جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3258 - 2011 / 1 / 26 - 22:43
المحور:
حقوق الانسان
قيل لأنيس منصور أيام السادات في جمهورية مصر بأن للسادات رغبة بتوليك منصب وزير الثقافة المصري ,فرفض, فسألته الصحافة ولماذا ترفض هذا المنصب ؟فقال: مش عاوز يجي أي صحفي لابس قميص وبنطلون يكتب عني سطرين ما يخلونيش أعرف أنام, أنا ربنا خلقني للكتابة ولم يخلقني للوزارة.
وليس أنيس منصور وحده من رفض تلك المناصب فغالبية الكتاب من طبقة الأدباء رفضوا تلك المناصب لإحساسهم بأنهم لا يصلحون إلا للثقافة وللكتابة فبعض الناس لا يجيدون في حياتهم إلا مهنة واحدة وهم أن تركوها يموتون قهرا قبل أن يموتوا جوعاً لأنها تمشي في عروقهم كما تمشي فيها الدماء أو أنها تمشي مع الدماء في نفس المجرى فإن تركوها يكونون كمن يخرجون الدماء من عروقهم وأوردتهم, وأنا واحد من أولئك الناس الذين لا يجيدون في حياتهم شيئا إلا القراءة والكتب وممارسة العواطف فإن تركت هذه الهواية التي أصبحت مهنة فإنني أموت قهرا وليس إحساسي هو الذي يقول لي بأنني فاشل بل كل الناس يقولون بأنني فقط شاطر بالحكي الفاضي واللي مش فاضي, وبأن يدي لا تجيد عمل أي شيء كما تجيد حمل القلم والكتب والأوراق فأنا بهذه المهنة 100% من الطراز الأول حتى أمي تقول بأني شاطر وذكي في شراء الكتب ولكن في شراء الخضروات دائما ما أتعرض من قبل الخُضرجية للنصب وللاحتيال وزوجتي تقول بأنني مخلص للكتاب وللكتابة وللقراءة ولستُ مخلصا لمهنتي (مغلم العمار) التي آكل منها الخبز كما أخلص للكتابة وصدقوني بأن الكتابة هي التي تطاردني وتحارني وتمنعني من أن أعشق عليها محبوباً آخر وكذلك الكتابة تطاردني وتمنعني من أن أعشق عليها معشوقا آخر وكذلك حبيبة قلبي دائما ما يطاردني طيفها وقلبها وخيالها فيمنعاني من عشق امرأة أخرى وأولاً وقبل كل شيء فعلاً أنا إنسان فاشل وهل رأيتم من ذي قبل أنسانا فاشلاً لا يصلحُ لعمل أي شيء ؟وهل رأيتم رجلا يعترف أمام العالم والناس بفشله ؟ أنا هو, أنا لا أصلحُ لعمل أي مهنة على الإطلاق فكلما اقتربتُ من فعل أي شيء يستحيل في النهاية إلى فشل ذريع حتى أنني منذ أربعة أشهر لا أجيد عملاً يكسبني رغيف خُبزٍ واحدٍ فهل أنا فاشل أم البلد أوالنظام الحاكم هو الفاسد ؟أم أن النظام الحاكم نظيف أنظف مني وأنا الفاسد؟ إن إحساسي يقول لي بأنني لا أصلح إلا للكتابة وللقراءة وللحب وللعاطفة الرومنسية ولقد حاولتُ طوال حياتي أن أترك الكتابة والقراءة والحب لأحترف مهنة أخرى غير تلك المهنة ولكنني فشلت جدا فأنا لا أنفع مثلاً لأكون أستاذا جامعيا لأنني فشلت في الدراسة منذ البداية ولا أنفع لأكون مصورا فوتوغرافيا ولا أنفع لأكون طيارا أو مهندسا أنا لا أصلحُ ولا لأي مهنة إلا للكتابة فأنا لا أستطيع أن أكون وزيراً ولا أصلحُ لأكون رئيس جمهورية ولا أصلحُ لأكون ملكاً لأنني حتى هذه اللحظة لم أفهم نفسي ولم أتعرف على شخصي فكيف مثلاً سأتعرف على متطلبات 5 ملايين مواطن أردني عربي كلهم محرومون مثلي من الحب والرومانسية والعشق والحرية, وأنا فاشل جدا في إدارة نفسي فكل أصحابي يقولون بأنني لا أعرف كيف أستغل موهبتي من أجل أن أستفيد ماديا منها فكيف مثلاً سأدير مليون شخص أو 5 ملايين مواطن أردني غالبيتهم لديهم مواهب متعددة.؟, وفي حارتي رجل فاسد ومستواه الاجتماعي بين الناس أقل مني وتحصيله العلمي أقل من تحصيلي ومع ذلك أنا غير قادر على محاربته ومواجهته,فكيف إذا أصبحتُ أعمل في المخابرات مديرا لدائرة الفساد الإداري بالله عليكم قولوا لي كيف سأحارب مليون فاسد كلهم باشوات ومدراء وألوية؟ وأنا فعلاً لا أصلح مثلاً لأكون طبيباً لأنني غير قادر على شفاء نفسي فكيف مثلاً سأشفي الناس وخصوصاً إذا أصبحتُ طبيب طوارئ في إحدى المستشفيات فكيف سأعالج كل يوم أكثر من 100 حالة مرضية علماً أنني لا أستطيع علاج نفسي ؟ أنا لا أستطيع أن أعمل مدرسا أبيع الموعضة ولا أشتريها وأنا أيضاً لا أستطيع أن أكون طبيباً نفسياً لأنني غير قادر على شفاء نفسي من القلق والاكتئاب الزائد فكيف سأشفي مليون مواطن أو 2 مليون مواطن أردني كلهم لديهم عقد كبت نفسية عاطفية!.
وإذا ذهبتُ لأعمل في التجارة لأجرب حظي وبختي فإنني أعود خاسرا بعد فشلي في الغش فأنا لا أستطيع الغش حتى وإن حاولت أن أغش الناس فإنني لا أستطيع وأفشل ويقبض عليّ وأنكشف للناس بسرعة مذهلة, وإذا حملتُ سكيناً لأقتل الدجاج من أجل بيعه فإن يدي ترتجف وأرجلي ترتجف وفمي يجف ولساني يصبح لونه أبيض ولا أقدر على قتل الدجاج وتقع من يدي السكين على أصبع رجلي الكبير, وإذا حاولت تهريب الدخان فإني لون وجهي يتغير على الحدود ويلاحظ ذلك المراقبون ولا أستطيع الإفلات, أنا فعلاً فاشل في كل شيء ما عدى الكتابة فأنا أكتب دون أن تظهر على وجهي علامات الخوف وأحبلُ بالكلمات وينتفخُ قلبي منها من الداخل دون أن تظهر على بطني علامات الحمل حتى وإن هرّّبتُ كلامي من داخل الفلل والقصور أو حتى وإن تسللت مقالاتي من الأحياء الشعبية إلى القصور العالية فإنني أبقى أنا, أنا, لا أتغير فأنا في هذه المهنة محترف جدا وأجيد الإحساس بالناس وبمشاكلهم لأن مشاكلي هي مشاكل كل الناس, ولو وضعتني الحكومة بين الجواهر الثمينة واللؤلؤ والألماس فإنني لن أجيد ذلك العمل وبالتأكيد لن أحبه إطلاقا فأنا أحب القراءة والكتابة حتى مع علمي بأنها سبب فقري وجوعي وتعاستي وحرماني من الحياة الكريمة أنا وأولادي في المملكة الأردنية الهاشمية ولكن مع كل ذلك أحب تلك الهواية أو المهنة.
أنا خلقني ألله للكتابة فإن أردتم مني مهنة أخرى غير الكتابة فيجب عليكم أن تطلبوا من ألله بأن يعيد عملية خلقي من جديد وبأن يعيد تكوين البيئة التي ولدت فيها من جديد وبأن يعيد خلق الناس الذين حولي من جديد وبإن يعيد تركيبة النظام السياسي الأردني من جديدنا, أناخُلقت مثل الطائر الذي خلق من أجل أن يحلق بجناحيه ومثل الرسام الذي خلق من أجل الكتابة والتعبير بريشته ومثل الصاروخ لأطير في الأعالي وفي الآفاق ومن أجل أن أقرأ أكثر من عشرين سنة لأواصل بعد ذلك الكتابة, أنا خلقني ألله فاشلاً في كل شيء لكي أتفرغ لمهنة الكتابة وكذلك خلق غيري من الناس فمنهم من خلقهم ليكونوا أطباء ومنهم من خلقهم ليكونوا مطربين أما أنا فإن ألله خلقني للكتابة وخلق القلم والورقة والكيبورد لي ولأمثالي من الذين لا يجيدون في حياتهم سوى مهنة الكتابة تماما كما خلق بعض الناس ليعزفوا على بعض الآلات الموسيقية فنشعر حين نسمعهم بأن الآلة الموسيقية مخلوقة من أجلهم وكذلك هم أيضا مخلوقين من أجل الآلة الموسيقية.. أنا خلقني ألله لأكون شاعرا فلا تطلبوا مني أن أكون مهندسا أو جنديا أو مهنيا أو حراثا أو رئيس حكومة أنا خلقني ألله لأقرأ وأكتب ولم يخلقني لأحرث الأرض أو لأزرعها وأنا خلقني ألله لأكتب في الحوار المتمدن كل يوم مقالاً وخلق المحررين في الحوار المتمدن من أجل أن يطوروا تلك الصفحة ولم يخلق بعضهم للكتابة بل خلق كل واحد منهم وتخصصه معه يحمله أينما ذهب, وخلقني ألله كما خلق رعاة البقر للبقر ورعاة الرقص والطرب للرقص وللطرب أنا مخلوق متخصص قد خصصني ألله لأكون كاتبا وشردني ألله لأكتب عن المتشردين وجعلني عاشقا متيما بمحبوبته لأصف العشق للعاشقين , أنا فاشل في كل شيء لأن الإرادة كانت هكذا أن أكون فاشلا من أجل أن أعيش كاتباً حرا.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟