ولا يبادر، كأقرانه من ذات الجيل، إلى الظهور، ما يجعلنا نواجه سؤالاً قد يتكرر كثيرا من جيل إلى جيل، ذلك أن أصواتاً شعرية ظلت خلف كواليس العمل الإبداعي برغم ما تكتنزه من موهبة متميزة.ولا نعرف السبب الحقيقي لعدم مزاحمة الآخرين ممن كان حضورهم على الساحة يشكل ظاهرة كانت تحبو في بداياتها، حتى امتلكت ناصية الكتابة، وأثبتت حضوراً لافتاً ووازناً. ولا نتردد أبدا، حين فاجأتنا مبادرة المبدع فراس عبد المجيد، في أن نعيد ترتيب المشهد، لنعترف على هذا الصوت المتفرد، رغم صمته الخجول، قبل وبعد ظهور باكورته الشعرية الأولى. برغم أنني لا اعتبرها باكورة أو مولوداً أول، بل هي خميرة تجربة ينبغي أن نحييها باقتدار، موهبة الشاعر الذي لازم الصمت طويلا، حتى قرر أن يخرج هذه الإضافة، ليرمم الشرخ الذي قد يكون وقعه أكثر علينا من إحساسه هو ذاته، حين نكتشف أننا أمام إمكانية شعرية ظلت بنأيها عن الظهور طيلة عقود من الزمن، تعتبر خسارة للمشهد الشعري العراقي إن لم يبادر الشاعر بهذا الكرم الشعري اللافت. هذه المجموعة قد تخلخل الكثير من القناعات لدى المتابعين للأجيال الشعرية العراقية، من حيث عطاؤها ورفدها للتجربة الشعرية العربية والتصاقها من قريب أو بعيد بمن جايلهم من الشعراء، إذا ما علمنا انه ينتمي للجيل الستيني بذات الرؤيا والتوظيف والنفس الشعري والتخييل الفطن، ورغم أن هوة التباعد الزمني بين بوح الشاعر ومنجزه الشعري قد ناهز النصف قرن وما يزيد، لكن شاعرنا بقي أميناً لطريقة كتابة النص التفعيلي لتلك الحقبة الطويلة وهذا يعني أمانة الانتماء، حيث بقي الشاعر يختزن بدواخله الهم الشعري لتلك المرحلة الذهبية بقاماتها الشامخة، كالسياب في أواخر حياته، وسعدي يوسف وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ومحمود البريكان .. وغيرهم من الأصوات الشعرية التي أسست اللبنات الأولى لقصيدة التفعيلة، لتفتح منافذ للأجيال اللاحقة، وتؤسس لعتبات سهّلت كثيراً من مهمة من جاء بعدهم من شعراء على امتداد خريطة الشعر العربي، وباقتدار وشموخ وقوة حجة في المنجز، برغم مشروع التحديث الذي تعرضت له قصيدة التفعيلة . فراس عبد المجيد شاعر بتجربة شعرية كانت تلوذ بالصمت، واكب فرسان الكلمة الشعرية الرواد، لكنه لم يطرح نفسه مشروعاً شعرياً إلا مؤخراً. ونحن لا نبالغ إذا ما قارنا النصوص التي تضمنها الديوان بنصوص كنا نتمايل طرباً عند قراءتها بموسيقاها ومتانتها مبنى ومعنى في بداياتنا الأولى. والغريب في الأمر أن تاريخ الإبداع منذ أجيال قد عرف ظاهرة المبدع الذي يظهر متأخراً لأسباب قد تكون ذاتية أو قد تكون موضوعية، وله الحق في تبرير قناعاته في ذلك، لكنها بالنسبة للقارئ تبقى قضية إبداع تحمل الكثير من الدلالات، نأسف لكوننا لم نقراها قبلاً، فتكرم علينا، وأتحفنا بهذه التجربة التي أحيت بدواخلنا بهاء النص التفعيلي بعد هذا الحصار المخيف للكم الهائل من قصيدة النثر، حين اختلط الغث بالسمين، ليعيدنا الشاعر إلى ذلك الزمان الجميل، المأسوف على رحيل مبدعيه الحقيقيين، الذين كان لهم الفضل الأكبر في أن يخطّوا لنا، بجهدهم ومثابرتهم طريق البداية الذي، وللأسف الشديد، تنكر لهم شعراء اليوم بعنجهية وتعال ٍ وعقوق، لكنهم، وبرغم كل شيء، يظلون المرجعيات الحقيقية لنا جميعاً. نعم، فالشاعر فراس عبد المجيد ظاهرة ينبغي ايلاؤها ما تستحق من اهتمام. ونحن نسمعه بين الفينة والأخرى يعبر عن تواضعه، وكون تجربته الشعرية ليست بذات الأهمية التي نراها نحن عكس ما يدّعي تماماً، وهذا تواضع يثري كثيراً من تجربته ، ونحن لا نعلم بأنه يحضّر لمفاجأة جديدة. فمرحباً بمفاجآته الثرية، التي ستكون محط ترحيب، لتنصف هذا الشاعر الموهوب، وتعيد له شيئاً من البريق الذي يستحقه بجدارة. فقد اعتاد على التواضع برغم ظهور العشرات من المبدعين، ممن رعاهم شخصياً، وفتح كل ممكناته الثقافية لتبني أعمالهم حينما كان مسئولاً عن منبر ثقافي مغربي هام، فوضعهم على سكة الإبداع الشعري والقصصي، حين كان الملحق الثقافي لجريدة الميثاق الوطني البوتقة التي صهرت كل الإبداعات وفتحت منافذ بهية على الإبداع الحقيقي، بعد أن ساهم، بتبنيه شخصياً لهذه الأصوات، والسهر على توجيهها للانطلاق في عالم الإبداع والعطاء. نذكر بعضا من هذه الأسماء: دة. سعاد الناصر (أم سلمى)، الشاعر جمال الموساوي، د. جمال بوطيب، الشاعرة وداد بنموسى، الشاعرة أم سناء (نجاة رجاح)، الشاعرة والصحفية فتيحة النوحو، الشاعرة فاطمة الزهراء بنيس، الشاعر محمد احمد بنيس، الشاعر محمد أنوار محمد، الشاعر عمر بنلحسن، الشاعرة نجاة الزباير، الروائية والشاعرة أسمهان الزعيم، الشاعرة نادية يقين، الشاعر عبد الرحيم الخصار، الشاعر مصطفى ملح، الناقد محمد بوعزة، القاص محمد عطاف، الشاعر عبد الجواد العوفير، الشاعر نفيس المسناوي، الشاعر منير الإدريسي، والكثير غيرهم.... واعترافاً إنسانياً عذباً بهذا الجميل، يقول الشاعر الموهوب جمال الموساوي بحق المبدع فراس عبد المجيد: "فراس عبد المجيد، بالنسبة لي ليس شخصا عاديا، فهو حين يتحدث يبتسم أيضا، وابتسامته تلك ابتسامة طفل ينظر بعين البراءة إلى الحياة. وعندما أنظر في أعماق قلبي أبحث عن الأحبة يكون فراس واحدا ممن يصعدون إليّْ. وإذا كنت مدينا لصدفة ما كما أزعم، فانا مدين لها لأنها حملتني ذات يوم ووضعتني على مكتبه في جريدة الميثاق الوطني سوادا على بياض يبحث عن نفسه في زحمة الكلمات."
دلالات ومرجعيات العنوان: نخلة الروح هو عنوان ديوان الشاعر فراس عبد المجيد. والعنوان يحيلنا على ديوان الشاعر حسب الشيخ جعفر الموسوم (نخلة الله)، وهو باكورة أعماله أيضاً، لنعرف ما لقدسية النخلة، لدى المبدع العراقي على وجه التحديد، وللعراقيين كموروث ورمز لها مكانة مباركة. ولا ندري كيف حصلت هذه المصادفة، إذ أن كلا الديوانين هما باكورتا الشاعرين. الأول أرجع النخلة إلى الله، والثاني أحالها على الروح. ولكلا الحالتين مغزى أبلغ، وله من الدلالات ما يعزز تعلق أهل العراق ومبدعيه بهذا "الكائن" الرمز. وحدكِ الآن تسمقين كرمح ٍِ في خاصرة السماءْ. كل الأزمنة هباءْ ويومك التاريخ كله... (نخلة الروح ص39) هنا يتضح ما للنخلة من معنى يتعدى المألوف، لتجمع تاريخ تلك البلاد القصية. إنها أرض السواد وأهلها الذين يعتبرون النخيل جزءً من شخصيتهم وتكوينهم الإنساني الضارب في عمق التاريخ بعطائه وشموخه وثرائه. للنخلة مكانة في حياة الشعوب، وكانت حاضرة بقوة في جميع الأديان التي مجّدتها الكتب السماوية بإسهاب في التوراة والإنجيل، وذكرت في القران الكريم في 21 آية: "فأنشانا لكم به جنات من نخيل وأعناب" ( المؤمنون آية 19) وقال السرّي الرفّاء في النخلة فالنخل من باسق فيه وباسقة يضاحك الطلع في قنوانه الرطبا وكانت النخلة تعتبر في حضارة وادي الرافدين، لدى البابليين والسومريين، شجرة مباركة تزين ردهات المعابد وعروش التيجان. حيث كان في معتقداتهم أن إله النخل يظهر على هيئة امرأة، فينتشر على أكتافها السعف كالأجنحة. أما شريعة حمورابي في مادتها 59 فكانت تحرم قطع النخلة الواحدة وتغرم الفاعل بنصف فضة، ويعتبر مبلغاً كبيراً آنذاك. والنخلة تشترك مع الإنسان بسبع صفات، من أهمها قدرة التحمل والصبر، وعدم الإنحناء. ومن صفاتها أنها تموت وهي واقفة. وهذه لعمري من صفات العراقيين.. فلا غرو أن يوظفها الشعراء، ومن بينهم شاعرنا فراس عبد المجيد في أعمالهم بهذا التعلق والبهاء، تيمناً وعشقاً وتقديساً للنخلة المباركة. وكانت النخلة تعبد لدى السومريين متمثلة بعشتار. وحين داهم مريم العذراء المخاض خاطبها الإله: "هزي إليك بجذع النخل تسّاقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقرّي عينا." (مريم 23-26) أما في العراق فتمثل النخلة رديفاً للوجود العراقي تاريخاً وإنتاجاً ومقدسات، ورمزاً لأرض السواد، فهي مصدر الخصب والنماء، وقد تعلق العراقيون بها، وباتت أنيسهم ومصدر فخرهم. وقد وظفها العديد من الشعراء في نصوصهم. أما رديف النخلة، (الروح) كما وظّفها الشاعر في الديون كعنوان دال، فهي بدورها من مقدسات الوجود الإنساني وكينونته، وهي إفاضة للجسد تتحرك باشراقات نورانية. وقد وصفها ابن سينا: "بان الروح تمنح الجسد المادي بواسطة النفس كل ما يتخيل ويفكر ويذكر ." كذلك أعطاها ابن القيم أربع مراحل: الإحتضار سكرة الموت الصعود إلى السماء البرزخ وهذه التوصيفات تعطي للروح بعدا صوفيا أكثر منه ميتافيزيقيا. وقد توفق الشاعر حين ربط النخلة بالروح لتكون اقرب إلى الوجع العراقي المر، وابلغ معنى لمأساة الإنسان العراقي بانكساراته وألمه الممض وروحه المعذبة. وعاد عنوان المجموعة رديفاً لكل النصوص التي سعى الشاعر من ورائها إلى تجسيد حقيقي لمعاناة الإنسان، حين تبقى سلواه الوحيدة فيما يحتكم عليه من رصيد بات من الذكريات، بعد أن سحقته عجلات القساة. ولكنهم رغم ذلك ما اجتثوا النخل، ولا انتزعوا روحه اللصيقة بالأرض، والمتجذرة مثلما النخل، الضاربة عمقاً وتمسكاً بالأرض العراقية. وهذا الربط الفطن منح النص كثيراً من البهاء : وحدك ِ توقظين الليل سميراً ثم تسريان معاً في غابة ضوء بعيد آت ٍ حتى انبلاج الجرحْ أو انطفاء المدارات...(نخلة الروح ص39) لنتأمل دقة الوصف والربط بين مفردتي النص، ورغبة الشاعر في أن يفتح مجسات لتحريك المتلقي، ليقترب أكثر من وجده وانكساراته. الديوان تتصدره مقولتان يستشهد بهما الشاعر، الأولى لأبي حيان التوحيدي "عجبي من لسان مفتون بالعبارة، وقلب تاه في أوائل الإشارة" بهذه الاستعارة يريد الشاعر أن يبلغنا حسه الصوفي الذي يطغى بقوة على متون النصوص. أما المقولة الثانية فهي للروائي الكبير نيكوس كزنتزاكيس اذ يقول "إني لا أجد زماناً، ولا أجد مكاناً لكي ارقص. أنا على عجل" ليذكّرنا بالرائع زوربا وتعلقه بالحياة وجوداً وحباً وانشغالات. إحالات غنية بالمعاني ليفتتح نصوصه بعد أن يخضعها لذات الرؤية والنفس الفلسفي المعبر. الديوان موزع على أبواب، وكل باب يشتمل على مجموعة قصائد. الباب الأول اسماه تنويعات يفتتحه بنصه الأول مكابرة: كلكم بالعتمة العمياء شعركم ملئ وأنا.... شعري يضئ....(ص7) لمن يوجه يا ترى الشاعر هذا الخطاب الشعري الذي لا ينتمي لصفة التكابر بل هي المكابرة للإفلات من ربقة الأسر ليكون الشعر منفذه للإحساس بآدميته، إنه يقينا يخاطب جمهرة الشعراء إيمانا منه بأنه يلتقي معهم على بياض الكلام كونهم يكتبون بامتلاء أما هو فيكتب باضاءآت لتكتمل الصورة.
أما في نص صدفة فنقرأ: صدفه تخبو في فلوات الصمت أغانينا وتنام على هدب الليل قصائدنا يغفو في النجمات بريقْ ........................ صدفه يسكر تحت خطانا دربٌ ويجن طريقْ......(ص7) ليس بمقدور الشاعر أن يمسك بتلابيب الزمن الهارب واللحظات الفاتنة محطات قد يضيع فيها الإحساس بالوقت. فقط يريد أن يذهب بعيداً بتأمله للنفاذ من وطأة اللحظة القاتلة. الوطن عند الشاعر يتوزع بين مقبرة وزهرة ليمون، كلمتان متنافرتان، ولكنهما في محنة العراق تكملان إحداهما للأخرى: سيدتي تسأل عن وطن ٍ يتشكل في مقبرةٍ يتجزأ في زهرة ليمونْ....(جنون ص8) في نصه الذي يهديه إلى روح الشاعر بلند الحيدري تحت عنوان "طريق أغمات" ، وهي قرية قرب مراكش فيها ضريح الشاعر المعتمد بن عباد، نقرأ: كنت ادري.. غير أن السيف في أغماتَ مزروع على الدرب علامه فانزوت في الصمت كل الأغنياتْ.....( ص11) يلتقي الشاعران بلند الحيدري و فراس عبد المجيد في حضرة الشاعر ملك الملوك المعتمد بن عباد في ذات الإحساس بالغربة والضياع والمكابدة وفقد الوطن، تلك القواسم التي عادت نشيد المراثي لشعراء العراق، لكون الشعراء الثلاثة يتوحدون في الفقد واليتم والشعور بالضياع ودفء الأرض. في نصه" عازفة البيانو" يتوزع النص على صور تشكيلية برؤية فنان تشكيلي يزاوج بين الرؤيا الشعرية والرؤيا البصرية، ليمنحنا توليفة فنية على إيقاع آلة البيانو تتوزع على 12 لوحة: مدّي لي من همس الأجراس سماءْ وانتشري ما بين غيوم العمر فضاءْ وحدك تمتلكين السمعَ وُتمتَلكين به وتردد نغمتك الأصداءْ....( ص13)
في باب المجموعة الثاني (أل التعريف) لم تبرح أبدا صورة الإنسان العراقي بشموخه وتحديه للمحن التي كابدها، وما زال يعانيها، بمرارة الصابر والمتشبث بالأمل والضياء القريب. يا لهذا الجبلْ كلما داهمته السيولُ استطالْ كلما فاجأته الثلوجُ اشتعلْ....... (الجبل ص 19) هكذا هو العراقي لا ينكسر ولا يلين، كالطود الأشم، جبلا يظل بوجه الأعاصير مهما عظمت. العراق وطن الشهداء والضحايا والنكبات. والشاعر حين يكتب نصاً عن الشهيد فهو يجمع كل شهداء العراق دونما تمييز ليوحدهم في قدسية الشهادة : ليته قال لي انه راحلٌ باتجاه الأفولْ ليت أن الفصولْ غيّرت في مواسمها كي أرى بوحهُ شاحباً في المطرْ كي تطل ابتسامتهُ في اخضرار الشجرْ....(الشهيد ص20) لا ادري لماذا يحضرني وأنا أقرا هذا النص رحيل الشاعر العذب شعراً وقيماً، محمود البريكان؟ ألانه يمثل رمزاً لكل الشهداء الوديعين الذين رحلوا وتركوا وراءهم ذكرى طيبة واسى ممضاً وإحساساً لا يتوقف بالمرارة؟! شهداء العراق كلهم وديعة سماوية مقدسة، وبهاء ملائكي طاهر، مبدعين كانوا أم أناساً مغدورين . ونحن نجول في بياض الكلام الشعري المطرز بالبهاء وبترف المنتشي، فكأننا نتحول بين أرخبيلات بعيدة لا بأرض جرداء، وباوقيانوسات تلفنا بها الأمكنة، وتعرّجات تكوينية نهتز لها حيناً، ونستسلم للهدأة حينا آخر، بقراءة العاشق الذي لا يمل تنوع التوظيفات ونغم الصياغات وموسيقى التلاوين الشعرية الطافحة بالمعاني والرؤى الباذخة. في نصه الذي أكرم فيه الشعراء والذي أنصف بني جلدته، كون الشاعر دائم الاحتراق، ليهدي ما يبهج القارئ، وييسر عليه الطريق، حين يتحول الشاعر إلى شمعة تحترق لتضئ الطريق للآخر، تذكيراً بمقولة الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت في هذا المنحى. أطفأ في راح الكف سيجارتًهُ فاشتعلتْ في الروح الغاباتْ أشعل عود ثقابٍ فوق الجرح ِ فأجّجَ في النفس الرغباتْ اطرقَ صمتاً احرقَ وقتاً دبّتْ فوق الرمل ِ أصابعهُ كعقاربَ تهجرُ ساعتَها لتشيرَ إلى كل الأوقاتْ..... (الشاعر ص22) هكذا هو الشاعر في تضحيته في كل الأوقات، ليظل قبساً دائم التوهج والعطاء. حين يتحول الإحساس بالألم إلى حالة غير مألوفة، يلتقطها الشاعر ليضفي عليها جمال الصورة وصدق المشاعر، بطريقة لا تخلو من التحدي.
سلني عن وتر ٍ أسكتَ نبض اللحن ِ وظل أسيرَ النسيانْ..... (السؤال ص23) جميل ان يعود الشاعر إلى ذاكرة للأشياء المنسية، حين تعصف الأهوال بكل شئ، حتى تنسف خزين الذاكرة المعذبة. انه المآل الذي يظل الشاعر يحتسي تأوهاته، حتى يظنه آتياً إليه، وقد يصدمه البحث حين يكتشف انه لا ينال إلا السراب. من المعلوم أن شعر التفعيلة هو التزاوج بين المعنى والمبنى بترنيمات راقصة، موسيقى ولغة وتوظيف شعري ملئ بالمعاني والصور والخيال، خلافا لما وصل إليه الشعر في كثير من حالاته حين تحول إلى تكوينات كولاجية خالية من القيمة الشعرية الحقيقية. وهنا ينبغي التأكيد على أن كل شعراء التفعيلة من القامات المعروفة قد مروا من هذه التجربة، وتحولوا لكتابة النص النثري أمثال ادونيس وسعدي يوسف والبياتي، وحتى محمود درويش في كتاباته النثرية المتميزة، وغيرهم من الشعراء. أما شعراء قصيدة النثر من الأجيال اللاحقة فهم غير قادرين، وحتى عاجزون عن كتابة نص تفعيلي واحد لجهل معظمهم بالبحور الشعرية، وهنا تكون مرجعياتهم ناقصة، ونصوصهم هشة في غالب الأحيان. ولا يسعنا إلا أن ندافع عن هذا المبدأ، إذا ما أريد للنص الشعري أن يمتلك مقومات نجاحه، ويظل الشاعر يتباهى بما ينجز وما يحتكم من مخزون للتمكن من الإلمام بكل أدوات الكتابة الشعرية الموفقة. رسمتَ فوق الشفة الغضبى ابتسامة الرضا جلجلتَ في الحناجر ِ التي أخرسها الصدا قهقهة استحسان..... (المهرج ص25) يتقمص الشاعر كل الأدوار، ليقرأ بحكمة العارف، كيف يندس بخفة إلى دواخل المتلقي، ليفهم فضوله ومكنونات أعماقه، ويقرأ ما بداخله من هموم وحالات مرتبكة، تحتاج إلى خلخلتها لتنفرج أساريره، وينتشي ألقاً، ليخلق مصالحة بدل الجفوة التي باتت الآن سمة القارئ بينه وبين الشعر. الأم بصيغة الجمع، أمهات العراق اللائي كن الشريحة الأكثر إيذاء وتحملا وعذابا ووجعا يوميا، هن اللائي ما توقف نحيبهن ولا عويلهن، وهن يعايشن كل لحظة انتكاسات أولادهن وأزواجهن وبناتهن وأحبتهن، ويتحملن أوزاراً لا يطيقها أي كائن غيرهن... يفرد الشاعر المبدع فراس عبد المجيد لهن حصة موجعة اعترافا لهن وما تحمّلن من أعباء وظلم وضياع وخسارات لأعز ما لهن، جراء الحروب والمغامرات وموت الضمير الإنساني إزاء ما لاقاه بشر العراق المنكوبون. ما أجملكن تنثرن بقايا العمر نجوما تلألأ فوق شفاهي الظمأى مطرا بلوري القطرات.....( الأمهات ص28) إنهن جميعا أمهات الشاعر، دونما تفريق بين من أرضعته من حليبها المبارك ومن شاركن نحيبها لفقد اعز ما تملك. إنه نشيد يتجدد في كل لحظة في دواخل الشاعر، ليحس بكينونته كي لا يتشظى ويتحول إلى عدم، ليظل لصيقاً بأرضه ومن يحب، حتى وان كانت مجرد أحلام بعيدة المنال، وتبقى الأم الأمل والدفء والحنان والخير وأنقى القيم، حمّالة الأسى، برغم عوادي الزمن وعجلاته التي سحقت كل شيء في العراق الذبيح.
ما أقساكن تعلقن اهابي جدثا تقتات به غربان عورٌ فوق أنين دعاءٍ يتردد تمتمة خافتةً في الصلوات..... (الأمهات ص28) تظل مباركة تلك المخلوقة الندية مصدر الحب والعطاء وينابيع الحنان. للأصدقاء حصتهم في توزيع الشاعر وفاءه لمن يحب، وها هو الشاعر المغربي المبدع عبد السلام بوحجر صاحب القصيدة المشهورة ( عزف منفرد على وتر الهاء) وهو شاعر تفعيلي بامتياز، يحظى بلفتة وفاء من الشاعر فراس عبد المجيد بتوظيفه واو القسم في كافة جمل النص الشعرية تأكيداً على صدق المشاعر ومودة التعلق. والتمر والزيتون وصمت هذا البلد الحزين وكبرياء جرحه وتينة تفتّحت وأنفلعت تلسع ثغر شاعر مسكون بالجن والدهشة والعجب ............................................ والطمانينة في بياض غيمة تنساب في سكون لن انحني لغير نخلة تكبر في الروح ولن أخون.......... (القسم ص32) هكذا هو ديدن الأنقياء من العراقيين حين لا يحتكمون في حياتهم سوى على الكرامة كأغلى قيمة إنسانية لا يمكن المساومة عليها أو التفريط بها. في باب آفاق نثرية، يرحل الشاعر من النص التفعيلي، ليكتب لنا نصوصاً رائقة. وبتمكن العارف لأدواته، وثقته بصلابة التجربة التي يحتكم عليها: اعرف اعرف من تكونين نجمة ترسم لي كفي نجمة تطلق أصابعي....... (من تكونين؟ ص37) ...................... أمر في غاية المتعة أن يتحول الشاعر إلى فراشة ليتحرك بحرية، متنقلا بين رحيق الأزهار، ليلتقط العبق الأنثوي، مثلما المحارب الذي يبحث عن لحظات من الاسترخاء، بعد أن استنزفه البحث عن أنفاس جديدة. انه البحث عن منفى داخل منفى. تلك هي الغربة الحقيقية والإحساس باليتم والضياع وفقد كل جميل... كيف ذلك؟!! إن الشاعر بانكساراته اليومية، وهو في أعمق الإحساس بفقد الوطن، يبحث عن منفى يقيه لفحة الوجود الإنساني المضطرب، فلا يجد إلا أن يدس روحه بنخلته الأمل، لعله يشعر بالأمان حتى وان كان أماناً زائفا لا يعدو كونه سراباً، ليمسك بالأزمنة الضائعة، والتاريخ المنفلت، والبهجة الفاترة، والعمر المنكسر على مرايا الحلم والاحتياج لحنان الأنثى.." لذة لا تعرف الانطفاء"، سمر لليل الحزين في مدارات مفتوحة على امتداد الوهم. التّفت في دفء لحائك أفاعي الفردوس .................... التّمت النجوم عند طلعك تحضنين بحنو أصداء الريح المحملة شجنا ........................... ففاحت رائحة الفجر ....................... وتكسري بروقا لا تنطفئ ثم....... انفيني فيك..... (نخلة الروح ص40) هكذا يريدها وهجاً، عروشاً، دفئا، شهداً، دماء للقرابين، قمراً كهنوتياً، طلعاً للنجوم، رائحة للفجر، سلماً للروح، حنواً، شجناً ونواحاً، مطراً وبروقاً لتظل النخلة ملاذ الشاعر الأخير.. و لا اختيار سواه. في باب حواريات ثلاث قصائد هي: حوار أول- أغنية حب- حوار متأخر. أما في الباب الأخير فيضم النصوص: رثاء الظل- شموس- التحول. ينزلق الظلان على الإسفلت خفيفين كهمس الموجة ........................... ينفرشان على العشب الرطب فتسري في خضرته المبتلة رعشة وجد ...................... فينتفض الظل الأوحد يحتضن تقوسه يحتضن اللون الكون البون الشاسع والى شرفات الفجر يطير...... (التحول ص60-61) معاً، شاعراً وقارئاً نودع هذا الغدير الشعري الوارف، وبحسرة أقول ليتني أظل في حضرة النصوص الثرية تدثرني بدفئها اللذيذ ولا أجمل من الشعر الأبهى دثارا. إنما الشاعر كأني به يخرج من قفصه ليبحث عن ثراء جديد من مملكة الكلمات، ليتحفنا بجديده الشعري الذي نبقى ننتظره، كما الإشراقات المجنحة والبهية لنلتقي ثانية في بحبوحة شعرية وارفة.
الديوان: نخلة الروح الشاعر: فراس عبد المجيد الطبعة الأولى: 2008 جهة النشر: مؤسسة التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع يحتوي الديوان على26 نصا تؤثث 62 صفحة الغلاف والرسوم الداخلية: منحوتات برونزية للفنان العراقي المبدع طارق المعروف تصميم الغلاف: من انجاز الفنانة حبيبة الخطيب
#جواد_وادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حسين إسماعيل الأعظمي فنان وباحث أصيل لفن المقام العراقي
-
ارفعوا أياديكم عن إتحادنا
-
الكاتب المسرحي ماجد الخطيب يوثق لمحنة وطن وعذابات أمة
-
أول الغيث قطر.......
-
مذبحة سيدة النجاة لن تكون الأولى ولا الأخيرة
-
هزلت والله...!!
-
طيور عابسة مرثية لكل المغتربين
-
هاكم أجساد العراقيين على حمولة من ناسفات أيها القتلة
-
حوتة صغيرة فعلت كل هذا فماذا عن الحوت الكبير؟!
-
حذار من غضب العراقيين.. أيها اللصوص
-
إتحادنا....واتحاداتهم!!!
-
حذار من الغلو أيها الطائفيون
-
أي هوان أنت فيه يا عراق؟!
-
قصائد
-
هل نأت الانتخابات عن ابتلاء الطائفية؟
-
الحركة العمالية من المد الجماهيري إلى الانكفاء
-
للورد حكاية أخرى
-
ابواب لم تعد موصدة
-
هل لهؤلاء كرامة؟
-
هذه دولة وليست زورخانة؟
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|