نجيب جورج عوض
الحوار المتمدن-العدد: 3265 - 2011 / 2 / 2 - 21:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من المستبعد أن يكون الرئيس ميقاتي قد وصل إلى رئاسة الحكومة اللبنانية ضد الإرادة الدولية أو الإقليمية. كما أنه من غير المنطقي أن يبرز اسمه فجأةً كمرشح الساعات الأخيرة، كما أرادنا هو وأرادنا حزب الله وحلفاءه أن نصدق. ومن غير المعقول أن يقبل الرئيس ميقاتي، الخبير والمطلع على دهاليز العمل السياسي ومعطياة الحالة اللبنانية وتفاصيلها وتشعباتها الأقليمية والدولية، أن يقبل بدخول هذه الدوامة بدون غطاء يتجاوز بمروحته مجرد دعم حزب الله وحلفاءها ومن يدعمها من قوى مجاورة، أو بدون إدراكٍ لحقيقة أنه بقبوله لهذا الدور في هذه المرحلة قد يعرِّض موقعه السياسي في قلب طائفته وفي لبنان إلى الاهتزاز ويفقد ثقة الناخب السني والوطني.
مجيء الرئيس ميقاتي إلى سدة الرئاسة الثانية ما هو إلا نتاج لعبة مصير تتعلق بلبنان وتضارب استراتيجيتين مختلفتين بالمنطق والهدف عند اللاعبين. ما أوصل نجيب ميقاتي بدل الحريري إلى السلطة هذه المرة هو غطاء عربي سعودي سوري ودولي فرنسي (مع صمت وترقب أمريكيين)، من جهة، ومحاولة توظيف إيراني لهذا الغطاء في صراع كسر العظم الذي تخوضه ضد أمريكا، من جهة أخرى.
يلعب الفرنسيون دوماً لعبة الشرق الأوسط السياسية إلى جانب أمريكا والشرعية الدولية بشكل عام. إلا أنهم لطالما حرصوا على تمييز أنفسهم عن اللاعب الأمريكي في استراتيجية اللعب. ففي الوقت الذي يلعب فيه الأميركيون اللعبة على مبدأ "أللعبُ باللعبة وباللاعبين أيضاً"، يفضل الفرنسيون مبدأ "إن لم تستطع أن تلعب باللاعبين فالعب اللعبة معهم"، انطلاقاً من إدراكهم الواقعي، بل وقبولهم، بأنهم ليسوا اللاعب المهم الوحيد في المنطقة، بل هم لاعب بين لاعبين قد يفوقونهم تأثيراً على الأرض (الأمريكان والإسرائيليين والإيرانيين). لهذا، من المنطقي أن لا يمانع الفرنسيون وصول ميقاتي للسلطة وتشكيله الحكومة إذا كان هذا الأمر يحفظ لهم مكانهم في معادلات اللعبة، خاصة حين يكون أحد اللاعبين المهمين في المنطقة قد أعطى الضوء الأخضر لترشيح ميقاتي، وإن كان لم يدعم الترشيح شخصياً، لهذه المرحلة.
هذا اللاعب هو السعودية. يلفت الأنظار الصمت السعودي العام، الذي كسره ولمرة واحدة وزير الخارجية، حيال ما طرأ على الساحة اللبنانية من تغيير في ممثل السنة في السلطة في لبنان. إلا أنه ينسجم مع المبدأ الذي تتبعه في مشاركتها باللعبة. يميل السعوديون لمبدأ "فلنلعب معاً بنزاهة ولنخرج من اللعبة متعادلين إن أمكن"، خاصة في ما يتعلق بدورهم في لبنان. فهم لا يملكون الخبرة الطويلة والعميقة بتشعبات وتعقيدات العلاقات في لبنان ولم ينخرطوا حتى الركب في طين الحالة اليومية اللبنانية ودقائق تفاصيلها مثل سواهم، وربما هم لا يريدون ذلك من حيث المبدأ. كما أن السعوديين أبدوا رغبة صادقة بحل الأزمة اللبنانية حيال المحكمة الدولية وسواها من الأمور الصدامية بمنطق "التسوية" وكل ما يفترضه هذا الأخير من اعتدال وانفتاح ومرونة وتقديم تنازلات. وقد عملوا جاهدين، كما علمنا من التسريبات المتعلقة ببنود التسوية، كي لا يخرج أحد الفريقين خاسراً وعلى أن يحظى لبنان نتيجة التسوية بدعم ومساعدة أقرب جيرانه عوضاً عن عداوتهم. من هنا، ليس غريباً أن تكون السعودية قد استكانت لترشيح الميقاتي بدل الحريري لأنها تريد الحفاظ على خيط تواصل إيجابي مع سوريا قد يخدم وجودها ودورها (السعودية) في لبنان أولاً ولا يفقدها صوتاً مسموعاً من النظام السوري لمصلحة مَيل هذا الخير نحو جار سني تركي لا يقل طموحاً لتزعم الفضاء الإسلامي السني عن السعودي، ناهيك عن أنَّ السوري قد يخدمها لاحقاً في علاقتها المتوترة مع إيران وفي خوفها من وصول تأثير المد الشيعي إلى داخل السعودية نفسها.
أما سوريا، فهي حتماً المرشح الأول والساعي الأكبر في اللعبة لوصول نجيب ميقاتي للرئاسة الثانية، لا لمجرد علاقة الصداقة والروابط الوثيقة والمطمئنة التي تربط الرئيس ميقاتي بالنظام السوري، ولا لأنها تريد أن ترسل رسالة قوة للرئيس الحريري تقول له فيها أن على لبنان أن يكون شقيقاً أصغراً متعاوناً لا "نداً" في علاقته مع أخته الكبرى، بل لأنَّ مبدأ سوريا في اللعبة اللبنانية والأقليمية على حد سواء هو "لا تلعبوا بي، ألعبوا معي". لم يفعل النظام السوري هذا لتبدل في موقفه المبدأي من لبنان وتحالفاته فيه، بل لأنَّ من مصلحة النظام في سوريا، في ضوء إدراكه لاستحالة إيقاف عمل المحكمة الدولية وحرصه على تحسين علاقته بأمريكا واستثمار إرسالها لسفير إلى دمشق وسعيه الدائم لسلام مع إسرائيل، أن يقول للقوى المؤثرة في المنطقة بأنه يريد أن يكون في لبنان (كما فعل مؤخراً في العراق) جزء من الحل والوفاق، لا جزء من المشكلة والنزاع، وأنه يحرص على أن يصل إلى حكم لبنان لا رئيس جمهورية وفاقي ووسطي فقط، بل ورئيس حكومة أيضاً. وربما لأول مرة منذ فترة طويلة تختار سوريا ترسل رسالة إيجابية لفضاءها العربي بأن تقف إلى صف الدور العربي (السعودي تحديداً) في لبنان وتتمايز قليلاً عن الدور الإيراني، مرشحةً للرئاسة الثانية شخصية لا تعاديها السعودية ولا مصر ولا يرفضها الغرب ولا تتبرم منها الإرادة الدولية. والرئيس ميقاتي، كما يبدو، تلقى خبر ترشيحه ودعم هذا الترشيح من الفرقاء المذكورين على حد سواء قبل 84 ساعة من إعلانه للترشح لرئاسة الحكومة بعد أن زار سوريا سراً واجتمع بالرئيس الأسد، كما تداولت وسائل الإعلام. قيل له أنه رجل المرحلة الذي عليه أن يسير بتحقيق مندرجات التسوية السعودية السورية بهدوء وتدرج بدون أن يشعر أحد الفرقاء أنه خاسر.
ولكن، في اللعبة لاعب آخر مؤثر له حسابات أخرى واستراتيجية لعب مختلفة هو اللاعب الإيراني وأداته حزب الله. مبدأ الإيراني في اللعب هو "أنا أيضاً ألعب باللاعبين واللعبة معاً". لهذا فقد جاء دوره لا تحدياً فقط للأمريكي والفرنسي، بل وكما يبدو تحدياً للدور العربي في ما يتعلق بمصير لبنان. استغل الإيراني الغطاء السعودي-السوري-الفرنسي لترشيح الميقاتي في سعيه الحثيث لتعزيز هيمنته على لبنان فنقل اللعبة من مستوى تقاسم التأثير والحصص بين الفرقاء العرب والدوليين في الساحة اللبنانية إلى مستوى إثبات من هو الأقوى في لبنان وأين يقف لبنان في لعبة اقتسام إيران وأمريكا تحديداً للمنطقة. وقد أوعز لحزب الله بأن يتبنى ترشيح الميقاتي، لا بل ويوحي للجميع، خاصة الشارع السني، بأنَّ الميقاتي رجل حزب الله ويده الطولى الجديدة في السلطة. لا شك بأنَّ هذا التوظيف لورقة ترشيح الرئيس ميقاتي حقق هدف حزب الله (وحلفاءه في الداخل والخارج) بالإطاحة بالحريري من السلطة وسبب انشقاقاً وتوتراً شديداً في قلب الطائفة السنية في لبنان. إلا أنَّ الرسالة الأقوى والأهم هي أن يعرف العرب والغرب على حد سواء أنَّ إيران (وذراعها العسكري حزب الله) هما الحاكم بأمره في البلد وأنَّ من يريد أن يحافظ على الاستقرار في لبنان وعلى قواعد اللعبة في المنطقة عليه أن يلعب فقط مع أحمدي نجاد وآية الله خامنئي، وليس مع الملك عبدالله أو حتى الرئيس الأسد. وفي المحصلة العظمى، ما فعله حزب الله والطريقة التي عمل بها على إيصال الميقاتي إلى الرئاسة الثانية كان محاولة لتعميم ذهنية شمولية أحادية قد تمثل طموحاً للعب دور البديل الثقافي والإيديولوجي الممكن حالياً في ضوء صعوبة تأسيس فعلي لولاية فقيه أخرى خارج الأراضي الفارسية، والتي يبدو وأنَّ لبنان بتركيبته الديمغرافية يمثل أحد المرشحين الممكين لتحقيقها.
هناك في اللعبة الجديدة كما يبدو ملامح فرق استراتيجي مثير للاهتمام بين ما تريده إيران وما أرادته كل من السعودية وسوريا من نتائج الأحداث الأخيرة في لبنان. وعلى ما يبدو أنَّ القيادات السنية المناوءة للميقاتي قد قرأوا هذا الاختلاف بعمق وتأنٍ ولهذا فصلوا في مواقفهم وردود أفعالهم بين شخص رئيس الحكومة العتيد وتمثيليته وبين طريقة ترشيحه ومنطقها. ولكن يبقى السؤال: هل سيتمكن الرئيس ميقاتي من التخلي عن رمادية مفرطة قد تتصف بها الوسطية وأخذ موقف واضح لا لبس فيه، يتطلبه موقع القرار والسلطة ويحتاجه لبنان بقوة، بدعم مشروع التسوية والحفاظ على العلاقة مع الشرعية الدولية، والمدعوم بغطاء عربي، ضد المشروع الإيراني؟ بكلام آخر، هل سيتمكن رئيس الحكومة العتيد من التمتع بهامش استقلالية وقرار ذاتي ينسجم مع اعتداله ووسطيته، أم أنَّ عليه أن يوفي ديناً ما سيحوله إلى ما يشبه سمكة تسبح بحرية ولكن في حوض ماء صغير وضعها فيه حزب الله؟
#نجيب_جورج_عوض (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟