|
اللاشيء 1
طارق الطوزي
الحوار المتمدن-العدد: 3251 - 2011 / 1 / 19 - 22:25
المحور:
الادب والفن
تتهشم الرؤيا على هذه القارعة المبلّلة، يغلّف السواد الإسفلت فتبرز بقع قاتمة تخفى حاجتي. صارت عينيّ تلتهم الأرض في قلق مربك، وترصد في متاهة الأشياء الملقاة شيئا ما يعلن امتلاء. هذا الامتداد المطمئنّ لا ينسجم مع ما أريد، إنه مترف على نحو مغر لكنه لا يحمل ورقتي. أشعر كما لو أني تلبسني الجنون؛ فأنا أبحث عبثا عن ورقة جافّة وسط هذا المحيط المبتلّ. المطر الخفيف يستوطن الطريق، فيطغى ليشمل جميع التفاصيل. تلقفت عقب سيجارة ملقى في مسار مائي، تحسّسته بأصابعي، تلمّسني الماء البارد بلؤم وقح، أحسست بهزيمة ما تخترقني. - لا توجد ورقة تحمل أملا لمَا أنوي اقترافه. بدا الطريق الممتدّ أمامي قاسيا بليدا وقد توسّط صفوف بناءات تائهة. لا يوجد هنا تناسق يشمل تلك الواجهات الفقيرة: هي فسيفساء قبيحة تحمل معنا هجينا، أشباح هياكل بائسة لمكعبات قائمة على أرض مصطنعة تلتحف اليأس. غشا الظلام الشارع في حراك لئيم، و انتهى المطاف إلى سواد معتم تمزّقه بعض الفوانيس الخافتة وهي تشرق في خجل ماكر. وقفت أتابع تلاشي حركة الكلّ. لاحت لي من هناك عينان تراقبني، أو ربما توهمت ذلك. شلّت حركتي. انسللت في خفّة إلى عمق الجدار، انحشرت في الظلام الدامس، ثم غرقت في صمت مطبق. لا مجال لخفّة الحركة في هذا الفضاء الحزين إلا عبر مسار يحتمي بالظلّ؛ ففي الانكسارات المعتمة فقط قد أشهد قيامتي. بعد برهة، أنسلُّ ببلاهة إلى مقام آخر، متخلّصا من خوفي. أتدحرج متلصّصا عابرا تفاصيل الدروب القديمة، كانت مدينة بنزرت غارقة في هدوء ليلها الشتوي. أتذوّق زخّات المطر. أستسلم لقلق الطريق وهو يوقظ فيّ معان شريدة. لا إيقاع مرهق يشاركني عزلتي هنا، فالكلّ نيام. على شاشة الأفول تلك أحيا وحيدا، فيتملّكني شعور بالطمأنينة. أسمع مسارات الماء تتشابك في رقّة. أقنع بالصمت. أتجوّل في مدى لا يعكّره ضيق أيّ نظرة. أشعر بثقل يكبّلني، ما عدت قادرا على خط الكلمات في صفاء الورقة. اختلّ النظام؛ تغمرني الفوضى؛ يموت فيّ شيء ما. أتسكّع في ليل المدينة، أطوف بأرجاء الميناء الفينيقي وحيدا، فلا أجد راحتي. كلّ شيء أُتلف، ما عدت أشهد عالما حقيقيّا ولا توازنا معقولا. سأحاول أن أفسق عن عجزي لأرسم الحرف من جديد، سأعاود كتابة نفسي من خلال تشكّل بدن الخطّ. توقفت أمام مقهى مغلق مطلّ على الميناء القديم، كانت بعض كراسيه البلاستيكيّة مرصوفة أمامه، أخذت كرسيّا وجلست وحيدا أتأمّل هذا الفضاء الغريب. فكّرت بأني حشرت في مدى الألم والعذاب، صرت أخرسا لا أقوى على فهم رموز العالم وأشيائه التافهة. استسلمت لشرودي العميق. تلحّف كلّ شيء بالضياع. القلق ينخرني ويمزّقني. الميناء يختنق أمامي، أشعر بكآبته وهزيمته. تجتمع كلّ تفاهات هذا العالم الكئيب في نقطة هائلة لتنفجر لا شيء. أي ملل يتلبّسني؟ لم يعد القلم يطاوع حركتي؛ فخطوطي اللينة أثقلها التصنّع والرياء. تيبست أطرافي، أصبحتُ آلة صدئة. كلّ علامات الكون تتداخل في عشوائيّة عاصفة لتستقرّ على خواء... تيقظت إلى أني أعبر الطرقات تائها بلا غاية ولا أمل؛ لن أجد ورقة ما تحمل ألمي، قررت العودة إلى مسكني. دلفت بهو العمارة وسط ظلام دامس، صعدت المدرج القديم بتؤدة؛ كي لا أتعثّر في نتوءات شروخه. فتحت الباب لأستقرّ في مداري المخلص. أغلقت الباب بأقفاله الخمس وانتهيت إلى صمت طويل. الغرفة الكبيرة بفوضاها تشملني؛ كانت في ما مضى أربع غرف قبل أن أهدم فواصلها للتحوّل مرسما كبيرا يتسع لتسكّعي وقنوطي. تمددت على الفراش. الصور تتشعب وتهبّ في حراك عنيف. نهضت لأملئ كأسا من الماء، أخذت قرصا مهدئا. تملّكني نعاس مصطنع، رحت في دوّامة من الغياب المرهق. ما بين النوم واليقظة سمعت صوتا غامضا يناديني، تنبهت، كان الشقّة غارقة في صمتها. استلقيت في حوض الاستحمام، بدا الماء ساخنا على نحو مؤذي. أشعر بدوّار خفيف. استغرقت في جنان الخنوع، لم أشعر بالراحة لكني استسلمت. خشيت أن أغفو أو أنهار مغشيّا عليّ، عجلت بالنهوض. عدت إلى الفراش عاريا، تغطيت جيدا بالملاءة باحثا عن الدفء. استقرّت عينيّ على السقف، أغمضتها بدون رغبة حقيقيّة في النوم. كأني في مدى فسيح بلا معالم واضحة، أخترق الفضاء مغتصبا خصائص الأشياء. اللعنة! أكره الاعتياد، أجرّب كسر صلابة الزمن عبر بعثرة الخيال، فأفشل. أعزل أعبر فواجع التشتّت. في مدى المرآة أستطلع انحناءات جسدي الفاضحة، تنتفخ أجزاء جثتي على نحو مضحك. تتآكل أطرافي، ينفلق جسدي عن دود ينهشني، تبرز جمجمتي اللعينة. تنتن جيفتي. لن أقو على العيش هكذا لم عليّ الخرس؟ بل، لم عليّ التحدّث؟ العالم من حولي يحتكم إلى براهين واهية، إلى سخريات عابثة، إلى قسوة جبانة. أيّ ثقل لي في هذا المدى الشاسع؟ لا شيء، مجرّد تضاءل لزمن بلا قيمة، مجرّد هامة تعبر الفضاء في قنوط ظاهر. حتى أنهم لن يحتاجوا إلى موتي لم يكن عليّ التميّز لأدرك خواء العالم، كلّ الأدلّة مبثوثة في عمقي على نحو غامض. تعبت
#طارق_الطوزي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصخرة
-
تأبين ( قصة قصيرة )
-
سمنون المحب
-
محمد ولد السلطان
-
هي/ انعكاس
-
سقم
-
عيون وقحة
-
عجوز الستوت
-
الكأس و المعاد
-
الرحيق المختوم
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|