|
أغنية كونية للأثر الجمالي .. قراءة في حجارة بوبيللو ل إدوار الخراط
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 3244 - 2011 / 1 / 12 - 08:44
المحور:
الادب والفن
في نصه الروائي (حجارة بوبيللو) – الصادر عن دار الآداب ببيروت سنة 1992 – يعيد إدوار الخراط تكوين النص ، و العالم وفق مبدأ الاتصالية الجمالية التي تقع فيما وراء الاختلاف ، و التناثر ، و التناقض المميز لصيرورة الأشياء ، و العلامات النصية معا . و يلمح القارئ تلك الاتصالية الروحية الخفية الكامنة في نسيج النص ، و الوجود كما تتجسد في وعي السارد في سياق العشق بمدلوله الواسع ، أو الكوني ؛ إذ يتجلى في التعاطف المادي بين العناصر ، و الدوال التي تميل بحد ذاتها إلى الالتئام مع احتفاظها بالانفصال ، أو التجاور ، و الاختلاف الأصلي أيضا ، و لكن السارد يميل إلى لحظة التجاوز التي تجمع شظايا الحياة ، و ما بعدها في سياق شعري جديد يحتفي بالاتصال الوثيق بين الكائن ، و تحولاته ، أو أطيافه من جهة ، و إيحاءات الذاكرة ، و لحظة الحضور ، و الكتابة من جهة أخرى ، و كأننا إزاء مجموعة من الخبرات الحسية الاستعارية ، تذوب فيها الحدود الزمنية ، و الفواصل بين التكوين ، و الإيماءة ، و الأثر . و أرى أن الاتصالية الجمالية التي يحاول إدوار الخراط أن يستشرفها ، و يقبض على إنتاجيتها الجديدة في عملية الحكي ، تستمد طاقتها من مدلول أبولو ، و تأويلاته الفنية المحتملة ، و المتجددة في الأعمال الإبداعية بوجه عام ، و في السياق الجمالي الفريد الذي يقدمه هذا النص . يقدم إدوار الخراط – إذا - قراءة جديدة لدال أبولو ، تقوم على بقاء العلامات ، و العناصر المتحولة ، أو التي يصيبها التلاشي ، و استمراريتها ، و فاعليتها الآنية في النص ؛ فنحن نعاين طفولة السارد في نسيج حكمته ، و نشاهد الموت في وهج العشق ، و إيماءات الذاكرة الشبقية للسارد / الطفل ، و الرجل في آن ؛ فهو يستحضر مرح الطفولة بكامله ؛ ليقاوم قسوة الألم ، و الفقدان ، و الصمت ؛ و هي مفاهيم يكتشف القارئ أنها غريبة ، و عابرة إذا قورنت بالحضور الواسع للإيحاءات ، و الإيماءات الكونية التي تتميز بالأصالة ، و الفاعلية القائمة في لحظات الكتابة المتجددة . و في (معجم الأساطير) ترتبط صورة أبولو بالنور ، و الطب ، و الجمال ، و الموسيقى ، و الرعاة ، و يروى أنه سحر الحجارة – أثناء بناء أسوار طروادة مع بوسيدون – فتحركت إلى موضعها المحدد من خلال لعبه بالقيثارة (Read / The Dictionary Of Mythology / Arcturus Publishing Limited J/A Coleman 2007 / p.80/81 ) . و قد تطورت إيحاءات أبولو – عند نيتشه - كمبدأ جمالي يقترن بغياب ديونسيوس في التراجيديا ، و لكن الخراط هنا يحول أصالة البناء ، و البهجة الأبولونية باتجاه الظلال ، و التشبيهات التي يخلفها التجسد ، و الحضور الواقعي في النص ، دون أن يتعمق في وصف المشاعر المأساوية رغم تكرارها ، و تواترها ؛ إنه يبدأ من مسافة احتمالية ملتبسة من الوجود ، ثم يكسبها طاقة النور المجازي ؛ لأنها تبقى في حالتها الاستعارية ، و لا تسقط أبدا في بنية الغياب . يمثل نص (حجارة بوبيللو) – بحد ذاته – أنشودة للكينونة المؤقتة ، و المتجاوزة لزمانها في آن ، و كذلك الإدراك الحسي المعلق دائما بين البهجة ، و العدم . النص أنشودة للاختفاء ؛ فهو الكينونة التأويلية للأطياف ، و الموجودات ذات الفاعلية المجازية في الفضاء الكوني / أو النصي . و تبدو الأصوات ، و الروائح ، و الإيماءات في النص كتشبيهات للذكرى ؛ فالذاكرة هنا مادة للعمل ، و الإنتاجية السردية المؤولة لصيرورة الوعي ؛ إذ تتجدد فيه الحياة من خلال الشاعرية المضافة ، و المتراكمة في سياقات أولى من التحول البهيج دون نهاية . إننا نعاين الوجود – في النص – من خلال اتصاله السري بالدوال الثقافية ، و الأساطير ، و كذلك تفكيك مركزية التواتر ، دون التخلي عنها أبدا ؛ فهي السمة التي تمنح النص تلك الإيحاءات الفنية الساحرة بضرورة التجميع ، أو الحب – طبقا لفرويد – كخاصية مادية تميز العلامات المتضادة ؛ فالشخصيات النسائية ؛ مثل رحمة ، و خضرة ، و حميدة ، و حنينة تتصل بصور الأم سيبيل ، و إيزيس ، و حتحور ، و ست الحسن ، و عرائس النيل ، و غيرها ، و نلمح تجاورها الآني ، و اختلاط إيماءاتها بالمشهد السردي ، دون إشارات تدل على الاستحضار ، أو الاستباق ؛ إنها فاعلة في لحظة الكتابة . إن الاختلاف في نص الخراط يتجسد كجزء من حركية التعاطف الكوني ، و ما يحمله من تصوف خفي ، و ثري بالدلالات العميقة . و يضيف مبدأ التجاور الفني في النص سمة التسامح التي يؤكد حضورها الكاتب بين الأفكار ، و الصور ، و الثقافات ؛ و هو ملمح ما بعد حداثي يؤكد عمق البساطة ، و الخبرات الصغيرة في تفاعلها المعقد بالصور المجازية ، و الثقافية الخفية . و يمكننا ملاحظة خمس تيمات فنية في (حجارة بوبيللو) ؛ هي : أولا : من الصمت إلى ولوج جماليات العالم . ثانيا : تداعيات نصية ، و ثقافية . ثالثا : بلاغة إدراك الوجود . رابعا : بين وهج التجسد ، و الخروج المتعالي . خامسا : عالمية الشخوص ، و الأماكن . أولا : من الصمت إلى ولوج جماليات العالم : يعاين السارد ، و شخوصه حالات من الصمت ، و الانتظار المستمر ، و الغربة ، و لكن الصمت هنا يتميز بالإيجابية الإبداعية التي تستنزف اللغة ، و الجسد في الظلال ، و التشبيهات المتضاعفة في النص ، و الوجود معا ، و تعلن عن شبقها التكويني ، و بربريتها الاستعارية التي تعيد استنبات الوعي ، و الجسد في جماليات العالم ، دون نهاية . إن العزلة التي تستشرف الموت في النص ، تنطلق في موسيقى جمالية تنبع من ولوج الشخصيات للفضاءات الكونية الجديدة ؛ و فيها يتمتع الأثر بالدائرية ، و التحول ، و الفاعلية المتجاوزة للحظات البداية ، و النهاية معا . و يختلف مدلول الصمت الإبداعي لدى الخراط عن تشكله في أدب ما بعد الحداثة الذي يجمع بين التوقف ، و الغناء كما وصفه إيهاب حسن في كتابه (تمزق أورفيوس) ؛ إذ يميزه بالحديث الصامت ، و خطاب الهاوية ، و المغامرات الروحية المفرطة التي ميزت نصوص نيتشه ، و رامبو ، و كافكا ، و همنجواي (Read / Ihab Hassan / The Dismemberment Of Orpheus / The University of Wisconsin Press / London 1982 / p.vix). الصمت في (حجارة بوبيللو) مرح ، و يستنزف بنيته نفسها ، و مصادر نشوئه التي تنبع من مخاوف الجسد ، و الإفراط في تأمل التجربة الداخلية كتكوين مستقل ، و ذلك من خلال ولوج الصوت للآثار المجازية المولدة عن لقاء الكون بطاقة الدوال الثقافية ، و الخبرات الحسية التي تقع هنا ، و الآن ، و تتضاعف في المشهد السردي كقوة مضادة للصمت الأول ؛ إنها تدرك الموت ، و لكنها تلج ما يتولد عنه من إيماءات صاخبة ، و استعراضية تناهض بنيته ، أو اكتماله . إن التجاوز عند الخراط ينبع من أصالة الاتصال بالتكوينات البهيجة في العالم ، و هو ما يستدعي دلالات أبولو مرة أخرى ، و لكن التجاوز لدى إيهاب حسن يأتي من حالة اختلاف جمالية تبدأ من التناثر ، و فنياته الجديدة في الكتابة . يقوم نص (حجارة بوبيللو) على درجة عالية من التفاعلية المعقدة بين البطل ، و عائلته ، و جيرانه ، و بعض الشخصيات الفريدة المولدة من المكان من جهة ، و الطاقات الإبداعية ، و الثقافية ، و الخيالية التي تحيطها ، و تبقيها في المشهد السردي من جهة أخرى . تتداعي رغبات البطل الحسية إزاء (رحمة) ، و حكايات الحب مع (لندة) مع صخب أرض بوبيللو في قرية الطرانة – و كانت مخصصة لدفن الموتى – و لكنها تحمل آثار الماضي في فضائها الإبداعي ، و كأن طاقتها التوليدية تستنزف ظاهرية الصمت باتجاه حياة قيد التشكل ، و البعث دائما ؛ فهي تعيد إنتاج طفولة السارد ، و بكارة إدراكه للعالم ، مثلما تؤجل الموت ، بل التجسد بحد ذاته في الصوت الشعري المتعالي للمواد المؤقتة ، و الأطياف . يقول : " تراب الكهنة و الشعب و الجنود و التجار يغذو القمح و البرسيم و الشعير ، و يمتزج بعصارة جذور الجميز ... أعواد الذرة الغضة ، و حبوبها السكرية ؛ دورة مشرقة الحلقات أم ثأر يأخذه لنا و لنفسه الفلاح الذي لا يموت أبدا " . الخبرات الجسدية الأولى تلتقي – هنا – بالمرح المصاحب لظهور المادة ، و الأثر ، و النور جميعا دون انفصال في المشهد . الطفولة تستنبت الفلاح الذي صار بلا اسم ، أو جسد محدد ؛ إنه طاقة تلازم أخيلة المكان ، و تنتشر في لا وعي الشخوص ، و روائح المكان ، و البهجة المتجددة في الأجساد الحية ، و الميتة معا ؛ فالحياة النورانية في وعي السارد تهمش الصمت ، و تقصيه عن المشهد ، و تعيد تكوينه في النسيج المادي المتداخل للطاقات الاستعارية الحقيقية في الكتابة السردية . قد تموت بعض شخصيات المكان ، أو العائلة ، و لكنها تزداد توهجا في لا وعي السارد ؛ مثل أخته عايدة التي ماتت بالتيفود ، و خضرة التي قتلها زوجها ، و حميدة ، و غيرهن ؛ فما أن يأتي خبر الموت في النص حتى يشتبك بالمتواليات السردية التي تضاعف من النور ، و العشق ، و الصوت الكوني الملازم للأخيلة البديلة عن الشخص . و من أهم الشخصيات التي تصارع الصمت في النص (حميدة البرصا) التي تعاني من العرج ، و التشوه ، و العزلة ، و انتظار النهايات ، و لكن السارد / الطفل يعيد اكتشاف نفسه فيما وراء ذلك السلب المضاعف ، و يتحد بالطاقة الروحية لحميدة ؛ فيحتضنها كأنهما تكوين واحد ، و يرى نفسه في عمق عينيها الخاليتين من الانتصار . هل كانت نهايات حميدة بداية لنشوء آخر ؟ أم أن السارد ينقل صمته الخاص في طاقتها المحولة البهيجة عقب الموت ؟ يخبرنا السارد أن حميدة صارت نجمة مضيئة ؛ أي صارت نورا خالصا من داخل هيمنة الهدم ، و التدمير في بنيتها ، و كأن الصمت في النص معبر لما وراء النهايات الزائفة ، و ليس مدلولا لها . و قد تختلط آثار المادة بالفضاءات التشكيلية الفنية ؛ فنعاين جماليات العالم في تكوينات الموت نفسها . النشوء هنا دائري ، و يستشرف تحولا ، أو بعثا دون تحقق كامل ؛ فلحظة الحضور تتمركز حول التشكيل الحي للموت ، و ليس ما يتجاوزه . التكوين يستنزف نفسه في طبقات بهجة عميقة لا يمكن محوها من صمت المادة ، كما تعلن الحياة عن نفسها بصوت صارخ ، و خفي في آن داخل نسيج اللوحة الكونية الحارّة . لقد أعاد السارد تأويل رأس غزال صغير وجده في الصحراء من خلال عوامل النشوء المتجددة ، و الكامنة في بنية الصمت . يقول : " هيكل بريء تماما من كل لحم ، من لوثات الحياة ، عظم أبيض صاف و صلب ، عيناه محجران مجوفان مفتوحان على ظلام الجمجمة الداخلي " . هل استحال ظلام الجمجمة نورا بفعل التشكيل الجمالي للعلامة ؟ أم أن الحياة الدائرية هي براءة أولى من التجسد ؟ لقد اختلطت عوامل العشق ، و التدمير مع غلبة البهجة في التكوين ؛ فرغم أنه ميت ظاهريا ، فإنه يتصل – بصورة خفية في وعي السارد ، و لا وعيه – بنشوء جمالي غامض ، و متكرر في العالم . ثانيا : تداعيات نصية ، و ثقافية : تشارك العلامات الفنية ، و الثقافية في بناء المشهد السردي في (حجارة بوبيللو) ؛ فهي تحول وعي السارد إلى فراغ منتج لتجاورها الإبداعي في لحظة الحضور ؛ و هي ثرية بالموجودات ، و الإيحاءات المتراكمة في الأكوان الصغيرة ، و الكبيرة في النص ، كما تتحدى الأبنية المعرفية للسارد ، و كذلك اكتمال أي مدلول في النص السردي . التداعيات النصية هنا تشبيهية أيضا ؛ لأن العلامات تكتمل في نشوء الدال الآخر دائما في نسيجها نفسه ، و هو يتصل بها رغم الاختلاف الظاهر ، و كاننا أمام احتفالية سيميائية كونية تقاوم الماضي ، و سكونية الإشارات الثقافية التي صارت مؤثرة في تكوين المشهد بفضل اتصالها النصي بالسياق المتجدد للكتابة ، و التكوينات الفريدة لشخوص النص . يتداعى المدلول الثقافي للعقاب في النص مع أحلام الحب ، و العشق في وعي ، و لا وعي السارد في سياق نصي تشبيهي يؤكد أن العقاب مازال معلقا في بهجة الحلم ، و التداعيات الأنثوية . يروي السارد حادثة وقوع حائط الكنيسة القبلي على العم (باسيلي) ، و يتخيل أن ملاك الرب قد ضربه بسيف ؛ ليعاقبه على ذنب لم يفعله ، ثم يعاين صورة أرضية من الملاك ، تتبعها أحلام الحب التي تشكلها الدوال النصية ؛ مثل (حميدة) ، و (حنينة) ، و الأسطورية ؛ مثل (جنيات الليل) ، و الثقافية ؛ مثل (عرائس البحر) ، و (جواري ألف ليلة) . إن عقدة الذنب بما تحمله من أخيلة أوديبية هنا تسير في اتجاه مضاد لبنية الموت ؛ إذ يتضاعف العقاب في أخيلة الاتحاد الجسدي بما تحمله من موت محتمل دائما ؛ لأنه يقترن بتجدد قوي للحياة ؛ فحميدة نجمة مضيئة ، و عرائس البحر تحمل ذكرى الخصوبة ، و حنينة تتصل بالصوت الخفي الصاخب للعم باسيلي المشلول . علامات العقاب تلج التحول مباشرة قبل أن تشير إلى الموت المحتمل ، و كأن التداعيات النصية ، و الثقافية تؤول النشوء الآخر للحدث في سياق الاتصال الروحي بين العناصر المتعارضة . و قد تتداعى المرأة المتخيلة داخل وعي السارد أثناء عمله في الصحراء باستعادة أصوات شعراء الغزل في الثقافة العربية ؛ مثل امرئ القيس ، و عمر بن أبي ربيعة ، و المجنون ، و جميل ، و كذلك العنصر الجمالي البارز في نسائهم المعشوقات ، و هو الاستدارة مع الامتلاء ، و الخصوبة . و أرى أنه ثمة لقاء سري في اللاوعي بين تلك الأنثى الحلمية الممثلة لصوت السارد ، و مشاهد البهجة الحسية في معلقة امرئ القيس ؛ فلقائه بالعذارى ، و أكله معهن يعبر بدرجة كبيرة عن استعارة حلمية بهيجة ، لا واعية ، و أصيلة في تراثنا العربي ؛ فهناك عشق ينبع من الأحلام الذاتية ، و يتراكم هنا في الدلالات الثقافية للصحراء ، و يقع بين رحلة السارد إليها ، و الفاعلية الجديدة للدوال الثقافية . و قد يغرق النص في تجميع الدوال النصية ؛ كي يلفت النظر إلى تلك الحياة السرية التي تكمن في الإيماءات الصغيرة ، و الأطياف ؛ فما أن تبدأ العلامة في الظهور حتى تتولد منها إشارات حركية تعلن عن تحدي الحياة الجزئية في العالم لأي مركزية ، أو صوت مكتمل . تتداعى تراتيل الهارب في وعي ، و لا وعي السارد مع صوت الناي ، و خشخشة علب السافو ، و صخب إعلانات التليفزيون ، و كراسي التخت ، و ضربات الخشب ، و صرخات الفتيات ، و قرع الطبل ، و ترجيع الكروان ، ثم الضوء الملتبس بين السطوع ، و الظلمة . إن التراكم اللازمني للأصوات هنا يدل على الفاعلية الشبحية للموجودات الجزئية التي انتصرت على كينونتها المؤقتة في المشهد ، و صارت ممتدة من خلال قوة التراكم النصي ، و الاشتباك الاستعاري بالدوال الأخرى . اللغة الاحتمالية عند الخراط تعيد بناء الهدم في موسيقى جديدة ترتكز على الانتشار ، و التناقض معا . ثالثا : بلاغة إدراك الوجود : يشكل السارد موضعه في العالم انطلاقا من بلاغة المعرفة نفسها ؛ فالوعي يحدد كينونته انطلاقا من رؤى بلاغية مجازية ، و قد لاحظت أن أخيلة الطيران هي الأكثر حضورا في النص ، و ترتبط بانتشار الحب ، و فقدانه ، و استعادة وهجه مجردا في آن . لقد عاين السارد حضوره في صورة عصفور شفاف ، ثم سرب من الطيور الزرق التي تنتشر نحو السماء ، و تمثل الأشواق ، و أحلام الحب ، ثم قام بتأويل مشاعر الخواء ، و الفقدان عبر وسيط الغربان التي تتجه نحو الاحتراق دون اهتمام ، و لكنه يمنح روحها اشتعالا متساميا يوحي ببعث الحياة مرة أخرى من خلال فعل الطيران . الطيران عند الخراط نشوء مرح متجدد ، و هروب مجازي مستمر من النهايات ؛ إنه أنشودة للصعود الدائري المعلق بين الأرض ، و السماء . رابعا : بين وهج التجسد ، و الخروج المتعالي : يقع سارد الخراط ، و شخوصه في النص بين الوهج الجسدي الذي يتفاعل مع الإشارات الثقافية ، و الكونية ، و صخب النهايات التي يفكك بنيتها التحول باتجاه كينونة شعرية جديدة ، و متعالية في الوقت نفسه ؛ ففي داخل العم باسيلي العاجز صرخة توحي بتجاوز الألم ، و استشراف بدايات جديدة ، كما تتجلى أمامه أنوثة (حنينة) ، و أمومتها الأسطورية ؛ أما تحول حميدة إلى نجمة مضيئة ، فقد تماس مع الأيقونة الحزينة للمسيح ، و على رأسه تاج الشوك ، و كأن حياة حميدة الحقيقية تبدأ من لحظة تحولها الشعري في الكون الآخر . و من أهم المقاطع التأويلية في النص ما يجسد فيه السارد شاعرية الظلام ، و النهايات في فعل الاحتراق الاستعاري . يقول عن النصف القاتم من حميدة عقب تحولها : " اللهم اجعلني وقودا للشطر المحترق ، اللهم اجعلني هشيما للنصف المشتعل . اللهب ، اللهب ، أريد بقاء ساطعا في اللهب ، لا ، بل أريد الظلام .. أريد نشواته ، و خفاءه " . هل كان الظلام بحد ذاته تشبيها لطاقة الحياة المتجددة ؟ أم أنه فاعلية المجاز المحولة لمدلول النهايات الزائف ؟ . إن السارد يكرر علامة (اللهب) ؛ كي يمنح الكينونة سحرا استعاريا متعاليا من خلال تلك اللغة التي تتحدى الظلمة ، و الصمت في النص ، و تستبدلهما بخصوبة للنور . خامسا : عالمية الشخوص ، و الأماكن : تتجاوز الفضاءات ، و الشخوص في (حجارة بوبيللو) حدودها المحلية باتجاه النزعة الإنسانية العالمية عبر وسائط الاندماج في الآثار الفنية ، أو الأخيلة ذات الطابع الفردي ، و المؤولة للمحلي في سياق كوني كبير يجمع بين الداخل ، و الخارج . لقد أعاد السارد إنتاج الراقصات في فرح الخال فانوس ، و وديدة انطلاقا من تداخلها مع راقصات هنري ماتيس ، كما تحولت جذور الأشجار في وعيه إلى أعمدة تطير في بحور العشق . الأجساد الصاخبة عند ماتيس تستعاد في تلك الطاقة الإنسانية الخفية ، و المكررة في العلامات الجزئية ، و المحلية ، مثلما تصير معالم القرية أساطير للعشق ، و الغناء الكوني . محمد سمير عبد السلام – مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جماليات العوالم الصغيرة .. قراءة في شارع بسادة ل سيد الوكيل
-
الهوية الجمالية للمكان .. قراءة في واحة الغروب ل بهاء طاهر
-
التفاعل الصاخب بين الفن و الحياة .. قراءة في نساء و ألغام ل
...
-
مرح جمالي للبساطة الأولى .. قراءة في عتبات البهجة ل إبراهيم
...
-
تجدد الهوية الشعرية .. قراءة في ديوان سيرة ذاتية لملاك ل فري
...
-
فضاءات جمالية ، و كونية في كتابة جمال الغيطاني
-
انفتاح الشكل .. قراءة في نص من حديث الدائرة ل علاء عبد الهاد
...
-
بين البهجة ، و الصمت .. قراءة في ضربتني أجنحة طائرك ل إدوار
...
-
مغامرة الأداء .. قراءة في أين تذهب طيور المحيط ل إبراهيم عبد
...
-
نيرمانا كهوية شعرية .. قراءة في ديوان البحث عن نيرمانا بأصاب
...
-
السجن ، و الولادة الإبداعية .. قراءة في رواية الجوفار ل مروة
...
-
الوفرة الإبداعية للشخصية .. قراءة في رواية لم تكتب بعد ل فرج
...
-
دائرية الإيماءات ، و الصور .. قراءة في تجربة علاء عبد الهادي
-
الحكي ، و تجدد الحياة .. قراءة في مجموعة نصف ضوء ل عزة رشاد
-
الإيماءات الإبداعية للحكي .. قراءة في نوافذ صغيرة ل محمد الب
...
-
لعب التشبيهات ، و الأصوات .. قراءة في كأنها نهاية الأرض ل رف
...
-
نقطة الخروج في مسرح أوجين يونسكو
-
نحو فضاء آخر .. قراءة في ديوان هوامش في القلب للدكتور عز الد
...
-
الوعي المبدع يتجدد .. قراءة في كتاب المغني ، و الحكاء ل فاطم
...
-
انطلاق القوى اللاواعية .. قراءة في دموع الإبل ل محمد إبراهيم
...
المزيد.....
-
جمعة اللامي يرحل بعد مسيرة حافلة بالأدب ومشاكسة الحياة
-
رجل نوبل المسكون بهوس -الآلة العالِمة-: هل نحن مستعدون لذكاء
...
-
لماذا لا يُحتفل بعيد الفصح إلا يوم الأحد؟
-
-ألكسو-تكرم رموز الثقافة العربية لسنة 2025على هامش معرض الرب
...
-
مترجمة ميلوني تعتذر عن -موقف محرج- داخل البيت الأبيض
-
مازال الفيلم في نجاح مستمر .. إيرادات صادمة لفيلم سامح حسين
...
-
نورا.. فنانة توثق المحن وتلهم الأمل والصمود للفلسطينيين
-
فيليبي فرانسيسكو.. برازيلي سحرته اللغة العربية فأصبح أستاذا
...
-
بمَ تسمي الدول نفسها؟ قصص وحكايات وراء أسماء البلدان بلغاتها
...
-
عن عمر ناهز 64 عاما.. الموت يغيب الفنان المصري سليمان عيد
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|