|
خواطر تونسية
خالد الصاوي
الحوار المتمدن-العدد: 3248 - 2011 / 1 / 16 - 03:37
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
عشت حياتي مؤمنا بالثورة، بقدرة الجماهير المحرومة-المقموعة في كل مكان على تغيير واقعها البائس بعملية خطيرة هي مزيج من الوعي والعنف والمحبة معا.. الوعي بالمشكلة وبالحل، والعنف المضاد لعنف السلطة (سلطة القلة المالكة-الحاكمة)، ومحبة العدالة الاجتماعية والتحرر الانساني الشامل. وخلال تلك السنوات الطويلة التي مرت على قناعتي هذه رأيت الكثير من الشواهد التي تؤيدها، كما عاصرت الروح العامة اليائسة المتشككة التي تجابهها، رأيت نظما جبارة تنهار وجماهير تزحف وثورات تتحرف.. لم أفقد قناعتي يوما ولا أظن أني سأفقدها ولا أتمنى أن أغيرها أبدا.. فطالما بقي التمييز بين البشر -لأسباب غير عادلة- وبقي القمع والدجل لتمرير الظلم وتجميله.. لا معنى لتغيير قناعتي الثورية لأنني لا أنوي أن أعيش يوما واحدا منتميا لمعسكر الظالمين ولا لزريبة السلبيين. يونيو-أكتوبر-يناير أنا من جيل نكسة يونيو 1967 التي افتتحت معها سنواتي الأولى بالمدرسة، وعلى مدار المرحلة الابتدائية عشنا حلم أن نصبح ضباطا كي نقاتل اسرائيل الظالمة التي اغتصبت أرضنا وأعاقت مشاريعنا التنموية، وقد غذا هذا التصور أهالينا من شباب جيل "ثورة يوليو" والعدوان الثلاثي في 1956، كما غذته مناهج التعليم التي كانت تذكرنا بعرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول.. قادتنا في "ثورات" شعبنا من أجل التحرير والاستقلال والتطور. أذكر يوم كنت عائدا من المدرسة الى بيتي في الابتدائية وعرفت أن الحرب نشبت مع اسرائيل، وركضت الى بيتي ممتلئا بالحماس والرغبة في المعرفة والمشاركة بأية طريقة انشالله الصراخ مساء بجدية وقوة: طفي النوووووور! غااااااارة! كنت أراني عضوا في عشيرة كبيرة مظلومة من الاستعمار الأوروبي-الأمريكي، تمنيت لو كان سلاح التلميذ سلاحا حقيقيا وليس كتابا! وباركت بكل مسامي "ثورتنا المسلحة" ضد الطغيان. وانتهت الحرب فجأة بشكل محبط، بكاء والدي بحرقة في الهزيمة لا يوازيه فرحه المتواضع بالنصر، والجماهير التي دفقت في الشوارع رافضة للهزيمة لم تخرج للاحتفال، فالأرض التي فقدناها في النكسة لم نسترجعها بمجرد العبور رغم عظمته الخالدة، واسرائيل العدو الشرس لم تبرح أرضها –بل أرض فلسطين- ولا أرضنا! وتابعت بشغف كيف سنكسب سياسيا ما لم نكسبه عسكريا، وهنا التقيت بشريط كاسيت عليه صوت غريب جدا يشدو بأغنيات أغرب.. الشيخ امام والشاعر فؤاد نجم اللذان ألهما جيل والدي ممن لم يستشعروا الخير في نظام ناصر الوهمي بعد النكسة ولا استبشروا بالسادات ومساراته الملتوية بعد أكتوبر. وهكذا سمعت عن "الثورة الفيتنامية" و"الثورة الفلسطينية" "وثورة جيفارا"، ومن خلال هذا الصوت تعرفت على التمرد على السلطة، ولكني لم أقابله الا حينما اندلعت انتفاضة يناير عام 1977، حين ثارت الجماهير فجأة عقب أخبار عن رفع أسعار السلع الأساسية وفي مقدمتها الخبز –العيش- الذي يحمل في الوجدان الشعبي المصري دلالات خاصة. كابن للطبقة الوسطى شعرت بذلك التناقض الذي اعترى عائلتي الكبيرة ومحيطنا الاجتماعي وقتها.. من تأييد غير مشروط لتأييد مشروط لاستنكار لعداء واضح.. وتسرب لي هذا التناقض طبعا، فالجماهير المحرومة المقموعة حقيقة واضحة وبالتالي غضبها مشروع، ولكن.. هذه الجماهير تندفع بلا هارمونية وهي خطيرة على السلطة وعلى نفسها أيضا، الجيش ليس مكانه الشارع طبعا.. ولكن من يسيطر على الشارع حين تختفي الشرطة؟! وهكذا فهمت أن هناك معركتين: معركة على الحدود مع الاستعمار العالمي، ومعركة طبقية بين قلة من المنعمين وغالبية من المحرومين، وهكذا تولدت أسئلة متشابكة في رأسي المراهق على مدار العامين التاليين، وفي مركزها كبر التساؤل حول من أنا وما دوري في العالم ومن هنا تلمست أول الطريق للفكر الوجودي وأدب التمرد.. ووجدتني منحازا للغالبية المحرومة المقموعة دائما، ميالا الى ترجيح الخيار الثوري رغم مشاكله، والبحث عن أقصر الطرق الى الانجاز بما يجعل الثورة جراحة لا جزارة. ايران وفي الثانوية العامة اندلعت الثورة الايرانية، فرأيت الجيش الذي سيطر على الانتفاضة في مصر ينهزم أمام الجماهير في فارس، كنت بالطبع غارقا في تأييد الجماهير لأنهم محرومون مقموعون وذوو كرامة، ثم تقابلت بثلاث شقيقات ايرانيات من عمري كن هاربات مع أسرتهن مما سموه "جحيم الثورة"، وسألت بشغف ففهمت أن السلطة الدينية قتلت الكثير من الايرانيين، فكرهتها كما كرهت سلطة الشاه قبلها، ولكني لم أكره الثورة نفسها.. لأني لم أر حلا بديلا لها محليا، أو اقليميا، أو عالميا.. وصار السؤال الملح: كيف تكون الثورة حلا لا مشكلة؟؟ الدولة والثورة دخلت كلية الحقوق عام 1980، ابتعدت بسرعة عن التيار الديني الذي مزج أمام عيني بين البلطجة والسماجة والدجل، وسرعان ما وجدت نفسي في التيارات اليسارية التي مزجت أمامي بين الحرية الشخصية والالتزام الاجتماعي وصلابة القلة –رغم عيوبها- أمام الغالبية. اقتربت أولا من الناصريين ثم التقيت بكتاب لينين: الدولة والثورة.. وهكذا انجذبت للفكر الماركسي الثوري، وعلى مدار السنوات الست التالية تقلبت بين مختلف الأفكار اليسارية من الستالينية الى الماوية الى الجيفارية الى الفوضوية.. وبدا لي أن الثورة عملية معقدة.. وتساءلت كثيرا: هل تحتاج الثورة الى جيش شعبي منظم؟ أم الى عصابات مسلحة؟ أم الى حزب جماهيري؟ أم لنقابات ومنظمات؟ ما هي أول الخطوات التي ينبغي اتخاذها عشية الثورة وخلال أيامها الأولى بالذات؟ ما هي الكتلة الجماهيرية التي يجدر الرهان عليها؟ ما دور العنف؟ ما دور المثقف؟ حتى أرشدني ليون تروتسكي الى الطريق التي بقيت مخلصا لها لسنوات طويلة بعدها.. حيث اعتبرت الثورة الروسية هي النموذج الأم الذي يجب استنساخه مع الحذر من المسار الستاليني الذي انحرف بها أو مسار سلطة الملالي عقب الثورة الايرانية، وخلال تلك السنوات تعرفت على المجموعات التروتسكية المجهرية التي انتشرت وقتها لتجديد الفكر الاشتراكي الثوري الذي تجمد أو كاد. غزو الكويت كنت في نقابة المحامين في احدى الفعاليات الثقافية في أغسطس من عام 1990 حين عرفت أن صدام حسين قام بغزو الكويت، فتابعت بشغف تطورات الموقف، ووقتها تعرفت على مجلة الشرارة التي أصدرتها مجموعة اشتراكية ثورية صغيرة سمت نفسها جماعة تحرير العمل فتنظمت أفكاري لحد كبير، وأصبح واضحا لي أن ما تحتاجه الجماهير هو حزبها الذي ينظم ايقاعها، يبني استراتيجيتها، يقود نضالاتها، يتمركز في الطبقة العاملة بشكل أساسي ووسط الشريحة المثقفة الثورية، وخلال تلك السنوات كان الوضع محليا واقليميا وعالميا يؤكد لي أن تغيير العالم عملية مركبة، فالنظام الرأسمالي العالمي يزداد قسوة، الحل الاشتراكي معطل عالميا لعدة أسباب أهمها الاتحاد السوفيتي نفسه الذي فرحت لانهياره، الجماهير مغيبة لأسباب كثيرة وحين تهب تتخبط فاقدة البوصلة، النعرات القومية والدينية تنذر بالشؤم لما تحتويه من الخطر العنصري المزمن، النظم العربية مريضة، ونظام مبارك يزيد الأمور سوءا باستمرار. وخلال التسعينيات من القرن الماضي تابعت كل شيء تقريبا، قرأت بنهم كافة التجارب الثورية المهمة تقريبا، وكان السؤال دائما: كيف يمكن بناء ذلك الحزب المأمول؟؟ كان التيار الاشتراكي الثوري خافتا عالميا ومحليا ولكنه كان وظل بالنسبة لي هو الخيار الوحيد الممكن نحو بناء عالم انساني بلا حدود.. تتجاور فيه الثقافات دون تناحر.. وينسجم فيه الانسان مع مجتمعه مع العالم بكل مؤسساته. انتفاضة الأقصى مع نهاية القرن العشرين وبدء الألفية الجديدة جرى حادثان جذريان: الأول تصاعد الحركة الجماهيرية في الغرب ضد العولمة الرأسمالية، ثم انتفاضة الأقصى التي فجرت الشارع من جديد، ورأيت مرة أخرى حشودا في الشوارع لم أرها من السبعينيات، وبرز للسطح كل التيارات الغاطسة، فاقتربت طبعا من التيار الاشتراكي الثوري، وخبرت بنفسي كيف يقف النظام حائط صد بين الصوت الثوري -بل والاصلاحي حتى- وبين الجماهير الغفيرة التي تذبح بافقار العولمة الرأسمالية وتغتصب باعلام مضلل في مصر وفي العالم العربي وفي العالم كله. ورغم تصاعد تيار المقاومة ضد الصهيونية والامبريالية الرأسمالية الا أن الأمور ظلت محبطة لسبب أساسي: عدم وجود منظم لايقاع الجماهير الا الجماعات التي من المستحيل أن أتوافق معها اما لأنها شديدة المساومة أو شديدة العنصرية، بينما التيار الذي أؤمن به عاجزا عن التواصل الواسع مع الجماهير رغم علميته وصلابته النسبية، وصرت شبه واثق أن لدينا مشكلات محددة في التيار الاشتراكي الثوري عالميا تتركز في: ضبابية الرؤية المستقبلية- صعوبة اللغة التي نستخدمها على العامة- وتفتت قوانا بين أجنحة متعددة تشكك الجماهير في خطابنا –المعقد أصلا- أكثر مما تجذبها اليه.. وهكذا صار يشغلني السؤال عن كيفية التبشير بهذه الرؤية بدقة مناسبة وبساطة لازمة مع الدعوة المستمرة لتوحيد اليسار الثوري. وخلال السنوات القليلة الماضية انقلب العالم رأسا على عقب: انكشف دمارالبيئة بسبب الأنانية الرأسمالية، سقط المشروع الوهمي لتوحيد لعالم بسلاسة رأس المال وتزايدت الحروب المدمرة، ازداد الفقراء فقرا، وانجرفت البشرية في مواجهات منحطة بين العقائد والطوائف والثقافات، خربت الأخلاق، فسدت الضمائر، واشتد المرض النفسي على بني الانسان.. وعلى الجهة المقابلة قفز العلم خطوات للأمام، فتح الانترنت أحضانه للملايين، تقاربت مرارات البشر، واشتد الحنين للحظة ثورية عالمية. سقف العولمة الرأسمالية سقط المشروع الرأسمالي كله، مثلما سقط النظام الاقطاعي قبله ومثلما سقط النظام العبودي في الأزمنة القديمة، ولابد الآن من نظام عالمي ينقذ البشرية.. وهذا النظام في قناعتي يبدأ بسلسلة من الثورات التي تتقدم فيها الجماهير المحرومة-المقموعة لاسقاط الطبقات المالكة-الحاكمة وتصفية جميع مرتكزاتها السياسية والاقتصادية، عبر آليات تبدعها وتحميها وتراقبها وتوجهها الجماهير بنفسها.. التاريخ لم يتوقف، والجماهير التي أبدعت سابقا البرلمان والحزب والجمعية واللجنة المصنعية قادرة على ابداع المزيد من الآليات التي تطيح بمؤسسات عالم اليوم المريض من ديكتاتورية مجلس الأمن واستبداد البنك الدولي الى الحكومات الألعوبة في يد رأس المال العالمي والفعاليات العاجزة كالجمعيات الخيرية والجماعات العنصرية والطائفية.. تطيح بهذا كله وعلى أنقاضه تبني منظمات اجتماعية تدور حول الانتاج والخدمات والعلم والابداع بحيث نتوغل في القرن الحادي والعشرين ونحن نبني محيطا بشريا يتفاعل في هارمونية، فيتم استبدال الخريطة السياسية بالخريطة الطبيعية ويتحول العالم الى مناطق جغرافية متمايزة تعتمد التبادل والتعاون فيما بينها عبر طرق ديمقراطية وقد صار كل مجتمع مقسما الى اتحادات حرة للمنتجين قواعدها في مواقع العمل والأحياء السكنية، ويمتزج العمل البدني بالذهني، ويتطور البشر بعدالة وحرية ومحبة. ومن هذا المنطلق تصبح كل ثورة شعبية من الآن فصاعدا شديدة الأهمية لأنها مطالبة باختيار مستقبل من اثنين: تكرار التجارب التي فشلت لدورانها في الفلك الرأسمالي سواء كانت ليبرالية أو رأسمالية دولة أو دينية أو قومية صرف -مع تزايد خطر الوقوع في الفوضى الوحشية أو الاحتلال الأجنبي- أو انتهاج مسار اشتراكي ثوري حقيقي يصفي قواعد رأس المال المحلي ويجابه قواعده الدولية أينما كانت، ويبني بالتالي حلفا كبيرا مع القوى الحية من جماهير العالم كله الغاضبة الآن من النظام العالمي برمته. ثورة تونس اندلعت فجأة ثورة تونس بينما المزاج العربي العام محبطا ويائسا رغم غضبه المتصاعد، ويدعم هذا الاحباط قطاع كبير من المتعلمين المنحطين الذين يتطوعون دائما بدور محطم المجاديف عوضا عن أن يكونوا شموعا على الطريق، وهي خيانة وجودية أولا حيث يخون المثقف نفسه ودوره، وخيانة لفقراء وضعفاء مجتمعه والذين هم أسوأ حظا منه تعليما وعملا ومعيشة. المهم أن الثورة قامت بينما الشارع خال من الحزب الثوري المأمول، هناك أحزاب نعم وهناك تيارات نعم، ولكن ليس هناك الحزب الاشتراكي الثوري الذي نقصده ونتمناه وبالتالي نجد أنفسنا الآن أمام حقائق محددة: -الجماهير المحرومة-المقموعة ثارت. -النخب المتعلمة انضمت لها. -السلطة واجهت الناس بالعنف البوليسي. -الناس ردت بصلابة. -السلطة استدعت الجيش الذي لم يتحمس لسحق الناس. -السلطة حاولت تقديم تنازلات بالجملة. -الجماهير انتهزت فرصة تراجع النظام فواصلت الهجوم. -الرئيس التونسي يهرب بينما النظام نفسه لم يسقط بعد حتى هذه اللحظات. -فوضى في الشوارع بين اختفاء البوليس وحضور الجيش بحذر وانتشار عصابات النهب وتشكيل الناس للجان دفاع. -مع خلو الشارع من حضور الطبقة العاملة التي تستطيع أن تجيش وراءها الجماهير المتناثرة وتمضي بها في طريق مغايرة للتخريب والنهب. في ظروف كهذه ستتحرك الكتل الجماهيرية بهدف احتواء الموقف.. ولكن أي احتواء نريد؟ من عيون التيار الديني هي فرصة للقفز على السلطة وهو ما سيفتح جبهة جديدة في المعركة المسماة بالحرب على الارهاب ويجر تونس الى مسار مظلم طبعا، ومن عيون الطبقة الحاكمة هي فرصة للتضحية ببن علي وعائلته مقابل الاستمرار في السلطة وفي الثروة طبعا وأدواتها العصابات المسلحة العميلة لها والجيش، ومن عيون الجيش لابد من حل مدني سريع والا حسمت الأمور بظهور جنرال كاريزمي يقفز على السلطة، من عيون الجماهير الغاضبة لابد من انتقام ولا مانع من نهب وتخريب لأنها ممتلكات لا يتصورونها يمكن أن تؤول لهم بأسلوب متحضر، ومن عيون المجتمع المدني بنقاباته وأحزابه وجمعياته لابد من حوار قومي موسع يؤسس للمجتمع الجديد وهو طبعا أمر جميل لو كان تم قبل الثورة وليس أثناء أحداثها المتلاحقة. ما العنصر الغائب اذن؟ في رأيي الشخصي هو الحزب الاشتراكي الثوري.. الذي يوحد حركة الناس ويوقف تمدد الجيش في الشأن المدني ويصفي الطبقة الحاكمة تماما وفي نفس الوقت يجذب جماهير المنطقة والعالم الى الثورة الاشتراكية على الطراز الجراحي المنجز لا على الطراز الفوضوي العارم ولا على أي من الطرز التي أشرت لها توا والتي كما نرى جميعا تحمل خطر المقولة الشعبية: وكأنك يا أبو زيد ما غزيت! ولكن هذا الحزب المأمول لم يجد فرصة كبيرة له في بريطانيا وفرنسا رغم تعملق الطبقة العاملة وتجذر الفكر الاشتراكي فيهما، ولا في مصر الأكبر عربيا كطبقة عاملة ذات تاريخ نضالي طويل، فكيف كان له أن يوجد في تونس ذات الطبقة العاملة الضعيفة أصلا؟ طبعا كان الاشتراكيون الثوريون في تونس يحاولون دائما ولكن القمع والجهل من جهة وعيوب اليسار الثوري الذاتية من جهة أخرى قيدتهم دائما. اذن نحن لا نلوم أحدا ولكننا نضع أيدينا الآن على السبب الجوهري في رعبي على هذه الثورة النبيلة.. فمأزقها كبير: اما أن تندفع الجماهير لبناء حزبها وآلياتها التي تقوم بالمهام الاشتراكية الثورية فورا من تأميم ومصادرة وضرائب تصاعدية، ولجان قاعدية تنقل صوت الناس وتنظمه بسرعة من الحي وموقع العمل الى مركز اتخاذ القرار، ولجان دفاع عن الثورة تستوعب في قلبها شباب الفقراء والشباب المثقف الثوري جنبا الى جنب مع الشرفاء من شباب الشرطة والجيش الموالين للثورة والذين يأتمرون بأوامر جهاتها النيابية والتنفيذية والقضائية، واما حوصرت الثورة وتحولت الى نموذج مرعب لا جذاب للجماهير في العالم العربي وفي العالم ككل. رباه! لكم أكره دور الواعظ الذي يجلس في مكتبه المكيف ينصح المناضلين عن بعد! ولكن لو كان ما أملكه الآن هو الكلام بحرية عما أحس وأتمنى فانني أنحني لشهداء ومناضلي تونس وأشد على أياديهم أولا، ثم أقول للدنيا كلها ما لدي الآن من باب محاولة الاشتباك مع الأحداث بحرقة وسرعة تناسبان الحدث الجلل. ان أكبر ضمان لنجاح مطالب جماهير تونس هو أن تأخذ مطالبهم منحى اشتراكيا ثوريا واضحا وحاسما رغم صعوبة الظرف الموضوعي، فالسيناريو الذي ستنتهجه وهي تصفي الطبقة الحاكمة وتنقل السلطة والثروة للناس هو الذي سيجذب لها الأنصار من العالم العربي أولا ومن العالم كله ثانيا وسيشجع مجتمعات أخرى –أولها الجزائر الجارة المشتعلة أصلا والتي لها طبقة عاملة أكبر- على الخوض في نفس المسار. ان انتشار الثورة خارج تونس هو الحل الوحيد أمام أهل تونس الآن.. فانتقال السلطة والثروة من الطبقة الحاكمة للجماهير يحتاج لطبقة عاملة قوية وحزب ثوري قوي والا تحول لقتل وسلب في الشوارع دون هدف، ولكن الطبقة العاملة التونسية صغيرة وحزبها الثوري لو وجد فهو بالتأكيد ضعيف، والطبقة الحاكمة لا زالت في السلطة ولا زالت في الثروة أيضا، والجيش الذي يحتل الشارع متناقض الاتجاهات ولكنه حتما سيميل دائما لوجود نظام ولو كان ظالما على وجود فوضى ولو كانت رد فعل لوضع ظالم أصلا. اذن ما الحل؟ الحل في رأيي المتواضع جدا هو انحياز المجتمع المدني التونسي الآن الى الحلول الجذرية على طريق صراع الجماهير بالسلطة.. فتصوير الصراع على أنه انتهى بهروب الديكتاتور البائس هو شيء غير صحيح، والثورة على بن علي تعني الثورة على الغنوشي والمجلس الدستوري والدستور نفسه الذي لم يوفر للبعزوزي وملايين مثله حق الحياة بكرامة من التعليم للعمل للسكن للصحة للمعرفة للتعبير عن رأيه للمشاركة في صنع حياته ومستقبل بلده. وهذا الدستور مهما تم تنقيحه على الدرب الليبرالي فهو لن يفي بالغرض.. فالليبرالية مشروع فلسفي كان ثوريا ابان الانتقال من المجتمعات الاقطاعية الى المجتمعات الرأسمالية، ولكنه تجمد وصار نفقا مسدودا وتحولت الرأسمالية معه الى مذابح وأكاذيب وتخريب بيئي ونفسي، ومن الغرابة أن نحلم ببناء مجتمع يريد الغربيون الآن تغييره بعدما ظهرت مفاسده الجمة. ان النظر الى الجماهير الغاضبة التي فجرت الثورة باعتبارها شركاء في أزمة وشركاء في الحل سوف يقطع الطريق على الحل الليبرالي الفاشل، وعلى الحل العسكري الكسول، وعلى الحل الطائفي الذي سيجر من المشاكل أضعاف ما سيحل.. والنماذج كثر. معنى هذا تحطيم الدولة القديمة بالفلسفة التي تستند اليها وخلق شيء جديد يربط قيمة الانسان بعمله وعطائه، والتعاطي مع القضايا التفصيلية لتوزيع الثروة والسلطة بجدية وابداع.. التونسيون أقدر الناس على حصر منابع ثرواتهم وقدراتهم البشرية وتصور حلول منجزة، فقط يجب أن ينظر المهنيون التونسيون الى الجماهير الفقيرة غير المتعلمة باعتبارها أصل الثروة واحتياطي لا ينضب من الانتاج والابداع، لابد من دمجهم في جميع الحوارات القومية وليس اقصاؤهم عنها ومطالبتهم بالعودة للهدوء ولا تجاوزهم لحوارات مع الجيش فقط، هؤلاء الناس الذين ثاروا من أجل الظلم الاجتماعي وشعارهم الخبز -فشدوا وراءهم المدافعين عن الحريات- هم شركاء أصليون في الثورة بما يمثلونهم من فلاحين وعمال وحرفيين ومهمشين ومعطلين عن العمل.. وجميع المطالب الثورية والوسائل الثورية التي تنفذها يجب أن تتبنى العالم من عيونهم، يجب سحق جذور التمييز بين البشر في التربة التونسية الآن حتى يرى العالم نموذجا مبهجا يحشد الملايين وراء الثورة لا ضدها. ان الذعر من انفلات الجماهير سينمحي اذا تم ادماجها في المجتمع الجديد ليس من منظور الاكتفاء بالحريات الليبرالية السخيفة كحرية الصراخ أو السكر أو الانتحار (!) بل من منظور فتح الطرق أمامها للتطور المتوازن الذي يراعي تطور الفرد بتطور عطائه لمجتمعه لا بتميزه في القفز عليه، ومعنى ذلك عمليا هو أن ما أبدعه الشعب التونسي من لجان للدفاع من الأمس الى اليوم يمكنه أن يتجذر أكثر بحيث تعم هذه اللجان كل تونس وتتولى مسئوليات اضافية غير الدفاع عن الممتلكات من العصابات المسلحة من أذناب النظام القديم أو من الجماهير الجائعة، ومن انتشار هذه اللجان القاعدية عبر جميع الأحياء ومواقع العمل ينبني مجتمع جديد يستمع بشغف للاحتياجات كي يخطط انتاجه وخدماته على أساسها فقط.. دون تمييز بسبب الجنس أو الطائفة أو الطبقة. وما الضمان؟ لا ضمان! وما هو أصلا المضمون فيما تم خلال شهر من الاضطرابات في تونس سقط بعده رأس النظام صحيح ولكن لم يسقط النظام الطبقي الظالم نفسه. ان التفاف الجماهير العربية حول الثورة التونسية أمر شبه مؤكد، ولكن الحذر البالغ هو ما يسيطر على المشهد العربي.. فتجاربنا المهينة منذ النكسة الى الانقسامات والهزائم المتتالية ووضعيتنا الحالية تضغط على مشاهد النضال والتفاؤل التي عشناها بأنفسنا مثل العبور العظيم وصمود السويس والانتفاضتين الفلسطينيتين والمقاومة اللبنانية مثلا، وفي نفس الوقت خبرنا في العالم العربي انقلابات عسكرية سمت نفسها ثورات ولكننا لم نخبر ثورة واحدة شعبية ناجحة من الألف للياء لا على الطراز الأوروبي الكلاسيكي ولا على طراز أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا مؤخرا، خبرنا ملوكا يسمون نفوسهم رؤساء ولم نجرب عبارة الرئيس السابق الا لو كان معها كلمة المرحوم أو الخائن! اذن الشارع العربي يحس بتونس وعينه عليها، يتمنى بقلبه انتصار الثورة ولكن ذكرياته وأوهامه تصعب عليه الاختيار الثوري، يراقب ما يحدث عله يستلهم منها الأمل أو اليأس الى الأبد! وفي الختام أتمنى من الجميع ملاجقة أحداث تونس.. فمن جهة يتعلم الثوريون هنا وهناك ما الذي ينقصهم في ثورتهم القادمة، ومن جهة يخرس قليلا محطمو المجاديف وينصتون لقوة الواقع المعقد، ومن جهة ثالثة يعي الحكام العرب الدرس.. مع أن الدرس الوحيد الذي أرشحه الآن لهم هو ضرورة تغيير مطار مالطة لأنه انكشف، وضرورة التربيط مسبقا مع الجهة التي تقبل استضافة الديكتاتور حتى لا تطول به رحلة الهرب الليلي المهين في الطائرات الباردة! سأحتفظ في ذاكرتي ما حييت بصورة البوعزيزي وهو يحترق احتجاجا، بلقطة الشابة الجميلة على أكتاف المتظاهرين وهي مليئة بالثقة بقرب النصر تداعب شعرها في حمى الصراخ الثوري، كما سأحتفظ ما حييت في ذاكرتي بلقطة بن علي وهو يقول للناس بمعلمة وقرننة: أنا فهمتكم! بل لم تفهم شيئا البتة يا رجل! لم تفهم التاريخ لأنك لم تقرأ ولم تفهم الشعب لأنك لم تحس ولم تفهم نفسك لأنك لم تتأمل. لو أستطيع لقبلت أقدام الشهداء جميعا.. ولقبلت جميع الجباه الحرة التي قالت لا حينما كان كل شيء حولها يقول: نعم! عاشت الثورة خالد الصاوي
#خالد_الصاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هوّ يعني ايه يساري؟ ما اليسار؟ وكيف أفهمه؟
-
تسجيل موقف
-
تمصير الفنانين الشوام.. إنقاذاً للأرباح، لا حباً في العروبة!
...
-
سيما أونطة.. هاتو فلوسنا!!
-
-كيف تعيش ليزستراتا اليوم-؟
-
الفن والرأسمالية
-
سُعار العيد!!
-
أهل الكهف
-
أدباء وفنانون من أجل التغيير.. لماذا؟
-
الفنانون كسلع داجنة !
-
الفتاوى المطلوبة لنصرة الشعوب المغلوبة
-
وعاوزني أكسبها...........؟
-
مواجهة السلطة بالحقيقة-شهادة من فنان
-
-إلا هو يعني ايه يساري؟؟- ما اليسار؟ وكيف أفهمه؟
-
نداء
-
محرقة المبدعين
-
احتجاجية فنية لأدباء وفنانون من أجل التغيير
-
تعليق على الأحداث
-
بغني وسط العاصفة 2
-
هرتلة مناسبة للأحوال
المزيد.....
-
-حلم بعد كابوس-.. أمريكية من أصل سوري تروي لـCNN شعور عودتها
...
-
بوتين يتوعد العدو بالندم والدمار!
-
لغز الفرعون: هل رمسيس الثاني هو فرعون موسى الذي تحدث عنه الك
...
-
كاتس من جنوب لبنان: باقون هنا للدفاع عن الجليل ولقد قلعنا أس
...
-
بين حماية الدروز وتطبيع العلاقات.. ماذا يخفي لقاء جنبلاط بال
...
-
الشرع يطمئن أقليات سوريا ويبحث مع جنبلاط تعزيز الحوار
-
الشرع: تركيا وقفت مع الشعب السوري وسنبني علاقات استراتيجية م
...
-
أمير الكويت ورئيس الوزراء الهندي يبحثان آخر المستجدات الإقلي
...
-
قديروف يتنشر لقطات لتدمير معدات الجيش الأوكراني في خاركوف
-
لوكاشينكو يدعو الشيخ محمد بن زايد لزيارة بيلاروس
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|