|
الصراع الطبقي في الوطن العربي في الثمانينات
سلامة كيلة
الحوار المتمدن-العدد: 3239 - 2011 / 1 / 7 - 00:07
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
(مقالات) مقدمة أنشر هنا مقالات تتناول الصراع الطبقي في الوطن العربي كما تمظهر خلال سنوات الثمانينات من القرن العشرين في العديد من البلدان العربية. لقد أدى التحوّل عن دور الدولة الاقتصادي والرعائي منذ السبعينات إلى انهيار الوضع المعيشي لمختلف الطبقات الشعبية،حيث استمرت الأجور كما كانت بينما أفضى الانفتاح إلى ارتفاع مضطرد في أسعار السلع الأساسية، وهو الأمر الذي أفضى إلى تعميم الإفقار. هذا الوضع هو الخلفية التي أفضت إلى حدوث انفجارات شعبية تمظهرت في تحركات احتجاجية، لكنها اتخذت شكل انتفاضات شعبية هائلة، استطاع بعضها تغيير النظام (وهنا نشير إلى السودان) أو إلى تغيير سياسات هذه النظم (الأردن والجزائر والمغرب) عبر تكريس انفراجات "ديمقراطية"، ومعظمها فشل. لكنها في كل الأحوال كانت تعبّر عن تفاقم الصراع الطبقي بعد سيادة السياسات الليبرالية المفروضة من قبل صندوق النقد والبنك الدوليين على ضوء أزمة القروض التي أغرقت فيها النظم تلك. وهي السياسات التي كانت تتلاقى مع مصالح الرأسماليات القائمة أو مع الرأسماليين الجدد الذين نهبوا الاقتصاد في البلدان التي حكمتها نظم قومية. ورغم أن بعض المقالات تحتوي على تحليل للوضع الاقتصادي الذي أسس لنشوء الانتفاضات فإن بعضها يعبّر عن موقف منها يؤشر إلى أن مرحلة جديدة قد نشأت يحكمها الصراع الطبقي بعد عقود من التحولات التي همشته. والمقالات تكمل ما جاء في كتاب "عفوية الجماهير ودور الحركة الثورية في الوطن العربي" المنشور على الانترنت، والذي صدر ككراس (أخيراً) تحت عنوان "طريق الانتفاضة،لماذا تثور الطبقات الشعبية؟" في سلسلة كراسات ماركسية. حيث حاولت فيه بلورة تصور يتعلق بطريق التغيير الممكنة،حيث عملت على تحليل أسباب الانتفاضات لأصل إلى تحديد صيغة العلاقة بين الحزب والطبقات الشعبية، وصيغة تحقيق التغيير من خلال الربط مع الانفجارات الشعبية. وربما كانت الرسالة الأخيرة في هذا الكتاب، التي تناقش مسألة علاقة الحزب بالطبقة، وموقع المسألة الوطنية، هي الأساس الذي بنيت عليه الفصل الأول من كتاب مهماتنا: الثورة ومشكلات التنظيم، لكن متوسعاً في التأسيس النظري، وموضحاً شكل التنظيم الضروري لتحقيق ذلك.
مصر بعد عشر سنوات من رحيل عبد الناصر لعل ربط مسألة تدهور الاقتصاد المصري، بزيادة التبعية للإمبريالية الأمريكية، أمر ليس بالغريب، فالتبعية تفترض تدهور الاقتصاد الوطني، وزيادة الاعتماد على السوق الإمبريالية، ليس الصناعة فقط بل وفي الزراعة أيضاُ، وكل السلع المرتبطة بها، من القمح إلى اللحوم، وهي السلع التي كانت مصر، والوطن العربي يصدرانها قبل سنين قليلة فقط. فالقطن والقمح، واللحوم كانت من السلع الفائضة عن احتياجات الوطن. وكان هدف البرجوازية الأوروبية الصاعدة في نهاية القرن الماضي من الاستعمار، الحصول على المواد الأولية، وكان فيها القمح والقطن والحرير واللحوم.. إلخ. والتحول إلى استيراد هذه السلع يعني عمق أزمة الاقتصاد. في مصر، من جهة، وزيادة التبعية للإمبريالية من جهة أخرى. ورغم ذلك يسعى النظام المصري إلى قلب المعادلة، بتبيان أن حل مشاكله الاقتصادية يعتمد على توطيد العلاقة مع الإمبريالية الأمريكية، كذلك فالإعلام المصري يحاول إقناع الجماهير في مصر إن الحل يكمن في تمكين رؤوس الأموال الأجنبية من السيطرة على الاقتصاد وتوجيهه، وفي زيادة التحالف مع الإمبريالية الأمريكية إلى الحد الذي يمكنها من لإقامة قواعد عسكرية في مصر، لصالح الإمبريالية نفسها. وإذا كان النظام يهدف جاهداً لإقناع فئات من الجماهير بأن حلول مشاكلها مرتبطة "بالتعاون" مع الإمبريالية الأمريكية، والإعلام المصري يزخر بما يدعم ذلك، فإنه يهدف أيضاً وبشكل ملح إلى الهاء قطاعات واسعة من الجماهير عن المشاكل الحقيقية التي يعيشها الوطن، المتمثلة في ازدياد الهيمنة والسيطرة الأمريكية، المتمثلة في القواعد العسكرية والدور العسكري المصري لخدمة مخططاتها وفي التبعية الاقتصادية التي تعيشها مصر بعد سنين طويلة من النضال لتصفيتها، وأيضاً لتغطية الخطوات الخيانية التي يقوم بها النظام، مع العدو الصهيوني، والمتمثلة، بالتحالف معه، وتطوير علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية تخدم مخططات. وتفسح له مجالاً للتغلغل الاقتصادي في مصر خصوصاً وعلى الصعيد العربي عموماً. والخطوات الاقتصادية التي يعلن عنها النظام يومياًـ تخدم كل ذلك. فهي تهدف إلى تضليل الجماهير. ودفعها للتفكير بالمشاكل الصغيرة. وفي الأمور المعاشية، وهي تهدف ثانياً إلى تمكين الاقتصاد الإمبريالي-الصهيوني من الهيمنة على مصر. بالتحالف مع كبار رجال المال والتجار. والإقطاعيين. وما يجمع بين هذين الهدفين. هو الشعارات البراقة. التي تظهر كل الخطوات الاقتصادية. وكأنها الحلول الجذرية. التي سوف ترفع عن كاهل الشعب المعاناة الكبيرة التي يعيش أسيراً لها، فلقد انتهى "عصر المسكنات في مواجهة المشاكل" الأهرام 16-9. وأقبل عصر "المواجهة الحاسمة لكل مظاهر الجشع وارتفاع الأسعار" الأهرام 7-9. و"المواجهة الجذرية للمشاكل" الأهرام 16-9. هذه الشعارات التي تؤكد عليها الحكومة ومجلس الوزراء. والوزراء والمسؤولون يومياً. ولقد ربطت بإجراءات محددة كثيرة، قيل أنها جزء من "المواجهة الشاملة" و "الحلول الجذرية" فهل هي حقيقة كذلك؟ يمكن أن تبدو في الظاهر كذلك. ومكن أنها في بعض وجوهها تقدم بعض الحلول لجزء من المشاكل. لكنها في حقيقتها تؤكد الحقيقة المبدئية، وهي توطيد التبعية للإمبريالية، وبسط هيمنة القوى الكمبرادورية في مصر. 1-فمن الأمور الأساسية التي يوليها النظام اهتماماً كبيراً. ويؤكد ضرورتها في حل الأزمة الاقتصادية أن يلعب رجال المال (أصحاب البنوك) دوراً مهماً في الاقتصاد المصري، فلقد التقى السادات برؤساء البنوك في الإسكندرية يوم 8-9. وبحث معهم "دور القطاع المصرفي في دفع عملية التنمية وتمويلها" الأهرام 9-9. كما تم تأسيس مجموعة من البنوك الجديدة، لتشارك في عملية "التنمية" أهمها "بنك الاستثمار القومي" بسيولة نقدية قدرها 546 مليون جنيه، مهمته تميل مشروعات الإسكان في المحافظات والمساهمة في تنفيذ مشروعات الخطة القومية، ورأسماله 1000 مليون جنيه (الأهرام 9-9). وبنك مصري عالمي تسهم في إنشائه البنوك المصري، وعدد من البنوك الأوروبية، لجذب المزيد من رؤوس الأموال الأجنبية للاستفادة منها في "تميل مشروعات التنمية في مصر" (الأهرام 10-9). وبنك ثالث للاستيراد والتصدير "لإعطاء مزيد من المرونة والحركة والتصرف في تمويل التجارة الخارجية استيراداً وتصديراً" (الأهرام 10-9). إضافة إلى تأسيس فروع للبنك الوطني للتنمية في المحافظات (الدقهلية والصعيد) "لخدمة مشروعات التنمية في مجالات الصناعة والزراعة واستصلاح الأراضي والإسكان" الأهرام 9-9. 2-الحديث عن مواجهة شاملة تعدها الحكومة، بدأت بقرارات مجلس الوزراء الأخيرة، وسوف تستكمل بثورة تشمل كل التشريعات الاقتصادية، وتهدف إلى إنهاء كل السياسات والحلول الوسط للمشاكل الاقتصادية المتراكمة (د. عبد الرزاق المجيد نائب رئيس الوزراء لرجال الأعمال تشمل التشريع الضريبي. والاستيراد. فالتشريع الضريبي الجديد يهدف إلى سد الثغرة بين أجمالي الإنفاق العام والبالغ 10 آلاف مليون جنيه، والدخل القومي البالغ 9 آلاف و 200مليون جنيه. أي أن الثغرة تبلغ 800 مليون جنيه، وتمثل 5% من الدخل القومي، والممولون المصريون قادرون على سدادها بدون إرهاق ومعاناة. ولكن القوانين واللوائح الضرائبية الحالية تعيق ذلك (عبد الرزاق عبد المجيد-الأهرام 16-9)، والتشريعات الجديدة سوف تزيل العقبات. وكذلك قانون الضرائب على المستوردين (القرار رقم 15 الذي وضع حماية المجتمع؟) الأهرام 16-9. والذي ينص على أن يضع المستوردون مبلغاً مالياً بالعملة الصعبة قبل الاستيراد. وهي نسبة 7% من الدولار لكل 100 جنيه (الأهرام 16-9) لاستخدام الأزمات الاقتصادية التي يعانيها النظام؟ لقد حاول النظام إظهارها كذلك، ولكن تجربة العشر سنوات الماضية تؤكد تفاقم أزمات السكن والمواصلات. والسلع، إلى الحد الذي وصلت فيه إلى الخبز واللحم. إن هذه السياسة لا تلغي الأزمات، بل تأتي بأزمات جديدة أهمها أزمة التبعية للإمبريالية وهي الأزمة التي تحتاج لنضال كل الجماهير الشعبية لإنهائها، وهذا لا يتم إلا بأن تلعب القوى الوطنية والديمقراطية الثورية دوراً أساسياً في قيادة الجماهير الشعبية في مصر، لإسقاط النظام، وضرب الهيمنة والتبعية للإمبريالية. تشرين الثاني 1980
اقتصاد: العجز في ميزانيات بعض الدول العربية مع بداية عام 1981 نشرت بعض الدول العربية ميزانياتها، للسنة القادمة، وما طالعتنا به هذه ميزانيات كعادتها هو العجز، وإذا كان العجز قد أصبح ظاهرة عالمية، نتيجة لنمو المصروفات، وتزايد الأسعار، خاصة النفط، فإنه في البلدان المتخلفة، وفي الوطن العربي يتخذ صوراً بشعة، ذات مغزى. وإذا كانت مشكلة البلدان الرأسمالية تكمن في زيادة النفقات، خاصة التسليح والجيش، وفي زيادة السعار لعالمية خاصة النفط، فهي في البلدان المتخلفة أكثر تعقيداً، حيث المجتمع لا ينتج الشيء الكثير، فهو يستورد القمح والزيت، والخضروات، والسلع الاستهلاكية، كما يستورد السلاح، والمصانع والتكنولوجيا، وهو في كل ذلك يسدد فواتير المشتريات. وأما صادراته فقليلة ومحدودة (عدا دول النفط) وبالتالي فالعجز قائم لا ريب في ذلك. وللعجز في هذه البلدان أسبابه المعقدة، وهي: 1)أنها بلدان غير منتجة أساساً. فلقد كانت سابقاً بلدانا زراعية، تصدر بعض الإنتاج الزراعي للسوق الرأسمالي كالقطن والحرير. ولكن الزراعة واجهت انهياراً كبيراً، حولها إلى قطاع لا يفي بالطلب الداخلي، ولقد لعبت سياسات الأنظمة الحاكمة دوراً في ذلك. كما إن الصناعة لم تنمُ إلا في إطار ضيق وهامشي. 2)أنها تعتمد على الاستيراد، في مختلف الجوانب الزراعية منها والصناعية، الإنتاجية منها والاستهلاكية، الخفيفة والثقيلة. فتكون عجز في الميزان التجاري، ساهم في تراكم الديون. 3)مصاريف الدولة المتزايدة، وحاجتها لتطوير أدوات القمح، (الجيش، وأجهزة المخابرات)، وللإنفاق العام و.... إضافة إلى ما يذهب هدراً، وسرقته إلى جيوب أركان الأنظمة ذاتها. وهي مبالغ لا يستهان بها. ولقد حل النفط مشاكل بعض هذه البلدان. ولكن معظمها يعاني من نفس المشكلة، تقص في الإيرادات وزيادة في النفقات. وبالتالي فالحل يكمن في المساعدات الخارجية والقروض المختلفة، وذات الفوائد المنخفضة أو المرتفعة، وفق العلاقة بين الدول المفترضة والدول التي تقدم القروض. وفي غالب الأحيان تقوم الدول الإمبريالية، أو الشركات الاحتكارية العالمية بتقديم هذه القروض، كالبنك الدولي مثلاً. والنتيجة تحول هذه الدول إلى تابع لتلك، فهي أولاً نتيجة حاجتها للقروض والمساعدات توثق من روابط التبعية للدول الإمبريالية والشركات الاحتكارية وبالتالي توثق من روابط التبعية السياسية لها، لتتحول إلى دول تابعة تنفذ مخططات هذه الشركات، ومخططات دولها، الإمبريالية عامة، والإمبريالية الأمريكية تحديداً. ومن كان منها خارج إطار التبعية، يدخلها راضياً مرضياً. إن ميزانيات الأردن والمغرب ومصر والسودان واليمن الشمالي،... إلخ توضح هذه الحقيقة. فالعجز في ميزانية المغرب، وهو العجز المعلن، لا يعبر عن العجز الحقيقي، لأن القروض والمساعدات تحسب ضمن الإيرادات. في هذا العام 1940 مليون درهم. بينما العجز في ميزانية الأردن المعلن 26,5 مليون دينار بينما الميزانية العامة 628 مليون دينار أي أن العجز الحقيقي بلغ 378 مليون دينار، أي ما ينوف عن نصف الميزانية. أما العجز المعلن في ميزانية اليمن الشمالي، فقد بلغ 2,36,890,483 ريالاً من ميزانية قدرها 6,804,120,483 ريال. وهي في الدول الأخرى على صورتها ومثالها، وإن أدعى بعضهم غير ذلك فغطى العجز بحيلة ما. لقد قاد العجز المتتالي إلى تراكم مشكلة الديون، وتفاقمها. مما أفرز ظاهرتين خطيرتين: الأولى: تزايد العجز من سنة إلى أخرى، فقد كان 15 مليون في عام 1980 في الأردن (ونتحدث هنا عن العجز المعلن) فوصل إلى 26,5 مليوناً عام 1981. كما مثل العجز في ميزانية المغرب للسنة الحالية زيادة مقدارها 6,26%. والثانية: زيادة القروض الخارجية، وزيادة المساعدات الخارجية أيضاً، وزيادة الاعتماد عليها في حل مشكلة العجز الدائم، والاعتماد على القروض يسهم بدوره في زيادة العجز، وتأصله لتتحول هذه الدول، إلى دول يعتمد بقاؤها على مشيئة المصدر الممول. فديون مصر الخارجية مثلا عام 1978 بلغت 9879 مليون دولار، في حين كانت عام 1970 مبلغ 1639 مليون دولار، ولقد زادت في عام 1980 عن أن المبالغ المخصصة للمشروعات المنتجة، ذلك كثيراً. وما يسترعي الانتباه في هذه الميزانيات، هو أن المبالغ المخصصة للمشروعات المنتجة، والاستثمارية، سواء في الزراعة أو الصناعة، ضئيلة. وهذا يوضح أن القطاع الإنتاجي، قد أعطي اهتماماً هامشياًـ لا يسمح له بالنمو، بما يحقق فائضاً، يسهم في سد العجز، وهذه التخصيصات للقطاع الإنتاجي، وإن زادت عن معدلاتها في الميزانيات السابقة فلكي تسد بعض العجز الإضافي نتيجة تزايد الطلب. وهناك قضية أخرى تسترعي الانتباه، وهي تخصيصات الجيش، الذي له نصيب الأسد، فالمغرب مثلاً خصصت 40,1% من ميزانيتها للجيش. بينما في المقابل نجد أن ميزانية التعليم، لا تكاد تذكر في الميزانيات. فلقد خصصت المغرب مبلغ 9996 مليون درهم للاستثمار، ومبلغ 3975 مليون درهم للتعليم، بينما خصصت مبلغ 4,8 مليون درهم للجيش. أما الأردن فخصص مبلغ 275’1 مليون دينار للاستثمار. والجدير بالذكر إن جزاءاً أساسياً من الإيرادات المحلية، يأتي عن طريق الضرائب التي تفرض على المواطنين، فالعبء الضريبي على المواطن في الأردن بلغ 37%، وهي أعلى نسبة في العالم (الرأي 24/ 12)، هذا مع العلم إن ضريبة الدخل على الأرباح لا تمثل سوى 12,3% من الإيرادات المحلية. إن السياسة الاقتصادية التي تتبعها هذه الدول في وضع ميزانياتها تعبر عن سياسة الفئات الحاكمة غير المنتجة والطفيلية، التي تسعى للإثراء ليس عن طريق جهدها في الإنتاج، بل في السمسرة والربح السريع وهذا ما يوقع الاقتصاد في عجز دائم ومتزايد، لتتحول إلى دول مفلسة، تعيش على القروض والمساعدات. وهذا الوضع ينعكس على الجماهير الشعبية، بما يجعلها تعيش مرارة الفقر، وتعاني من الارتفاع الدائم لأسعار السلع، دون أن تزيد قدرتها الشرائية، بل على العكس فإن هذه القدرة تتناقض باستمرار. وسياسة الفئات الحاكمة هذه توضح مسائل مهمة: 1)سعي هذه الفئات إلى تقوية أداتها العسكرية لتضمن حماية نفسها داخلياً، أمام تزايد النقمة الجماهيرية، ولكي تلعب دوراً خارجياً يخدم المخططات الإمبريالية، وهي في كل ذلك بحاجة إلى جيش قوي. 2)سياسة هذه الفئات في ربط الوطن بالدول الإمبريالية وهي لذلك تطور علاقاتها بالقوى الإمبريالية، وتزيد من اعتمادها عليها. فتزيد من استيراداتها منها، كما تجلب القروض و "المساعدات". 3)تكريس التخلف الذي يعيشه مجتمعنا، وتعميقه، فالمخصصات الاستثمارية قليلة، ويذهب معظمها إلى جيوب أفراد السلطة، وما يرصد للمشروعات الاستثمارية، لا يأخذ بعين الاعتبار المشروعات المنتجة، وكل ذلك يؤدي إلى بقاء الزراعة متخلفة، وعاجزة عن تلبية حاجات السوق، كما يؤدي إلى ضعف في الاستيراد الخارجي. وهذا يوضح أن بقاء هذه الفئات يعني بقاء العجز، والتخلف والارتباط بالإمبريالية، لأن هذه الفئات عاجزة عن تطور المجتمع، بما يسمح بتحويله إلى مجتمع منتج، كما هي عاجزة عن وضع الحلول للمشاكل المستعصية التي يعيشها وطننا. ورغم ذلك تبقى هناك مشاكل حقيقية بحاجة إلى الجهد والمقدرة، فالتخلف، وانهيار القطاعات الإنتاجية وعدم نموها بحاجة إلى نضال طويل، فإذا كانت السلطات القائمة تقفز عن المشكلة نتيجة ارتباطها، وسعيها للنهب والسمسرة، فإن حلها بشكل جدي يقع على كاهل القوى الوطنية والديمقراطية والثورية. وما توضحه موازنة العام الجديد، أوضحته موازنات سابقة، ولسوف توضحه الموازنات القادمة، إذا ما استمرت هذه السلطات في الحكم. شباط 1981
مصر: تصاعد المعارضة لسياسة السادات لقد بدأ طرح النظام المصري في أن الصلح مع الكيان الصهيوني، سوف يجنب الرخاء لمصر، ويسهم في اجتياز مرحلة التخلف، والفقر، معقولاً لدى فئات برجوازية في مصر، فكانت معه، وأيدته، بعضها علانية، وبعضها وإن إعلان، وبعضها الآخر آثر الصمت. ولكن السنوات الثلاث الماضية. والتي جرى خلالها، توقيع اتفاق كمب ديفيد، وتبادل السفراء، وتطبيع العلاقات بين النظام المصري والكيان الصهيوني، رغم الضجة الواسعة في أجهزة الإعلام والأجهزة الرسمية دعماً لهذه الخطوات، أظهرت أن الصلح مع الكيان الصهيوني، لم يغير من حقيقة الوضع شيئاً، بل أن الوضع حالياً في انهيار مستمر، ويسير من سيء إلى أيوأ، اقتصادياً من حيث زيادة الديون المستحقة، وتزايد فقر الجماهير الشعبية، حتى أنها طالت فئات كانت في السابق تتمتع بوضع مالي حسن، وكذلك، تزايد التبعية للامبريالية الأمريكية، حتى أن الوضع الاقتصادي يسير نحو الكارثة. وسياسياً، حيث أن النظام المصري أصبح جزءاً أساسياً في التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي، ومقابل كل ذلك، لم يتنازل الكيان الصهيوني عن أية قضية جوهرية، من القضايا المخصصة للجيش لازالت تستحوذ على القسط الأكبر من الميزانية العامة، والتي كان هدف الصلح مع الكيان الصهيوني، كما أشاع النظام، تخفيضها، ليظهر الهدف من كل خطوات النظام والتي كان يمكن تحديدها في التالي: 1)توثيق العلاقة مع الامبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني، والذي ظهر بشكل علمي من خلال زيادة تبعية النظام المصري السياسية وتبعية مصر الاقتصادية. 2)تحويل قدرة مصر العسكرية من قوة مناهضة للكيان الصهيوني والامبريالية العالمية، إلى قوة متحالفة معها في صراعها ضد القوى الوطنية والديمقراطية في العالم. ولذلك تزايدت حدة المعارضة شعبياً، واتسعت لتشمل فئات كانت إلى فترة قريبة من صلب النظام. وبذلك أصبح هناك جبهة واسعة، من المعارضة، معادية لاتفاقات كمب ديفيد، ولتطبيع العلاقة مع العدو الصهيوني، وضد سياسات النظام بشكل عام. فإضافة إلى المعارضة السورية المناهضة للنظام، والممثلة بالفضائل الشيوعية والناصرية، هناك المعارضة الرسمية الممثلة بحزب التجمع الوحدوي، ولقد كان لكل هذه الفضائل موقف واضح منذ البادية، لذلك، وقفت ضد اتفاقيات كمب ديفيد وضد التطبيع، وكذلك هناك المعارضة الرسمية الممثلة بحزب العمال الاشتراكي، الذي أيد اتفاقيات كمب ديفيد بتحفظ، والذي أعلن مؤخراً رفضه لها. ولقد برزت الجبهة الوطنية، ممثلة الشخصيات الوطنية في داخل مصر، التي شارك بعضها في ثورة يوليو، أمثال كمال الدين حسين، وعبد اللطيف البغدادي، وبعضها شارك السادات السلطة بعد تسليمه لها، وبعضها الآخر لعب أدواراً سياسية وثقافية مختلفة. كما أن عدد الأعضاء المنتمين لها، قد تزايد بشكل كبير منذ تأسيسها إلى الفترة القريبة، حيث بلغ عدد الأعضاء الذين وقعوا أخر بيان المئة. وكانت الذكرى الأولى لتطبيع العلاقات، وإقامة علاقات دبلوماسية بين النظام المصري، والكيان الصهيوني، مناسبة لتحديد المواقف، وتوضيحها بالنسبة للقوى، المعارضة للنظام ومناهضته بالنسبة للقوى الأخرى، فقد أعلن تجمع المعارضة (أي الجبهة الوطنية في الداخل) واعتبر أن الصراع العربي، العربي-الصهيوني هو قضية حياة أو موت، كما دعا إلى عقد مؤتمر للشعب العربي، لتوحيد الصفوف، والوقوف ضد اتفاقيات كمب ديفيد، كما أعلن حزب العمل الاشتراكي سحب تأييده لاتفاقيات كمب ديفيد، لأن الكيان الصهيوني، قد ضم القدس الشرقية، ولاستمراره في إقامة المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة. وبمناسبة ذكرى التطبيع، أصدرت نقابة المحامين بياناً نددت فيه بالاتفاقيات، وقام نحو مائة من المحامين بحرق الإعلام الصهيونية، وكان حزب العمل الاشتراكي قد دعا إلى رفع مليون علم فلسطيني. إن ما يجري يوضح مدى التقارب الذي حصل في المواقف من اتفاقيات كمب ديفيد والعلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، هذه المواقف التي تشكل أرضية لقاء بين مختلف القوى، رغم إن الخلافات لا زالت كبيرة في المسائل الأخرى، وأبرزها الحوار الدائرة في حزب التجمع حول الموقف من التسوية عموماً، حيث يبدو إن هناك اتجاهاً مع التسوية الشاملة، ومع التعايش مع الكيان الصهيوني، وأبرز ممثليه محمد سيد أحمد، الذي يتغطى بموقف الحزب الرسمي من هذه القضية. وإذا كان حشد القوى مهما في مواجهة اتفاقيات كمب ديفيد، وعملية التطبيع، فإن تأجيج الصراع ضد الإمبريالية والصهيونية، والقوى الرجعية، ذات أهمية كبيرة، وهذا ما يدعو إلى نبذ أوهام التسوية مع الكيان الصهيوني، كما يعني توحيد القوى داخل مصر، وفر الوطن العربي عموماً. آذار 1981
المغرب.. المعارضة تطور صراعها شهد المغرب خلال الأيام الماضية، إضرابات ومظاهرات. أدت إلى وقوع العديد من الضحايا، وهي المرة الأولى منذ مدة، فلقد أدى بروز مشكلة الصحراء الغربية، إلى نوع من الوحدة الداخلية، رافقها توجه النظام نحو الانفتاح على قوى المعارضة، من خلال محاولة إيجاد مؤسسات دستورية منتخبة، والسماح بقدر من حرية التعبير والنشر. ولقد دفع كل ذلك قوى المعارضة إلى التكيف مع الوضع الجديد، بتغيير تكتيكها لصالح الاستفادة من كل هذه الخطوات. ولذلك شهد المغرب استقراراً سياسياً، وعاش سنوات هادئة. ولقد انحصر الصراع في شكلين: الأول برلماني، وهو الصراع الذي كانت تخوضه المعارضة ضد سياسة النظام الداخلية والخارجية. ولقد شهد البرلمان صراعات حامية حول العديد من القضايا، كالسياسة الخارجية والميزانية، ومعالجة القضايا المعيشية. والثاني، الإضرابات التي عاشتها البلاد، وخصوصاً الإضرابات العمالية المتتالية، المطالبة برفع الأجور، وتحسين الأحوال المعيشية، وغطت العديد من القطاعات. وفي الأشهر الأخيرة، برزت عوامل عديدة أخلت بالاستقرار، وزادت من حدة الصراع، أهمها تعقد مشكلة الصحراء، وسعي النظام لإيجاد حل لها، فتعثرت "الوحدة الداخلية"، إضافة إلى سعي النظام لتكريس التوازنات الحالية، من خلال سعيه لتحديد مدة البرلمان ست سنوات قادمة، أي محاولة تجنب الانتخابات في المرحلة الحالية، وزاد ذلك في انفراط "الوحدة الوطنية"، فلقد هددت المعارضة، وتحديداً الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بالانسحاب من البرلمان، مما دفع الملك الحسن الثاني إلى التهديد بإغلاق مكاتبه وملاحقه أعضائه. ورغم إن الانسحاب لم يتم، فلقد جرد النظام حملات مطاردة واعتقال ضد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، تحدثنا عنها في العدد 61 من الانطلاق. وزاد في تعقيد الأمور قرار النظام زيادة أسعار العديد من المواد الضرورية. وتأتي هذه الزيادة استمراراً للزيادات المتتالية التي أقرها النظام خلال العام الماضي، والتي بلغت بمجموعها نسبة لا تستطيع الجماهير الشعبية تحملها، فلقد زيدت أسعار الحليب بنسبة 150%، والزبدة بنسبة 200% والزيت بنسبة 150%، والخبز بنسبة 250%. ويأتي قرار الزيادة الأخيرة، بعد العديد من الإضرابات التي شملت عدداً من المصانع، والمطالبة بزيادة الأجور، وبعد موسم فلاحي سيء نتيجة الجفاف، الذي أدى إلى عجز زراعي بلغ 25,20 مليون قنطار. وبناءاً على إلحاح البنك الدولي، الذي يربط عادة بين القروض التي يقدمها، وبين رفع أسعار السلع الأساسية أو وقف دعمها، ولقد أدت تدخلاته سابقاً إلى انتفاضة يناير 1977 في مصر. إن الأزمة الاقتصادية تدق الأبواب في المغرب، وتهز عرش النظام، ومقابل ذلك. اتجه لمحاربة المعارضة وتصفيتها، ومنعها من العبير عن مصالح الجماهير. ولذلك فقد تفاقمت الصراعات، وخرجت الجماهير للشوارع تعبر عن سخطها، وهذا يدعونا إلى تأكيد التالي: 1)إن مشاكل الجماهير في المغرب تتفاقم. مع تزايد السيطرة الإمبريالية وتحكمها بالاقتصاد، ومع أمعان النظام في استغلال الجماهير واستبعادها ولذلك فالجماهير الفقيرة والمضطهدة تشعر بتزايد وطأة الاستغلال وبصعوبة العيش وفق الأوضاع الحالية. وهذا يستدعي العمل الجدي على توحيد صفوفها في موجهة أداة الاستغلال، وتمكينها من الدفاع عن مصالحها. 2)أن النظام وأمام وطأة الأوضاع الاقتصادية المنهارة، يسعى لقمع القوى الديمقراطية، وشل حركتها، لتبقى الجماهير معزولة عن طليعتها، ولذلك قام باعتقال المئات من قيادات وكوادر وأعضاء حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهدد بإغلاق مكاتب الحزب، ومنع نشاطه العلني. 3)أن الجماهير وقواها الطليعية قد طورت من صراعها ضد السلطة، وأعوانها، فإضافة للإضراب والاعتراض، والاحتجاج، نزلت الجماهير إلى شوارع الدار البيضاء وغيرها تدافع عن مصالحها، وتدين النظام. أن وضع النظام المغربي يتفاقم، وانفتاحه الديمقراطي لم يمنع الجماهير من المواجهة الدموية ضده، ولم يمنع القوى السياسية المعارضة من تحريض الجماهير وقيادتها في مواجهة خطواته الاقتصادية والسياسية. ولذلك مع تفاقم الأزمة الاقتصادية تزداد احتمالات الصراع في المغرب، كما تزداد في السودان، وكل الوطن العربي، وهذا يدعونا إلى تأكيد التالي: 1)ضرورة تطوير الصراع ضد القوى الرجعية، وضد الإمبريالية والصهيونية. 2)وحدة القوى الوطنية والديمقراطية والثورية في مواجهة هذه القوى. 3)دعم القوى الديمقراطية المغربية، في مواجهة السلطة العملية، وخصوصاً الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي يتعرض لحملة اعتقالات وملاحقات كبيرة. تموز 1981
تونس وسياسة الديمقراطية منذ أحداث قفصة التي مضى عليها عام ونصف تقريباً، وملامح تغيير في سياسة الحزب الحاكم في تونس، تبرز في الأفق. ولعل أهم هذه الملامح، ما نتج عن المؤتمر الاستثنائي الذي دعا إليه الحبيب بورقيبة في أواسط نيسان الحالي. لقد كانت أبرز أهداف هذا المؤتمر ما عبر عنه خطاب بورقيبة نفسه عند افتتاحه المؤتمر. إذ لأول مرة منذ 25 عاماً، أي منذ استلام الحزب الدستوري الحاكم السلطة في تونس، يعلن السماح للأحزاب بالعمل داخل البلاد، ويسمح مجدداً للتيارات داخل الحزب الحاكم بالتعايش معا ضمن نفس التركيبة، بعد فترة ساد فيها نفوذ طرف وحيد منع كل الأطراف الأخرى من مشاركته السلطة. وسياسة الانفتاح هذه لا يمكن اعتبارها نهجاً ديمقراطياً حقيقياً، لأن السماح لأي حزب بالتوحيد وممارسة النشاط مشروط أساساً بموافقة هذا الحزب على ما يسمى "الميثاق الوطني القومي" الذي يحتم الالتزام "بالمصلحة العليا للبلاد، والاعتراف بشرعية الدستور الحالي، وعدم الولاء الإيديولوجي أو المادي لجهة أجنبية"، وفي هذه الشروط ما فيها، من الموقف الصريح الذي يمنع وجود من يدعو لتغيير النظام أو حتى للعمل على تغيير الدستور الحالي. ويحصر وجود الأطراف السياسية الأخرى ضمن إطار المعارضة الشكلية والإصلاحية. هذا إذا لم يترافق تطبيق هذه الشروط مع تفسير مفهوم "المصلحة العليا للبلاد" تفسيراً مرتبطاً بأهواء السلطة ومصلحتها بالذات، وربما بشخص بورقيبة الكريم، والولاء الإيديولوجي للخارج، بحرمان الشيوعيين والماركسيين على اختلاف تنظيماتهم من التواجد العلني، بحجة أن الماركسية بنظر النظام التونسي ليست سوى التعبير عن الولاء لموسكو. وإذا كانت القوى السياسية الموجودة كالقوميين العرب والمستيري والحزب الشيوعي الرسمي قد رحبوا بالقرار، فإن المجموعات الماركسية الأخرى لا شك لن تحظى بمباركة السلطة. أما المجموعات الدينية فإنها وأن حرمت من النشاط، نظراً للاتجاه العلماني الذي يتسم به نظام بورقيبة، فإنها تجد متنفساً لها من خلال مسايرة رؤوس السلطة للنزعات المتدنية الجديدة التي بدأت أيضاً تغزر تونس، وتتجسد عملياً في العودة إلى تلاوة الآيات القرآنية والاستشهاد بها وزيارة أضرحة الأولياء وغيرها وغيرها.. ومع ذلك، فمما لا شك فيه أن وراء هذه الخطوات التي تتلاحق في تونس أسباباً موجبة وذات أهمية قصوى، فالسلطة التي حكمت تونس حكماً تسلطياً طيلة خمسة وعشرين عاماً، شعرت بإمكانية إفلات زمام الأمور من يدها، فيما لو تابعت نهجها الذي اعتمدته حتى الآن. ذلك إن تصاعد المعارضة العمالية والطلابية، وأحداث يناير 1978 التي نتج عنها اعتقال القادة النقابيين ومحاكمتهم، ومن ثم للاستنجاد بفرنسا والمغرب للتغلب على انتفاضة قفصة، وضعت السلطة أمام محك كان عليها حياله اختيار أحلى الأمرين، فكانت الخطوات المتتالية: تعيين المزالي الذي يمثل اليمين الليبرالي، الإعفاء عن القادة النقابيين، إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومن بينهم كوادر وقيادات عمالية وماركسية، السماح لبعض القوى المحافظة التي استبعدت ولوحقت سابقاً كالمستيري وغيره بالعودة لممارسة النشاط، وأخيراً السماح بتعدد الأحزاب وإضفاء طابع "ديمقراطي" على البلاد. إن ما حدث ويحدث رغم كل شيء، يبقى ذا جوانب إيجابية على القوى الثورية والديمقراطية أن تستفيد منه لبناء نفسها وخوض النضال الجماهيري استعداداً للمرحلة القادمة التي ستمكنها من قيادة هذا النضال نحو قلب النظام القائم وإقامة سلطة الشعب الديمقراطية. أيار 1981
في ذكرى 23 يوليو ماذا نقول في ذكرى 23 يوليو؟ لقد غاب القائد، وغابت الثورة، وبقي منها الذكرى، والدروس القاسية. فمصر اليوم، وبعد تسع وعشرين سنة من ثورة 23 يوليو، ترزح تحت حكم أكثر فساداً من حكم فاروق. فلقد أعيد الطبقات التي أسقطتها ثورة 23 يوليو، بقايا الإقطاع، والبرجوازية المرتبطة، بالتحالف مع فئة أكثر فساداً وشرهاً، وهي الفئة التي استفادت من الثورة، فسرقت، وسمسرت، وتاجرت. لتتحول إلى فئة طفيلية ذات نفوذ، وسطوة. ومصر اليوم أشد ارتباطاً بالامبريالية منها سنة 52، فلقد كان الاستعمار القديم وقتها يعاني من الانهيار والأفول. وبالتالي كانت الطبقات المرتبطة به ضعيفة، وعاجزة، أمام حركة جماهيرية نامية. أما اليوم، فالامبريالية الأمريكية خاصة، في ذروة سطوتها، وهي تسعى للامساك بزمام الأمور من مختلف مناحيها. إضافة إلى أن طابع هيمنتها، يتخذ شكلاً أكثر تعقيداً. وأكثر ضررا على الاقتصاد الوطني. والنظام في مصر اليوم يلعب دوراً مهما في المخطط الامبريالي الصهيوني.. فلقد وثق علاقاته بالامبريالية الأميركية ومنحها "التسهيلات". وتحالف مع الكيان الصهيوني، وفتح له أبواب مصر، وأعلن موقفه واضحاً، مع الامبريالية والصهيونية والرجعية، ضد التقدم والشيوعية، ضد حركات التحرر أينما كانت. وتبقى الدروس القاسية، وهي الدروس التي سوف تجعلنا نتجاوز مرحلة قاسية، إلى مرحلة مشرقة، تبدو فيها إمكانيات الانتصار محققة، وأهم هذه الدروس: 1)أن السلطة، بما فيها مؤسسات سياسية قائمة، لن "تعقلن" عفوية الجماهير. ولن تؤطرها في المسار الثوري العام، بل أنها تسحقها، وتفتتها، وتحول أجزاء من الجماهير إلى قوى مضادة للثورة والأهداف الثورية، والبقية الباقية إلى قوة معطلة وناقمة. وأن الذي يحول عفوية الجماهير إلى قوة مؤثرة فاعلة، وهي القوى الطليعية المنظمة دوراً مهما في الأخطاء الكبيرة التي مارستها سلطة الثورة، وفي الانتكاسة اللاحقة. 2)أن الثورة بحاجة إلى تحالف القوى الثورية، واتحادها، وليس ملاحقتها، وزجها في السجون والمعتقلات، وتركيز الجهود لسحقها، باعتبار أنها قوى مختلفة مع قائد أو جهاز. ولقد أضرب القوى الوطنية المصرية في ذكرى 23 يوليو... إلى تهيئة المناخ الملائم لبروز القوى المضادة للثورة، وبالتالي سيطرتها على السلطة. 3)أن الصراع ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية، بحاجة إلى بناء علاقة متينة مع الجماهير العربية عموماً، وقواها الثورية خصوصاً، وتطوير دورها في هذا الصراع الشامل، لأن أي صراع معها، دون جماهير واسعة منظمة ومسلحة، لن يقود إلا إلى المزيد من النكسات، والهزائم. لقد غاب القائد، وغابت الثورة، وتراجعت الحركة الوطنية العربية، وتتالت الهزائم والنكسات. ووطدت القوى الرجعية من نفوذها. وأوضحت القوى الوطنية والديمقراطية العربية، مفتتة ومحاصرة. وفي ذكرى ثورة 23 يوليو نشهد نهايات المد التحرري الذي بدأ معها. فالجماهير المناضلة، التي أوجدت ثورة 23 يوليو، وكل الثورات والانقلابات في الوطن العربي. تلقت دروساً قاسية ممن نصبتهم قادة، وحكاماً، فتشتتت، وانكفأت على نفسها، والقوى التي حاولت أن تلعب دوراً قيادياً لحركة جماهير عفوية، أبانت نقاط ضعفها، حين وصلت إلى السلطة، أو حين اشتد أوار الصراع، وأصبحت عضوية الجماهير، بحاجة إلى القوى الطليعية المقدامة، المنظمة، والمخططة، والمهاجمة دوماً. لقد بقيت لنا الذكرى، والدروس القاسية، لعلنا نعتبر من قساوة الدروس تهيئة لمد ثوري جديد! آب 1981
تونس.. الآفاق الجديدة
لا تزال تونس تعيش المرحلة الجديدة، فالخط الذي أقره النظام بعد أحداث قفصة، يطبق بخطى بطيئة، ولكن ثابتة. ولقد كان مجيء محمد مزالي إلى رئاسة الوزارة، وتبيانه بورقيبة في قيادة الحزب الدستوري، علامته الأولى. وها هو محمد مزالي يسير حثيثاً في خطه الديمقراطي الليبرالي، محاولاً إخراج تونس من أزمة عاصفة، كادت تغرقها في 26 يناير عام 1968. ولقد اختار الطريق الديمقراطي الليبرالي مدخلاً لها. فإضافة لانفتاحه على قوى المعارضة، ومحاولته إقامة صلة وصل مع الجماهير عموماً، فلقد خطا خطوات علمية في هذا المجال، عبرت عن روح المرحلة الجديدة. ويمكن تحديد هذه الخطوات بالتالي: 1)لقد انسحب من معركة الاتحاد التونسي للشغل، وهي المعركة التي كان قد حكمها النظام بالقمع والاعتقال. مما هيأ ظرفً مناسباً لانعقاد مؤتمر الاتحاد وانتخاب هيئات جديدة، وأن بقي مصر على موقفه من الحبيب عاشور، رئيس الاتحاد السابق، الذي بقي معتقلاً لفترة قريبة. 2)إعلان العفو العام عن كافة المعارضين في الخارج، والسماح لهم بالعودة. ولقد هيأت هذه الخطوات ظرفاً جديداً، دفع النظام لاتخاذ خطوات أخرى، فسمح بحرية الصحافة، ثم سمح للحزب الشيوعي بالعمل الرسمي، العلني، وهي الخطوة الأكثر أهمية، فلقد ظل الحزب محظوراً سنوات طويلة، وبقي معتبراً من القوى المعادية، حتى وقت قريب، ولقد سمح له أيضاً بإصدار جريدته الرسمية. وهو الآن يعد لعقد انتخابات البرلمان، التي يقول أنها سوف يعترف بكل حزب حاز على 5 % من الأصوات. ثم أنه يعد لعقد مؤتمر الاتحاد الذي بقي محلولاً عدة سنوات. وبذلك يكون النظام قد خطا عدد من الخطوات التي تغير من طبيعته، وأن بقي في الجوهر كما كان طيلة العشرين عاماً الماضية. فلقد انتقل من نظام الحزب الواحد، إلى نام تعدد الأحزاب. ومن نظام قمعي، إلى نظام قدر من الليبرالية وأن بقيت أدواته القمعية قائمة. وفي هذا المجال أقرت حرية الرأي والصحافة، والنشاط السياسي. ومن نظام يسعى للهيمنة على النقابات والاتحادات إلى نظام يعطي لها مجلاً للنشاط والعمل. ولكن بقيت طبيعته الاقتصادية الاجتماعية كما هي دون أي تغيير، فالسلطة بيد الفئات الكمبرادورية، وأن سيطرت الفئة الأكثر ليبرالية فيها، والعلاقات الاستغلالية على حالها. ولم يكن من المتوقع أن يجري النظام تغييراً فيها. لأن ذلك ليس من مهامه. فلقد حاول تطويق أزمة اجتماعية عميقة بخطوات سياسية، تغير في شكل السلطة، من سلطة قمعية، إلى سلطة قدر من الليبرالية، وأن بقيت عوامل القمع كامنة. وكل ذلك يطرح سؤالين: الأول على كل المعنيين بالوضع التونسي. والثاني على القوى الثورية في تونس. ما هو مدى وعمق هذه التغييرات، وما هي إمكانيات الحفاظ عليها؟. وما هو موقف القوى الثورية منها؟. من الواضح أن ما يريده النظام هو منع التبلور الثوري في مواجهة قواه وفئاته القمعية، ولذلك سعى إلى تمييع هذا التبلور، بطرح الخيار الديمقراطي، وبالتالي فلسوف يقتصر على البنية السياسية، دون أن ينفذ إلى البنية الاقتصادية الاجتماعية، ولذلك فالأزمة سوف تبقى قائمة، أزمة النظام في مواجهة الطبقات الفقيرة، التي لا ترى في الخطوات الديمقراطية أي حل لمشاكلها، مشاكل الفقر، والتخلف، والحياة الكريمة. وأن سمحت التغيرات الجديدة لفئات منها بالتعبير عن مشاكلها بطرق شتى. وهذه عقبة أساسية تواجه النظام وخياره الديمقراطي الليبرالي، وهو غير قادر على حلها، لأن حلها يطرح قضية طبيعة السلطة الطبقية، أي طبقة يجب أن تحكم؟ البرجوازية الكمبرادورية بشرائحها المختلفة، أم العمال والفرحين، والبرجوازيين الصغار الوطنيين والديمقراطيين؟. وهي قضية الصراع في السنوات القادمة. أما العقبة الأخرى. فهي هذه المرة من داخل النظام، وهي قضية إمكانية تحوله من نظام قمعي إرهابي، إلى نظام ديمقراطي ليبرالي. والصراع بين الفئات المختلفة داخل الطبقة الحاكمة. فمحمد مزالي رئيس الوزراء، ووريث الحبيب بورقيبة في الحزب، والممثل للفئات المثقفة الليبرالية، قام على أنقاض الفئات الأخرى، وبنى مجده على حسابها، فلقد ضرب محمد الصياح منسق الحزب السابق، وسؤال المليشيا فيه، والرجل القوى في النظام. إذ صيفت مواقعه الحزبية، وأعتقل مؤيدوه، وسياسياً انزوى في وزارة هامشية. ولكن قوته الفعلية لم تذب، رغم المحاولات المتكررة لسحقها، والفئات التي يمثلها لم تزل في مواقع السلطة، ولازالت لها قوتها –الاقتصادية. ولذلك فالعقبة كبيرة، وإن كانت خطوات محمد مزالي مستمرة، فهو يخوض تجربة ليس إلا، ضمن سلطة قمعية أساساً، ومجتمع لم يبلغ بعد مرحلة ديمقراطية حقيقية. ومع ذلك ما قام به النظام يمكن أن يسهم في تطوير مواقع القوى الثورية، وازدياد دورها وفاعليتها، لأنه يفتح لها أبواباً واسعة للاتصال بالجماهير وتحريضها، وتنظيم صفوفها، بشتى الطرق، الشرعية وغير الشرعية. والقضية تبقى كيف ستستفيد القوى الديمقراطية والثورة من هذا الوضع في التهيئة لتقويض أركان هذا النظام. أيلول 1981
مصر.. بين القوى الوطنية والإخوان
تطورت الأحداث في مصر، بشكل لم يتوقعه أحد، أو لم يتوقع أحد سرعة حدوثه. وبدأ مصر تعيش صراعاً مكشوفاً ضد النظام. وتطور هذا الصراع مرتبط بمسألتين: الأولى: ازدياد دور المعارضة،السياسية والنقابية، فلقد اتسع ورها، وزاد تأثيرها، وأصبحت ذات وزن سياسي يخيف النظام. كما زاد دور النقابات تطور، فلقد سعى النظام للسيطرة على النقابات جميعاً، ثم حاول تحجيم المعارضة، وإضعاف دورها، مما سبب في معارك مختلفة، ومتناثرة بين النظام والمعارضة، توجت بالإجراءات الأخيرة، المتعلقة بالاعتقال ومنع النشاط والمحاصرة، ومصادرة الصحف. الثاني: اتجاه حركة الإخوان المسلمين إلى تطوير الصراع الطائفي لتطوير دورها السياسي، ولذلك افتعلت أحداث الحمراء، وطورت الصراع ضد الأقباط، والكنيسة القبطية. وهدفها أن تلعب دوراً في المرحلة القادمة على القفز إلى السلطة واستلامها. يترافق ذلك مع اتجاهات في السياسة الأمريكية تؤيد سقوط مصر بيد الإخوان المسلمين. ولذلك فقد اختلط الصراع وتشابك. ولقد ارتبط كل ذلك، بانهيار الاقتصاد المصري، وانتشار ظواهر خطيرة. فالفقر يزداد كل يوم، ومصاعب الحياة اليومية تتراكم، ومشاكل الخبز، واللحمة، والسكن، والمواصلات تزداد تعقيداً، إلى حد دفع بعض الساسة الأمريكيين إلى تشبيه ما يجري بالوضع الإيراني قبل سقوط الشاه. فهم يتحدثون عن مصاعب الاقتصاد المصري الجمة، التي تعكس نفسها على المواطنين. وخطوات السادات الأخيرة جاءت نتاج عدد من القضايا أهمها: 1)أن الوضع الاقتصادي منهار، وهذا ينذر بثورة عارمة، لأن قضايا الجوع، والسكن، والحرية أصبحت من القضايا الأساسية. 1)أن المعارضة الوطنية أصبحت ذات شأن وقوة، يؤهلاها أن تلعب دوراً سياسياً مهماً. 3)أن قضية إبدال السادات أصبحت واردة، واردة بقوى، وأن الإخوان المسلمين، هم أكثر القوى تهيئة لاستلام السلطة. ولذلك فقد سعى لاستباق الأحداث باعتقال المعارضة الوطنية. والقوى الدينية، خاصة الإخوان المسلمين. ومسألة تغيير السادات، وتسعير الحرب الطائفية، طرحت ضمن مخططات الامبريالية للمرحلة القادمة. فالإخوان المسلمون هم أحد بديلين محتملين، ثانيهما الجيش. واستلام الأخوان المسلمين يقتضي تسعير الحرب الطائفية، وهذا ما فعله الإخوان المسلمون خلال العام الماضي. وكل ذلك لا يمنعنا من رؤية الأحداث، ومن التأكيد أن مصر مقبلة على تحرك شامل، ولكن خوفنا أن يكون معبراً لحركة الإخوان المسلمين، لكي تصل السلطة، وتكون بذلك قد اكتسبت شعبية كبيرة من جهة، وأنجحت أحد بديلي السادات ضمن المخطط الأمريكي من جهة أخرى. ولكي تكون الأحداث الحالية مقدمة ثورة حقيقية، لابد من التأكيد على التالي: 1)أن تأخذ الحركات شموليتها، على الصعيد السياسي، فتركز على الصراع ضد الامبريالية الأمريكية وعلى وجودها السياسي والاقتصادي والعسكري. كما تركز على محاربة العلاقة مع العدو الصهيوني، وبالتالي محاربة معاهدات كمب ديفيد، وسياسة التطبيع، وكذلك تطرح قضية الفقر والجوع، والأزمات الاقتصادية الأخرى. والحريات. 2)أن تلعب القوى الوطنية الديمقراطية الدور الأساسي فيها، وأن تعمل على عزل القوى الدينية، ومنع تمكنها من قيادات التحركات. لأن قيادة حركة الإخوان المسلمين لها سوف يعيد تجربة إيران، إن لم يكن بشكل أقسى، وهذه قضية ذات أهمية كبيرة. ولا تكون إلا بأن تسيطر القوى الوطنية والديمقراطية على كل التحركات وأن توجهها. قد يكون الحديث عن خطورة حركة الإخوان المسلمين على ما يجري، كالنعي في عرس ولكنها خطورة حقيقية، وعلينا رؤيتها منذ البدء، لا حينما تصل سيوف حركة الإخوان إلى كل الوطنيين والثوريين لتجز منهم، ما يجز الخميني من مناضلي حركة مجاهدي الشعب. أن التطورات الأخيرة في مصر مهمة، ولكي تؤدي إلى تغيير ثوري على القوى الوطنية والديمقراطية، أن تعرف كيف توحد الجماهير الشعبية حولها، وأن تسقط حركة الإخوان المسلمين منذ البدء. وهذه هي طريق الثورة. أيلول 1981
السودان.. النميري يقطف ثمار ثورته
يبدو أن الخطوات الثورية النميرية الأخيرة لم تستطع أن تطيل عمر الهدوء والاستقرار في السودان بحيث تشهد الخرطوم ومدن السودان الأخرى وخاصة في إقليم الجنوب تحركات طالبية وشعبية واسعة إلى حد يمكن تسميتها بالانتفاضة. وقد انطلقت شرارة هذه التحركات من الجامعة عقب التدابير التي أعلنها النميري مؤخراً بشأن رفع الدعم عن البنزين والسكر وغيرهما من السلع الاستهلاكية الأخرى مفتتحاً بذلك مرحلة جديدة من التقشف الاقتصادي المعيشي، وذلك من أجل تسديد الديون المستحقة على الدولة. ولم تكن هذه الإجراءات الأولى، التي اتخذها النظام في الآونة الأخيرة. فقد بادر قبل ذلك لإجراء تعديلات داخل السلطة محِّملاً الوزارة السابقة مسؤولية التدهور في البلاد ما اتخذ إجراءات نفي واعتقال وإبعاد خارج الحدود ضد الآلاف المؤلفة من المواطنين والمهاجرين داخل السودان. كل هذه التدابير تشير بشكل فاضح إلى أن أزمة النظام تتفاقم والهوة بينه وبين الجماهير تتسع وارتباطه بالمصالح الامبريالية الأميركية المعادية ومخططاتها في أفريقيا واللون العربي يزداد ويعيق كل احتمالات الخروج من الأزمة بشكل صحيح وسريع. أن غياب قوى سياسية متطورة تحمل برنامج متقدم لمواجهة النظام والتصدي له وضعف الأدوات التنظيمية والنقابية المطلبية المعارضة لم يمنع الجماهير السودانية من التحرك للتعبير عن نفسها. فقد امتدت التحركات وبسرعة خاطفة لتشمل جماهير واسعة في الشوارع والأحياء السكنية ولم تحل قرارات النميري بإقفال الجامعات السودانية الأربع دون استمرار التظاهرات والمواجهات بين الشرطة والجماهير ولم يرهب هؤلاء مقتل أحد الطلاب في اليوم الأول للتظاهرات برصاص الشرطة. فقد أقدم المتظاهرون تصعيداً لتحركهم على إحراق مباني جريدة "الأيام" الناطقة باسم النظام مما يعبر عن سخط الجماهير على تدابير القمع وخنق الحريات في السودان، كما أقدموا على إحراق السوق المركزية تعبيراً عن معارضتهم لإجراءات التقشف والتجويع. ولم يتأخر الجنوب السوداني بدوره عن التجاوب وقد شهدت مدنه تحركات واسعة أدت إلى مصرع حاكم السودان وإلى اعتقالات واسعة بين صفوف الفئات المشاركة ومن بينهم زعماء المعارضة في الإقليم. كيف يتحرك النميري لمواجهة كل ذلك؟ للنميري أسلوبه الوحيد المبدئي الثابت وهو العودة إلى حلفائه من الرجعيين العرب والاستعانة بأسياده من الامبرياليين الأمريكيين. ويبدو الموقف الأمريكي حريصاً في هذه الآونة على دعمه ومنعه من التهاوي والسقوط وقد صرح هيغ بهذا المعنى مؤكداً أن إدارة الرئيس ريغان لن تتخلى عن النميري "الذي يواجه الأخطار الخارجية". وبالتأكيد فإن مناورات النجم الساطع التي لم تغادر السودان منذ وقت بعيد قد أعطت العدو الأمريكي خبرة مهمة في التحرك العسكري السريع داخل السودان وكافة الأغراض السياسية. أما القوات المصرية التي أوفدها السادات الخائن لمساعدة النميري على مواجهة "الأعداء الليبية" فما زالت هي الأخرى موجودة ومستعدة لمساندة السلطة والجيش السودانيين. وقد كثفت السلطات المصرية اتصالاتها المباشرة بالرئيس النميري للتنسيق والطمأنة فهي تدرك جيداً أن انهيار النميري وأن كانت احتمالاتها الآن ضعيفة ومخيفة في نفس الوقت بالنسبة لنظام حسني مبارك. وأخيراً وإذ لا نرى ضرورة للمبالغة بحجم الانتفاضة وأدواتها التنظيمية في قيادة وتنظيم الجماهير السودانية وإذ لا نرى التفاؤل الزائد والمراهنة على هذه التحركات ممكناً فأننا نعتقد أن النظام في السودان سيواجه مرحلة جديدة من الأزمات لن تؤدي معها إجراءاته القمعية وتدابيره التقشفية وارتباطاته الخارجية المشبوهة إلا إلى المزيد من الاستعداد للتضحية والعطاء لدى الجماهير السودانية ولربما إلى النمو القوي للقوى السياسية الثورية على عاتقها مهمة التغيير والتقرير. أن ارتباط النظام السوداني بمخطط كمب ديفيد سوف يجر السودان من كارثة إلى كارثة اكبر فحتى متى يستطيع النميري الصمود؟ أن الأمن والاستقرار اللذين تعده بهما الولايات المتحدة الأميركية لن يكونا الغطاء الصامد والثابت لبحر أمواج الجماهير المائجة الهائجة. كانون الثاني 1982
تأجيل الأزمة .. هدف حسني مبارك
كان مقتل السادات منفذاً لتبديد زخم الموجة العارمة المناهضة للنظام، التي شملت معظم قطاعات الشعب، بما فيها أقسام أساسية من الفئات البرجوازية، والشخصيات الوطنية، حيث تشكلت جبهات معارضة تضم كل القوى السياسية، فيما عدا الحزب الوطني الديمقراطي. ولقد كان أساساً منفذاً لإخراج النظام من مأزق خانق عاشه في الأشهر السابقة لمقتل السادات. مأزق سياسة الانفتاح الاقتصادي التي قادت إلى أزمة شاملة، وقادت إلى تراكم الديون. وتتمثل مهمة الرئيس الجديد، في جانبين أساسين: داخلي وخارجي. أما على الصعيد الداخلي فلقد كانت الأزمة ذات أوجه متعددة. فالاقتصاد ينهار نتيجة سياسة الانفتاح، وما خلفته من أثار على الاقتصاد برمته، حيث حولت مصر إلى سوق مستوردة فقط، وكان لذلك أثار عديدة أهمها: 1)انعكاس الأزمة العامة على الاقتصاد المصري، وكان ارتفاع أسعار أحد مظاهرها الأساسية. 2)انهيار القطاع العام، والصناعات التي أقيمت في الحقبة الناصرية له. كما دعى الاقتصاديين إلى مؤتمر يناقشون به الوضع، ويضعون التصورات التي يمكن أن تسهم في مواجهة الأزمة، وحدد أن المشكلة تتمثل في التزايد السكاني الهائل والذي سوف يصل عام 200 إلى 70 مليون نسمة، والذي يؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية. وطالب بحلول لهذه المشكلة (الصحف 14/ 2/ 82). 3)حارب الرشوة، وبدأ المعركة برأس من الرؤوس النافذة زمن الرئيس السادات، وهو رشاد عثمان، كما اعتقل عدداً آخر، ووصل التشهير لعائلة السادات ذاتها. ولقد شدد الهجوم على الرشوة والمرتشين، لعله يحد من السرقات، ويضبط الوضع الإداري، ولكي يجلب الثقة لحكمه الجديد أساساً. وقاد كل ذلك إلى تبديد موجة المعارضة العارمة، فاستقطب بعضها (مثل حزب الأحرار الاشتراكيين، وحزب العمل الاشتراكي)، وحيَّد بعضها الآخر مثل حزب التجمع، كما أنه فتت القوى الأخرى أيضاً، فاستقطب العديد من الشخصيات التي وقفت ضد السادات مثل هيكل وأنهى دور آخرين. وبذلك انحصرت المعارضة في القوى السرية، ومنها الحزب الشيوعي المصري، والحزب الشيوعي (8 يناير) وحزب العمال، والحزب الاشتراكي العربي الناصري. وهذا يعني المادة خلط الأوراق من جديد بعدما تبلور الصراع، وتوضحت أطرافه، وتحددت أهدافه. كما يعني تفتيت المعارضة الجماهيرية الشاملة. أما اقتصادياً، فهو لم يجر أية خطوات في هذا المجال، غير الوعود، وقد يعمل على مواجهة الاختلال الذي يعانيه الاقتصاد، ولكن ضمن سياسة الانفتاح، كما أكد مراراً، وهذا يعني عملياً، إجراء بعض الإصلاحات التي لن تقود إلى تغير في البنية الاقتصادية، بل سوف تؤدي إلى إطالة عمر الأزمة لسنوات قادمة. وقام من هذا المنطلق بإصدار قرار يقضي، بأن يودع المستوردون 25% من قيمة السلع الإنتاجية المستوردة بالعملة الصعبة في البنوك المحلية، و40 % على السلع الوسطى، و100% على السلع الاستهلاكية، وهذا يعني محاولة التأثير على مجرى الاستيراد بما يسمح بتناقض ترفع السلع الاستهلاكية. وما يريده مبارك داخلياً يتمثل في قضية أساسية، هي أنها والأزمة بمختلف مظاهرها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، القائمة على توطيد العلاقة مع الولايات المتحدة، والاستمرار في سياسة الانفتاح الاقتصادي. وساعدت خطواته التي قام بها منذ تسلمه السلطة، ومرونته على تهدئة الوضع مؤقتاً، وهذا يعني مسألتين مهمتين، الأولى: العودة إلى خلط الأوراق كما كانت في بداية عهد السادات، أو بشكل شبيه تماماً، ولفترة قد تطول وقد تقتصر، والثانية: أن الأزمة باقية دون حل، وأن تأجل انفجارها إلى مد ليس بالبعيد. وهذا يعني أن حسني مبارك، حقق بعض ما أرادت الامبريالية الأمريكية داخلياً، وانتهى خوفها من ثورة كالثورة في إيران ضد الشاه، دون أن يعني ذلك تغييراً عميقاً للوضع المصري، فما دامت التوجهات الأساسية قائمة، لأنها توافق والمخطط الامبريالي، فإن الأزمة باقية، وحلها لا يكون إلا بالتغيير الجذري. 15 آذار 1982
تونس: الاتحاد بين العمال والسلطة
بعدما ما يقارب أسبوعين من المفاوضات المتواصلة بين أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل والحومة (بما فيها أعضاء غرفة الصناعة والتجارة) توصل الطرفان إلى عقد اتفاق جديد ينظم العلاقة بينهما. ولعل أبرز عناصر هذا الاتفاق هي الزيادة التي أقرت من طرف الحكومة والتي استفاد منها العمال والفلاحون ورجال التعليم والمستخدمون. وقد تحددت الزيادة كالآتي: الأجر الأدنى الصناعي 85 ديناراً تونسياً الأجر الأدنى الفلاحي 75 ديناراً تونسياً وقد أضيفت قيمة 20 إلى 30 ديناراً لرواتب العاملين في الوظيفة العمومية. أما قطاع التعليم فقد نال القسط الأوفر من هذه الزيادات، إذ أضيفت قيمة 32 ديناراً لأستاذ التعليم الثانوي المجاز و28 ديناراً لمعلمي المرحلة الابتدائية. مقابل هذه الزيادات التزمت النقابة بعدم مساندة أي إضراب مهما كان نوعه حتى نهاية شهر كانون الأول، مقابل التزام الحكومة بعدم رفع أسعار المواد الأولية. وفي الواقع لم يكن طريق الوصول إلى هذا الاتفاق سهلاً، أن من جانب النقابة. فالحكومة قد رفضت منذ البداية مناقشة فكرة الزيادة في الأجور مهما كانت قيمتها وذكرت بالعقود الموقعة بين الطرفين. وقد صرح الرئيس الدير العام للشركة التونسية للنقل بأن "أية زيادة في أجور العاملين في هذه المؤسسة لا تعني إلا إفلاسها أو رفع أجور النقل". إلا أن تصاعد وتيرة الإضرابات التي بدأت منذ مطلع الصيف الماضي، والتي أخذت منعرجاً جديداً، بعد الانتخابات التشريعية، ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ للمفاوضات حول موضوع الإضرابات والزيادات... وقبل الاتجاه نحو المفاوضات عمدت الحكومات إلى رفع الحظر عن نشاط السيد الحبيب عاشور، والسماح له بممارسة نشاطه النقابي بكامل الحرية. وهكذا استحدثت منصباً جديداً داخل المكتب التنفيذي، هو منصب الرئاسة الذي تقلده عاشور. إلا أن رجوع عاشور إلى مكانه الطبيعي لم يكن يعني لدى القاعدة إلا مكسباً نضالياً ناضلت كثيراً من أجل تحقيقه ولا شيء آخر.. في البادية لم يقف عاشور موقفاً سلبياً مما يجري، بل ساند وبكل قوة أغلب الإضرابات التي اعتبرتها الحكومة غير شرعية، وخاصة إضرابات المعلمين ومستخدمي المصارف والتأمينات. إلا أنه بعد إضراب عمال النقل، وقف عاشور موقفاً متذبذباً ووقع بين نارين، فقد ساند الإضراب قبل اندلاعه ووافق على استمراره ثلاثة أيام إلا أنه تراجع عن المساندة أمام استمرار الإضراب وتدخل ليعلن بنفسه أنه غير شرعي بحجة أن لغة الحوار هي الكفيلة بحل جميع الإشكاليات وتحقيق بعض المكاسب العامة. فهل حققت النقابة مكاسب فعلية من خلال الحوار، وماذا تمخض عن ذلك من نتائج؟! قبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من معرفة واقع الاتحاد العام التونسي للشغل، سواء من حيث الصراعات الداخلية أو من حيث البرنامج الذي يتبناه، إضافة إلى ما حقق عن مطالب القاعدة؟ أن الاتحاد العام كمنظمة نقابية جماهيرية تتأثر بمعطيات الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع التونسي، وبالتالي فإنها تؤثر فيه أيضاً. وهي كنقابة جماهيرية ومركزية، تجمع فئات وقطاعات اجتماعية مختلفة، وبالتالي فهي ليست نقابة للعمال أو الفلاحين أو الموظفين أو المستخدمين، وإنما هي نقابة هؤلاء جميعاً. من هنا نرى تشعب المهام المناطة بها. وليس غريباً أن نرى داخل هذه النقابات الفرعية أو الجهوية، وهو ما عبر عن نفسه داخل النقابات الفرعية أو الجهوية، وهو ما عبر عن نفسه داخل مؤتمر قفصة الأخير وخروج بعض المكاتب الجهوية والعناصر النقابية من داخل المؤتمر وذلك كتعبير عن فضح صيغة مسيرة أعمال المؤتمر. وقد استفحل الأمر بعض القرارات التي اتخذت فيها وكادت النقابة تشهد انشقاقاً خطيراً لولا بعض التنازلات الموضوعية التي قدمها كلا الطرفين. وحتى اللحظة فإن هذا الصراع لا يزال مستمراً ويتخذ شكلاً حاداً عند إعلان الإضرابات، فالمكتب التنفيذي يقف في أغلب الأحيان موقف الشرطي الكابح للإضرابات العمالية أو غيرها، مما يضعه في صف الحكومة، وبالتالي يضع نفسه في تناقض من الإضراب أن كان شرعياً أم لا. وهذه هي الصراعات بين القاعدة والمكتب التنفيذي يقرها الجميع، والجميع يخشون من إنفلات الأمور من أيديهم وخاصة المكتب التنفيذي الذي صرّح باسمه السيد اليكوش قائلاً: "فعلينا أن نحرص دائماً على وحدتنا النقابية وضرورة التفاف النقابيين حول نقابتهم". موضوعياً لسنا ضد وحدة النقابة ولا ضد التفاف النقابيين حولها، ولكن لن يكون ذلك إلا إذا كانت النقابة بالفعل تعبر عن مصالح ومطالب الجماهير، وإلا فإنها تكف عن أن تكون نقابة هؤلاء، وبالتالي على الجماهير البحث عن بديل يعبِّر عن مصالحهم ويحقق لهم متطلباتهم. وهذه الخلافات التي تعصف بالنقابة ليست شكلية كما يصورها البعض وإنما هي جوهرية تمس كيان النقابة ذاته. المكتب التنفيذي ترفض منذ البداية فكرة الدخول مع النظام في جبهة واحدة، وخوض معركة الانتخابات التشريعية جنباً إلى جنب، ورغم القرار المركزي الذي اتخذ في هذا المجال إلا أن الأغلبية القاعدة قد أعطت أصواتها للمعارضة التي شعلات أنها تعبر عن طموحاتها ولو بشكل نسبي. فبعد انتفاضة يناير 1978 والقطيعة بين الجماهير والنظام الذي أظهر فاشيته وديمويته وقمع الحركة النقابية وزج قيادتها في غياهب الشجون، ولم يكتف بذلك بل نصب قيادة مأجورة، بعد كل هذا ورغم ما فعله من أجل تبييض وجهه، إلا أن التجربة أثبتت استحالة التعامل معه إلا من موقع القوة. وقوة النقابة تتمثل في استقلاليتها ووضوح برامجها... وبرنامج الاتحاد العام التونسي للشغل برنامج واضح في تفاصيله وعموميته، ولكن العلة تتركز في القيادة ليس إلا... فبرغم أن كل المؤتمرات السابقة بداية من مؤتمر التأسيس إلى قفصة، تؤكد على الاختيارات الاشتراكية في السياسية الاقتصادية والاجتماعية. إلا أننا نرى القيادة تتهرب من ذلك في كل مناسبة. وقد كان أحد أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد حازماً حول هذه المسألة، وتساءل في كل مناسبة في أحد اجتماعات المكتب قائلاً: "أن القيادة الحالية للاتحاد تضم مؤسسين له ومناضلين نقابيين منذ الستينات، والجميع متفوقون على الاختيارات الاشتراكية وضرورة الكفاح من أجل تحقيقها... ولكن الغريب في الأمر أن نرى بعضاً منا ؟؟؟؟؟ وجود فلسفة اشتراكية للاتحاد". دخل المكتب التنفيذي إلى طاولة المفاوضات مع الحكومة وفي حوزته برنامج متكامل يتضمن عدة بنود رسمية هي: 1-مراجعة العقود المشتركة التي كانت قد عقدت سنة 1977، وضرورة جعل العقود سنوية. 2-مراجعة القوانين الأساسية للمؤسسات وجعلها لمدة سنة أيضاً. 3-الزيادة في منحة العائلة والجر الوحيد. 4-مراجعة سن التقاعد وتعميم منحة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ 5-تحديد الأجر الأدنى الصناعي بـ (90) ديناراً تونسياً، وتنظيم العمل على أساس (40) ساعة أسبوعياً للعاملين في الوظيفة العمومية. لقد دخل أعضاء الاتحاد ببرنامج وخرجوا بوعود ولم يحققوا إلا مكسباً وحيداً تمثل في زيادة ضئيلة جداً في الأجور وهو ما أشرنا إليه في بداية المقال، مقابل عدم إعلان الإضرابات لغاية شهر كانون الثاني القادم. وبذلك أدت النقابة نفسها وكفت أن تكون نقابة تعبر عن مطامح جماهيرها التي بقيت منزوعة من أبسط سلاح تمتلكه وهو حق الإضراب... أما الحكومة، فقد خرجت من هذه المفاوضات (رغم انتصارها) مضطربة وبدأت تبحث عن كيفية تسديد العجز في ميزانيتها، مما دفعها إلى دعوة العقيد معمر القذافي لزيادة تونس والاستعداد لنسيان الماضي وعقد الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية وغيرها. ثم اتجاه السيد محمد الزالي صوب الخليج في زيارة استجداء لمعالجة نسبة التضخم الذي وصل إلى 14 بالمئة. لقد كانت من نتائج الميثاق الاجتماعي الذي وقعته الحكومة مع الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1977، الانتفاضة الجماهيرية العارمة التي اندلعت سنة 1978، والقطيعة مع الحزب والنظام. أفلا يكون هذا الميثاق الاجتماعي الجديد، سبباً في انتفاضة القاعدة ضد القيادة، وبالتالي القطيعة وما يترتب عليها من متطلبات أخرى؟ الأحداث والتطورات هي الكفيلة بالرد على هذا السؤال. 15 نيسان 1982
حول الاتحاد العام التونسي للشغل
عاد الاتحاد العام للشغل للعب دور مميز، رغم ما لحق به نتيجة تحالفه مع الحزب الدستوري في الانتخابات التشريعية التي جرت قبل مدة. والاتحاد يسعى لأن يصبح قوة مستقلة، تستطيع التعبير عن مصالح الشغيلة. وهو لذلك يحاول بلورة نظام داخلي جديد يواكب التطورات التي برزت خلال الفترة الماضية وأهمها: 1-تناقض مصالح الطبقة العاملة مع الحزب الدستوري الذي عبر عن نفسه في انتفاضه جانغي (كانون الثاني) من عام 1978، ولقد كان الاتحاد مؤسسة تابعة للحزب الدستوري، ولكن تطور وعي الطبقة العاملة، أبرز التناقض. 2-دخول الوعي إلى صفوف الطبقة العاملة، وبروز قيادات شابة واعية، أخذت تحتل مواقعها في هيئات الاتحاد الأساسية. 3-وقضية تنظيمية أخرى، وهي وجود رئيس وأمين عام، بعد خروج الحبيب عاشور من السجن، وتنصيبه رئيساً للاتحاد، ولقد خلط هذا الوجود الصلاحيات. ولذلك كان من الضروري إقرار نظام داخلي جديد، خصوصاً بعد التنقيح الذي أدخل على القانون الأساسي للاتحاد، في اجتماع المجلس الوطني الأخير. وهدف النظام الجديد، هو ضبط "الترتيبات الخاصة لسير الاتحاد ونشاطه بجميع تشكيلاته وفروعه" (جريدة الشعب 7/5)، و "تعميق المسار الديمقراطي داخل صفوف الشغالين، وهياكل الاتحاد" (جريدة الشعب 23/4)، كما أنه يقوم على مبدئين أساسيين هما: 1-الديمقراطية في صلب الاتحاد وبين هياكله. 2-استقلالية المنظمة الشغيلة عن كل الأحزاب. والنظام الداخلي يتكون من (34) فصلاً، نوقش منها (24) فصلاً خلال اجتماعات الهيئة الإدارية ما بين 4-8 أيار 1982، وأجلت الفصول الأخرى إلى 20 أيار. ومن القضايا البارزة التي تم إقرارها التالي: أ-تحديد الهيئة التي لها صلاحيات اتخاذ قرار الدعوة إلى مؤتمر استثنائي، وهي المجلس الوطني. ب-عدم الجمع بين المسؤولين النقابية، والمسؤولية الحزبية، ضماناً لاستقلالية الاتحاد. جـ-بعث لجان تساعد كل عضو من أعضاء المكتب التنفيذي في مهامه، تتكون من أعضاء الجامعات والنقابات العامة المكلفين بتلك المهمة في هياكلهم النقابية، ومنها لجنة الصحافة النقابية للأشراف على جريدة "الشعب". د-تقسيم مهمة العلاقات الخارجية، إلى علاقات عربية، وعلاقات خارجية، تأكيداً على التوجه العربي للاتحاد. هـ-تقليص التسيير الفردي لفائدة التسيير الجماعي، وتقوية نفوذ وصلاحيات الهيئات العليا في الاتحاد والهيئة الإدارية، وتدعيم صلاحيات الهياكل القاعدية. و-إقرار تكوين نقابات عامة في صلب الجامعات. إن الاتحاد العام التونسي للشغل قد فرض نفسه قوة اجتماعية كبيرة، وأصبح القوة المنظمة الأساسية، ويحاول بعد تجربة طويلة، وبعد تجربة الصراع ضد النظام منذ عام 1978، أن يوجد الهياكل الأسس التي تساهم في تقوية دورة، وفي استقطابه الطبقة العالمة كلها. وما يسهم في زيادة دوره الاجتماعي والسياسي، هو غياب القوى السياسية القادرة على لعب دور أساسي في مناهضة النظام، وفي توحيد القوى في مواجهته. 1 حزيران 1982
التغيير الوزاري في مصر، الاقتصاد هو المشكلة أجرى الرئيس حسني مبارك تغييراً وزارياً جديداً، ؟؟؟؟؟؟ بموجبه النبوي إسماعيل وزير الداخلية السابقة، وزير الحكم المحلي، وفكري مكرم عبيد نائب رئيس الوزراء، وأحمد سامي وزير العدل، وسعد الشربيني وزير التنمية الشعبية، والسيد عبد الفتاح إبراهيم نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية. ويمكن تحديد النقاط التالية: 1-لقد تم إبعاد النبوي إسماعيل الرجل القوي في فترة السادات. 2-وأبعد أحمد سامي وزير العدل، الذي رشحه السادات لكي يكون نقيب المحامين، فلم ينجح، فعينه وزيراً للعدل، ليأخذ قرار حل النقابة. 4-أبعد سعد الشربيني أداة عثمان أحمد عثمان. 4-أبعد وزير الاقتصاد. 5-تم تعيين وزراء جدد، ليسوا من الطاقم الحالي أو الذي عايش السادات. 6-زاد دور وزير الدفاع عبد الحليم أبو غزالة، ليصبح نائباً لرئيس الوزراء. ولكل ذلك دلالته، وأواها أن حسني مبارك يحاول إبراز شخصيات جديدة، لكي تلعب دوراً سياسياً، ولتمثل مرحلته، وثانيها أنه يحاول تخفيف الأزمة الداخلية، كما حاول منذ تسلمه السلطة، ولذلك أبعد النبوي إسماعيل، وهو المسؤول عن القمع طيلة فترة السادات، وسعد الشربيني لعلاقته بعثمان أحمد عثمان، وأحمد سامي لحساسية علاقته بنقابة المحامين. وثالثهما أنه يحاول إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية المتفاقمة، ولذلك فلقد شمل التغيير وزير الاقتصاد، ووزير التنمية الشعبية. والرئيس حسني مبارك يحاول كل ذلك، كما حاول مراراً منذ تسلمه السلطة. وإذا كانت الأزمة الاقتصادية هي شغل النظام الشاغل، فلقد خصها التغيير الوزاري الأخير بالاهتمام، حيث بدلت الوجوه، وربما السياسات العامة، ضمن الخط الذي سار عليه النظام، والقائم على الانفتاح على السوق الخارجي. لقد كان تركيز الرئيس منذ تسلمه السلطة على إلغاء الانفتاح الاستهلاكي، وإحلال الانفتاح الإنتاجي مكانه، ولذلك أوجد مجموعة اقتصادية جديدة لهذا الهدف، التي أزيحت في التغيير الوزاري الأخير. والمعلومات المتوفرة تشير إلى أن المجموعة الاقتصادية الجديدة لديها توجهات جديدة. فهي من التكنوقراط البعيد عن السياسة، فوزير الاقتصاد الجديد مصطفى السعيد هو أستاذ اقتصاد في جامعة القاهرة، ووجيه شندي الذي تولى وزارة العلاقات الاقتصادية الدولية، هو من كبار موظفي وزارة الاقتصاد في قطاع التجارة الخارجية، وتوجههما الاقتصادي يقوم على تبني اتجاه "السياسات النقدية"، التي تقوم على أن يكون توجيه الحكومة للسياسة الاقتصاديةـ عن طريق التحكم في التدفق النقدي إلى السوق، عن طريق ضغط الإنفاق، أي تخفيض الدعم الحكومي لأسعار السلع الأساسية، وتقليد الخدمات والتأمينات الاجتماعية، بما فيها التعليم والصحة ونقل الكثير من خدمات المواصلات والاتصالات من القطاع العام إلى القطاع الخاص. وهذه هي توصيات البنك الدولي، الذي يشكل مصدر النقد إضافة لصندوق النقد الدولي. وهذا يعني زيادة تحكم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بالاقتصاد المصري. ولذلك فالأزمة باقية، ولسوف تزداد تفاقماً، ولن تفيد بها التغيرات الوزارية، أو التغيير الشكلي في سياسات النظام الاقتصادية. 15 أيلول 1982
الموازنة الأردنية.. المساعدات الخارجية.. والنهب الداخلي قدم مجلس الوزراء الأردني مشروع قانون موازنة الدولة لعام 1983، للمجلس الوطني الاستشاري، واعتبرت أضخم ميزانية في تاريخ المملكة، إذ بلغت 795 مليون دولار، أي ما يساوي أكثر من ملياري دولار بقليل. وكان العجز 33 مليون دينار أي 4,2% من الموازنة العامة، و7,9% من حجم الإيرادات. والميزانية في مجملها لا تخرج عن إطار الميزانيات السابقة، سواء من ناحية المداخيل، أو أبواب الصرف، فهي من ناحية المداخيل تقوم على التالي: أ-المساعدات العربية وهي 215 مليون دينار، (ينقص 45 مليون دينار عن السنة الماضية). ب-القروض الداخلية والخارجية. ج-الناتج المحلي والقائم على الضرائب والجمارك أساساً، ولقد بلغ أكثر من 400 مليون دينار. أما أبواب الصرف، فتصدرها الجيش والمن اللذان بلغت حصتهما 196 مليون دينار، أي ما يقرب من ربع الميزانية، و67 مليون دينار لدعم المحروقات والمواد التموينية. وحددت الحكومة أولويات الميزانية في الجيش والأمن، ودعم الأرض المحتلة، أما منطلقاتها في وضع الميزانية، فتقوم على زيادة الاعتماد على الموارد المحلية، وضغط النفقات الحكومية وزيادة الإنتاج. ورغم الزيادة التي شهدتها الموازنة، فإنها أكدت الحقائق نفسها التي يقوم عليها الاقتصاد الأردني وهي التالي: أ-أن الإيرادات تعتمد على المساعدات، وهي أكثر من ربع الموازنة، أساساً على الضرائب والجمارك، أي على النهب الداخلي، وهذا يحدد سمة الاقتصاد الأردني الأساسية، أنه اقتصاد غير منتج، وتبعي. ب-أن أبواب الصرف في الموازنة في غالبيتها الساحقة تذهب للقطاعات غير المنتجة في المجتمع، أو التي تسهم في بناء قطاع إنتاجي، مثل الرواتب، الجيش والأمن، دعم السلع. ج-أن الجيش وأجهزة الأمن لازالت تحظى بالأولية، وهي عماد النظام الأساسي، حيث حصلت على ما يقرب من ربع الميزانية الحالية.. وتركيز الموازنة الحالية على زيادة الاعتماد على الموارد المحلية، ناتج عن أن موارد الأردنيين العاملين في دول الخليج عموماً، أخذت في الازدياد خلال السنوات الماضية، وهذا يعني زيادة الاعتماد على الضرائب الداخلية، وهو ما يعني زيادة النهب الداخلي، الذي أصبح بشكل أكثر من نصف الموازنة، وهذا أيضاً يفسر سبب دفع النظام الأيدي العالمة، والموظفين إلى الهجرة لدول الخليج، هذه الظاهرة التي برزت واضحة خلال السنوات القليلة الماضية. أن الموازنة بوضعها الحالي تعبر عن توجهات النظام الأساسية، والقائمة على التبعية للامبريالية من جهة، وعلى التحول إلى محطة ترانزيت للأيدي العاملة والأموال والسلع، والسياسة أيضاً. فالأردن هامش، والنظام يعمل بما يخدم بقاءه هامشاً، يستورد السلع، ويطلب القروض والمساعدات، ويعمل على تهجير الأيدي العاملة، لكي يأتي بأيد عاملة رخيصة، ولكي تدر له الأيدي العالمة المهجرة مداخيل، يستطيع نهب ما حلا له منها. 15 كانون الثاني 1983
أيها العمال العرب: الحرب حربكم فخوضوا غمارها يصادف الأول من أيار عيد العمال العالمي، فتحتفل الطبقة العاملة في كل الأمم بعيدها، بعضها يحتفل وهو يشعر بالانتصار والتقدم، ومعظمها يحتفل، وشعور القهر والحرمان يملأ عروقه، ويقف يتأمل صعوبة المسيرة، ومشاق النضال. والعمال العرب يحتفلون بعيد العمال العالمي، ولكن احتفالهم هذا يدفعهم للتفكير الجاد بأوضاعهم، وبمشكلات الوطن كله. فالطبقة العاملة العربية تعاني من الأزمة الاقتصادية التي تعصف بكل "الدول" القائمة، وهي لذلك تعاني من تدني مستوى الدخل، وارتفاع الأسعار، ومن صعوبة السكن، ومن تردي الأوضاع الصحية. وإذا كانت قد حصلت على حق العمل ثماني ساعات في اليوم، فإن الظروف المعاشية التي تعيشها تفرض عليها العمل ستة عشر ساعة، لأن دخل ثماني ساعات لا يجعلها تعيش بما يسمح لها بالبقاء، فتلجأ إلى العمل ساعات أخرى، مما يوجد إشكالات جديدة منها إرهاق العمال، وتزايد البطالة، وزيادة الاستغلال. وهي لم تحصل على حقها في التنظيم النقابي والعمل السياسي. لن اتجاه الأنظمة ينزع إلى تكبيلها و"ضبط" حركتها، وتحويلها إلى قوة تابعة، تصفق بدلاً من أن تناضل لتحقيق مطالبها، ومن أن تعمل لكي تفرض دورها السياسي. والطبقة العاملة تعيش إشكالات الوطن ومشاكله، مشاكل التخلف والتبعية والتجزئة والاحتلال، وهي تعاني من كل ذلك أكثر من غيرها، لأن حدود التجزئة تمنعها من العمل حيث توجد فرص عمل، وإذا توافرت إمكانيات العمل خارج القطر المحدد، يصبح الانتماء لهذا القطر وسيلة لاستغلالها في الأقطار الأخرى، ووسيلة سلبها حقوقها، ومنعها من النشاط النقابي والعمل السياسي، ولدفعها للتناحر مع بعضها، فالعامل المصري محارب في الخليج والأردن و ... إلخ، ومسلوب الحقوق، وتجري التعبئة على أنه سبب مشاكل الطبقة العاملة في هذه "الدول"، لتوجه المشكلة من كونها مشكلة بين الطبقة العاملة العربية كلها، والقوى الحاكمة بمختلف "أقسامها"، وبين الطبقة العالمة، والامبريالية الصهيونية، إلى صراعات بين فئاتها المختلفة، أي بين العامل المصري والأردني، والخليجي.. والطبقة العاملة العربية معنية بمعركة الوطن السياسية والاقتصادية والاجتماعية، معينة وربما أكثر من غيرها بتطوره وتقدمه، ومعنية أساساً بمواجهة الامبريالية الأميركية والكيان الصهيوني، وكل الأنظمة الرجعية العربية. فالمعركة معركتها أولاً وأساساً، ولذلك وفي عيد العمال العالمي، نؤكد أن على العمال العرب العمل من أجل: 1-الإسهام في معركة الوطن الأساسية، ومعركة تحرره واستقلاله وتقدمه الأساسية، معركة تحرره واستقلال وتقدمه، وتحقيق الثورة القومية الديمقراطية الشعبية فيه. 2-النضال من أجل الحصول على الحقوق الأساسية، حق التنظيم النقابي، والعمل السياسي، وحق التنظيم النقابي، والعمل السياسي، وحق الإضراب والتظاهر والاجتماعي وابداء الرأي. 3-النضال لتحسين الظروف المعيشية، وإسقاط نمط الاستغلال الجديد، الذي يفرض على العامل العمل مدة ستة عشر ساعة. 4-مواجهة إشكالات التجزئة، وتحقيق أوثق العلاقات بيتها، بغض النظر عن التجزئة، والحدود السياسية، وأهداف الأنظمة. وهذا يقتضي التحالف مع الفلاحين والبرجوازية الصغيرة الديمقراطية والثورية، فالمعركة معركتها جميعاً.. تحية للطبقة العاملة العربية، ومزيد من النضال، أيها العمال العرب، الحرب حربكم فخوضوا غمارها. 1 أيار 1983
رجال الأعمال العرب ومشكلة التجزئة عقد الاتحاد لغرف التجارة والصناعة والزراعة العربية دورة اجتماعات بين 25 و26 أيار الماضي. في عمان، وكان على جدول أعماله، إضافة للقضايا التقليدية، قضيتان هامتان، الأولى: هي موضوع الشركة العربية للاستثمار الزراعي. والثانية: تسهيل تنقل رجال الأعمال العرب داخل الحدود العربية. ومن الوضوح أن سبب طرح القضيتين واحد، وهو حدود التجزئة، فما دام من اهتمامات اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة العربية، قضايا التطور الصناعي والزراعي والتجاري العربي المشترك، فإن مشكلة التجزئة سوف تبقى ماثلة في وجه كل النشاطات التي يقوم بها. لأن التجزئة نقيض العمل المشترك، ولأن الأنظمة تكرس التجزئة، وتحارب العمل المشترك. ولذلك فأن اعتبار الاتحاد أن مناقشة هاتين القضيتين مسألة ضرورية، ناتج عن واقع التجزئة وتعقيداتها، وسعي الأنظمة لتكريسها. ما هي مشكلة الشركة العربية للاستثمار الزراعي؟ أن مشكلتها الأساسية هي "عقبات الحدود الإقليمية" (المؤشر العدد 10 تاريخ 8-6-83)، كما هي مشكلة التنقل بين الدول العربية. والشركة العربية للاستثمار الزراعي، تأسست خلال عام 1982، في الاجتماع الأول لرجال الأعمال والمستثمرين العرب. وتهدف إلى الاستثمار في الأقطار العربية المختلفة كنوع من أنواع التكامل العربي، وتعمل وفق أربعة روافد رئيسية هي: 1-الاستثمار المباشر في المشاريع الزراعية، عن طريق إقامة شركات زراعية في مختلف الأقطار العربية، وبمشاركة مواطني كل قطر، على أن تأتي المساهمات في هذه الشركات من القطاع الخاص أساساً. 2-تصنيع المنتجات الزراعية، عن طريق تأسيس شركة صناعية غذائية، تمتلكها الشركة الأم بالكامل، أو بنسبة لا تقل عن 50 %. 3-تجارة المواد والسلع الزراعية والآلات المعدات والأسمدة الزراعية، عن طريق تأسيس شركات للتجارة في هذه المواد تمثلها الشركة الأم بالكامل أو بنسبة لا تقل عن 50%. تمويل المشاريع الزراعية، عن طريق تأسيس مصرف لتمويل المشاريع الزراعية في مختلف الأقطار العربية، على أسس تجارية إنمائية. وتمتلك الشركة الم هذا المصرف بالكامل أو بنسبة لا تثل عن 50%. (عن مجلة المؤشر العدد 10، 8-83). وجوهر المشكلة في تسجيل الشركة، بما يسمح لها بمزاولة عملها، حيث تمت مناقشة حلين، الأول: أن تسجل في إحدى العواصم العربية بشكل تقليدي. والثاني: أن تسجل كشركة معفاة (أوف -شور) في البحرين، لكي تستفيد من الإعفاءات الضريبية. ولكن هذه الحلول تبرز مشكلتين، الأولى تفرض على الشركة ضرائب باهظة، والثانية تمنع مواطني البحرين من المشاركة فيها. وما هي مشكلة التنقل؟ لقد التقى المؤتمرون على الشكوى من الكثير من القيود والشروط المفروضة للحصول على تأشيرة السفر (الفيزا) بين بعض البلاد العربية، وهذا ما يترك بالطبع آثاراً سلبية على قدرة وإمكانية رجال الأعمال العرب في تعزيز التعاون في ما بين بلادهم، وتسهيل وتطوير العلاقات الاقتصادية المتبادلة. (المؤشر نفس العدد). ولقد أبدو تفهمهم هذه القيود والشروط، ولكنهم ناقشوا قضية انعكاسها على نشاطهم. "إلا أنهم اعتبروا وجودها بوجههم كرجال أعمال، أمر لابد أن ينعكس سلباً على تمتين أواصر الصلة بين البلاد العربية" (المؤشر). أن القضيتين المناقشتين هامتان، وتعبران عن أثر التجزئة على التطور الاقتصادي والسياسي العربي، كما أن اهتمام رجال الأعمال العرب بهما، يعبر عن الوعي بإشكالات التجزئة، وضررها على العمل العربي المشترك. ولكن الحلول ناقصة مجزوءة، وتعبر عن "مسايرة" رجال الأعمال العرب للواقع العربي القائم، لا العمل على خلق الظروف الملائمة، لتطور اقتصادي عربي مشترك، هذه الظروف التي تتطلب السعي الجاد لإلغاء الحدود أساساً، ولإسقاط كل العقبات أمام التطور الاقتصادي والتنقل والتفاعل ,... الخ. وهذا يعني السعي لإلغاء الدول، وتكوين دولة واحدة. فهذا هو الطريق الوحيد للتقدم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. ولكننا، ونحن نناضل لتحقيق ذلك، نؤيد أية جهود لتخفيف القيود بين الأقطار العربية، ولتأسيس أعمال مشتركة. 1 تموز 1983 تونس... تراجع الحكومة مؤقت
انفجرت ثورة الخبز في تونس، والحصيلة مائة وعشرين قتيلاً ومئات الجرحى، واستقالة وزير الاقتصاد وتراجع الدولة عن قرار وقف دعم الرغيف. والقرار ليس جديداً، بل سبق واتخذ في أوائل تشرين، ولكنه لم يوضع موضع التنفيذ إلا في مطلع العام الجديد، وكأن الدولة في كل يناير تريد امتحان الجماهير التونسية. ولم يخيب يناير الظن عام 1984، كما لم يخيبها يناير الظن عام 1984، كما لم يخيبها عام 1978، فخرجت الجماهير إلى الشوارع في ثورة عارمة محتجة على هذه القشة التي قصمت ظهر البعير. وكان رد السلطات كالعادة، رداً دموياً من خلال الجيش، حصد القتلى والجرحى، دون أن ينسى اتهام هذه الجهة أو تلك، وليبيا مجدداً في افتعال ما سماه الفتنة. هل أنهى تدخل بورقيبة الذي ظهر على التلفزيون قائلاً: آمر الحكومة بوضع ميزانية جديدة تأخذ وضع الفقير بعين الاعتبار... لن يمر أي قرار يتعلق بزيادة الأسعار.. الأزمة. في الواقع أن تراجع الحكومة عن قرارها ليس سوى علاج مؤقت جاء نتيجة للمفاجئة التي أصيبت بها من جراء الاحتجاج الشعبي العنيف، فالوضع الاقتصادي التونسي منهار، فهناك إجراءات أخرى حتمية، إذا ما أرادت الحكومة أن تنقذ ما يمكن إنقاذه. فالتضخم قد تضاعف عن السنة الماضية، والبطالة زادت عن نسبة العشرين بالمائة، فيما بقي معدّل النموّ يدور حول نسبة السبعة بالمئة. والنظام الذي اعتمد منذ فترة طويلة في عملية التنمية على المساعدات الخارجية، يواجه أزمة خانقة نتيجة نضوب هذه المساعدات، أو تحويلها من الميدان العسكري، وموارده الخارجية معروفة ومحدودة: السياحة، المساعدات العربية، مساعدات البنك الدولي، والمساعدات الأمريكية. المورد الأول أصيب بضربة قوية خلال السنوات المنصرمة، لأن كان قطاعاً يعتمد في الأساس على السائح الأوربي. ونتيجة للأزمة الاقتصادية في أوربا، فأن عدد السياح قد هبط كثيراً، وبالتالي هبطت موارد هذا القطاع. أما المساعدات العربية، فأن الدول النفطية التي كانت توزع بسخاء على الدول الرجعية غير النفطية، قد اضطرت بعد انخفاض أسعار النفط، وتراجع الضخ إلى استخدام القطارة. والبنك الدولي بدوره سيقلص مساعداته إلى النصف. أما الولايات المتحدة فإن مساعداتها تشمل الاعتدة الحربية في معظمها. هل من حلول أما النظام؟ أن أي حلّ، سوف تكون له انعكاسات سلبية على أي مجال من المجالات. وهذه هي بالضبط الدائرة المغلقة، التي تدور فيها حكومة المزالي الآن ومعها "المجاهد الأكبر" الذي ظهر ليهدّئ مشاعر الجماهير. أن تراجع الحكومة هو انتصار مؤقت، لذ عليها أن تشحذ أسلحتها وتهيئ نفسها لخوض معارك قادمة، وتنبئ بأنها ستكون أشرس وأقسى، ولن يكون النصر حقيقياً إلا عندما يسقط النظام برمّته، لا قراراته وحسب. شباط 1984
الأنظمة العربية، والأزمة والحلول السحرية!
تحاول الأنظمة العربية عموماً إيجاد حلول لإشكالات أوجدتها، وتنحى في هذا المجال مناحي شتى. والهدف واحد على كل حال، تجاوز أزمة غدت تعيشها. فالسياسة العامة لهذه الأنظمة تقوم على ركائز عدة، أهمها اثنان، الأولى: السياسة الاقتصادية التي تتبعها، والتي تقود إلى إفقار الجماهير الشعبية، وتحكم الشركات المتعددة الجنسيات بالاقتصاد المحلي. مما ينتج ديوناً باهظة تتحمل أعباءها الدول، وهي ديون كبيرة على كل حال، فمصر بلغت ديونها الخارجية حوالي 27 مليار دولار، والمغرب حوالي 20 مليار، والسودان عدة مليارات. كما ينتج فقراً مدقعاً تعيشه الجماهير الشعبية، لأنها غدت تخضع لقانون فائض القيمة الرأسمالي. وكل ذلك يضع الأنظمة في أزمة، أزمة العجز في الميزان التجاري، الذي يزيد مديونية الدول، والعجز عن تسديد هذه الديون الباهظة، التي قد تصل إلى مرحلة، لا يستطيع الدخل المحلي بمجمله تسديد فوائدها فقط، كما تعاني من أخطار الانفجارات الشعبية، تحت وطأة الفقر المدقع. والثانية، قضية الحريات الديمقراطية، لأن عجز الأنظمة، وارتباطها بالامبريالية العالمية، أو تحالفها نعها، ومهادنتها الكيان الصهيوني، وأخطار الأزمات الاقتصادية، تدفع بالضرورة إلى انفجارات شعبية، كما حدث في الخمسينيات والستينات في كل الوطن العربي، وكما يحدث الآن في المغرب وتونس، ومصر والسودان. لذلك تلجأ الأنظمة للقمع بمختلف أشكاله، من السجن والتصفية، إلى كبت الحريات العامة، ومنع المعارضة، ورفض إعطاء حرية الصحافة وغيرها. وهذا يولد أزمة جديدة، تفرض على الجماهير الشعبية النضال. والأنظمة أمام هذا وذاك، تشدد القمع حيناً، وتبدي المرونة حيناً آخر، ولكنها في كل الأحوال، تبقى سياستها الأساسية، سواء على صعيد الاقتصاد، أو الحريات الديمقراطية.. وما يجري في الوطن العربي اليوم يؤكد ذلك، فالنظام السوداني مثلاً، اكتشف أن حل أزمته لا يكون إلا "بأسلمة" المجتمع، فقرر أن السودان –دولة إسلامية-وعمل على تطبيق الشريعة الإسلامية، فعمل جلداً بمتعاطي الخمور، وتقطيعاً بأيدي السارقين. وعلقت صحيفة أجنبية على ذلك بأنه إذا كان نصيب الذي يسرق عشرة جنيهات لأنه فقير يحتاجها كي يعيش، قطع يده ورجله، فإن النظام بدل أن يحل مشكلة الفقر، يزيد الفقر، وتزيد من الفئات الاجتماعية التي تحتاج إلى إعالة, وقام النظام المصري بإجراء انتخابات مجلس الشعب، واعتبرها "أنزه انتخابات جرت في مصر" على حد قول صحيفة الحزب الوطني الديمقراطي (مايو 31-5-84). فحصل الحزب الوطني الديمقراطي على 87% من مقاعد المجلس، بينما حصل الوفد على 13%، ولم يستطيع حزب التجمع وحزب العمل، والأحرار، إلا الحصول على مقعد واحد. ولقد أبدى حسني مبارك أسفه لعدم نجاح المعارضة كلها (الأهرام 1/6). وأكدت صحيفة مايو أن الذي حصلت عليها المعارضة في الانتخابات هو حجمها الطبيعي (31/5). والنظام يريد بذلك حل أمة مستعصية يعانيها، أزمة الفقر الذي تعيشه الجماهير والذي أدى إلى أن يصبح 37% تقريباً من السكان تحت خط الفقر المعترف به دولياً، وأزمة شرعية النظام ذاته، فهو لا يملك رصيداً كرصيد حرب أكتوبر التي تغنى بها السادات كأهم إنجازاته. ولقد كان يشعر بالضعف أما أية خطوة كان يخطوها. أما النظام الأردني، فقد أعاد البرلمان، وأجرى انتخابات جريئة. ثم عقد البرلمان جلسة هامة أوائل الشهر الماضي، تجرأ بعض الحاضرين ولمسوا قضايا هامة، تهم المواطن، منها مثلاً قضية الاعتقال، ومنها قضية أحزاب وصحف المعارضة. وهي قضايا كان يهمس بها في أروقة النظام في العامين الماضيين، ولقد كتبنا عنها مراراً. والملفت للنظر أن الذين "تجرؤوا"، هم من الفئة الحاكمة، وبعضهم الإخوان المسلمين، ولا شك أن مصالحهم مرتبطة بمصالح النظام، ورغم أن سليمان عرار نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية أكد "أنه ليس هناك نية لرفع الحظر عن تشكيل الأحزاب السياسية في الأردن، وأن قانون الأحزاب لا يزال معطلاً، مشيراً إلى أن التجربة الأردنية السابقة كانت قاسية لأن معظم الأحزاب كانت امتداداً لتنظيمات في الخارج لا يستطيع الأردن في تركيبته أن يتحملها" (الوطن 4-6-84)، فإن لإحياء البرلمان، ولما يطرح فيه مغزاه الواضح، ودلالته. وفي موريتانيا، عمد النظام إلى اعتقال مئات المناضلين، وزجهم في السجون، حيث قضى بعضهم تحت التعذيب. ولقد شملت الاعتقالات فئات واسعة من الطلبة، والضباط، والعمال. منهم قادة نقابيون، (الطلاب والعمال)، وقالت الأخبار أنهم يتبعون تنظيماً ناصرياً. وكان النظام قد قام بحملات اعتقال أخرى قبل هذا التاريخ، شملت فئات ديمقراطية مختلفة. كل ذلك وموريتانيا تعيش أزمة اقتصادية شاكلة، تهدد بانقراض السكان، فقد بلغت نسبة وفيات الأطفال 169%، وأدى الجفاف إلى تدمير المحاصيل الأساسية. ولو القينا نظرة على كل الدول العربية لوجدنا أن لها مشاكلها العميقة، وتحاول الأنظمة فيها القفز عن هذه المشاكل بأساليب شتى. وما يهمنا في الأمثلة السابقة، هو أنها تطرح خيارات كل الأنظمة بوضوح، التي تتراوح بين "الديمقراطية" والقمع، والتي تسعى من خلالها إلى تجاوز أزماتها. ومن الوضوح أن التغييرات تمس الشكل السياسي فقط، ولا تمس عمق الأزمة. فالأزمة تتمثل في تحدي الوجود الامبريالي الصهيوني، وفي الإفقار الذي يعانيه الوطن وتعيشه جماهيره، أزمة التخلف والتبعية والتجزئة والاحتلال. أما الأنظمة، "فترضى من الغنيمة بالإياب"، وتحاول من خلال القمع، أو من خلال الانتخابات، وبعض أشكال الحريات الديمقراطية، أن تتجاوز أزمة عميقة. وإذا كنا ندين كل أشكال القمع ومنع الحريات، فإن سياسة الديمقراطية التي تتبعها بعض الأنظمة، أخف وطأة، ورغم أن نتائجها واضحة، إلا أن تسمح أن تطرح الآراء علناً على الأقل. فما جرى في مصر في ظل الانتخابات مهم من هذه الزاوية، لأن المعارضة قالت رأيها، بوضوح في سياسات النظام، وفي أساليبه، وكشفت أغراض الانتخابات ذاتها. أن هذه السياسات، سواء القمعية، أو "الديمقراطية" لا تحل أزمات النظمة، بل أنها تعمقها. فالقمع يزيد نقمة الجماهير، ويدفعها للثورة، و"ديمقراطية" الأنظمة تثبت للجماهير مدى الفساد الذي تعانيه هذه الأنظمة، ومدى التزوير الذي تتبعه. وعنوان جريدة الأهالي، الذي صدر بعد الانتخابات في 30-5، يقول "الانتخابات مزورة" و"الحكومة تحصل على (الأغلبية) بالعنف والتزييف والبلطجة". وتحسم أوهام الحل "الديمقراطي". وهذا ما أكده خالد محي الدين حيث قال: "الحزب الوطني أضاع فرصة التغيير بالديمقراطية" (الأهالي 30-5). وبعد الوطن يعيش أزمة، وانفجارها محتم، مهما حاولت الأنظمة تغطيتها أو "تنفيسها".. 15 حزيران 1984
ج.م.ع: ماذا بعد الانتخابات؟ انتهت الانتخابات المصرية "بفوز"! الحزب الوطني الديمقراطي، بنسبة 87% من مقاعد مجلس الشعب. وبدعم 7,5% تقريباً من الشعب المصري، إذا اعتبرنا أن النتائج التي أعلنها حسن أبو باشا وزير الداخلية صحيحة. ولقد حددنا دلالاتها في عدد سابق (الانطلاقة العدد 136). والآن بعد انتهاء الانتخابات، و"فوز"! الحزب الوطني الديمقراطي، ما هي آفاق الوضع السياسي في مصر؟ .. ما هو وضع الأحزاب على ضوء نتاجها؟.. ما هي خطوات النظام؟ لقد اعتبرت أجهزة النظام الانتخابات نزيهة تماماً، وأكدت أنها تمثل توجهاً ديمقراطياً جديداً، يعمل الرئيس حسني مبارك على السير فيه، كما أعلن الرئيس حسني مبارك، أن نتائج الانتخابات غير مرضية تماماً له، بسبب عدم استطاعة كل أحزاب المعارضة دخول مجلس الشعب. وقال أن ليس لديه مانع من أن تحصل المعارضة على 40% من مقاعد مجلس الشعب. والنظام في هذا السياق يحاول تأكيد حقيقتين، الأولى: أن المعارضة حصلت في الانتخابات على حجمها الحقيقي، فهي أقلية صغيرة، لا جماهير لديها، ولهذا يجب أن تنطلق من ذلك في سياستها وتعاملها. والثانية: ان النظام يعمل على تكريس منهج ديمقراطي جديد، يتجاوز ما عمل الرئيس السادات على تحقيقه. وهذه القضية، هي النقطة المركزية في سياساته، ليؤكد أن النظام ديمقراطي ومستقر. لذلك اتجه الرئيس حسني مبارك بعد الانتخابات، وبالاستفادة من حقه في تعيين عشرة نواب في مجلس الشعب، إلى إدخال المعارضة بقرار منه إلى المجلس، فعين أربعة من حزب العمل الاشتراكي، تعويضاً له عن الأصوات التي حصل عليها، والتي قاربت إلى 8%، كما عين عضواً من حزب التجمع، وبعض الأقباط، واثنين من الشخصيات البارزة والقريبة من الخط الناصري، وما رفعت المحجوب، والذي عين رئيساً لمجلس الشعب، ويحي الجمل نائب رئيس حزب التجمع سابقاً. وهو الآن يتجه إلى إبراز وجوه جديدة، تساعد على تلطيف صورة الحزب الوطني، بعدما اعرض للانتقاد الشديد طيلة السنوات الماضية، وبعد انكشاف فضائح الرشوة والفساد.. وإلخ .. كما يسعى لتأكيد الطابع "الديمقراطي" لنظامه. أما على صعيد وضع المعارضة، فإن النظام، وبعد إنجاحه حزب الوفد الجديد، ومن ضمنه حركة الإخوان المسلمين، يسعى إلى تغيير وضع المعارضة بما يحقق له أضعافها، لكي يضمن فترة استقرار طويلة، أما خطواته فهي كما بدا ويبدو التالي: 1-كان أولها إسقاط المعارضة في الانتخابات، وهو بذلك يحق التالي: أ-يبرزها على أنها قوى ضعيفة، لم تحصل على 8% من أصوات الناخبين، ولقد ركزت صحف الحكومة على هذه النقطة كثيراً. ب-يمنع دورها في مجلس الشعب، وبالتالي دورها في المعارضة. كما يعتقد، خصوصاً وأنه انجح الوفد لكي يكون بديلاً عنها. ج-قد يعني ذلك مستقبلاً محاصرتها بحجة ضعف تأييدها الجماهيري، وعدم وجود ممثلين لها في مجلس الشعب. 2-شق المعارضة ومنع وحدتها، بمحاولة كسب بعضها، اعتماداً على نوايا يظهرها الرئيس، تقول بتعميق الديمقراطية، دون أن تعني إلغاء كل القيود التي وضعت منذ فترة حكم السادات. وكان قرار تعيين نواب للمعارضة في مجلس الشعب، مجلاً للاختلاف بينها، حيث قبل حزب العمل الاشتراكي، ورفض حزب التجمع. وقبل عضو حزب التجمع المعين د. ميلاد حنا ورفض الالتزام بقرار الحزب القاضي بعدم المشاركة في المجلس. 3-إضعاف حزب التجمع ومحاولة شقه، فحزب التجمع في السنوات الماضية القوة المعارضة الأساسية، التي كانت تضم فئات اجتماعية مختلفة، وتيارات سياسية مختلفة أيضاً، منها التيار الماركسي، والناصري، والإسلامي المتنور. وهو قوة علمانية تضم الأقباط والمسلمين، في مجتمع يراد له الانقسام الطائفي. 4-محاولة تحييد القوى الناصرية وشل نشاطها، ولقد اتبع الرئيس حسني مبارك تكتيكاً يقوم على أساس الوعود بالسماح للناصريين بالعمل رسمياً، رغم رفض الترخيص للحزب الناصري، وهو الآن يعد برفع العزل السياسي عن القيادات الناصرية، حيث يشاع أن ذلك سوف يتم قبل 32 يوليو. ومبارك بذلك يسعى لمنع تحالف الناصريين مع القوى الأخرى من جهة، والركون لوعوده من جهة أخرى، والتوافق مع سياساته من جهة ثانية. أما فيما يتعلق بالمعارضة، فقد انقسمت، حيث وافق حزب العمل الاشتراكي على المشاركة في مجلس الشعب، بناء على قرار الرئيس حسني مبارك، وبرر ذلك بأسباب مختلفة أهمها: ضرورة أن تمثل "الاتجاهات الاشتراكية المعبرة عن مصالح الجماهير العريضة"، وأن تمثل يعبر عن استرداد الحزب لبعض ما كان يستحقه من مقاعد، حيث كان يجب أن يمثل بـ 31 عضواً على ضوء النتائج لولا نسبة إلى 8%. وأكد أن تمثيله لن يسقط احتجاج الحزب واعتراضاته وتشكيكه في نزاهة الانتخابات الخيرة، بسبب الطعن بشرعية المجلس كله (الشعب 19-6). أما حزب التجمع فقد رفض المشاركة لأسباب أهمها، "الاعتراض من حيث المبدأ على حق التعيين في المؤسسات الديمقراطية"، وبسبب أن المجلس تكون نتيجة عملية تزوير، والمشاركة فيها يضعف موقف الحزب "ويساهم في عملية خداع الجماهير، وفي خلق وهم بأن مجلس الشعب الجديد يعبر عن كل التيارات السياسية في المجتمع.. وهو المر الذي يناقض الحقيقة". (الأهالي 20-6). أما حزب التجمع فقد رفض المشاركة لأسباب أهمها، "الاعتراض من حيث المبدأ على حق التعيين في المؤسسات الديمقراطية"، وبسبب أن المجلس تكون نتيجة عملية تزوير، والمشاركة فيها يضعف موقف الحزب "ويساهم في عملية خداع الجماهير، وفي خلق وهم بأن مجلس الشعب الجديد يعبر عن كل التيارات السياسية في المجتمع.. وهو الأمر الذي يناقض الحقيقة". (الأهالي 20-6). أما الناصريون فقد بدأت خلافاته مع حزب التجمع منذ مدة، ولقد استقال د. يحي الجمل من الحزب نتيجة هذا الخلاف. ثم سعوا لتأسيس حزب لهم، قامت لجنة الأحزاب في مجلس الشعب السابق برفضه، لكن الحوار حول الموضوع لازال مستمراً. وهم في الانتخابات لم يعطوا حزب التجمع أصواتهم، وكان الرئيس حسني مبارك وعدهم بالسماح لهم بحرية العمل بعد الانتخابات، ولازالوا ينتظرون... ويحاول النظام من كل ذلك خلق شكل من الاستقرار، يضمن بقاءه مدة ويلة، ولن يتم ذلك، إلا بتفتيت القوى المعارضة، وكسب أقسام منها، وهو ما يعمل على تحقيقه الآن، وفي ما سوف يستمر في عمله في المرحلة القادمة. فهل ينجح؟ أن ذلك مرهون بدور المعارضة، خصوصاً وأن الأزمة الاقتصادية الاجتماعية تزداد عمقاً، ويبدو أن النظام مصر على رفع الدعم عن السلع... 15 تموز 1984
مصر والانتفاضات وسياسات النظام الاقتصادية انفجرت يوم 30 أيلول انتفاضة جديدة في مدينة كفر الدوار في مصر، بعد قرار الحكومة زيادة أسعار بعض المواد الأساسية، ومنها الخبز والسمن، حيث اعتصم خمسة عشر ألف عامل في شركة مصر للغزل، في مقر الشركة، ما لبث أن تضامن معهم عمال شركة الحرير، ثم تقدمت مسيرة تضم 300 مواطن من القوى والعزب المحيطة بكفر الدوار، لتأييد المعتصمين، وطالب العمال المعتصمون بإقالة الوزارة الحالية، وطرد الوزيرين آمال عثمان وسعد محمد أحمد، وسحب الثقة من اللجنة النقابية، وإلغاء رفع الأسعار، وإلغاء قانون التأمينات الجديد. ولقد جرت محاولة لقطع الطريق إلى الإسكندرية، وخلع قضبان سكة الجديد. وقادت الاشتباكات إلى استشهاد ثلاثة أشخاص وجرح ستة وعشرين، واعتقل ما يقرب من المائتي شخص. وعلى أثر ذلك، وخوفاً من امتداد الانتفاضة، طلب الرئيس حسني مبارك من وزيري التموين والصناعة، وقف أي زيادة في أسعار السلع التي تم رفعها مؤخراً. وكان متوقعاً انفجار الوضع في مصر، منذ مدة، حيث بلغت الأزمة الاقتصادية مرحلة حرجة، سواء بسبب الديون التي تراكمت على النظام المصري، أو بسبب العجز الكبير في ميزانية عام 84-85. وكذلك بسبب انخفاض مستوى المعيشة بالنسبة للجماهير الشعبية، انخفاضاً كبيراً، جعل أي زيادة في أسعار السلع الأساسية كافية لحدوث انفجار كبير. ولقد تحدثت صحيفة الأهالي منذ أواخر العام الماضي، عن أن النظام المصري يعد لزيادة في أسعار السلع الأساسية، وأن هناك قوائم قد أعدت بهذا الخصوص. وأن النظام يؤجل ذلك إلى ما بعد الانتخابات (التي جرت في 27-5-84). ولذلك "في الانطلاقة" العدد 128 تاريخ 15 شباط 1984، أن الانتفاضة قادمة في مصر. وتأتي الانتفاضة الجديدة، بعد إقرار موازنة عام 84-85، التي أكدت سياسة النظام منذ عام 1971، وقرار زيادة أسعار عدد من السلع الضرورية، ومد العمل بقانون الطوارئ سنة ونصفاً. وكان مجلس الشعب قد ناقش، في جلسة عقدها أواسط شهر أيلول الماضي، قانون الموازنة الجديد وأقره. حيث أكدت افتتاحية صحيفة الأهالي (19/9) أن القانون الجديد، يعبر عن "استمرار سياسة الانحياز للطفيلية، والانفتاحيين، عل حساب المصالح الجوهرية الشعبية، والمنتجين بصفة عامة" ولاحظت استمرار العجز في الموازنة الحالية، الذي سوف يقود إلى زيادة التضخم، الذي "يؤدي بالضرورة إلى مزيد من التدهور في مستوى الأسعار، خاصة في ظل فوضى السوق الناتج عن حرية القاع الخاص التجاري في تحديد الأسعار". وأشارت أن الحكومة تسعى للتقليص الفعلي للدعم". وأشارت أن الحكومة تسعى للتقليص الفعلي للدعم، ورفع أسعار بعض السلع "خطوة خطوة". مما يؤدي إلى التهام أية زيادات في الأجور. ولاحظت بخصوص الموازنة أيضاً "تناقص مساهمة القطاع الخاص في حصيلة الضرائب" بسبب سياسة الإعفاء من الضرائب والمرسوم الجمركية. كما أكد د. عثمان محمد عثمان (الأهالي 19/9) أن الدولة تتحمل مزيداً من الأعباء لتشجيع القطاع الخاص، وأن الموازنة خالية من الضرائب الجديدة على "الأرباح والدخول العالية"، وبالتالي فإن الرأسمالية المصرية، وشرائحها الطفيلية تحديداً تحصل على كل شيء. حيث يجمع 40% فقط من الضرائب من الممولين. كما أن الموازنة تقدم قروضاً سهلة للرأسماليين (450 مليون جنيه للإسكان بفائدة 4%، و300 مليون جنيه قروضاً للشركات والأفراد في مجال استصلاح الأراضي). بينما الموازنة "لا ترى سوى الدعم عبئاً يلزم ترشيده أي تخفيضه" في الوقت الذي تؤكد أنها "لن تشهد أي تغير في شرائح الضرائب المعمول بها الآن"، وهي التي تخدم الفئات الطفيلية فقط. وقال د. جودة عبد الخالق أن زيادة الإيراد العام تتم بفرض جديدة بلا قانون على الفقراء. بينما حدثت زيادة محدودة في نسبة نمو الضرائب على الدخول بلغت 8,2%. وأكد أن "الدولة تحمي المرابين"، وأشار إلى اتساع نطاق الإعفاء من الجمارك، حيث أن 40% من قيمة الواردات معفاة. وقال د. جلال أمين (الشعب 2/ 10) أن لديه "تخوفاً حقيقياً من أن الحكومة تنوي هذه المرة، رفعاً تدريجياً لأسعار سلعة بعد أخرى، ؟؟؟؟؟؟ عنها بالتقسيط لتجنب توليد سخط عام". وأضاف أن شرائح الدخل العليا، ستقل مساهمتها النسبية على الأقل في حصيلة الضرائب، بدلاً من أن تزيد! في نفس الوقت، لا يمكن ان نستخلص شيئاً من المنشور حتى الآن، عما سيحدث في الضرائب غير المباشرة، التي يدفعها الفقراء أساساً، والتي ما زالت تمثل الجزء الأكبر من حصيلة الضرائب في مصر. بلغ عجز الموازنة الحالية 5400 مليون جنيه، سوف يسدد من التسهيلات الائتمانية الخارجية بنسبة 3,4%، ومن الأوعية الإدخارية المحلية بنسبة 42,7%، ومن القروض المحلية بنسبة 6,9%، ويبقى هناك عجزاً بنسبة 22,2%، وهو ما يساوي 1200 مليون جنيه، وهو ما يتم تمويله تمويلاً تضخيمياً أي بطبع النقود. ولقد بلغت نسبة زيادة الاقتراض عام 81، 23%. ويقول وزير التخطيط أن نسبة عالية من الموال المفترضة "تذهب إلى عمليات استهلاكية وخدمية" (المصور 10/8). مما راكم ديوناً ضخمة بلغت عام 82،13 مليار جنيه، بينما كانت 560 مليون جنيه عام 70، 660 مليون جنيه عام 1973. بعد أيام معدودة من إقرار الموازنة صدر قرار زيادة أسعار عدد من المواد الأساسية، منها رغيف الخبز الإفرنجي بنسبة 100%، والرغيف البلدي، وشوال الدقيق وزن 100 كيلو بنسبة 95%، وطن النخالة بنسبة 80%، والسمن الصناعي بنسبة 60% وكيلو المعكرونة بنسبة 46%، والمنسوجات الشتوية بنسبة 25%، والملابس الجاهزة بين 33% إلى 45% الأهالي 26/ 9). كما قرر مجلس الشعب مد حالة الطوارئ سنة ونصف أخرى، مبرراً ذلك بالمحافظة على "أمن وسلامة البلد"، و"تحقيق الاستقرار"، و"مواجهة عناصر الإرهاب والتطرف بمختلف الأساليب"، كما بسبب تشكيل تنظيمات سرية مناهضة، و"امتداد النشاط الإرهابي إلى المياه الإقليمية" (الأهالي 3/10). ولقد أصدر حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي بياناً أكد فيه رفضه لزيادة الأسعار، ولقانون التأمينات الاجتماعية الذي يترتب عليه استهلاك العلاوة الإضافية المقررة للعاملين في الحكومة والقطاع العام. وطالب "بتمويل الدعم من حصيلة الضرائب، وليس عن طريق عجز الميزانية، ليكون وسيلة لإعادة توزيع الدخل لصالح الطبقات الشعبية". وبهذا تكون انتفاضة كفر الدوار "رد فعل مباشر لارتفاع الأسعار، وفرض تعديلات لقانون التأمينات تضر بمصالح العاملين" (الأهالي 3/ 10). أن كل ذلك يظهر جوهر السياسة التي يتبعها النظام المصري، في المجال الاقتصادي، وهي السياسة التي بدأها أنور السادات والقائمة على خدمة الفئة الطفيلية، حيث غدت الدولة أداتها في النهب الداخلي، وكل الإشارات السابقة تؤكد هذه الحقيقة. مما زاد في إثراء فئة قليلة، وإفقار الجماهير الشعبية كلها، وأدى إلى عجز متزايد في الموازنة، وعجز في الوازنة، وعجز في الميزان التجاري مع الخارج، وارتفاع كبير في نسبة التضخم، وزيادة في الأسعار. مما جعل الملايين تعيش حالة فقر مدقع، تهتز لأي زيادة في الأسعار، لأنها تقودها إلى المحتم. لذلك نؤكد ما أكدناه مراراً أن الوطن العربي مقدم على انتفاضة كفر الدوار لم تمتد لكل مصر، فإن الانتفاضات القادمة سوف تكون أوسع، سيما وان النظام مصمم على سياسة إفقار الجماهير الشعبية، كما على رفع الدعم عن السلع. وأمام الانهيارات التي يعيشها الوطن العربي، فإن الصورة المقابلة تكتمل بفيض الانتفاضات الشاملة. 15 تشرين الأول 1984
السودان: الأهم تحقيق التغيير الجذري
لم تنته الثورة في السودان بعد، فقد سقط النميري ولم يتبلور نظام بديل يعبر عن مطامح النقابات والاتحادات والأحزاب، والجماهير الشعبية عموماً بعد. وإذا كان إسقاط النميري هاماً، إلا أن ذلك لا يعني انتصار الثورة. لقد سقط نميري، واستلمت قوى اجتماعية بعضها من صلب نظام نميري (المجلس العسكري) وبعضها، وهو الأضعف ممن لعبوا دوراً مهماً في الانتفاضة الشعبية، لكنهم غير محدودي التوجهات بعد. وهذا يقتضي المضي بالثورة حتى تحقيق الأهداف التي تخرج السودان من تبعية وتخلفه، وتحقق الديمقراطية لمواطنيه، وتحدد دوره في النضال العربي، وهذه مهمة القوى الثورية السودانية على وجه التحديد. ولهذا نستغرب ان يطرح الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني، قضايا هي ليست من صلب الثورة الراهنة، ليس هذا فحسب بل أنها ضارة للنضال العربي. فالحدود بين السودان ومصر ، رسمها الاستعمار البريطاني، ولم تتبلور تاريخياً على ما هي عليه، لكي ندافع عنها وكأننا ندافع عن حدود أمة. ما يفرض علينا الحديث في هذه القضايا، ما قاله الرفيق نقد في المدة الخيرة، فقد أثار قضية الحدود بين مصر والسودان، حيث أشار إلى أن النظام المصري "ضم جزءاً من الأراضي السودانية شمال البلاد"، وهي قطاع حالايب وبحيرة التوبة. هل مشكلة الحدود جوهرية الآن؟ وهل القضية هي ضم النظام المصري "لأراضي سودانية"؟.. على ضوء الوضع السوداني الراهن، ليست قصة "الضم" هي القصة الجوهرية، لأن السودان يعيش منعطفاً، فإما تستطيع القوى الامبريالية إعادة تماسك النظام، معبراً عن نفس الفئة الحاكمة سابقاً، وبنفس السياسات والتوجهات، وبالتالي تجهض الانتفاضة الشعبية، وأن عمل النظام على على تحقيق "انفتاح ديمقراطي" مقنن، أو تدفع القوى الثورية بالوضع إلى نهاياته، حيث تستطيع تطوير الثورة، من مرحلة إسقاط النميري، إلى مرحلة تحقيق الثورة الديمقراطية، ومشكلة الحدود، كما طرحها نقد، ليست قضية مطروحة جماهيراً، لكي تصبح مطلباً الآن. ثم انه في هذا الوضع، أي وضع الدفع بالثورة إلى الأمام، تصبح الخطورة في تدخل النظام المصري، والدور الذي يمكن أن يلعبه لإجهاضها، وليس سيطرته على مناطق "ضمها" في فترة حكم نميري. وبهذا يكون وبهذا يكون من الضروري، الدعوة للتحالف مع القوى الوطنية والديمقراطية المصرية، والسعي لاستنهاض الحركة الجماهيرية في مصر، خصوصاً أن ظروفها المعاشية، والأزمات التي تعيشها لا تختلف كثيراً عن ظروف جماهير السودان. وما إضافة الرفيق نقد لا يحقق هذا الغرض، حيث أكد أن مصر اعتادت على تحقيق مصالحها كلما كان السودان تحكمه حكومة ضعيفة، وأعطى مثال استغلال مياه النيل، في فترة حكم عبود. فقد مكنت الاتفاقية التي عقدت بين البلدين "مصر من بسط سيطرتها على معظم مياه الهند الإفريقي النيل". أنه يؤكد على "نزعة الهيمنة" المصرية، و"رد الفعل" السوداني. وهذا يستثير الجماهير المصرية، كما يستثير القوى الناصرية السودانية، لأن الاتفاق المنوه عنه عقد في فترة حكم جمال عبد الناصر. وبذلك يضعف إمكانيات التحالف الداخلي مع قوة لها وجودها، ويغيب طرح قضية النضال المشترك المصري -السوداني. أن طرح هذه القضية الآن خدم قضية تطور الثورة السودانية، ولا تحالف الجماهير السودانية المصرية. لمواجهة احتمالات تدخل النظام المصري. لكن أيضاً يهمنا أن نشير إلى قضية جوهرية، تجعلنا نرى الحديث عن "الضم" من دولة عربية على أخرى، حديثاً لا عقلانياً، لأن الحديث عن "الضم" يعني الدفاع عن الحدود القائمة، وبالتالي إظهار الخطر في تنازل نظام عن أراض لنظام آخر، بينما القضية الجوهرية تتقدم في إزالة كل حدود تفصل بين بقاع الوطن العربي. فالقضية ليست بـ "الضم" بل أساساً قضية وجود الحدود. وبالتالي فبدلاً من طرح قضية الوحدة، قضية إزالة الحدود، خصوصاً أن النظام المصري يهدد ثورة السودان، ويقف عقبة هامة في طريق تطورها وتقدمها. أن القضية الأهم في السودان اليوم هي قضية تحقيق التغيير الجذري. 15 أيار 1985
حول الأزمة الاقتصادية وسياسة الانفتاح
[إذا كانت سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي انتهجها النظام المصري منذ مطلع السبعينيات قد أدت إلى إدخال تغييرات على القطاعات الاقتصادية، وإحداث تغيير في الأوضاع الاجتماعية والسياسية فإنها لم تكن (في ذاتها) كل الأزمة الاقتصادية، فهي ليست سوى سياسة أخضعت القطاعات الاقتصادية، لقطاع مضمون الربح-الاستيراد والتصدير.] فسياسة الانفتاح ؟؟؟؟؟ على علاقة وثيقة بالبنية الاقتصادية، والسياسية الاقتصادية المتبعة سابقاً، وحيث أن البنية الاقتصادية، اعتمدت أساساً على قطاعات اقتصادية تابعة ومتخلفة، تصدر المواد الأولية-الخام-اللازمة للصناعة-والقطاعات-الرأسمالية الأجنبية وتستورد المنتوجات المصنعة، فقد تم (تفصيل) هذه القطاعات على (قد) هذه العملية، صحيح إنه جرى تحقيق تقدم اقتصادي وسياسي واجتماعي، لكن هذا التقدم تباطئ ليتوقف ثم يتراجع لظروف وأسباب عدة،، لعل أهمها يرجع إلى طبيعة البنية الاقتصادية هذه، والظروف التي وأكبت نموها وتطورها من جهة، وطبيعة القوى والفئات، المستحوذة على السلطة السياسية من جهة أخرى. فعلى الرغم من ظهور-القطاع العام-فإن العمليات التي جرت كان لها تأثيراً جوهرياً على تطور البنية الاقتصادية فلم يجر تحويله-القطاع العام-إلى سند قوي ومؤثر على تطور الاقتصاد، كذلك فإن التحولات الزراعية، المعادية للإقطاع لم تحقق الحل الجذري للمسألة الزراعية. فظل نمط الإنتاج الصغير والخاص ولم يتكون إنتاج زراعي كبير، يحقق فائضاً ضرورياً لقيام صناعات متمكنة. والسياسة الاقتصادية لم يحكم التضييق على عملية تراكم الثروة وتركز رأس المال. وهكذا انتهى الأمر إلى التابعة. وبعد أن فشلت في إحداث التغييرات الأساسية في طبيعة البنية الاقتصادية ذاتها، ونسق ترتيبها بشكل يضمن تطورها. وخلق شروط وظروف الاستقلال بالسوق المحلي والقومي، وتحقيق ثورة زراعية صناعية تفترض حلفاً متيناً بين الفلاحين والعمال والكادحين، يقوم بهذه الخطوات من انجازات ويمنع احتكار السلطة من قبل فئة معينة. فعلى الرغم الكومبرادور-الرأسمال الأجنبي، والتقييد الاقتصادي، ووجهت ضربات قوية للإقطاع والرجعية إلا أنها لم تتبع ذلك تطويراً في القطاعات الاقتصادية الرئيسية-الزراعة والصناعة-وبالتالي لم يكن في مقدور هذه السياسة التخلص من البنية الاقتصادية-التابعة والمتخلفة والمجزأة-فتحولت مصر إلى مستوردة للغذاء (وهي قطر زراعي) وكذلك فإن القوى والفئات في السلطة لم تعمق تحالفاتها مع الفلاحين والعمال والكادحين، محلياً وعربياً، ومع المعسكر الاشتراكي عالمياً. وهكذا وجدت هذه الفئات والقوى التي تقود السياسة الاقتصادية، صعوبات كبيرة وعميقة في تلك المرحلة، عندما كانت تقوم بإحداث تغييرات، اقتصادية واجتماعية، وإعادة بناء الاقتصاد المصري، وكانت هذه المهام فوق طاقتها وجهدها، فعمدة إلى تكييف-البنية الاقتصادية-لمصالح أكثر عناصرها حركة ونشاطاً من خلال إيجاد ظروف سياسية منسجمة مع الأوضاع الاقتصادية، ولتطور القطاع الذي يلبي حاجتها في مناخات سياسية واجتماعية وتشريعية مناسبة تضمن ضخ الأموال-الثروة-لتلك العناصر، فأخضعت ومن خلال مواقعها في السلطة السياسية، القطاعات الاقتصادية تلك، لهذه الوظيفة-أي الربح وتكديس الثروة-الأمر الذي أدى إلى تخلف تلك القطاعات لمصلحة هذه فأصبح نمط الاستهلاك هو النمط السائد، وتمهدت السبل أمام نمو أجنحة برجوازية سرعان ما دخلت في صراع ونزاعات بغرض إيقاف التغييرات الاقتصادية والاجتماعية وذلك بالتخلي عن، ثم تدمير، الأساس المادي، للمنظمات والنقابات المهنية خاصة العمال والفلاحين والفئات الثورية والديمقراطية من البرجوازية الصغيرة، برشوة عناصرها ورموزها القيادية والفاعلة، بتقديم التنازلات (المادية) غالباً، لدمج هذه المنظمات في بنائها الذي شرعت فيه على التو، وفي نفس اللحظة ضرب وعزل العناصر الثورية والديمقراطية، وبالتالي ضمان الهيمنة على الجماهير الشعبية من جهة أخرى.
الانفتاح والأزمة الاقتصادية: وهكذا فقد جاءت سياسة الانفتاح، لتوسع (قياس) القطاع الاقتصادي المضمون الربح، وتخضع بقية القطاعات الأخرى لاحتياجاته، محددة في ذلك الطبيعة الطبقية الاجتماعية السياسية، للأجنحة التي انتصرت في الصراع واستحوذت على السلطة السياسية، لتزداد هذه الأجنحة ثروة وغنى، في الوقت الذي يزداد فيه الشعب فقراً، موظفة في ذلك الظروف السياسية والاجتماعية، والفكرية...إلخ. فسياسة الانفتاح، على علاقة بالسياسة الاقتصادية السابقة، التي لم يكن في مقدورها التخلص من-التبعية والتخلف والقطرية، وقادت إلى خراب الريف وتحوّل الفلاح إلى فقير مدينة، وانتشار البطالة، حيث أدت إلى نتائج خطيرة، على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فقد جرى تجويف التحالف مع (العمال والفلاحين والكادحين عموماً) والقيام بتواطئ طبقي من خلال إجراءات: رفع الأجور، الضمانات الصحية والاجتماعية والتعليم، ولقد ترتب على هذه الإجراءات تناقض في حجم الأرباح، عوض عنه، بطباعة المزيد من أوراق البنكنوت-التضخم المالي، بالتساوق مع ارتفاع جنوني في الأسعار وتدني القدرة الشرائية للجنيه، وتآكل الارتفاع في الأجور بسبب ذلك وازدادت الهجرة من الريف إلى المدينة، وازدادت نسبة أعداد الأيدي العاملة، الأمر الذي هدد-ويهدد-بإنفجارات شعبية، فالأزمة الاقتصادية تكمن في البنية الاقتصادية، (في التبعية والتخلف والتجزئة) وما السياسة الاقتصادية سوى تعبير عن مصالح من تخدمه تلك البنية. وهي قطعاً هنا ليست الجماهير الشعبية، وتأتي سياسة الانفتاح لتخدم بالإضافة إلى ذلك فئات وعناصر معينة، وهي بالتالي استسلاماً لمصالح تلك الفئات والعناصر (من داخل البنية) ذاتها، وذلك لتسهيل حركة انسياب الثروة لهذه الفئات وتؤكد في الوقت عينه، على اندماجها في البنية الاقتصادية للنظام الإمبريالي، وهي بالتالي سياسة لم تقم على أرضية الاستقلال بالسوق (القطري أو القومي) وإنما تهدف الاستحواذ على الأرباح واحتكار الثروة، والاهتمام بالقطاع الاقتصادي الذي يوصل إلى هذا الهدف وعلى حساب القطاعات الأخرى، وترافق ذلك مع صراع (داخل هذه الفئات وتحالفاتها) ليس في مصر وإنما في الوطن العربي كذلك، مما أفسح الطريق أمام الفئات والعناصر الأكثر حركة ونشاطاً لتشكل أجنحة طبقية جديدة تعمل على فك التحالفات السابقة وتنقلها إلى تحالفات طبقية جديدة، محلياً وعربياً ودولياً تحالف جديد محكوم لشروط وظروف الاقتصاد الإمبريالي تحالف ذا صبغة (قومية) ثم مع الاحتكارات العالمية ومن موقع (التبعية والتخلف والتجزئة) تحالف طبقي فريد، ليس تحالفاً (قطرياً) فحسب نظراً لتشابك المصالح بين الأجنحة الطبقية التقليدية والحديثة للبرجوازية العربية، الذي سيدفع إلى إيجاد السبل والوسائل لضمان سهولة حركة رؤوس الأموال، وحماية الاستثمارات ويفرض تعاوناً فيما بين تلك الأجنحة، تعاوناً مدعوماً من الخارج، ولخدمة الخارج أيضاً ومراقباً من قبله دون إن يحقق هذا التعاون الشروط والظروف الضرورية لتطور الاقتصاد العربي بشكل عام (آنياً) وليبقى على أرضيته التاريخية-التبعية-التخلف-التجزئة-ذلك إن الإنتاج-في هذه الاستثمارات-لا يستهدف السوق العربية وإنما لتصدير بضائع ومنتجات رخيصة الثمن للدول الإمبريالية واستيراد التكنولوجيا والمنتجات-الكمالية-لتصريفها. ويتم ذلك تحت ستار شعارات براقة مخادعة، وإعادة تلميع دور القطاع الخاص والاستثمارات المالية الكبيرة، فجاءت سياسة الانفتاح مغلقة بالأضاليل والخدع لتؤدي هذه الوظيفة، وتحقق سلسلة من التراجعات ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب وإنما على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والعسكرية..إلخ، داخل مصر والوطن العربي كله، ولتعبر هذه السياسة عن مدى اندماج هذه الأجنحة في النظام الإمبريالي وتبعيتها له، وعن نجاحها في تصفية تحالفاتها السابقة، لضمان سيطرتها ومصالحها من جهة، وعن طبيعة تحالفاتها الجديدة من جهة أخرى. ماذا يعني ذلك: إنه من جهة يعني، إن التعاون العربي-الأجنحة البرجوازية التقليدية والحديثة-آخذ في الازدياد والتوطد، والالتفاف حول الأجنحة الأكثر ثراءاً، لتقود هذا التعاون، والأمر الثاني، إن حركة رؤوس الأموال، ستؤدي إلى توسع في الاستثمارات، وتعاوناً فيما بينما بينها (قطرياً-قومياً)، في جهة واحدة تفرضها المصلحة-أي مصلحة المال-وهذا يتطلب تعاوناً أوسع لضمان أمن وسلامة المال وسهولة تنقله وحركته، وفرض تشريعات وقوانين تضمن الربح، والذي هو الهدف الوحيد للمال وتعميم سياسة اقتصادية-واحدة في جوهرها-لضمان ذلك. وهو يعني من جهة أخرى، توسيع قاعدة الفقراء-الكادحين، بانتقال أعداد جديدة من صغار ومتوسطي المستثمرين في عقر أقطارها نتيجة منافسة-الاستثمارات المالية الضخمة-واغتصاب قوة العمل، وتدمير الفقر والبطالة والغلاء، وستندلع انتفاضات شعبية مطلبية ويعني من جهة ثالثة، إن التحركات ومجموع النضال السياسي للقوى والأحزاب الوطنية العربية يجب إن تواكب حقائق الواقع، وتنفض عن كاهلها، الأفكار والأشكال القديمة في النضال والعمل، تلك الأفكار والأشكال التي عفى عليها الزمن، وتناضل في سبيل، وحدة كل القوى العربية، الوطنية والديمقراطية والتقدمية، لمواجهة متطلبات النضال، والذي تقف فيه قوى اجتماعية زطبقية، ليست قطرية بأي حال من الأحوال، فالقوى الوطنية هي المستهدفة مجتمعة والجماهير العربية كلها تعاني من الاستغلال والاضطهاد والقمع من ذات القوى الواحدة والمتعاونة والمتحالفة، لقمعها وسحقها، وحيث إن الواقع، هو الذي يفرض ذلك. فوحدة القوى المعادية، مائلة للجميع، على كل الأصعدة، هذه الوحدة، هي ضد الجماهير العربية، لا على جزء منها أو فصيلة فقط ولمصلحة مالكي الثروة العرب، في السلطة وخارجها فإن من البديهي أيضاً، إن تواجه الجماهير العربية، وقواها السياسية والوطنية حلفتاً بحلف أقوى منه، وجبهة، بجبهة أمتن وأصلب، ولن يتسنى لها ذلك-بأقل ما يمكن من التضحيات والوقت-إلا بوحدتها والرقي إلى مستوى متطلبات المرحلة. فالنضال القطري ليس إلا وهم أو هروب من المواجهة. فكما إن تحقيق الاستقلال الاقتصادي واستكمال الاستقلال السياسي لن يتم إلا بمشروع عربي متكامل، فإن من باب أولى، جمع شمل القوى والفئات صاحبة المصلحة في النضال دون أبطاء، ما دام هناك متسع من الوقت. إن الجماهير العربية، ستدرك-وهي تدرك أكثر من أي وقت مضى-إن كل مصائبها، نتيجة لأنها سلمت أكتافها لكل من هب ودب، ومن خلال تجربتها المريرة، والدماء التي ستسيل من جراحها ستحرك كتفها لتسقط كل المتسلقين بالصدفة لتدوسهم بأقدامها. هذا هو منطق التاريخ والواقع، وهذه هي دروس التاريخ، ولن تنتظر جماهير أمتنا، كل أعمى أو-أعور-ولن ترى غير مصلحتها، وعلى من ينادي ويطالب بمصلحة الجماهير عليه أن يكون في مقدمة المدافعين عن عودة الجماهير إلى ميدان المعركة، وكل ما من شأنه أعاقة هذه العودة يجب أزالته فوراً والقضاء عليه الآن، والآن دون تردد، فلا الإصلاح والسياسة التوفيقية نافعة ولا التوقيع والتحايل مجدياً، فلا خلاص لشعبنا إلا بشعبنا، والقضاء على كل معوقات خلاصه مهما حاولت هذه المعوقات التستر وراء الشعارات واليافطات المنمقة. وأخيراً، فإنه يعني، إن أي تغيير في العمليات الداخلة للسوق-ومراكمة الثروة ومهما كان هذا التغيير هامشياً فلن يتعدى كونه تحسين شروط تراكم الثروة، والتحالف الجديد وإن جاءت في غير ذلك ولو-للحظة-ولو لتعديل شكل ما، فإن التحالف الجديد سيطيح فوراً بمن يقف خلف هذا العمل، ويمحي ما يترتب على ذلك من آثار، ربما تعمق شروخ هذا التحالف وهذا الأمر لا يجب السماح به الآن، وفي هذا السياق، جاء التراجع السريع والصاخب عن قرارات وتعليمات، اتخذها وزير الاقتصاد المصري السابق، وهي قرارات لم يكن في مقدورها-ولا من أهدافها-وقف هذه العمليات ولا حتى حصرها، فالمطلوب عكس ذلك تماماً، في الجوهر والشكل، المطلوب نهضة شاملة، وتحرر من التبعية، واستقلال تام لا في المجال السياسي وحسب بل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية وهذه ليست من مهام التحالف الحاكم، إنها مهام الجماهير الشعبية وقواها الثورية، وهذه المهام على قدر كبير من التعقيد ولا بد من القيام بها، والتخلص نهائياً، من هذه التركة الثقيلة، واعتماد برنامج للصراع ضد هذا التحالف وضد محاولات الانتهازية والجمود العقائدي لقلب كل النظام الاقتصادي والإطاحة بالأشكال والظروف السياسية المتعفنة. 15 حزيران 1985
الخيار الوحيد للنظام السُوداني
(الوقت ليس مبكراً لمعرفة خيار النظام في السودان، ما دامت الخيارات أمامه محصورة أما في الخيار الوطني الثوري أو في الخيار اللا وطني، ولا يملك النظام أية إمكانية يتحكم فيها بأحد الخيارين، بل هو ملزم بأحدهما، يحدد ذلك جملة من الظروف والشروط الموضوعية والذاتية والتي يمكن الحكم على الخيار المرجح، من خلال رؤية هذه الشروط والظروف ووعيها). فكل سلطة سياسية، تقوم على وظيفة اقتصادية واجتماعية محددة، وليس أمامها غير واحد من خيارين اثنين: الأول: الخيار الوطني الثوري، وفيه تبذل السلطة السياسية كل جهودها (المحلية والقومية والدولية) لبناء الأسس القوية لتطور اقتصادي اجتماعي سياسي، يهدف إلى مشاركة الجماهير الشعبية في السلطة والبناء تمهيداً لتسليمها الحكم في الوقت والشروط المناسبة. الثاني: إن تنصب هذه الجهود في سبيل رصف البناء، لتصفية الحلفاء الحاليين، وفي سبيل امتلاك -الاستحواذ-على السلطة السياسية، كهدف في حد ذاته، ليس كإطار عمل مؤقت، بل كشيء ثابت فوق الجماهير، وتوظيف هذا للاندماج في البنية الاقتصادية الاجتماعية السياسية السائدة، وفرض السيطرة على الحركة الشعبية والسياسية لهذا الاندماج، فتجيد التحالفات معها لذلك. وهكذا تفقد السلطة السياسية سمتها الوطنية، ولن يكون أمامها إلا خيار (التبعية-التخلف-التجزئة). إن الأخذ بالخيار الأول، الخيار الوطني الثوري، يتطلب، خلق الظروف والشروط المؤدية إليه من خلال تحقيق ثورة زراعية صناعية، تأتي من الجماهير الشعبية ولمصلحتها الحيوية، وتفترض تحالفاً وثيقاً بين الفلاحين والعمال والفئات الثورية والديمقراطية من البرجوازية الصغيرة، لتحقيق تحولات عميقة وجذرية في بنية المجتمع. فعلى الصعيد الاقتصادي العمل على تطوير الاقتصاد الوطني، والمحافظة على استقلاله عن الاقتصاد الإمبريالي الرأسمالي، وذلك من خلال. 1-التضييق على الرأسمال الأجنبي، والبرجوازية الكومبرادورية، والبرجوازية الصناعية والتجارية بالتقييد الاقتصادي. 2-تطوير القطاع العام، وتحويله إلى سند حقيقي يؤثر في تطوير وبناء الاقتصاد. 3-القضاء على الاحتكارات الأجنبية، والمتعددة الجنسية. 4-اعتماد سياسة التكامل العربي استراتيجياً. 5-تحقيق جملة أهداف ذات علاقة اجتماعية منها: أ-منع عملية تركيز الرأسمال وتمركزه في يد فئات وعناصر معينة، وأضعاف هذه الفئات والعناصر. ب-منع إخضاع الفلاحين للبرجوازية. جـ-وضع أسس الإنتاج الضخم في المجالات الاقتصادية المختلفة، ورسم خطة اقتصادية شاملة. د-تمتين التحالف بين العمال والفلاحين والكادحين عموماً لمنع البرجوازية من الاستئثار بالسلطة السياسية وإفشال محاولات الرجعية المحلية لإرجاع عجلة التقدم، وللدفاع عن المكتسبات الشعبية في وجه النوايا العدوانية الرجعية العربية، والإمبريالية والصهيونية. وفي المجالات الاقتصادية المختلفة: في الزراعة: لا بد من تطبيق الإصلاحات الزراعية لصالح الفلاحين وبمساهمتهم، وتصفية العلاقات الرأسمالية والإقطاعية البالية، والقضاء على الاحتكارات المحلية والإمبريالية والمتعددة الجنسية، ووضع الحلول للمسألة الزراعية، واستغلال الأراضي الزراعية حتى آخر هكتار، واستصلاح أراضي جديدة، وتعتمد على الملكية الجماعية للأرض، وإقامة الإنتاج الزراعي الكبير وهذا يتطلب تأمين الأرض ووضعها في يد جماهير الفلاحين الفقراء مع رعاية صغار ومتوسطي الملاك الزراعيين كحلفاء، وإقامة شبكة موصلات حديثة ومتطورة تربط كل أنحاء البلاد، ومع المحيط العربي، وإنشاء نظام للري والصرف وتشجيع تربية الماشية والدواجن...إلخ. إن الهدف الاقتصادي والاجتماعي من ذلك هو: 1-القضاء على قاعدة البرجوازية في الريف، لأضعافها وشل يدها. 2-توفير فائض إنتاج زراعي، يكون ركيزة البناء الصناعي والتجارة. 3-تهيئة أفضل الشروط لتحالف فلاحي عمالي، بين الريف والمدينة. وفي الصناعة: بناء وتطوير الصناعات المرتكزة إلى فائض الإنتاج الزراعي والثروات الطبيعية، وقطع علاقات التبعية مع الاقتصاد الإمبريالي، واعتماد الأسلوب الاشتراكي في الملكية والإنتاج بتوطيد العلاقة والتعاون مع المعسكر الاشتراكي، وإتباع سياسة متوازنة بين الريف والمدينة وذلك بهدف: تهديم علاقات الإنتاج القائمة لأنها عائق حقيقي أمام تطور القوى المنتجة. 1-تطوير علاقات الإنتاج من خلال طبيعة الملكية؟ 2-تطوير قوى الإنتاج برصف صفوف الطبقة العاملة. 3-تطوير وتعميق التحالف بين الطبقة العاملة والفلاحين. حيث أن التطور الزراعي يقدم الأساس المادي الضروري للصناعة، ولتحقيق ذلك تلعب الفئات الثورية من البرجوازية الصغيرة دوراً أساسياً وفاعلاً، موسعة بذلك القاعدة للتحالف الطبقي من جهة، ومبرزة دور الطبقة العاملة الريادي والقيادي. 4-محاربة الاحتكارات الأجنبية والمتعددة الجنسية والقضاء عليها، بضرب قاعدتها الاجتماعية المحلية البرجوازية الكومبرادورية والصناعية) ومصادرة أملاكها بلا تعويض. وفي التجارة: التقييد التجاري لمنع مراكمة ونمو الثروة لفئة بعينها ومنع تكتلات احتكارية مرتبطة بالرأسمال العالمي. إن هذا كله يوفر أكثر الظروف ملائمة وأهم الشروط الضرورية لتصفية كل آثار الماضي الموروث عن المرحلة السابقة، والماضي الاستعماري، ويعزز القوى الثورية والديمقراطية، ويقوي معسكر الثورة . ذلك إن عملية التغييرات الاجتماعية الملازمة لذلك، تزيد من التفاوت والتناقض بين الجماهير الشعبية وقواها الديمقراطية والثورية من جهة وبين الإمبريالية والقوى الرجعية والفئات والعناصر المتذبذبة من جهة أخرى. ويجب التأكيد على حقيقة أساسية وجوهرية، نظراً لتشابك النضال في سبيل الاستقلال السياسي والاقتصادي مع النضال ضد الاحتكارات الأجنبية والمتعددة حقيقة أن السودان جزء من وطن واحد، وبأن الصراع في أي جزء من أجزاء الوطن لا تستهدف هذا الجزء فحسب وإنما الوطن كله، ويأتي كامل الخيار الوطني في جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومن أساسه (البعد القومي) والقضية القومية. إن الخيار الوطني الثوري، هو وحده يولد إمكانيات إعادة بناء الواقع والمجتمع ليس في السودان فحسب وإنما في الوطن كله. أما على الصعيد السياسي والديمقراطي: فإن الجماهير الشعبية وحدها، هي التي أسقطت الطاغية، وهي وحدها القادرة على انجاز التغيير الثوري، في البنية الاجتماعية والاقتصادية. فمن الطبيعي إذن إن يجري حثيثاً وضع الجماهير على طريق هذا الخيار وإطلاق يدها في ذلك دون وصاية من أحد، وتنحصر مهمة السلطة السياسية والأحزاب والقوى الوطنية في خلق الإمكانيات وتوفير شروط صعود شعبي يستند إلى الديمقراطية الاجتماعية والسياسية، ديمقراطية السلطة وأجهزتها، وتعزيز الحركة الشعبية وبناء مؤسساتها البديلة للسلطة، وأحياء الثقافة القومية وتطوير التقاليد الثورية. واستلام الجماهير الشعبية السلطة السياسية يعني تنظيم هذه الجماهير، وبناء تحالفاتها المحلية والقومية والعالمية، ووضع القضية العربية في جوهر العمل السياسي والديمقراطي، هذه القضية التي صنعتها الجماهير العربية طيلة تاريخ مليء بالنضالات، وهي قضية من صلب الخيار الوطني الثوري وفي سياقه فلا يمكن تحقيق الخيار الوطني إن لم يكن كذلك، وأي شيء لا يأخذه بعين الاهتمام، إنما هو خيار غير وطني، ومن خارج حركة التاريخ والواقع والتقدم. هذا هو الخيار الأول والذي يفترض سلسلة من القوانين والإجراءات تبدأ بحل مشكلة الجنوب وتنتهي بتسليم السلطة للجماهير الشعبية. أما الاستئثار بالسلطة من دون الجماهير، والانقياد إلى ما هو واقع قائم، والاتكاء على الحركة الشعبية في إدارة الصراع لترتيب مكاسب واهية، إنما هو اغتصاب للجماهير، فقد سبق إن أسقطت الجماهير السلطة في السودان وفي غير السودان ولم يتبع ذلك الأخذ بالخيار الوطني. فاغتصب حاكم السلطة في مكان حاكم، وأقام سلطة قمعية مكان أخرى وسحقت الحركة الشعبية، وظهرت الحقيقة لمن توهم خيراً وآمن بالأقوال والشعارات إنه سيكون الضحية الأولى لهذا النظام. ماذا يجري في السودان إذن؟ بدون تردد يمكن القول، أن النظام يعمل على الحفاظ على البنية الاقتصادية والاجتماعية السابقة. وهو غير قادر على غلق أبواب النهب الأجنبي، وإنما يسعى إلى الحفاظ على الاحتكارات الأجنبية والمتعددة الجنسية قاضياً بذلك على أية إمكانية لقيام صناعة متطورة مستندة إلى فائض إنتاج زراعي الأمر الذي يقود رأساً إلى اندماجه في البنية الاقتصادية الاجتماعية السياسية (الحاكمة) في الوطن العربي. وفي النظام الإمبريالي، مؤكداً على اندماجه سياسياً (علاقات مع القوى المحلية وابتعاده عن الجماهير الشعبية والعمل من وراء ظهرها-علاقات مع الأنظمة والقوى الرجعية العربية (السعودية-مصر) واقتصادياً واجتماعياً، وسينتهي به الأمر إلى توظيف (وثبته) على السلطة لخدمة هذه البنية التي لا تختلف في جوهرها عن بنية النظام السابق، بعد إن يضمن سيطرته على الحركة الشعبية. وسيعمد النظام إلى توظيف الظروف السياسية والاجتماعية الراهنة لخدمة تحالفاته الإستراتيجية مع القوى والفئات والطبقات الرجعية محلياً وقومياً وعالمياً. وهكذا فإن تناقضه مع الجماهير الشعبية والقوى الوطنية والديمقراطية مسألة وقت ليس أكثر، الأمر الذي يجعله أكثر ميلاً للأخذ بالخيار اللا وطني، لأن هذا الخيار لا يفترض تصادماً مع القوى الحاكمة والرجعية في الوطن العربي، ومع الإمبريالية والصهيونية، ولا يجعله أكثر التصاقاً بالحركة الشعبية ليشركها في كل شيء. وهكذا فقد تحدد خيار النظام من اللحظات الأولى التي وثب فيها إلى السلطة وهو الخيار الأسهل، والأنسب . ولم يطل الأمر بالنظام ليكشف عن خياره هذا. فعلى الصعيد الاقتصادي، نجد إن النظام السوداني، ليس ضد الاحتكارات الأجنبية والمتعددة الجنسية، ولكن يشترط إن لا تستخدم هذه الاحتكارات أي أدوات أو معدات من منشأ "صهيوني" فقط وجاءت أول زيارة يقوم بها (سوار الذهب) إلى السعودية دون سواها مؤكداً على الجانب السياسي من خيار النظام، وهذه الزيارة بالإضافة إلى ذلك جاءت في سياق تطمين أصحاب رؤوس الأموال على مصالحهم في السودان، وتأكد هذا الجانب بزيارة (مبارك) إلى السودان، ونهج النظام السوداني الذي أكد عليه في مجال علاقاته العربية والذي يتخلص في إنه لا يمكن إقامة علاقة مع أي قطر على حساب العلاقة مع قطر آخر، وهذا يعني أخذ خط يمسك بالعصا من منتصفها، فهو مع إقامة العلاقات مع نظام _حسني مبارك) وفي نفس الوقت مع باقي الدول العربية. وعلى الصعيد الداخلي، لم يعر أهمية للجماهير الشعبية. وقبوله بتشكيل الوزارة (الخالية من هذه الجماهير) مناورة مكشوفة، والنظام لم يتمكن من وضع حل لمشكلة الجنوب على الرغم من اشتراك العديد من القوى الوطنية والسياسية في السلطة السياسية. وعلى صعيد الجوع لم يتخذ النظام (وشركاؤه الحاليين) أي خطوات جدية على طريق أحداث التغييرات الاجتماعية والاقتصادية للنهوض بأحوال الجماهير. إن كل هذه المؤشرات وغيرها، تجعل من الصعب على المواقب، التردد في تحديد الخيار الوحيد اللا وطني أمام النظام في السودان، فتطوير الزراعة يتطلب المال والوقت، فالمزارع الكبيرة تحتاج إلى مواصلات، طرق، وسكك حديدية، والسودان على اتساع مساحته ليس له سوى ميناء واحد يبعد حوالي (1000كلم) عن الخرطوم ولا يوجد في البلاد سوى خط حديدي واحد يستخدم في نقل البترول، ولا يوجد سوى خط أنابيب مدّ سنة 1975 بمحاذاة الخط الحديدي. والبنية الاقتصادية، بنية تابعة تفتقد إلى التجهيزات، فالدين يحتاج إلى دعم لتسديد فوائده، والسودان في حاجة إلى قروض ضخمة، لإقامة الطرق والمشاريع الاستثمارية ولكن أهلية القروض انخفضت، وليس هناك أي مناخات مشجعة لجهة الأقراض أو استمرار المشاريع، الأمر الذي يترك أثراً سلبياً، ويدفع النظام إلى تقديم المزيد من التنازلات لتلافي المجاعة والقحط وسداد الديون، في مقابل، استمرار المعونات الأمريكية والأوروبية والمساعدات المالية العربية، وتدفق القروض. فليس أمامه إذا إلا الخيار المحدد، والحقيقة لا يوجد إلا خيار واحد لا غير وهو الخيار الذي يفرض شروطه وظروفه، وليس أمام النظام إلا الانقياد له، خاصة وإن القوى المشاركة في السلطة، لن تستطيع أحداث التغيير المطلوب دون إن نبني القوى المناسبة والقادرة على أجبار النظام على التراجع، والتنازل عن خياره، بنضال يستند إلى قوى جماهيرية شعبية مؤهلة وترى مصلحتها بدقة، خاصة في الظروف المعقدة التي يجري فيها الصراع وتجعل من الصعب تحديد الخط الفاصل بين الفهم الثوري والفهم الإصلاحي. إن إدراك ما يجري يتطلب إدراك المصلحة الطبقية لهذا الموقف أو ذاك، لهذا الحزب أو ذاك بغض النظر عن الشعارات المرفوعة. لذلك فإن التعاضي أو التريث في الاندفاع نحو الجماهير الشعبية، دون تريد، هو المقياس الدقيق لتحديد من مع هذه الجماهير لمصلحة التغيير ومن يمتطي ظهر هذه الجماهير من خلال الكيفية التي بدار فيها الصراع بإبعاده وجوانبه المختلفة. فإن كان لإيجاد مكان منعزل في السلطة السياسية وحسب فهذا يجعله خارج المصلحة الشعبية. إن تشكيل الجبهة الواسعة التي تضم كل القوى والشخصيات والنقابات، ودون استثناء أحد والقائمة على أساس، اشتراك الجماهير الشعبية وحفز نضالاتها الضمانة الأكيدة والوحيدة لفعل التغيير، والقيام بالتحولات العميقة والجذرية. وغير ذلك لن يكون أكثر من ستارة تخفي خيار النظام الحقيقي. 1 تموز 1985
في السودان: النظام الجديد يعيد إنتاج النظام القديم والمطلوب تحقيق الثورة الديمقراطية
بعدما يقرب من أربعة أشهر من انتفاضة السودان، وسقوط جعفر نميري، ثارت الإشكالات من جديد، ويبدو أن الأمور تسير نحو انفجار جديد. فالنظام الجديد، لم يحلّ المشكلة الأساسية التي تعاني منها الجماهير السودانية، وهي مشكلة الفقر، كما أنه لا ينوي حل مشكلة أساسية أخرى تهم قطاعات عديدة من الجماهير، وهي مشكلة تأسيس "النظام المدني"، ولهذا حدثت انفجارت في أكثر من موقع، بين الجماهير والنظام، بين مجلس الوزراء والمجلس العسكري، وبين تجمع النقابات والأحزاب والمجلس العسكري. فالنظام لم يستطع خلال الأشهر الأربعة المنصرمة، إيقاف التدهور الاقتصادي، ولا مواجهة مشكلة الجوع، وهو أساساً لم يقدم التصور المناسب لذلك، حتى أن بعض الصحف أشارت إلى أن النظام الجديد متهم أساساً بتثبيت سلطته أكثر من اهتمامه بالمشكلة الاقتصادية. وكل ما فعله، هو استجداء دول الخليج، والبنك الدولي، وهي السياسة ذاتها، التي يتبعها جعفر النميري. إضافة إلى أنه لم يستطع مواجهة موجة الجوع التي طالت حوالي 11 مليون شخص، وهو أساساً لم يخفض أسعار المواد الأساسية، ومن بينها الخبز، التي هي السبب المباشر لانتفاضة 6 نيسان الماضي. لهذا أضرب العاملون في قطاع المصارف، مطالبين بإلغاء سيطرة البنك الدولي على السياسة الاقتصادية للسودان، ومطالبين أيضاً بتخفيض أسعار السلع الأساسية، وطرد الموظفين الفاسدين. وبعدها أضرب سائقي السيارات. وتحدثت صحيفة "الميدان" الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوداني، عن تمرد طال بعض قطاعات الجيش. إن ما يجري اليوم يؤكد على أن المجلس العسكري الانتقالي الحاكم، ليس معنياً بمشكلة المشاكل في السودان، وأنه يعيد إتباع الطريق الذي سار عليه جعفر نميري، وهذا يعني أن جوهر المشكلة التي أدت إلى انتفاضة 6 نيسان الماضي لازال قائماً. في المقابل، تزايدت الصراعات بين مجلس الوزراء، وخصوصاً الوزراء الممثلين لتجمع النقابات والأحزاب، وبين المجلس العسكري الانتقالي، حول قضية تسليم المدنيين السلطة، أو بشكل أدق دور هذا المجلس العسكري الانتقالي، سبباً كافياً لتفاقم الأزمة، فهذه المسودة تعطي المجلس العسكري كل الصلاحيات، فهو "السلطة الدستورية". و"يختص بأعمال السيادة، وتؤول إليه القيادة العليا لقوات الشعب المسلحة، ويمارس السلطة التشريعية، بالتشاور مع مجلس الوزراء"، وهو الذي "يتخذ القرارات"، بمشورة مجلس الوزراء. أما مجلس الوزراء، فيكون "مسؤولاً مسؤولية تضامنية أمام المجلس العسكري الانتقالي"، ويقدم المشورة للمجلس العسكري.. وهو الذي "يجيز" مشروعات القوانين، وله الحق في إعلان حالة الطوارئ، وتعديل الدستور، وتعيين القضاة الأساسيين...، أي باختصار، يكرس سلطة المجلس العسكري، ويلقي تعهداته بتسليم السلطة للمدنيين. لهذا رفضها التجمع، ولقد أعلن رئيس الوزراء، الجزولي دفع الله، أ،ه يشك في إمكانية تسليم المجلس العسكري السلطة للمدنيين. وهذا يعني، المحافظة على السلطة الشمولية للعسكر. وبالتالي فإن الخطوات المتخذة إلى الآن، تشير إلى أن النظام الجديد، يعيد إنتاج النظام القديم، وهذا ليس غريباً، فقد جزمنا في ذلك منذ تسلّم العسكريين السلطة (الانطلاقة الأعداد 156, 157، تاريخ 15 نيسان و1 أيار 1985)، منطلقين من طبيعة العسكر عموماً، ومن كون عسكر السودان، أتوا من صلب النظام السابق. وها هي الخطوات المتخذة تؤكد ذلك. إن مشاكل الجماهير السودانية لم تحلّ بعد، فأولاً هناك الأزمة الاقتصادية العميقة، التي لن تحلّ إلا بإتباع طريق جذري، يقوم على أساس إلغاء التبعية الاقتصادية السياسية، وبالتالي السعي لتأسيس اقتصاد محلي، يزيد من تراكم الدخل القومي، ويمنع هروبه للخارج. وثانياً. هناك الأزمة السياسية، أزمة السلطة، وهذه لن تحلّ إلا بتأسيس نظام ديمقراطي. وثالثاً، هناك قضية الجنوب، التي لن تحل أيضاً إلا بإعطاء الحكم الذاتي الحقيقي لسكانه. وهذا لن يتحقق إلا بتطوير الانتفاضة وتجذيرها، ولن يتم ذلك إلا حين تلعب القوى الثورية في السودان دوراً رئيسياً في الصراع، متحالفة مع كل القوى الوطنية والديمقراطية. فالأزمة عميقة، ويحتاج حلّها لاختيارات حاسمة، فإما أعادة إنتاج النظام القديم، وهذا ما يكرسه النظام الحالي، كما يمكن أن تكرسه بعض أحزاب المعارضة، (ومنها حزب الأمة، وحركة الأخوان المسلمين..)، أو تحقيق الثورة الديمقراطية بكل إبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذا لن يتحقق إلا حين تلعب القوى الثورية دوراً رئيسياً. إن السودان على مفترق، ونحن ندعو القوى الثورة لكي تطور الانتفاضة، وإن تعمل على مهمات انجاز مهمات الثورة الديمقراطية. 1 آب 1985
مصر الأزمة الاجتماعية وحدود التفاؤل على الرغم من أن حسني مبارك حاول أظهار تمايز عن سلفه المقبور في تعاطيه مع القضايا الرئيسية في مصر، في المجالات الاقتصادية والأمنية والسياسية، إلا إن هذا التزوير سرعان ما انكشف. واتضحت طبيعة النظام المصري بوصفه تعبيراً عن إرادة الفئات والطبقات مالكة الثروة. فمن جهة، تعددت خيارات هذه الفئات والطبقات والتي أملت جملة سياسات النظام، إن على الصعيد الاقتصادي، بإنتاج السياسة الاقتصادية التي أدت إلى الارتهان للاقتصاد الإمبريالي، وتقي جزء مهم من أزمته العامة، فتوثقت التبعية، وفتحت أبواب مصر أمام النهب الإمبريالية، ووجهت ضربات قوية إلى مرتكزات الاقتصاد الوطني، وأصبحت مصر تعاني من ديونها الخارجية، وفي حالة عجز مالي يتضخم باستمرار، وخضعت بالتالي لتوصيات الاحتكارات المالية العالمية، الأمر الذي انعكس سلباً على مستوى المعيشة للجماهير الفقيرة والكادحة، وأصبحت أزمات السكن والتغذية والخدمات، أزمات مزمنة، ومترافقة مع انتشار الفقر والجوع والمرض وتفشي ظواهر خطيرة، تهدد المجتمع المصري برمته، حيث صار التشرد والدعارة والانتماء إلى العصابات، من أكثر الظواهر بروزاً. هذا في الوقت الذي تتكدس فيه الثروة ورؤوس الأموال بين يدي حفنة من الناس. ومن جهة أخرى، فقد تعمقت أزمة الديمقراطية العامة. وارتدى الإرهاب الرسمي والسياسي والثقافي إشكالاً خطيرة، فمن قانون الطوارئ، والأحزاب إلى الاعتقالات وقمع التحركات الشعبية بالقوة. ومن جهة ثالثة، فإن الخيار السياسي قد تحدد بالارتهان للإمبريالية العالمية، وعلى حساب المصلحة الوطنية والقومية، والانخراط فعلاً في المحور الإمبريالي الصهيوني الرجعي العربي، ومن هنا تأتي خطوات النظام لتؤكد حرصه على التزاماته تجاه الكيان الصهيوني، ومشاركته في المناورات الأمريكية دليل آخر على انخراطه في السياسة المعادية للشعب العربي والقضايا المصيرية. وانحيازه إلى أعداء الأمة. الأزمة الاجتماعية تجذر النضال: لقد أسهمت هذه الخيارات، في أحداث تغيير في التركيبة الاجتماعية المصرية. صحيح إنها كانت في قسم منها لمصلحة الفئات والطبقات مالكة الثروة، حيث أتاحت لها ممارسة المزيد من النهب الداخلي، ومراكمة الثروات والأموال، والتحكم في مجالات الحياة اليومية للشعب المصري، في المدن كما في الأرياف، إلاّ إن هذه الخيارات عينها كانت أيضاً لمصلحة عملية التطور في الجانبين السياسي والاجتماعي. لقد قذفت هذه الخيارات بإعداد متزايدة من الريف إلى المدن، وفصلت بذلك بين الفلاح وأرضه، كما وأنها أجبرت أصحاب المهن إلى ترك مهنتهم وصرهم، وبالتالي فصلت بين العامل وحرفته. وحيث إن هذه الخيارات تتميز في جانب من جوانبها بخلق وظائف عديدة لخدمتها غير إن هذه الوظائف، بالإضافة إلى وظائف مؤسسات السلطة، لا تستوعب إلا نسبة ضئيلة من خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس الثانوية. موسعة بذلك القاعدة الاجتماعية للفقراء والكادحين الذين لا يملكون أي نوع من وسائل الإنتاج، ويعرضون قوة عملهم للبيع. ويزداد وزن هذه القاعدة الاجتماعية كما، بانضمام الانتلجنسيا إليها. وتشكل هذه القاعدة الهياكل الأساسية لقوى الثورة، فهم يعيشون في ظروف متشابهة، ومصالحهم متطابقة. إلاّ إن هذا وحده لا يكفي لخلق علاقات مشتركة واحدة وتنظيم سياسي يمثلهم، لذلك فهم عرضة لشتى أنواع الأحابيل الثقافية والسياسية. غير أن الخيارات عينها، ستدفع إلى وحدتهم أكثر، وسيتلمسون طريقهم/ من خلال التجربة، نحو وحدة العلاقات فيما بينهم، وبالمقابل فإن الطبقات والفئات مالكة الثروة، ليست طبقة محددة تربطها مصالح وعلاقات مشتركة، ولا تجمعها ظروف إنتاج محددة، بل هي عبارة عن كبار الموظفين والضباط والمحامين والكتاب والتجار الذين سارعوا للركوع أمام الأجنبي، وتركوا البلاد عرضة للأخطار، فهذه الفئات لم تنتظم وتتحدد مصالحها، وبالتالي، لا تبدو سيطرتها السياسية كسيطرة طبقة متحدة واحدة. فإن الصراع بينها كطبقة وبين الطبقات الأخرى لم تتضح، معالمه بعد، ولم يأخذ سمة التناقض الطبقي والاجتماعي الخالص. صحيح إن هذه الفئات مهلهلة ومتفككة، غير غنها سرعان ما تتحد أمام المخاطر والأحداث التي تهدد ومصالحها، وقد تضحي بامتيازات بعض من أجنحتها، ولكن سرعان ما تتصدع عند زوال الخطر. في الوقت الذي تتراجع فيه المنافسة بين صفوف القاعدة الاجتماعية العريضة والواسعة، نتيجة لحالة الركود، وانتشار البطالة، وبداية الإحساس بسبل الخلاص، واقتراب الفئات الاجتماعية الكادحة من بعضها واندماجها أكثر في هذا الوقت عينه، تزداد المنافسة والصراع بين أجنحة الطبقات والفئات مالكة الثروة المتعدد الجوانب تعميق الخلافات والكراهية والتنافر فيما بينها، ويجعل بعضها في مواجهة بعض لا يفهم أحدها الآخر لتضاد مصالحها وما دام الخطر لا يتهدد أساسها ووجودها المادي وبناؤها السياسي، فهي غير مستعدة ولا مستعجلة لإنهاء الحالة المضنية، أو أحداث إصلاحات من أي نوع ومهما كانت، الأمر الذي يؤكد إن مطالبتها بأجراء الإصلاحات وأحداث تغيير ما ليست أكثر من أوهام ويجب وضع حد لها. إن اكتشاف هذه الحقيقة يدفع بالقاعدة الاجتماعية العريضة للكادحين، إلى اعتماد وسائل وأساليب أرقى وأكثر جذرية ويجعل حركتها الجماهيرية، تسبق ما تطرحه القوى السياسية الديمقراطية من مطالب. لقد أدى الخيار الاقتصادي وانعكاساته الاجتماعية إلى بروز قوى اجتماعية جديدة عجز هذا الخيار عن استيعابها، في نطاق النمط الاقتصادي في المدينة والريف، وما يتبع ذلك من انتشار البطالة وتفاقم مشاكلها وازدياد أعداد العاطلين من "فلاحين وعمال وانتلجنسيا. وتفشي الجوع والمرض والأمية والنشز وتردي الأخلاق والقيم وتعقد الحياة اليومية. إن عدم قدرة النظام على استيعاب هذه المشاكل، مع تفاقمها يحمل في طياته مخاطر حقيقية، ليس ضد النظام فحسب، وإنما ضد مجموع خياراته الاقتصادية والسياسية، والقوى الاجتماعية المالكة للثروة. المزيد من التخبط: وفي محاولة النظام التحايل على هذه المخاطر، يضطر إلى انتهاج سياسة داخلية يجد نفسه مدفوعاً إليها، تتمثل في التضييق المستمر على الحركة الشعبية، ومحاولات تثبيتها من الداخل، وإثارة التناقضات الثانوية والصراعات التافهة بينها، لصرف اهتماماتها إلى خلافات هامشية. وفي كل ذلك يرتكب النظام حماقات، ويفجر تناقضات تهدده بالخطر فهو من جهة ونتيجة لتضارب مصالح الفئات مالكة الثروة والتي يستحيل معها الاتفاق على خطط محددة وسياسة واحدة، فترتبك خطوات النظام وتتناقض، وتتوالى الأزمات في قمة الهرم الاجتماعي، ويصبح التغيير في السلطة دائماً ومتوقعاً في كل لحظة. فهو على علاقة بموقف النظام لجهة الصراع المركب داخل الفئات مالكة الثروة. وهو من جهة أخرى، وبإثارة الصراعات والتناقضات الثانوية ينمي قوة طائفية، ومتخلفة تصبح بحكم الظروف أشد تطرفاً، وتمتلك قوى على الأرض يستحيل على النظام لجمها في لحظة من اللحظات. وبعد أن تمتلك القوة والسلاح وتشكل أيضاً خطراً حقيقياً على النظام برمته. وينعكس هذا التخبط وتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية أساساً على الجماهير الشعبية، ويدفعها إلى التكتل والشعور بأن الحل يكمن في مواجهة النظام عينه، وليس سياساته المتبعة ومن هنا جاءت التحركات والمظاهرات الشعبية ضد إجراءات النظام الاقتصادية والسياسية "الطلاب-العمال المثقفين" تمهيداً واختياراً لمواجهة أجهزة السلطة ورموز أعداء الأمة العربية في مصر. وهذا ما تؤكده الأعمال الانتقامية ضد هذه الرموز، كما وأنها تؤكد أن الجماهير الشعبية، أدركت بأن مواجهة النظام لابد وأن تتسم بالعنف والقوة جنباً إلى جنب مع مواصلة النضال ضد سياسات النظام وممارساته وإجراءاته القمعية ولعل هذا بداية تحول جذري جدير بالملاحظة والإدراك، خاصة من قبل القوى الوطنية المصرية ودافعاً للمراجعة وانتهاج ما يتطابق والشعور الشعبي المجسد فعلاً وممارسته وذلك بتخطي الخلافات الجزئية، والسعي إلى التقارب والالتقاء حول القضايا المصرية بين تنظيمات الحركة السياسية الوطنية المصرية، ذلك إن القضايا المصيرية والكبيرة، لا بد وإن تعالج ضمن صياغة حلول جذرية تأخذ في الاعتبار المصالح القومية والحاجات الفعلية للجماهير الشعبية المصرية، ولا يفيد معها المعالجات التوفيقية والإصلاحية الجزئية. إن الظروف التاريخية مناسبة لتلعب الجماهير الشعبية دورها التاريخي في انتظار القوة المؤهلة لقيادتها وتوجيهها، وهذا في حد ذاته حافز موضوعي لبروز هذه القوة الممثلة لحركة الجماهير، ولكن هذا وحده لا يكفي، فبدون نمو وتطور ذاتي، فإن هذه الظروف ستمر كما مرت ظروف أخرى كثيرة مشابهة من قبل، والمتغير البارز هنا والملفت للنظر إن حركة الجماهير عينها أدركت ومن خلال تجربتها إن عليها خلق هذه القوة وإفساح المجال لنموها وتطورها والالتفاف والتكتل حولها ولتدفع بالقوى الوطنية والديمقراطية إلى إدراك طبيعة أزمتها والعمل على حلها وتخطيها بالسرعة المطلوبة. حدود التفاؤل: إن تطور العملية الثورية قانون لا بد منه. وإدراك هذه الحقيقة، يرتقي بالوعي والممارسة إلى مستوى عملية التطور عينها ويفترض ذلك المراجعة النقدية الصارمة والدائمة في مجالي الإستراتيجية والتاكتيك، ضمن سياق عملية التطور ذاتها. فإذا حدث تخلف عنها فإن ذلك دليل على وجود خلل ما. في الحالة الأولى قد يكون الخلل من الإستراتيجية، أي من أساس صياغة المشروع المستقبلي عينه، وفي الحالة الثانية لا يتجاوز الخلل التاكتيك المتبع. وفي كلا الحالتين لا بد من رؤية الواقع وفهمه وإدراك عوامل القوة والضعف فيه، وتحديد المستوى الذي بلغه المجتمع في سياق عملية التطور، والاستناد إلى رؤية شروط عملية التطور اللاحقة انطلاقاً من هذا، فإن التفاؤل مشروع أمام أي حدث يحمل بين طياته الأمل عن مسار التطور دون إسقاط أوهام أو تخيلات حول الحدث في حد ذاته، على أن يكون هذا التفاؤل حافزاً لمسايرة عملية التطور، أما أن يكون إسقاطاً لا نملك سواه. فإنه في هذه الحالة يضر بالمرجعات ويضيع بين الأوهام والتخيلات والبحث عن التفسير فحدود التفاؤل تنتهي في عمق الترجمة والوعي، لما هو مختبئ وراء الحدث، والفعل المتطابق معهما للارتقاء إلى مستوى التفاؤل المشروع، والتخلص من كل الأوهام والتصورات التي تحيل الحدث وتعزله عن مجرى التطور، لنضفي عليه هالات مثالية وغير واقعية فيمتص من وجهة النقمة الشعبية، ويفرغ شحنتها الثورية، ويعمق من جهة أخرى الانعزال عن الحركة الشعبية. 15 أيلول 1985
السودان بين فشل الانقلاب ونجاحه.
إذا كانت الظروف، التي أحاطت بصعود بعض العسكريين إلى سدة الحكم في السودان، هي عينها التي منعتهم من الإنفراد بالسلطة ، وأجبرتهم على اللجوء إلى القوة السياسية الوطنية للمشاركة في الحكم، فأن هذا لا يعني، أن "المجلس العسكري" تخلى عن تطلعه إلى الإنفراد بالسلطة، ورغبته الجامحة في الاستئثار بها، خاصة وإن هذه الشهوة، وتلك الرغبة، هي التي دفعت العسكر لقطع الطريق أمام الانتفاضة الشعبية التي أطاحت (بنميري). لقد أرغمت حماسة الجماهير ومناخ الانتفاضة تلك، المجلس العسكري على كبت شهوته وإغفاء رغبته في اغتصاب السلطة، فكان لزاماً عليه الخضوع والامتثال لإرادة الأغلبية، وللمناخ الشعبي غير الملائم للإعلان عن مكنونات صدره، مرجئاً رغباته إلى إن تحين الفرصة. صحيح إن الحكومة، فرضت على المجلس العسكري خطوة إلى الأمام، ولكن صحيح أيضاً إن المجلس العسكري لم يقم بهذه الخطوة، إلا ليدفع خطوات إلى الوراء، فقد تشكلت الحكومة المؤقتة، وجرت إعادة الحياة السياسية، وقدّم بعض مسؤولي نظام (نميري) للمحاكمات، وصدر عفو سياسي عام، وانخفضت وتيرة العلاقات العلنية مع النظام المصري، مقابل رفعها مع كل من ليبيا وأثيوبيا، والمطالبة بتسليم (نميري)... إلخ إلا إن المجلس العسكري، لم يقترب بفعالية من المشاكل الحقيقية التي تعاني منها الجماهير، السودانية، والتي تندرج تحت نقطتين، احدهما الاقتصاد الثانية الجنوب إلا بما يتناسب ورغباته المكبوتة. ويبدو إن المجلس العسكري، الحاكم الفعلي في السودان، لم يضيع الفترة السابقة سدة. فقد تمكن من تجاوز أخطر وأدق اللحظات بنجاح، وأنهمك في ترتيب الأوضاع الداخلية، وتهيئة الظروف الموازنة لتمزيق القناع الذي لا يزال يستر وجهه الحقيقي. وقد برزت مؤخراً في ما يسمى (بمحاولة الانقلاب الفاشلة) ومهما كانت درجة صحتها، فإنها تحمل مؤشرات هامة، تكشف عن كيفية معالجة المجلس العسكري للقضايا المصري. كما وتكشف عن الوجه الحقيقي للمجلس العسكري. لقد تم الإعلان عن إحباط محاولة انقلاب قام بها متمردون في الجيش، وهؤلاء المتمردين ينتمون إلى (جون قرنق) زعيم حركة تحرير شعب السودان، وبدعم خارجي ويحمل هذا الإعلان في طياته ما يلي:- -إن المجلس العسكري في السودان، بصدد أحكام قبضته على الجيش-القوة الفاعلة الوحيدة-وطرد غير الموالين، وضرب الوطنيين بحجة القضاء على الانقلاب، وهذا يعني تطهير الجيش السوداني من المعارضة، تمهيداً لزجه في المعركة الفاصلة القادمة، وضمان وحدته وأسلته في مواجهة القوى الوطنية والجماهير الشعبية. -التخلص من الخطوات التي أجبر عليها لجبهة العلاقة مع النظام المصري؟؟، وليبيا وأثيوبيا، وذلك بالإشارة غمزاً إلى العلاقة بين المتآمرين وقوة خارجية (المقصود بها ليبيا وأثيوبيا)، وإن لم يتم التطرق إلى (ليبيا) مباشرة، وإعادة الحياة إلى العلاقات الحميمة المتمايزة مع النظام المصري، خاصة وإن بين السودان ومصر معاهدة دفاع مشترك، وبما في ذلك من تهديد مبطن لأي تحرك محتمل من القوى الوطنية أو الجيش. -إطلاق النعرات العراقية والطائفية، وتعميق التناقضات الداخلية، وتعزيز الانقسام في المجتمع بإلقاء تبعاد الفوضى والاضطراب على الجنوبيين. -طرد إعداد كبيرة من الجنود الجنوبيين-وهم كتلة الجيش الأساسية-ودفعهم للالتحاق بقواعد حركة تحرير شعب السودان، الأمر الذي يفتح الأبواب على مصاريعها لشق البلاد وتقسيمها، وانصياع إلى حركة المخطط المعادي، الهادف إلى المزيد من التجزئة والتفتيت الطائفية والعرقي. -إثارة الأخطار الكامنة وراء تسعير العداء والكراهية بين صفوف الشعب السوداني وتغمد عدم حل قضية الجنوب حلاً ديمقراطياً عادلاً. وبهذا يتم إشاعة جو من الاضطراب والقلق، يصبح معه الأمن والاستقرار مطلبين. فتتاح الفرصة للأطباق على البلاد بقبضة فولاذية لدواعي حفظ الأمن، وضرب كل المشاغبين الذين يهددون الاستقرار: وتصبح الدعوة إلى تطبيق بنود اتفاقية الدفاع المشترك المعقودة مع مصر دعوة مقبولة، وتصبح العودة إلى الحظيرة الرجعية، والراعي الأمريكي خياراً وحيداً لتدعيم الاستقرار والاطمئنان. ولذلك فإن إقامة حكم وطني يضع المشكلة الاقتصادية، ومشكلة الجنوب في الاعتبار، باتت مسألة ملحة لا تحتمل التأجيل أو التسوية. إن ضرب نقاط التخلف والتبعية، في الاقتصاد والسياسة والتجزئة السياسية، أو أي شكل من أشكال التفتيت، لا شك وإنها في صلب المهام الموكلة إلى نهوض وطني ديمقراطي شعبي، يرسي أسس تحالف ديمقراطي في سلطة وطنية ديمقراطية. وكل ذلك مرهون ببناء جبهة وطنية ديمقراطية، تضع نصب أعينها هذه المهام، دون الالتفات إلى منصب فانٍ أو مكسب آتٍ، وهذه المهمة الخطيرة في حال نجاحها، لن تنحصر أثارها الإيجابية في السودان وحده، بل تمتد لتمس هموم الوطن العربي كله، والمحيط الإفريقي برمته. 15 تشرين الأول 1985
مصر: سياسة النهب الإمبريالي وحالة الاستقرار السياسي
انفجر الصراع في مصر، من حيث لا يتوقع أحد. فقد قوات الأمن المركزي، في مختلف معسكراتها المنتشرة في مصر، لهذا اختلفت التحليلات حول أسباب تمردها، البعض اعتبر إن ما يجري صراع بين شرائح مختلفة داخل السلطة ذاتها، فقامت شريحة باستثارة المجندين في الأمن المركزي، لتعزيز مواقعها، كما جرى الاختلاف حول المستفيد مما جرى، البعض اعتبر عبد الحليم أبو غزالة وزير الدفاع، هو المستفيد الأول، حيث أزاح القوة المنافسة للجيش، أي قوة الأمن المركزي، المعدّة أصلاً لخلق توازن في مقابل الجيش، كما ازدادت قوة أبو غزالة-حسب هذه الآراء –بتحوله إلى القوة الأساسية، الحامية للنظام. إذن لماذا الأمن المركزي؟ بعد الأحداث تبين أن أكثر من عامل دفع باتجاه حصول تمرد قوات الأمن المركزي، منها الدخل المحدود للمجندين-الذين أشعلوا التمرد، حيث قالت بعض المصادر، أن دخل المجند يساوي ست جنيهات، يخصم منها جنية واحد من أجل الحملة المخصصة لسداد ديون مصر. وبالتالي فإن هذا الدخل، يجعل المجندين "عالة"، وفي ظروف سيئة جداً. وجاءت (الإشاعة) حول تمديد فترة خدمة المجندين، لتشعل النار في الهشيم. لكن من أطلق الإشاعة؟ البعض يؤكد أنها ليست إشاعة، بل إن النظام اتخذ قراراً بهذا الشأن. والبعض قال-وحسب روايات المعتقلين-أن ضابطاً كبيراً من ضباط الأمن المركزي، أبلغهم القرار، وحرّضهم على التمرد، ومن المعروف أن الضباط الكبار في جهاز الأمن المركزي، موالون لشريحة محددة في السلطة، وهي الشريحة التي يمكن تسميتها مجازاً-الشريحة الساداتية-. لكن هل يمكن أن يقود التحريض من قبل فئات محددة إلى مثل ما جرى؟ لا شك أن هناك متنافساً" بين شرائح في السلطة المصرية، لكن من يمتلك قدرة تحريك الآلاف لخدمة مخطط له؟ صحيح أن جهاز الأمن المركزي، من نوع خاص، وهذا هو السبب الذي حدانا القول-أن الانفجار جاء من حيث لا يتوقع أحد. لأن شروط اختيار عناصرة، هي ("الشباب"، والقوة الجسدية، والأمية في نفس الوقت)، ثم أن هذه العناصر، تتلقى تدريباً من نوع خاص، حيث يتركون "على جهلهم"، وتقوّى "عضلاتهم على حساب عقولهم"، ويتم الحفاظ على الجهل "لتفشي الأمية بين جنود الأمن المركزي" (الأهرام الاقتصادي العدد 10,895/3/ 1986 ص6-8). كما يتم اختيارهم من أكثر الفئات الفلاحية تخلفاً، وتتم تربيتهم على أساس الطاعة العمياء للنظام، وعلى أساس معاداة الجماهير ونشاطاتها. رغم ذلك، فإن استثارة تمرد ليست قضية-مؤامرة-أفراد، أو شريحة، بل أن هناك ظروفاً أدت إلى ذلك، وبالتالي يمكن للمؤامرة، إذا ما توفر المتآمرون، أن تستفيد منها. فما هي هذه الظروف؟ إن وضع المتمردين المعاشي، واحد من هذه الظروف، ولعله ظرف أساسي، خصوصاً أن النظام، قام بعد حدوث التمرد، بزيادة أجور أعضاء الجهاز كله، وهذه دلالة، لأهمية هذا الظرف. ولا شك أن تمرد قوات الأمن المركزي، يشير إلى درجة تأزم الوضع في الريف المصري، حيث أصول عناصر الأمن المركزي. ففي مقال نشر في مجلة "الأهرام الاقتصادي" (العدد 888 تاريخ 20/ 1/1986، ص16-19)، يظهر أن 20% من السكان في حالة فقر شديد، و 40% في حالة فقر نسبي (ص17)، وهذا يعني أن 60% من السكان تعيش حالة فقر مطلق أو نسبي، مما يعني أن الأزمة وصلت غالبية السكان. بينما يحصل 20% من ذوي الدخول العالية على 49,5% من الدخل المحلي. ثم أن اختلال تقسيم الدخل المحلي بين الريف والمدينة، يؤدي إلى تفاقم فقر الفلاحين، مما ينعكس على أبنائهم، ومنهم عناصر الأمن المركزي، لهذا جاء التمرد واسعاً، ليشمل عشرات الآلاف من العناصر، وليمتد إلى مختلف المحافظات. ومن هنا يمكن القول أن حالة الإفقار التي تعيشها الجماهير المصري، لعبت دوراً أساسياً فيما جرى، وفي المسار الذي اتخذه. بعد ذلك يمكن تصور أن هناك شرائح في السلطة حاولت الاستفادة، من أوضاع جهاز الأمن المركزي، ومن تمرد عناصره، يساعد على ذلك درجة التخلف التي تتسم بها عناصر الجهاز لكن إلا تستفيد الفئات الحاكمة-أو بعض أجنحتها-من انفجارات الجماهير، حينما لا توجد الحركة السياسية التي تستطيع تحويل غضبة فئة اجتماعية، إلى ثورة؟ إن حدوث هذه الحالة مؤكد، ولقد حدثت فعلاً في مرّات عديدة لأن غضبة الجماهير العفوية، لا تؤدي دائماً إلى انتصار الجماهير ذاتها، ما دامت لا تمتلك القوى السياسية المعبّرة عن مصالحها. وكل ما يجري هو استفادة شريحة في السلطة ضد أخرى، أو تحرك الجيش للسيطرة على الحكم. فإذن المشكلة في الحركة السياسية، والمشكلة الأكبر أن الحركة السياسية المعارضة في مصر، وقفت ضد تمرد قوات الأمن المركزي، والتفت حول الرئيس حسني مبارك، وهنا حقق النظام بنداً مهماً مما أراد، فقد أسهم في عزل الجماهير الفقيرة، المهيئة للانفجار، عن الحركة السياسية، التي من المفترض أنها تعبّر عنها، والتي لعب بعضها دوراً جيداً، في كشف عمق أزمة الجماهير، وأسبابها. ولأن التمرد، جاء عفوياً، فقد اتجه إلى "تخريب" عدد من الفنادق والملاهي، وتفسير بعض القوى لذلك، إن اتجاه "التدين" الذي ينمو بشكل طبيعي في أقاصي الريف، لدى الفئات الأكثر تخلفاً، هو الذي دفع بالمتمردين إلى ذلك، وهذا ما يؤكده خالد محيى الدين، حيث يقول: "إن العاملين في سلك الشرطة ينحدرون من الطبقات الأكثر فقراً، حيث المشاعر الدينية أكثر قوة" (جريدة اللونيتا الإيطالية، نقلاً عن "الوطن" 13/ 3/ 1986). وبينما يؤكد الكاتب محمد سيد أحمد، أنه تم نهب الملاهي، و "محلات وهي واجهات لتجار العملة"، وأضاف: "والغريب أن الجماهير تجنبت نهب وسلب ما بالمنطقة من مصانع ومؤسسات إنتاجية" (الوطن، المصدر السابق). لهذا فإن معالجة قضية "التخريب" كما أسمتها المعارضة المصرية، تأتي من خلال الدور المباشر للحركة السياسية المعارضة، سواء من خلال تحديد ما لأهداف النشاط الجماهيري، أو بتطوير وعي الفئات المتمردة والمنتفضة. لأن رد الفعل "الشعبي" "مخرّب" في لحظة معينة، لكنه أساس النهوض الجماهيري الشامل. تبقى قضية هامة، هي أن تمرد جنود الأمن المركزي، لا شك أضعف جهاز الأمن المركزي كله، وأضعف الثقة به، من قبل السلطة، في نفس الوقت الذي أشعر الجماهير الشعبية أن قوّة شرسة من قوى القمع، قد ضعفت. ولكن تحرك الجيش، وقيامه بدور سياسي محدد، سوف يدفعه إلى واجهة الأحداث السياسية في الداخل، خصوصاً أن فيه اتجاهات سياسية مختلفة، لدى ضباط فيه مطامح سياسية. ونستطيع التأكيد أن الجيش دخل "اللعبة السياسية" مرّة أخرى، خصوصاً أن الوضع في مصر، يعيش حالة "فراغ" سياسي، يعدما لم تستطع المعارضة لعب دور القوة البديلة، القادرة على التعبير عن بعض مطامح الجماهير-إذا لم نرد القول عن مطامح الجماهير-، وأخذت تلعب دور الداعي لتجديد "شباب" النظام، فمن أقدر من الجيش، على تجديد "شباب" النظام، خصوصاً إذا ما قادت الأزمة الاقتصادية الطاحنة إلى "الفوضى"، بسبب غياب الحركة السياسية المعارضة؟.
السودان إلى أين؟
الأوضاع في السودان تبدو وكأنها عادت إلى نقطة البداية صحيح أن فوز القوى التقليدية وتفريخاتها المعاصرة في الانتخابات، كان استجابة للواقع موضوعياً وذاتياً، إلا أن حدوث ما حدث يدفع إلى الاعتقاد بأن المشكلات المعقدة والمتداخلة في السودان، لن تحلّها سلطة تقليدية عاجزة عن إيجاد الحلول الملائمة لها، أو إرجاء وتلطيف انعكاساتها الخطيرة. كما وإن إمكانية انتصار أو زيادة تأثير وفعالية القوى الديمقراطية والتقدمية لا تزال بعيدة، وفوق إمكانيات الواقع الموضوعي من جهة، وقدرة وطاقة تلك القوى من جهة أخرى. وهذه الحقائق تقود إلى ضرورة تحديد نقطة البداية لإنطلاقة تحقق تغييراً فعلياً في الأوضاع القائمة، وبدن ذلك فإنها ستنحدر لتجاوز كانت عليه في عصر (نميري). القوى التقليدية خرجت من الصراع الذي خاضته الجماهير السودانية بحصة الأسد، وحظيت بتأييد تلك الجماهير كما أظهرت الانتخابات، ووصل إلى السلطة تحالف يضم أقوى وأكبر ممثلي الطبقات والفئات التي كانت تحكم فئة محدودة منها فيما مضى، وقبل الهبة الشعبية التي أطاحت بتلك الفئة.. ووصول هذا التحالف إلى السلطة السياسية يعني القيام بإصلاحات تهدف إلى توسيع دائرة المستفيدين وبشكل يحقق مصالح تلك الطبقات والفئات كلها أو معظمها. وهذا المر يتطلب، إقامة حلف فيما بينها الغرض منه الإنفراد بالسلطة والحكم من جهة، ومواجهة خطر الحركة الشعبية من جهة أخرى على اعتبار أنها تهدد الأمن والاستقرار، وهنا تكمن المصلحة الطبقية للحكومة وشهر العسل الذي يشهده السودان يوفر الوقت والقوة لهذا التحالف مادام الغرض منه، إعادة صياغة النظام بما يتفق وإعادة توزيع الحصص وبشكل يضمن الاتفاق بين الأجنحة مالكة الثروة والسلطة، تمهيداً لإزاحة الحركة الشعبية وضمان إسكات القوى الديمقراطية والتقدمية لفترة من الوقت، وباعتبار الحكومة حامية النظام والمن وعليها توفير الاستقرار فيجب إحكام قبضتها على البلاد، وتقوية أجهزة الدولة ومؤسساتها وعندما يتم لها ذلك فإنها ستضع حداً لشهر العسل. فمحصلتها السياسية تحتم عليها اعتماد العنف ليس ضد القوى الديمقراطية والتقدمية بل وأيضاً في مواجهة الحركة الشعبية. ولهذا فإن التحالف الحاكم يتأخر في التصدي لحل المشكلات المتفاقمة في السودان عن عجز وتنصب اهتماماته لتحقيق أهدافه المستترة. لحشد القوى وإعادة ترتيب الصفوف للإنقضاض ليس على هر العسل الحالي، وإنما على كل الإنجازات التي تحققت بالإطاحة بنميري، ولم يقدم هذا التحالف شيء يذكر لحل مشكلة الجنوب أو الجوع أو الدين، بل على العكس من ذلك تماماً فهو يضع على رأس اهتماماته الحفاظ على السلطة السياسية بوصفها المشكلة الكبرى. والواقع هو ما يقوله المهدي تماماً [أن أي محاولة لانقلاب عسكري سيكون مصيرها الفشل]. فكبار الضباط عادوا إلى التوزع بين أجنحة تلك الطبقات والفئات حسب مصالحهم والخطر من انقلاب عسكري خطر غير واقعي، فالذي يهدد السلطة هو الشعب وهكذا فإن أضعاف الحركة الشعبية هو المعني بهذا القول خاصة وإن الظروف التي حالت دون استلام الجماهير السلطة ظروف ليست أبدية، بل متحركة، هذا بالإضافة إلى ما راكمته التجربة من خبرات. وتتحدد طبيعة حكومة الائتلاف وما تمثله كلما أمعنت أكثر في الإمساك بمصالحه، وهي في حركتها لا تستهدف أحداث تغييرات جذرية في واقع تجد نفسها مدعوة بحكم تلك المصالح إلى المحافظة عليه، الأمر الذي يجعل المراهنة على أحداث تغيير لمصلحة الأغلبية السودانية مجرد وهم ، وينفي بالتالي شعارات المطالبة الديمقراطية، ويوضح بشكل جلي نقطة البداية، نقطة الانطلاق لتنفيذ الأوضاع في السودان ثورياً. وهذا التحديد وحده لا يكفي، إذ من الضروري فهم لماذا حدث ما حدث في السودان، وما علاقة ما يجري هناك بما يحدث في عموم الوطن العربي. وهذه بمثابة دعوة إلى الالتصاق أكثر بالواقع، وإلى فهم أعمق لحركته. وإلى إن يتم ذلك، فإن السودان مقبل على الدخول في دائرة من الإرباك وربما الاقتتال الذي سيدمر ما تبقى، ويفتح أبواب مرحلة جديدة ليست مقطوعة الصلة عن ما يستهدف كل الوطن العربي والجماهير العربية وحركة التحرر أيضاً. آب 1986
السودان إعادة إنتاج الأزمة
بداية الشهر الماضي، أقال الصادق المهدي وزارته وأعاد تشكيل الوزارة، بعدها تفاقمت مشكلاتها وبعدما وصلت إلى مأزق لأنها، وبعد عام تشكيلها، لم تستطع حلّ أيٍّ من المشكلات التي يعاني منها السودان، والتي قادت إلى حدوث انتفاضة نيسان 1985. لكن الوزارة الجديدة لم تختلف عن سابقتها يحدث تكوّنت من تحالف الحزبين الأساسين (الأمة والاتحادي) وإضافة إلى أحزاب الجنوب "المتواجدة في الشمال". إن إعادة تشكيل الوزارة يطرح سؤالين أساسيين، الأوّل لماذا فشلت الحكومة السابقة في حلّ مشكلات السودان؟ والثاني هل تستطيع الحكومة الجديدة حل هذه المشكلات؟ لقد مَرّ عام على ممارسة حكومة الصادق المهدي الأولى لمهامها، قبل أن تستقبل، والملاحظ أن ما قامت به تمثل في محاولة تخفيف الصراعات الخارجية، ومحاولة الحصول على مساعدات من أجل مواجهة المجاعة. ولا نشك أنها حققت بعضاً من ذلك، لكنها في كل الأحوال تجنبت البحث في المشكلات الأساسية، ومنها مثلاً المشكلة الاقتصادية، التي تتعلق ببنية الاقتصاد السوداني، الذي أصبح اقتصاداً طفيلياً. ومنها مشكلة تطبيق "الشريعة الإسلامية"، ذلك القانون الذي أصدره النميري، والذي ظلّ سارياً، حيث وقفت الحكومة عاجزة عن إلغائه، ليس بسبب قوة الجبهة الإسلامية، بل لأن الأحزاب التي تشكل الحكومة ليست بعيدة عن تلك المفاهيم التي يحتويها القانون ومنها ثالثاً مشكلة الجنوب، التي كان حلّها يتطلب نسقاً من السياسات الجدية كل الجدة، حيث أن حلّها يفترض إلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية، وتحقيق الديمقراطية الحقيقية، ثم تغيير بنية الاقتصاد السوداني. لماذا فشلت الحكومة السابقة في حَلِّ كل هذه المشكلات؟ سؤال سوف يبقى مطروحاً، لكي تجيب عليه التجربة. لكن ربما كان النظر في السؤال الثاني المتعلق بإمكانيات الحكومة الجديدة يجيب جزئياً على هذا السؤال. فهل تنجح الحكومة الجديدة حيث فشلت الحكومة السابقة؟ من الملفت أن التغير الذي حدث في سياسات الحكومة-اتسم بالميل أكثر نحو "اليمين"، ولقد اتهم الحزب الشيوعي السوداني الحكومة بالتخلي عن أهداف الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالنميري. وظهر ذلك واضحاً في كيفية التعامل مع مسألة إلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية، حيث طرحت الحكومة الجديدة على الجمعية التأسيسية قراراً يدعو لإلغاء قانون تطبيق الشريعة الإسلامية، لكن أردفته بقرار ينص على تطبيع "العقوبات الجسدية التي نص عليها الإسلام على المسلمين فقط"، أي حصر تطبيق الشريعة الإسلامية على المسلمين، وكأن المشكلة كانت تطبيق الشريعة على غير المسلمين. كما طلبت من الجمعية التأسيسية تخويل البنك المركزي وحده حق تحديد نسبة الفائدة. ثم أنها تعمل على إعادة تشكيل جهاز الأمن المنحل، والذي كان أداة الفساد في فترة حكم النميري. بمعنى أن ما يجري الآن، هو إعادة دمج بنية النظام السابق بالنظام الحالي، واستيعاب النظام الحالي للنظام السابق، وبالتالي فإن النتائج القليلة التي أفضت إليها الانتفاضة الشعبية، غدت في مهبّ الريح. وهذه نتيجة منطقية، حيث تؤدي الفورة الجماهيرية إلى أحداث تغييرات، تكون القوى السياسية هي الأقدر على تحديد عمقها، وفق ما هي طبيعة، القوة الأقوى، ثم وبعد انتهاء الفورة الجماهيرية، تعمل القوة الأقوى على ترتيب الأوضاع وفق مصالحها-وليس وفق مصالح الجماهير-، وتعيد صياغة الأوضاع بما يحقق لها أغراضها. وهذا بالضبط هو مغزى التغيير الوزاري الذي قام به الصادق المهدي. من هنا يمكن القول أن المرحلة الانتقالية قد انتهت، وأن القوى الحاكمة أخذت تعيد ترتيب وضع السودان في بنيته الداخلية وعلاقاته العربية والدولية، وفق صيغة لا تبعد كثيراً عما كان عليه خلال حكم النميري. ويبقى السؤال الأهم، هل كان بإمكان تلك القوى التي نجحت في الانتخابات (حزب الأمة، والاتحادي الديمقراطي) أن تفعل غير ذلك؟ سؤال أجابت عليه القوى الديمقراطية السودانية والعربية بالإيجاب، مع حماستها لعودة الديمقراطية ولسقوط النميري، لكنها معنية الآن بالإجابة من جديد، وفق المعطيات الجديدة. لكن ما يمكن قوله باختصار، أن ما جرى كان نتيجة منطقية، نظراً لطبيعة القوى التي قادت "التغيير" في السودان، تلك القوى التي لا يمكنها سوى تنمية الاقتصاد التابع، وبالتالي السياسة التابعة، مما يجعلها تعيد إنتاج الأزمة ذاتها، أزمة الفقر. لكن إعادة إنتاج الأزمة، سوف يفرض عودة لدور الجيش، في بلد الجيش، وباختصار أيضاً، إن السودان لا زال يشهد نفس الدوّامة، مرحلة حكم "ليبرالي" يقود إلى أزمة، التي بدورها تفضي إلى انقلاب عسكري، الذي يعيد إنتاج الأزمة، التي تفضي إلى عودة الحكم "الليبرالي" وهكذا.... الاستثناء الوحيد، الذي يمكن أن يكسر هذه الحلقة، يتمثل في أن يعرف "اليسار" دوره الطبيعي، أي أن يعرف أنه الوحيد المعني باستلام السلطة. وبالتالي أن يجرؤ على استلام السلطة.
دوامة المأزق في السودان
في العدد الماضي من "الانطلاقة" تابعنا مجريات الأحداث في السودان على ضوء التغيير الوزاري الذي أحدثه الصادق المهدي رئيس الوزراء. وتوصلنا إلى عدد من النتائج-التصورات، وأوّلها "أن المرحلة الانتقالية قد انتهت"، وقصدنا مرحلة "الآفاق المفتوحة" في تطور التجربة السودانية، داخلياً وخارجياً. وثانياً وهو مرتبط بالأوّل، أن البنية السياسية الحالية، ونقصد تحالف حزب الأمة، والحزب الاتحاد الديمقراطي، ليس بمقدورها سوى "إعادة إنتاج الأزمة"، وأن ذلك "سوف يفرض عودة لدور الجيش، في بلد، الدولة عاجزة فيه عن أن تحمي ذاتها، بدون الجيش". ولقد أصدرت الحكومة السودانية قراراً بإعلان الأحكام العرفية لمدة عام، طبعاً في إطار الحديث عن مواجهة مشكلة الجنوب من جهة، مواجهة نشاط "أعوان" النميري الذي تزايد في الفترة الأخيرة، من جهة أخرى، وإذا كانت هيه هي الأسباب التي استدعت إعلان الأحكام العرفية. وهنا نشير أن الوضع سار خطوة أخرى نحو تجاوز مرحلة "الفوضى" (وهو التعبير المعطى للديمقراطية). لابد أن نشير ابتداءً أن هذه الخطوة، تقليد الصيغة المصرية "للديمقراطية"، تلك الديمقراطية التي تمارس الأحزاب نشاطها، وتصدر صحفها في ظل الأحكام العرفية، والتي تجري فيها انتخابات "حرّة" في ظل الأحكام العرفية، أي باختصار "الديمقراطية" التي يمتلك الرئيس حق "شطبها" بكل سهولة ويسر، لأنها وجدت، ووجد معها ما يسمح للرئيس بإلقائها في "سلة المهملات". بمعنى أنها ديمقراطية شكلية، لا تعدو أن تكون صورة كاريكاتورية. والسودان يسير في السياق عينه. وهذا ما كنّا أشرنا إليه حينما جرى الحديث عن الحكم الديمقراطي" في ظل السودان، بعد الانتفاضة الشعبية، وبعد إجراء الانتخابات عام ونصف تقريباً. ويبدو أن هذه الصيغة هي الصيغة "المثالية" في إطار أنظمة الرأسمالية التابعة، أي في إطار سيادة نظام "الاقتصاد الحرّ"، وهيمنة البرجوازية التابعة، لكن هل يؤدي تطبيقها في السودان إلى استقرار النظام، كما هو "متحقق" في مصر؟ هنا، نعود فنطرح مسائل عديدة، وأهمها قضية ارتباط الصيغة السياسية بالاختيارات الاقتصادية الاجتماعية، فهل يمكن لقوى برجوازية تابعة أن تحقق ديمقراطية حقيقية؟ وبالتالي لا تلجأ إلى التزوير، والمضايقة، والمنع؟ الذي يفرض طرح هذا التساؤل هو محاولة الحسم في قضية، تتعلق بآفاق التغيير في ظل سيادة "الصيغة المصرية للديمقراطية"، فهل يمكن إسقاط اختيارات اقتصادية اجتماعية كاملة من خلال الانتخابات؟ لا شك أن الوقائع تظهر كما هو ساذج هذا "الخيار الديمقراطي" حينما تتبناه قوى ثورية، لأنها تكون قد أغلت الواقع ذاته، أي أغفلت أنه من غير الممكن إسقاط اختيارات اقتصادية -اجتماعية بالطريق الديمقراطي. ولقد جرت المراهنة على الوضع "الديمقراطي" الجديد في السودان، من جانب قوى سودانية، وعربية، على أساس أن الانتفاضة الشعبية قد فرضت الأخذ بالخيار الديمقراطي، من جانب كل القوى التي أسهمت فيها. والآن تعود التساؤلات تدّوي من جديد، وحيث غدت الأحكام العرفية سيفاً مسلطاً على القوى المعارضة كلها، وعلى الجماهير الشعبية أساساً، لأن اتساع نهب الفئات الحاكمة، واستمرار التبعية للامبريالية، فرضا تصاعد موجة الإضرابات في قطاعات مختلفة، ولا شك إن استمرار الاختيارات الاقتصادية الاجتماعية ذاتها سوف يعمّق النضال الجماهيري. وفي هذا الإطار يمكن أن يكون "المتنفس" الديمقراطي، وفي مجال الصحافة تحديداً، وسيلة في استثارة الجماهير من هنا يمكن أن نفهم بعض أسباب إصدار قانون الأحكام العرفية، حيث، في ظله، يمكن قمع كل نشاط معارض، وحيث تمنع الإضرابات، ويتحوّل النقد إلى صيغة للتحريض ضد النظام، يعاقب عليها. وبالتالي تمسك السلطة بـ "زمام" الديمقراطية. بمعنى أنه لا تعود هناك ديمقراطية. ولكن صدور الأحكام العرفية، أعاد دور الجيش السياسي، وهذه الخطوة الأولى في سياق هيمنة الجيش على العمل السياسي، باستيلائه على السلطة. طبعاً هذا مرتبط ببنية الطبقة البرجوازية التابعة، بمعنى هل هي ضعيفة أم قوية؟ ولقد أظهرت التجربة السودانية الماضية، أن البرجوازية فيها (والتي كان يمثلها دائماً حزباً الأمة والاتحاد الديمقراطي)، كانت ضعيفة إلى أبعد الحدود، حيث لم تستمر تجربتها "الديمقراطية" (والأدق أن نقول البرلمانية) سوى بضع سنوات (سنتان في المرة الأولى، وأربعة في الثانية). وهذا ما دعانا إلى القول في العدد السابق من الانطلاقة أن السودان لا زال يعيش نفس الدوامة، دوامة الحكم "الليبرالي" الذي يقود إلى أزمة، والتي بدورها تقضي إلى انقلاب عسكري، الذي بدوره يفضي إلى انتفاضة تعيد التساؤل عينه، كيف يمكن الخروج من هذه الدوامة؟ لاشك أن المطلوب، ليس فقط نظام جديد، ووجوه جديدة، بل المطلوب أعمق من ذلك، فالمسألة هي مسألة اختيارات اقتصادية –اجتماعية أساساً، وهذا يعني أن القضية تتجاوز البرجوازية التابعة بمختلف فئاتها، لأنها هي صانعة الدوامة تلك، إن المطلوب هو أن تلعب القوى الثورية دورها، أي أن تجرؤ على استلام السلطة
السودان الانفجار من جديد
كان السودان قد شهد انتفاضة شعبية كبيرة، في بداية عام 1985، تُوِّجت بانتصارها في 6 نيسان 1985، حيث انتهى نظام حكم جعفر النميري الذي استمر طيلة ستة عشر عاماً، وقام حكم عسكري انتقالي، استمر ما يقرب من السنة، أقضى إلى قيام نظام جديد، من خلال انتخابات أعادت حكم الأحزاب التقليدية القديمة التي كانت تحكم السودان كلما عجز العسكر عن الاستمرار، والتي كانت تقود إلى عودة حكم العسكر نتيجة العجز الذي تبديه، فتتفاقم المشكلات الاقتصادية والسياسية، مما يفرض عليها التفاهم مع بعض الضباط من أجل إنقلاب عسكري، أو إنتظار هؤلاء في انقلاب عسكري يطيح بها، ويبعدها عن الساحة السياسية. وإذا كان نظام جعفر النميري قد سقط في 6 نيسان عام 9185، وإذا كانت الأحزاب التقليدية (الأمة، والاتحادي) قد استلمت الحكم منذ نيسان عام 1986، فإن المشكلات الجديدة تلقي بظلالها على التجربة. فقد أعادت المظاهرات إلى شوارع عدد من المدن السودانية، كما شهدت السودان إضرابات مختلفة، طيلة الفترة الماضية. والمسألة البارزة، هذه المرة أيضاً، وخصوصاً الخبز. وبالتالي عادت السودان لتدخل دوامة الغليان الشعبي. ما هي الأسباب؟ لا شك أن الكوارث الطبيعية التي تعرضت لها السودان خلال الأشهر الأخيرة، أدت إلى نشوء أزمات، من مثل افتقاد السلع خصوصاً الخبز، وغياب المواصلات نتيجة التخريب الذي سببته الفيضانات في البنية الأساسية للدولة وللاقتصاد. ولا شك أن زحف الجراد الذي تزامن مع الفيضانات، أدت إلى تدمير محاصيل زراعية عديدة، وبالتالي أضرّ بالاقتصاد. ولكن يجب أن نتساءل: لماذا كان تأثير كل الكوارث الطبيعية مدمراً ورهيباً إلى هذا الحدَّ؟ لن ندخل في هذه التفاصيل حول الوضع الاقتصادي السوداني، قبل حدوث الكوارث، لكن يمكن الإشارة إلى أن ديون السودان الخارجية بلغت 13 مليار دولار، وغن وارداته المقدرة للعام الحالي هي 5889 مليون جنيه. وبالتالي فإن كل دخل الدولة لا يستطيع سداد فوائد الديون المستحقة، ولا تمويل الواردات، وهذه حالة غدت مزمنة، لم توجدها الكوارث، وإن كانت قد أسهمت في تفاقمها، بل نتيجة السياسات الاقتصادية التي طبقت منذ استقل السودان، والتي فرضتها الطبقة البرجوازية التقليدية، بجناحيها (الأول ممثلاً بحزب الأمة والثاني بحزب الاتحادي، والمعبِّرة عن كبار ارستقراطية الطائفتين المهدية والختمية)، أو التي فرضتها الشرائح الطفيلية والبروقراطية في فترة حكم جعفر النميري. وإذا كانت الأزمة الاقتصادية قد أدت إلى سقوط جعفر النميري، وأفضت الانتخابات التي تلت ذلك إلى نجاح الأحزاب التقليدية، على أمل أن تكون قادرة على حلِّ تلك الأزمة، فإن حوالي سنتين ونصف من حكمها، أعادت طرح الإشكالية ذاتها من جديد، فهل تستطيع هذه الأحزاب حلّ الأزمة الاقتصادية (ولا نريد هنا الغوص في البحث في المشاكل السياسية، وقدرتها على حلّها)؟ لعل الإجابة على هذا السؤال أهم من الشطط في الحديث عن الآثار التي تركتها الكوارث الطبيعية، لأن تأسيس بنية اقتصادية، متينة، كان سيجنب السودان جزءاً مهماً من هذه الكوارث، وسيقلل من آثارها على الجماهير، التي كادت تموت جوعاً نهاية حكم جعفر النميري (حيث بلغ عدد الأشخاص المهددين بالمجاعة، حوالي 11 مليوناً من أصل 21 مليوناً هم عدد سكان السودان آنئذ)، ثم ها هي تكاد تموت من الفيضانات، ومن الآثار التي خلفها زحف الجراد. وبالتالي، فلا زال السودان يقف في النقطة عينها التي أدت حدوث الانتفاضة الشعبية بداية 1985. وهذه المسألة هي التي أعادت قطاعات من الجماهير إلى الشارع لكي تمارس دورها الاحتجاجي، حيث شهدت السودان منذ مدّة إضرابات عمّالية مختلفة، أو يمكن القول أن الإضرابات الحالية لم تنقطع منذ انتفاضة نيسان، كما شهدت في الفترة الأخيرة مظاهرات طلابية في عدد من المدن السودانية، من بينها العاصمة الخرطوم. وهذا يجعلنا نشير إلى أن الأحزاب الحاكمة، لم تستطع حلّ مشكلات السودان، الأساسية، المتمثلة في تطوير البنية الاقتصادية الاجتماعية، بما يحقق نمواً في الدخل المحلي، وبما يوفر العمل لقطاعات كبيرة، لكن أساساً (وهذا ما لا يستطيع هذه الأحزاب فعله) إنهاء علاقات التبعية للسوق الإمبريالي العالمي، بما يحقق نمواً محلياً مستقلاً، يتساوى ارتفاع الأسعار فيه، مع ارتفاع الأجور، ولا تصبح العملة مهددة بالانهيار أمام التقدم المذهل الذي يحققه الدولار محلياً، حتى يكاد يصبح عملة محلية، أو على الأقل وحدة قياس، خصوصاً في مجال أسعار السلع والخدمات. لأن تحسّن أوضاع الجماهير لا يتحقق إلا بوقف إليه النهب الإمبريالي، وأشكال النهب التي تمارسها الفئات المستغلة-الحاكمة، وتوظيف القسم الأساسي من دخل الدولة، ومن الدخل المحلي من أجل تحقيق التقدم الاقتصادي الاجتماعي. ولأن الأحزاب الحاكمة عاجزة عن تحقيق ذلك، بحكم كونها التعبير عن الفئات البرجوازية (التجارية خصوصاً)، والمعينة باستمرار العلاقة مع السوق الإمبريالي العالمي، لأنه وسيلة إثرائها، ومجال نشاطها، لأنها كذلك فقد اهتمت بترتيب أمور السلطة، بما يجعلها قادرة على السيطرة، وحماية مصالحها، ولهذا استعانت برموز مرحلة النميري، وأعادت جهاز الأمن المنحل، وتكّزت على الضباط حُماة النميري، ثم تحالفت في حكومة "الائتلاف الوطني" مع الجبهة الإسلامية وليدة مرحلة جعفر النميري، في الوقت الذي همّشت فيه قوى الانتفاضة، وأسقطت البرنامج الذي قامت الانتفاضة من أجل تحقيقه. من هنا نقول أن مشكلة السودان، هي مشكلة الفئات المستغلة-الحاكمة، ذات التلاوين المختلفة، والتي تنفذ السياسات عينها. وإذا كانت الكوارث الطبيعية أصابت السودان، فإن السياسات المتّبعة، سمحت لها أن تدمّر السودان، وأن تحدث خسائر جسيمة.
السودان. بانوراما الوضع المأساوي
يبدو أن بانوراما الوضع السياسي في السودان، سوف تبقى ثابتة، حيث تطفو على السطح المشكلات عينها، وتسير الأمور في المسار ذاته، وتبقى أدوار كل القوى السياسية والجماهيرية على حالها، أو باختصار يبدو أن الدوّامة ذاتها لا زالت تتكرر منذ استقلّ السودان سنة 1956. يبدو في المشهد أولاً، التبادل المتكرر للسلطة بين الجيش والأحزاب السياسية التقليدية (الأمّة والاتحادي)، ويبدو ثانياً تبادل التحالف-التصارع بين الحزبين الكبيرين (الأمة والاتحادي)، وثالثاً تبدو مشكلة الجنوب دون حلّ، ورابعاً يبدو قدر الجماهير أن تعاني الفقر والجوع والحرمان، وتعيش الكوارث الطبيعية المستمرة (الجفاف، والفيضانات، الجوع) وفي كل الأحوال يبدو السودان كبلد يموت، كبلد يتفتت ويتقلّص، ويتحلل. وإذا كانت الانتفاضة التي انتصرت في 6 نيسان عام 1985، عبارة عن ردّة فعل على كل ذلك، حيث تحرّكت الحياة في جسد يموت، فاندفع من أجل كسر هذه الدوّامة، من خلال فرض صيغ في الحياة جديدة، والسعي لكي تحكم قوى تحكّم هذا المشهد الرهيب، فطالبت الجماهير بحلول لأزمات الفقر والجوع، فقد انتصرت الأحزاب التقليدية ذاتها، فانتصرت معها الدوّامة القديمة ذاتها. لهذا انفتحت آفاق الصراع من جديد، وعاد التحالف-التصارع بين هذه الأحزاب، واستمر الفقر والجوع، وعادت الجماهير تتحرك. بعد الانتخابات التي حدثت سنة 1986، أي بعدما يقرب من عام على انتصار الانتفاضة، تحالف الحزبان الكبيران، اللذان حصلا على أغلبية مقاعد البرلمان، لكن هذا التحالف تصدّع في الفترة الأخيرة، وتأسس تحالف جديد، ضمّ حزب الأمة والجبهة الإسلامية، إضافة إلى مجموعة من الأحزاب الجنوبية الصغيرة ورغم أنه يحظى بأغلبية برلمانية، إلا أن إمكانيات استمراره تبدو قاتمة. هنا تبرز إشكالية القوى التقليدية المعبِّرة عن برجوازية تقليدية، يدخلها "التحديث" ببطئ. لقد كانت البرجوازية التقليدية بتعبيريها السياسي والطائفي، حزب الأمة، والاتحادي، ضعيفة منذ استقلال السودان، وكانت منقسمة إلى "برجوازية تجارية في المراكز الحضرية، إضافة إلى أفراد الختمية أصحاب النفوذ في الريف خاصة شرق شمال السودان"، وبرجوازية زراعية وعقارية في المناطق الأكثر ريفية في الغرب وأواسط السودان، الأولى مثلها الحزب الاتحادي الديمقراطي، والثاني، حزب الأمة. ونتيجة ضعفها قام حزب الأمة سنة 1958 بتسليم السلطة للجيش. لكن الجيش عجز عن الاستمرار، نتيجة تفاقم أزمة الجماهير الشعبية إضافة إلى أن أضرّ بفئات من البرجوازية ذاتها التي عادت إلى الحكم عام 1964. لكن الجيش حكم مرّة أخرى بشكل جديد، حيث حاول تصفية البرجوازية التقليدية، فأسس برجوازية جديدة، بيروقراطية، طفيلية، أخذت تعمل في التجارة والسمسرة. والآن عادت البرجوازية التقليدية إلى الحكم بتفككها القديم، وبضعفها التقليدي. ولم تستطع مواجهة الأزمة الاقتصادية العاصفة فحسب، بل وعجزت عن أن تحكم، لهذا اتجه حزب الأمة، إلى التحالف مع الجبهة الإسلامية، التي غدت تضم البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية التي كانت تحكم زمن نميري، من أجل تأسيس سلطة قوية متماسكة، قادرة على حكم البلاد، دون الحاجة إلى حكم الجيش، فهل ينجح التحالف الجديد؟ هذا مرتبط بمجمل أوضاع السودان أولاً، وبمدى الانسجام الذي يمكن أن يقوم بين الفئات البرجوازية المختلفة هذه. ولا شك أن تفاقم الأزمة الاقتصادية، يلعب دوراً مهماً في المجال. حيث تبدو الأمور صعبة، فقد أشارت الصحف إلى تفاقم المجاعة في مناطقة مختلفة من السودان، ففي مدينة (وأو) عاصمة إقليم بحر الغزال يموت يومياً 40 شخصاً، نتيجة نقص الغذاء. وأكدت صحيفة "السوداني" أن الأوضاع المعيشية في الإقليم بلغت درجة خطيرة، حيث أغلقت المدارس، وكذلك المستشفيات لعدم توفر الدواء (الوطن 11/1)، كما أكدت الصحف وفاة 6000 شخص في الجنوب نتيجة المجاعة، وأشارت إلى أن عشرات الآلاف يواجهون خطر الموت جوعاً (الوطن 12/1). والمشكلة الأساسية في هذا المجال، هي مشكلة عدم تناسب الأجور مع الأسعار. هذا إضافة إلى عجز ميزان المدفوعات، والميزان التجاري، وتفاقم مشكلة الديون التي بلغت نهاية عام 1988 حوالي 12,8 مليار دولار. وإذا كان الصادق المهدي رئيس الوزراء قد قرّر رفع الأجور بنسبة 500%، مما زاد من العجز في موازنة الدولة بما هذه قيمته 2 مليار جنيه، فقد سعى من أجل سداد هذه الزيادة من خلال زيادة الأسعار، وزيادة الضرائب، الأمر الذي أشعل انتفاضة أجبرته على التراجع عن زيادة الأسعار مؤقتاً. لكن ظلت مشكلة عجز الميزانية قائمة، حيث تشكلت لجنة للبحث في الحلول الممكنة لسداد هذا العجز. في كل الأحوال فإن أزمة الجماهير أكبر من ذلك، وإن رصداً لنشاطها يوضّح هذه المسألة، حيث بدأت المحاكم منذ 2/ 1/ 89 إضراباً مفتوحاً، احتجاجاً على تدخل السلطة التنفيذية في القضاء، وهدد القضاة بالاستقالة الجماعية، لكن الاستقالة أرجئت لبعض الوقت، لكنهم عادوا وقدموا استقالاتهم يوم 5/ 1/ 1989، وتوفقوا عن العمل، كما قدم المستشارون القانونيون في مكتب النائب العام استقالاتهم تضامناً مع القضاة وتأييداً لمطالبهم. كما نشب نزاع بين نقابة المهندسين والوزارة، أدى إلى إعلان النقابة إضراباً لمدة خمسة أيام اعتباراً من 17/ 1/ 89، ويشمل الإضراب الأجهزة الهندسية في الوزارات والهيئات والمؤسسات والحكم الإقليمي. وهم يحتجون على تردي أوضاعهم المعيشية. كذلك قامت النقابة الفرعية لمعلمي ومعلمات أم درمان-المرحلة الابتدائية-بالإضراب عن العمل ابتداء من 7/ 1/ 89 ولمدة أسبوع، على أن تجتمع اللجنة التنفيذية للنقابة يوم 17/ 1/ 89، إذا لم يستجب لمطالبها، من أجل تقرير الخطوات اللاحقة. قررت جمعية الأطباء الإضراب عن العمل يوم 2/ 2/ 89 لمدة 3 أيام إذا لم تستجب مطالبها بزيادة الأجور، ثم إضراب آخر يوم 26/ 2. وأعلن أساتذة جامعة الخرطوم أنهم سيبدأون إضراباً عن العمل لمدة أسبوع احتجاجاً على تدخل لجنة الأجور في استقلالية الجامعة. وهدّد تجار التجزئة في العاصمة-وعددهم 5600 تاجر- بالإضراب لمدة أسبوع. وشهدت الأيام الأولى من هذا العام، مظاهرة طلابية صغيرة في العاصمة، احتجاجاً على نقص الخبز. كما أشعل متظاهرون النار في المتاجر واشتبكوا مع قوات الشرطة، في مدينتين، بسبب نقص الخبز والسكر.. حيث هاجم الطلبة في (الأبيض) عاصمة إقليم كردفان، مقر حاكم الإقليم، بعد أن رفض مقابلتهم، واشتبكوا مع الشرطة، و"عاثوا فساداً" في سوق المدينة، والشيء عينه حدث في مدينة (سنار) في الإقليم الأوسط. كما حدثت مظاهرات في العاصمة خرطوم. بعد أن أعلن المهدي زيادة سعر السكر 150% لتعويض زيادة الأجور. ولقد طالبت النقابات السودانية، بما فيها نقابات العمال، بإنهاء الحرب في الجنوب، والحدّ من النفاقات الحكومية، من أجل حل الأزمة الاقتصادية، كما رفضت فرض الضرائب كوسيلة لتعويض زيادات الحدّ الأدنى للأجور في القطاع العام. كما طالب محمد عثمان رئيس اتحاد نقابات العمال "بإقامة حكومة إصلاح وطني لتحقيق الوحدة الوطنية، ووقف إطلاق النار في الجنوب" وطالب إبعاد أصحاب الوجهات السياسية الذين وضعوا مصالحهم الخاصة فوق مصالح الشعب وكل الذين أثروا على حسابه. (الوطن 6/1). وأكدت الاتحادات المختلفة (الموظفون، المزارعون، المهنيون، الفنيون، إضافة إلى نقابات العمال) على أولوية حل مشكلة الجنوب عبر إنهاء الحرب، كمفتاح لحل الأزمة الاقتصادية. ونفذ تجمع نقابات العاملين بالهيئة القومية لتنمية موارد المياه الريفية إضراباً، أدى إلى انقطاع مياه الشرب عن بعض مناطق العاصمة والريف، وطالب التجمع، بتطبيق لائحة خدمة العاملين، وإجازة قانون الهيئة والهيكل الإداري، وتمثيل العاملين بثلاثة مقاعد في مجلس الإدارة. التي تعمل على خط العاصمة-الإقليم (يعمل به ألف باص، ويخدم 4 ملايين شخص) بين 11 و15/1/1989. ومن الملاحظ أن الصراع تمحور حول إنهاء حرب الجنوب التي تكلف 5-7 ملايين دولار يومياً (كمدخل لحل الأزمة الاقتصادية، ورفض زيادة الأسعار والضرائب. فبينما تطرح الحكومة الحل الثاني-أي زيادة الأسعار والضرائب-تركز كل النقابات على الحلّ الأوّل –إنهاء الحرب في الجنوب، رغم أن المسألة أبعد من ذلك، حيث أن الأمور لا تقف عند حدّ رفض زيادة الجور، وهذا ما يجعل تفاقم الأزمة محتماً. ولقد سعى الحزب الاتحادي الديمقراطي، الذي يطمح، كما يبدو، لتحقيق حالة من الاستقرار السياسي لكي تنشط الحركة التجارية، إلى إنهاء الحرب الأهلية في الجنوب، حيث عقد اتفاقاً مع زعيم الحركة الشعبية لتحرير شعب السودان، ولما رفضتها الحكومة سحب وزرائه منها، وأكد أنه سوف يتحوّل إلى المعارضة في البرلمان، وهذا ما دعا محمد إبراهيم نقد الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني إلى مطالبة الحزب الاتحادي الديمقراطي قيادة المعارضة (الوطن 18/1). وبغض النظر عن الدور الذي يمكن أن يلعبه الحزب الاتحادي الديمقراطي، في المعارضة، فإن تفاقم الأزمة الاقتصادية، سوف يزيد من نشاط الجماهير، وبالتالي فإن هذا يطرح احتمال حدوث انقلاب عسكري من جديد. إن عجز البرجوازية التقليدية عن الإمساك بالسلطة السياسية، نتيجة ضعفها، ونتيجة تقليديتها، وتفككها، لا يجعل خياراً أمامها سوى الاتيان بالجيش لكي يحكم. نعود إلى البدء، لنتساءل، لماذا تتكرر الدوّامة ذاتها في مشهد جنائزي حزين؟ هذا يحيلنا إلى تساؤل آخر وهو: لماذا تقدّم القوى الحديثة (وهذا تعبير سوداني يقصد منه، النقابات والاتحادات والهيئات الشعبية) السلطة سهلة للقوى التقليدية، مع العلم أن حجم الجماهير السودانية، بينما القوى التقليدية لا تمثل سوى نسبة ضئيلة؟ نعتقد أن هذه المسألة هي مكمن الخلل، حيث ترفض القوى الحديثة، كنس البنية التقليدية القديمة، انطلاقاً من أوهام تسكن عقول بعض قياداتها. إن الأزمة العامة التي تعيشها الجماهير السودانية، تفتح آفاق واسعة لأن تلعب القوى الثورية دوراً قيادياً، وأن تفرض خيار الجماهير، لتخرج الجماهير الثورية دوراً قيادياً، وأن تفرض خيار الجماهير، لتخرج السودان من دوامة الموت البطيء. كيف؟ هذا ما يحتاج إلى البحث في الرؤية العامة، وفي التكتيك، لكن ما نستطيع تاكيده هنا ان السودان سوف يبقى. يعيش البانوراما عينها، ما دامت القوى الثورية منزوية، وبعيدة عن أن تتصدى لقيادة النضال الثوري للجماهير. أما الجماهير فيبدو أنها سوف تستمر في الانتفاض إلى حين اقتناع القوى الثورية بالدور الذي لا تَقَدُّم بدونه. شباط 1989
السودان ويظل الجيش سيد الموقف!
بين 21/2 و23/3 عاش السودان مرحلة قلق وترقّب بعد أن وضع الجيش القوى والأحزاب السياسية أما خيارين، استقالة الحكومة المكوّنة من تحالف حزب الأمة، والجبهة القومية الإسلامية، وتأليف حكومة إنقاذ وطني، أو استلام السلطة، وإعادة الحكم العسكري. وإذا كان الجيش قد استنفر قواه بانتظار الاستجابة لمطالبة، فقد غصّت العاصمة الخرطوم بمفاوضات ومشاروات بين كل القوى والأحزاب من أجل إنجاح المساعي في تأليف "حكومة إنقاذ وطني" ووفق الشروط التي حددها الجيش. إذن عاد الجيش يطلّ برأسه مقرراً طبيعة النظام السياسي، وتوضحت إشكالية الأحزاب التقليدية التي حصدت معظم مقاعد البرلمان في الانتخابات سنة 1986، إشكالية عجزها عن بناء نظام سياسي مستقر ومتماك، فإذا كان الجيش قد تدخّل في مسار الصراع الطبقي في 6 نيسان 1985، حيث تسلّم السلطة، واعداً بتحقيق الديمقراطية، ومؤكداً على قراره بتسليم السلطة للأحزاب السياسية، وهذا ما فعله بعد عام من ذلك، فها هو يعود من أجل "تصحيح المسار"، بعدما تفككت تحالفات هذه الأحزاب، وغدت إمكانيات سقوطها كبيرة. هنا لابُدّ من ملاحظة أطراف ثلاثة، تربطها علاقات "خفية"، وتبدو كأنها تتنازع السلطة وهي: الجيش، والأحزاب التقليدية، والجماهير الشعبية، فإذا كان تناوب السلطة يتمّ بين الأحزاب التقليدية –التي تنتصر في الانتخابات الديمقراطية عادة، وبين الجيش-الذي يتسلم السلطة بفعل قوّته في المجتمع –فإن هذا التناوب يبدو كأنه نتاج الحالة التي تعيشها الجماهير الشعبية في لحظة معينة، نتيجة ظروفها الاقتصادية الصعبة، وخشية من أن تتوفر ظروف ندفع هذه الجماهير خلالها قوى حديثة، معبّرة عن مطامحها، إلى السلطة، وهي مطامح مبهمة في كل الأحوال، لأن الجماهير تنتظر قوّة من خارجها تحقق لها هذه المطامح، وهذه المسألة هي التي تفتح الآفاق أما إمكانية أن يصبح تناوب السلطة بين الأحزاب التقليدية والجيش قضية مقبولة لديها، لأنها القوى المتاحة، حيث لا تبدو القوى الحديثة معنية باستلام السلطة، ولا تعتبر أن الوضع يؤهلها لذلك، ولأن كلاً منها حينما لا يكون في السلطة، يقتنص الفرصة حينما لا تعود الجماهير قادرة على تحمّل السلطة الحاكمة، فيتبنى بعض مطامحها ويقفز إلى السلطة باسمها، فيضحَّى برئيس ويؤتى بآخر، ومن أجل تكريس استغلال الطبقة البرجوازية التابعة. ولكي تبدو الأمور واضحة، يمكن ملاحظة ما يلي: أولاً: أن الحزبان الكبيران اللذان انتصرا في الانتخابات سنة 1986، وهما الحزبان القديمان في السودان-ليس القديمان زمنياً فقط، بل القديمان على صعيد البنى الفكرية والطبقية أساساً، واللذان يعبّران عن البرجوازية التابعة، عاجزان عن بناء سلطة سياسية متماسكة، لأنها قديمان من حيث البنية الإيديولوجية، مما يجعل دورهما الواقعي أضعف من أن يحافظ على السلطة السياسية، ولأنهما منقسمان مختلفان، وإن تحالفاً في لحظة معينة. لهذا انهار التحالف بينهما نهاية العام الماضي، بسبب من الاختلاف حول الصيغة الأفضل في الحكم. فقد رأى الحزب الاتحادي أن ظروف السودان الصعبة تفرض إنهاء الحرب في الجنوب، من أجل تحسين الوضع الاقتصادي، وبالتالي من أجل تخفيف حدَّة الصراع الاجتماعي، الذي كان بدأ يتفاقم. بينما اعتقد الصادق المهدي رئيس الوزراء، وزعيم حزب الأمة، أن المطلوب هو الانتصار على "القوى الانفصالية" في الجنوب، معتبراً أن ذلك هو المدخل من أجل تحسين الوضع الداخلي. وانسحب هذا الخلاف إلى السياسة الخارجية، حيث أسس الصادق المهدي تحالفاً قوياً مع كل من ليبيا وإيران، بينما مال الحزب الاتحادي إلى التحالف مع مصر. لهذا حينما استطاع الحزب الاتحادي التوصل إلى اتفاق مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، عمل الصادق المهدي على إفشالها، منهياً تحالفه مع الحزب الاتحادي، لكن مؤسساً لتحالف جديد، مع الجبهة القومية الإسلامية، معتقداً إنه بذلك يستطيع التخلّص من حليفة-الخصم، وتشكيل تحالف قويّ ومتماسك، يحظى بأغلبية برلمانية-وبالتالي يستطيع أن يقيم دكتاتورية مدنية، تسمح له حسم معركة الجنوب، وتشكيل السودان وفق رغباته. بينما تحوّل الحزب الاتحادي إلى المعارضة، وبدأ بتكتيل القوى الحديثة (أي الأحزاب القومية والعلمانية والاشتراكية، وكذلك النقابات والهيئات والاتحادات). وثانياً: تطور النضال الجماهيري، إلى حدود تثير التوجس، وتنذر بالخطر، حيث أعلنت مختلف القطاعات، عن تحركها، من خلال سلسلة إضرابات طالت كل المرافق تقريباً (وهذا ما أوضحناه في العدد السابق). وبدأ كأن الأمور تدفع نحو العصيان المدني من جديد. في الوقت عينه، الذي بدت الجبهة العسكرية ضعيفة بعد الهزائم التي لحقت بالجيش في الجنوب، ولقد عزا الضباط ذلك إلى قلّة التسليح، نتيجة إشكالية السياسة الخارجية السودانية، حيث فرضت على الدول التي تمدّ الجيش بالأسلحة أن تكون حذرة ومترقبة. لهذا استقال وزير الدفاع الفريق عبد الماجد خليل (وهو نائب سابق لرئيس الجمهورية، السابق جعفر النميري). يوم 2/ 2، معللاً استقالته بالتالي: انتهاج سياسة خارجية سيئة، أضعفت قدرة السودان العسكرية، وعدم استجابة الحكومة لمبادرة السلام مع حركة تحرير شعب السودان، وهيمنة الجبهة الإسلامية على صناعة القرار السياسي، وتضييق دائرة المشاركة في الحكم. ولم تكن هذه الاستقالة مسألة عابرة، نتيجة موقع الفريق عبد الماجد خليل، ونتيجة علاقاته بالجيش، ليس لاستلام السلطة، بل من أجل "تصحيح المارة"، فقد أعلن 300 من ضباطه بعد اجتماع عقد يوم 22/ 2 عن تمردهم، ووجهوا إنذاراً إلى الصادق المهدي، وطالبوه بأن يلتزم بحل مشكلة الجنوب سلمياً. وأن يعمل على تشكيل حكومة اتحاد "إنقاذ" وطني، وتوفير احتياجات القوات المسلحة، وانتهاج سياسة خارجية متوازنة، وتحقيق مصالح البلاد، وإتباع نهج "قومي" في الحكم، والقضاء على الميليشيات الحزبية وأعطوه مهلة أسبوع لتحقيق ذلك (الصحف 23/ 2)، وهي تقريباً نفس مبررات وزير الدفاع التي برر بها استقالته، ونفس ملاحظات الحزب الاتحادي، التي دفعته إلى الانسحاب من الوزارة، والعودة إلى صفوف المعارضة. إذن أكلّ الجيش برأسه من جديد، وعدت الأمور واضحة، فإما تحقيق مطالبه، أو يعود لاستلام السلطة. لكن مع ملاحظة أنه كان يفضِّل أن لا يضطر لاستلام السلطة، وأن تنفذ الأحزاب مطالبة، التي هي جزء من مطالب قطاعات عريضة من الشعب، أو على الأقل فإن مطلب إنهاء الحرب في الجنوب، ومطلب تحسين الوضع الاقتصادي، هما مطلبان للجماهير الشعبية (يمكن ملاحظة بيانات النقابات والاتحادات المختلفة). لكن مع الانتباه إلى أن هذه المطالب لا تحلّ جوهر المشكلة، أي مشكلة التخلف والفقر والجوع، بل إنها تحاول حلّ مشكلة السلطة السياسية، من أجل تأسيس حكم متماسك. لذا أشركت القوى الحديثة لأوّل مرّة في الوزارة الجديدة بخمسة وزراء من أصل 23 وزيراً. وإذا كان الصادق المهدي قد حاولى المناورة والخداع والتمييع طيلة شهر قبل أن يقدّم استقالة حكومته، ويشكٍّل الحكومة الجديدة، لأنه رأى أن تطور الموقف قد ألغى دوره الفعلي، وشطب كل مخططاته، التي كان يحكم بانجازها بالتحالف مع الجبهة الإسلامية، التي رفضت دخول الوزارة الجديدة وبالتالي حاول اللعب من أجل امتصاص الأزمة، والعودة إلى تشكيل وزارة يحدد سياساتها وحده، إذا كان الصادق المهدي قد حاول ذلك، فقد رضخ للأمر الواقع، وقبل ببيان القصر-ذلك البيان الذي أقرته أحزاب الاتحادي، الشيوعي، البعث، الناصريون... وكذلك النقابات والاتحادات المهنية (وقد وقع عليه 38 حزباً حسبما نشرت الصحف). والذي حوى المطالب عينها التي تقدّم بها الجيش تقريباً-الذي شكّل على ضوئه وزارته الجديدة. ورغم تشكيل الوزارة فإن استقرار الوضع ليس مؤكداً، لكن المؤكد أن الحاكم الفعلي هو الجيش هو القوة الفعلية منذ 6 نيسان 1985، وارتضى أن لا يشارك في الحكم مباشرة، سوى من خلال وزير الدفاع عيد الماجد خليل، فها هو يطلّ برأسه، دون أن يشارك مباشرة أيضاً، فقد قرّر إسقاط وزارة، كما قرر صيغة الوزارة الجديدة وبرنامجها، وبالتالي أسقط دور البرلمان، الذي لم يعد هو الحاكم الفعلي، رغم أنه منتخب، ومن المفترض أنه يمثل الشعب!! حيث سحقت الأغلبية التي مثّلها تحالف حزب الأمة والجبهة القومية الإسلامية بالإنذار الذي وجهه الجيش، وسقطت فلم تعد هي المقررة. وهذا يوضح هشاشة النظام الديمقراطي، وشكليته. وبالتالي فرغم إشراك القوى الحديثة في الوزارة (الحزب الشيوعي، النقابات...) فإن حدود التقدم ضمن إطار هذا النظام الديمقراطي محدودة، بل هامشية، لأن الجيش هو المقر أولاً و... أخيراً. إذن عن ماذا يعبّر الجيش؟ إن تحقيقه لبعض مطالب الجماهير الشعبية، يثير الشهية في الحديث عن "دور وطني" يقوم به. لكن ذلك يتجاهل كبيعة بنية الجيش، وهيكلية قيادته، وطبيعة مصالحها وعلاقاتها، حيث لا تخدم طبقة محلية فقط، بل ومصالح الإمبريالية أساساً، نتيجة تشابك مصالحها معها-كما مع الرأسمالية المحلية التابعة -ونتيجة الدور التكويني التدريبي الذي تلعبه الإمبريالية الأميركية، ثم نتيجة اعتمادها عليها كمصدر للأسلحة. لهذا يبدو الجيش هو عماد السلطة، والمعبّر الحقيقي عن مصالح الرأسمالية المحلية التابعة، وعن مصالح الإمبريالية، فيحكم أحياناً أخرى، من أجل حماية هذه المصالح، ويتوارى أحياناً أخرى، لكي يفسح للتعبير السياسي للطبقة الرأسمالية التابعة، كي يحكم. وبالتالي فالمشكلة في السودان هي أن الأمل في إمكانية بناء نظام سياسي مستقر، بتحالف الحزبين الأساسيين، والمعبّرين عن جناحين في الرأسمالية التابعة، إن هذا الأمل فشل، نتيجة نزوع الجناح الذي يمثله حزب الأمة في الرأسمالية التابعة، إلى سياسة يمكن أن تدمرّ مصالح الطبقة كلها، ومصالح الولايات المتحدة أيضاً. لهذا كان ضرورياً "عقلنة" هذه السياسية، بإفهام الصادق المهدي أن الأغلبية التي يحظى بها في البرلمان لا تعني شيئاً، وأن عليه إذا ما أراد الاستمرار في السلطة، أن يقبل بصيغة "عقلانية"، تسهم في تخفيف الأزمة الاقتصادية، وتنهي الحرب في الجنوب، وكذلك توحٍّد قوى أوسع. ولم يكن ذلك موقف الجيش وحده، بل إن الولايات المتحدة مارست ضغوطاً على الصادق المهدي من أجل تحقيق ذلك. فقد أشارت مصادر أميركية إلى إمكانية حدوث انقلاب عسكري، لن تكون الإدارة الأميركية بعيدة عنه، لأنه-ومنذ فترة-أخذت تدعو إلى استقرار السودان ضمن وحدته الإقليمية الحالية. وظهر ذلك في التقرير الذي أعلنه وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر في 8/ 2/ 1989، والذي وجه فيه لوماً قاسياً إلى حكومة الصادق المهدي (الوطن 27/ 2). إذن، لقد حقق الجيش مصلحة أميركية أولاً، ومصلحة الرأسمالية التابعة ثانياً، وإن كان حقق على هامش ذلك بعضاً من مصلحة الجماهير الشعبية، وخصوصاً فيما يتعلق بإنهاء حرب الجنوب. وهذا لا يعني أن الصادق المهدي مناهضاً للسياسة الأميركية، بل يعني أنه لم يستطع بناء السلطة التي تخدم مصالحها، وكاد، نتيجة تكتيكه الخاطئ يفاقم من النقمة الشعبية، وبالتالي يدفع إلى حدوث انفجار جديد، لذا كان من الضروري السعي من أجل "عقلنة" سياساته، وتحديد مساره، وتقييد نشاطه. يبقى أن نقول أن كل ذلك لن يؤدي إلى استقرار الوضع، لأن أزمة الجوع والفقر والتخلف، وكل هذه الأحزاب التقليدية عاجزة عن تجاوزها، لأنها من أسباب وجودها. وبالتالي يبقى الحلّ الحقيقي بيد القوى الحديثة، ولا شك أن اشتراكها في الحكم لا يعني أنها سوف تستطيع حل الأزمة في إطار البنية القائمة، بل يعني محاولة "تدجينها" وإدخالها في متاهات النضال الإصلاحي، وبالتالي إبعادها عن أن تلتصق بالجماهير الشعبية، المصممة على الاستمرار في نضالها الثوري. نيسان 1989
مصر الانتفاضة من جديد
رغيف الخبز، أصبح المفقود الأساسي في مصر، حيث تشير التوقعات إلى أن صعوبة الحصول عليه، قد تشعل "شرارة قلاقل"، (الوطن 19/4). وفعلاً فإن نقصاً تعاني منه القاهرة والإسكندرية، وكل المحافظات الأخرى، وبالتالي أخذت أزمة الرغيف تتحوّل إلى أزمة خطيرة، بعد مشاهدة الطوابير الطويلة تنتظر الحصول عليه، وبعد النقص في الدقيق، وارتفاع سعره ارتفاعاً كبيراً (الأهالي 22/3). ويمكن تلخيص الوضع كله بالتالي: "لقد حكمت علينا الحكومة بالموت جوعاً" حسب ما يشير أحد العمال (الأهالي 22/3)، والسبب أن راتبه يبلغ 40 جنيهاً (حوالي 15 دولار) لا تكفي لشراء الخبز لأسرة مكوّنة من 14 فرد. وهذه حال قطاعات مختلفة من الجماهير المصرية، حيث أصبحت ميزانية الخبز وحده تأكل أكثر من ثلثي الدخل. والمشكلة الكبر أن أسعار مختلف السلع الأساسية (الغذائية والاستهلاكية) في ارتفاع مستمر، حيث قررت وزارة التموين رفع سعر كيلو الأرز المحلي المخصص للبطاقات التموينية من 14 قرشاً (الأهالي 22/3). وهناك قائمة تعدّها الوزارة لرفع سلع أخرى. ومنها البنزين من 40 قرش إلى 45 قرشاً للتر، وكذلك رفع سعر علبة السجائر بقيمة 10 قروش، إضافة إلى الارتفاع الشديد في أسعار السلع الغذائية، وخاصة المعلبات من إنتاج شركات القطاع العام، حيث تبلغ نسبة الارتفاع هذه من 50 -100% من سعرها الحالي (الأهالي 29/3). ومن المنتظر أن يتضاعف سعر كيلو الأرز من جديد ليصبح بـ 80 قرشاً (الأهالي 12/4). ويأتي ارتفاع هذه الأسعار نتيجة الخطوات الحثيثة التي تقوم بها الحكومة من أجل رفع الدعم عن السلع المختلفة، وفق طلب صندوق النقد الدولي. هناك إشارات إلى أن البنك المركزي وجهات حكومية أخرى، اتفقت على إخراج السكر والزيت من أسعار الصرف بالبك المركزي (حيث يساوي الدولار 70 قرشاً). وإدخالها ضمن تعاملات أسعار السوق المصرفية الحرة (وهذا الاتفاق لا يشمل الكميات المربوطة بالبطاقة التموينية)، ويترتب على ذلك رفع أسعار السكر والزيت والحلويات بنسبة 250% (الأهالي 19 (4). كما ارتفعت أسعار الكهرباء وبعض منتجات النفط بنسبة 30-40% (الوطن 19/ 4). (هذا إضافة إلى تقنين العلاج المجاني، حيث تقرر تحويل 80% منه إلى علاج بأجر). في هذا الوضع، حيث ترتفع أسعار السلع الأساسية دون أن ترتفع الأجور بما يوازي ارتفاع الأسعار الأساسية، ويتركز اهتمامها في الحصول على الخبز، لكي يصل المادة الغذائية الأساسية، وكلما ارتفع سعره كلما انخفضت إمكانات الجماهير عن شرائه، فإذا وصلت نسبة مصروفات الخبز إلى ثلثي الدخل، فإن كل ارتفاع في أسعاره يفرض، إما زيادة هذه النسبة وبالتالي تقليص مصروفات سلع أساسية أخرى، وهذه مشكلة لأن هناك مصروفات أساسية أخرى، لا يمكن التخلي عنها، أو –وهذا الحل الآخر –تقليص كمية، الخبز المشتراة، وهذا يؤدي إلى الجوع. وتزداد الأزمة حينما تتقلص كمية الخبز المتوفرة في السوق، حيث تنتشر الفوضى التي تؤدي إلى وقوع قتلى وجرحى، ويزيد من حالة التأزم العام. ولا شك أن وضع الجماهير العام يسير نحو الانفجار نتيجة هذه الأزمة، حيث غدت فئات واسعة تعيش حالة من الفقر الشديد، وهي مشكلة تعيشها مصر، منذ عام 1977، لكنها تعيشها بشكل عميق منذ عام 1884. ولقد تطورت خلال السنوات الخمس الماضية نتيجة ثلاث عوامل متداخلة، أولها: ثبات الأجور، حيث ظلت الأجور كما كانت منذ سنوات، أو تحركت بشكل محدود جداً، لا يساعد في الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن. حيث انتقل مقابل الدولار، من 70 قرش للدولار إلى 2و70 جنيه للدولار، وهذا يعني ارتفاع إجباري لأسعار السلع المستوردة المختلفة، يبلغ أربعة أضعاف أسعارها تقريباً، وثالثها: السياسة التي يتبعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والهادفة إلى تحرير الاقتصاد من "تدخلات الدولة"، والتي تركزت في المرحلة الأولى على تعويم سعر الجنيه، وإلغاء الدعم عن السلع الأساسية، وتقليص ميزانية الدولة. وتتمحور المشكلة الآن في الخطوات التي يطالب صندوق النقد الدولي (والبنك الدولي) بتطبيقها من أجل ضمان استمرار حصول النظام المصري على القروض والمساعدات، لأنها سوف تدفع الجماهير الشعبية إلى الجوع تماماً. حيث يسعى الصندوق، مستغلاً عجز النظام المصري عن سداد الديون المتراكمة (بلغت أقساط الديون المستحقة السداد حوالي 6 مليارات دولار)، إلى إعادة تكوين بنية الاقتصاد المصري، بما يسمح بتلافي العجز في ميزانية الدولية، وهذا السبب الظاهري، لكنه يسعى أصلاً من اجل إعادة بنية الاقتصاد المصري، بما يسمح بسيطرة الشركات الاحتكارية الامبريالية، سيطرة مطلقة، أي يسعى من أجل توثيق تبعية مصرفي إطار النظام الامبريالي العالمي، لهذا يسعى الآن من أجل تنفيذ المرحلة الثانية من البرنامج الذي جرى الاتفاق حوله مع النظام المصري، والتي يمكن تلخيصها بالتالي: تحرير القطاع العام من تسعر المنتجات، بيع القطاع العام، إنهاء دور الدولة في إدارة الأراضي الزراعية التي ما تزال متبقية من عمليات الإصلاح الزراعي، إنها دور الدولة في الأراضي الزراعية التي ما تزال متبقية من عمليات الإصلاح الزراعي، إطلاق حرية النشاط الخاص، توحيد سعر صرف الجنيه. (الأهالي 12/4). ومن المفترض أن تنفذ الحكومة هذه الخطوات بداية شهر تموز القادم، حيث ستقدم موازنة عام 89/90. وإذا كانت الحكومة المصرية مترددة، فلأنها تخاف حدوث انتفاضة جديدة، لهذا حاولت المماطلة، إلى الحد الذي دفع الحكومة الأمريكية وقف جزء من المساعدة التي تقدمها سنوياً (130 مليون دولار). من أجل الضغط على الحكومة المصرية لكي تلتزم بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وبالتالي فهي ملزمة بتنفيذ الخطوات التي يطلبها الصندوق. لهذا يمكن القول أن الأشهر القليلة المقبلة، قد تحمل مفاجئات عديدة، حيث تتسارع المشكلات، ويزداد فقر الجماهير، كما تتصاعد المواجهات، فتتزايد المطالب العمالية، ويزداد عدد الإضرابات، في نفس الوقت الذي يتزايد التحرك الشعبي بأشكاله المختلفة. في هذا الوضع، يطرح السؤال: هل تشتعل "شرارة القلاقل"؟ هل ستشهد حدوث انتفاضة شعبية جديدة؟. الظروف العامة تشير إلى ذلك، ويبدو أنها متوقعة في أية لحظة، وعنوانها الدائم "رغيف الخبز"، الذي يشير إلى حالة من التعلق بالحياة، بعدما عجز الفرد عن تأمين وسائل عيش كريمة. إنها الكِسْرة الباقية من أجل الحفاظ على الحياة، لكنها تُسلَب أيضاً، هذه هي المشكلة/ المأساة. في كل الأحوال، المناخ الثوري هو الذي يسود مصر، وتفاقم الصراع الطبقي هو المنطق الذي تعيشه اليوم. أيار 1989
السودان بعد تخريب الحلول المختلفة لا دور سوى لليسار
في السودان عاد الجيش لاستلام السلطة، بعد سنوات خمس من سيادة "النظام الليبرالي"، وحكم الأحزاب المدنية، (أو المدنية-الطائفية). ولا شك أن ذلك كان متوقعاً منذ انتصار الثورة الشعبية في نيسان سنة 1985 والسبب هو ذات السبب الذي أدى إلى فشل تجربة "النظام الليبرالي"، سنوات 1964-1969، حيث عجزت الأحزاب التقليدية، عن أن تحكم، لماذا؟ هذا ما يجب أن يتوضخ، لكي لا يظل السودان يعيش نفس الدوامة، أي دوامة حكم العسكر، ثم حكم الأحزاب التقليدية، بينما هو يموت، نتيجة تفاقم مشكلة الفقر والجوع، والجفاف. ولكي لا يظل عُرضة لتأثيرات القوى الامبريالية، سواء المباشرة، أو من خلال النظام المصري، الذي لعب دوراً أساسياً في الانقلاب الأخير. هذا يطرح سؤالاً أولياً هو التالي: لماذا تعجز القوى التقليدية عن الحكم؟ ولا شك أننا أشرنا إلى ذلك مراراً آخر هذه الإشارات الانطلاقة العدد 206 كانون الأول 1988، كذلك، العدد 208 شباط 1989، وأيضاً العدد 210 نيسان 1989. لكن يمكن تلخيص المسألة بأن القوى التقليدية، تمثّل طبقياً فئات من البرجوازية العقارية والتجارية، متداخلة مع وضع طائفي معِّين، جعلها قادرة على "استقطاب" قطاعات واسعة من الجماهير الشعبية، انطلاقاً من انتمائها الطائفي هذا (الطائفة المهدية، والطائفة الختمية). ينتج عن هذا الوضع نتيجتان، الأولى: أن هذه القوى حينما تحكم تزيد من تبعية السودان للسوق الامبريالي العالمي، وبالتالي تُفاقم من مشكلاته، الناتجة أصلاً من تبعيته لهذا السوق، حيث تزيد من أزمة الجماهير الشعبية، نتيجة استمرار ارتفاع أسعار السلع والخدمات، والعجز عن رفع الجور لأنه يزيد من عجز ميزانية الدولة –العاجزة أصلاً. لهذا وجدنا أن ارتفاعاً هائلاً للأسعار تحقق خلال سنوات حكمها الأربع (وانتقل سعر الدولار من 8 جنيهات إلى 30 جنيهاً)، كما استمرت أزمة الديون الخارجية، والعجز في ميزانية الدولة. هذه الحالة تفرض عدم استقرار الوضع، نتيجة النشاط الجماهيري المستمر، ولقد شهدت السودان انتفاضات متتالية منذ سنة 1985، كما عاشت إضرابات مستمرة، مما يضعف السلطة، ويجعلها قلقة، وقابلة للسقوط. النتيجة الثانية: أن تداخل الطبقي والطائفي، يفرض على كل فئة من البرجوازية الاستعانة بطائفتها من أجل فرض "ديمقراطيتها" [أي دكتاتوريتها]، لهذا تنزع إلى إبعاد الفئة الأخرى (ويبدو هذا الصراع واضحاً بين الحزبين التقليدين، وحزب الأمة ممثل طائفة النصار "المهدية"، والحزب الاتحادي، ممثل الختمية). هذا التناحر من اجل الاستفراد بالسلطة يزد من عدم استقرارها، ويعرّضها لأخطار السقوط أيضاً. في إطار هذا الوضع المتجر، والذي يوحي بأن الأمور تسير نحو الفوضى (وهذه هي حالة السودان في الفترة الأخيرة السابقة للانقلاب)، يبرز الجيش على انه القوة الوحيدة القادرة على إعادة النظام، وعلى استقرار السلطة. هذه النتيجة تطرح سؤالين، الأول: لماذا تبدو مسألة الديمقراطية شكلية، وغير قادرة على خلق مناخ استقرار في السلطة السياسية؟ والثاني: ما هي حقيقة وضع الجيش، أي ماذا يمثّل؟ أن استقرار "النظام الليبرالي" غير ممكن إلا إذا استقرت الأوضاع الطبقية، وانتهت العوامل التي تجعل طبقات تنزع إلى النشاط الثوري دفاعاً عن مصالحها، ونتيجة الجوع والفقر، لأن المعادلة بسيطة، فالنشاط الثوري للجماهير يزيد من دور اليسار، وقد يوصله إلى السلطة بانتخابات ديمقراطية حسب توقعات البرجوازية والنظام الامبريالي العالمي، لذا فإن تصاعد النشاط الجماهيري يفرض على الطبقة المستغِلة (البرجوازية التجارية -العقارية-الطفيلية) الاستعانة، بالجيش، الذي هو أداتها، من أجل المحافظة على الأوضاع القائمة، وبالتالي فأمام تصاعد النشاط الجماهيري تبرز قوّة الجيش، وينهار "النظام الليبرالي". وفي السودان تبدو مشكلة أعوص، حيث أن أشكال النهب التي تمارسها البرجوازية التجارية –العقارية-الطفيلية، يزيد من نشاط الجماهير، في نفس الوقت الذي يؤثر فيه الوعي الذي يسكن الشعب، حيث يسود الوعي الطائفي والقبلي، في عدم اعتبار الديمقراطية الليبرالية هي المطلب الجوهري، بل يطغى الهم المطلبي -المعاشي لذا فالجماهير التي تنتفض من اجل تحقيق تحسين أوضاعها، لا تأبه لانهيار "النظام الليبرالي"، ولا تعتبر أن من مهمتها الدفاع عنه. لذا يبدو "النظام الليبرالي" هشاً لأنه يسمح بدخول الجماهير الشعبية ميدان النضال الشرعي، وبالتالي يؤدي –في ظل استمرار فقر الجماهير وإثراء الأثرياء –إلى نشوء وضع قلق، لا تبدو البرجوازية التقليدية قادرة على التحكم فيه، وإن كان حكم أحزابها التقليدية نتاجاً له. هنا يأتي دور الجيش، ماذا يمثل؟ القضية ليست وطنية أو لا وطنية الجيش، بمعنى أنه لا يجوز النظر له من المنظار "الوطني"، بل من الضروري النظر له من المنظار الطبقي، أب ماذا يمثل الجيش طبقياً؟ رغم أن عناصر الجيش وقسم من كادره الأوسط هم من جماهير العشب (أبناء فلاحين فقراء)، إلا أن تشكّله يبدو أنه يخدم طبقة محدودة، هي البرجوازية، وهذا يظهر في ارتباطات كبار الضباط فيه، الذين تتشابك مصالحهم مع هذه البرجوازية (ومع السوق الرأسمالية العالمية أيضاً، وأساساً). لهذا تأسس لكي بخدم سلطة هذه الطبقة، ورغم الاهتزازات التي قد يتعرض لها، يبقى محافظاً على دوره هذا، لذا فالجيش ليس محايداً، بل قوة صراع مناهضة للجماهير الشعبية. وما دامت لم تتحقق إعادة بنائه الجذرية، يظل خطراً داهماً، يمكن أن يتدخل في الوقت الذي ترى البرجوازية التقليدية محلياً، والنظام الامبريالي العالمي، أن ذلك ضرورياً. وهذا ما حصل في السودان، فقد كان الجيش أداة البرجوازية التقليدية من الأساس، التي ورثته عن الاستعمار، ورغم بعض المحاولات من اجل تغيير بنيته، فلقد استمر أداة بيد البرجوازية التقليدية، بل أن كبار ضبّاطه غدوا خدماً لها، من خلال إدخالهم في لعبة المناصب في الشركات والبنوك، والنشاط الطفيلي. وكان من الخطر النظر باستهانة لهذه المسألة، منذ انتصار الانتفاضة سنة 1985، ولقد علمت البرجوازية التقليدية التي حكمت على الاستفادة من دوره دون أن تجري أي تعديل على الوضع، لهذا فحالما ظهر عجز البرجوازية عن الاستمرار في الحكم، وحالما ارتأت الولايات المتحدة، أن من مصلحتها عودة الحكم العسكر، فعلت ذلك بكل سهولة، مستعينة بخدمات النظام المصري، العارف بكل أوضاع السودان، والقادر على التأثير فيها. نطرح هذه المسائل لأن هناك أوهاماً حول إمكانية إقامة نظام ديمقراطي ليبرالي في ظل سيطرة البرجوازية التقليدية، أي في ظل سيادة سياساتها الاقتصادية، وفي إطار استمرار بنية الجيش دون تغيير. ولعل الانقلاب الخير أوضح المسألة من الأساس، فقد استفاد من كل المشكلات التي أوجدها حكم البرجوازية التقليدية، لكي يلغي النظام الليبرالي، ويلغي نشاط الأحزاب المختلفة، والنقابات والاتحادات، في نفس الوقت الذي كرّس السياسات الاقتصادية التي اتبعتها البرجوازية التقليدية. ولا شك أن ذلك سوف يفضي إلى الأزمة من جديد، لأن مشكلات الجماهير لن تحلّ، وبالتالي فسوف تتفاقم، ويعود النشاط الثوري للجماهير لكي يفرض نفسه. لكن الحلّ لا يمكن في إسقاط فئة حاكمة، وتنصيب أخرى، بل في تغيير السياسات الاقتصادية أولاً، وهذا يعني نفي البرجوازية التقليدية بمختل فئاتها. وتغيير بنية الدولة، بما فيها الجيش عندها يكون ممكناً إرساء أسس نظام ديمقراطي، يكفل حرية الرأي والنشاط والمشاركة لجماهير الشعب. وهذا كما نعتقد هو دور اليسار، القادر وحده على إخراج السودان من مأزقة، وتأسيس نظام ديمقراطي منسجم، في نفس الوقت الذي يكون قادراً على التخفيف من مشكلات الجماهير، وإخراجها من دوامة الفقر والجوع، والموت. آب 1989
مصر: إضراب عمال الحديد والصلب نظرة على تصاعد النشاط الجماهيري
إن تغيير الأنظمة المستبدة، يكون ممكناً حينما يشتد الصراع الاجتماعي، وتدخل الجماهير ميدان النضال من أجل تحصيل حقوقها، وكلما تفاقم الصراع، تضعف هذه الأنظمة، وتأخذ في التفكك، إلى الحدّ الذي يجعل من غير الممكن استمرارها، لذا لا يمكن فهم آفاق الأوضاع القائمة، إلا بالنظر إلى النشاط الجماهيري، من خلال البحث في أسبابه، والأسباب التي تدفع إلى تفاقمه، كما البحث في مدى اتساعه، ومدى مشاركة طبقات مختلفة فيه، من أجل تحديد الدور الذي، من المفترض، إن تلعبه الحركة السياسية، وبالتالي تحديد مدى جدية الحركة السياسية القائمة، وخصوصاً اتجاهاتها التي تعتبر أنها ممثلة الجماهير الشعبية، وممثلة العمال. ولعل مصر خير مثال، يمكن البحث فيه لهذا الغرض، إذا كان دور الحركة السياسية المعارضة (خاصة حزب التجمع) يضعف، ويتهمّش، كما أنها تعاني من انقسامات كبيرة (أشارت إليها صحيفة الأهالي الناطقة باسم حزب التجمع، العدد 410 تاريخ 16/ 8/ 1989)، فإن النشاط الجماهيري يتصاعد بشكل ملفت، إلى الحدّ الذي يمكن الاستنتاج منه، أن حِدّة التمايز الطبقي، بلغت أقصاها، إلى الحدّ الذي يجعلنا نتوقع حدوث انفجارات كبيرة، وهذا ما يتوقعه حزب التجمع، حيث تشير افتتاحية جريدة الأهالي "وماذا تفعل الحكومة إزاء انفجارات متوقعة مع اشتداد الغلاء والأزمة الاقتصادية والبطالة؟" (عدد 9/ 8/ 1989). كما تشير إلى إن خنق الديمقراطية في مصر، يولّد البديل الذي هو "انفجارات هنا وهناك" (العدد 16/ 8/ 1989). والمتابع لاشتداد الصراع الطبقي، يلاحظ وجود شكلين من أشكال الصراع العنيف، وهما يتفاقمان بقوة وتسارع، الأول: الانتفاضات متتالية كبيرة، )انتفاضة يناير 1977)، وانتفاضات جزئية (أو قطاعية) مثل انتفاضات كفر الدوار، والأمن المركزي. وهي انتفاضات تنتج عن الاختلال المتوالي في العلاقة بين الأجور والأسعار، حيث ترتع الأجور بشكل محدود وبطيء (وفي الغالب تبقى مجمّدة) بينما ترتفع الأسعار بشكل جنوبي، خصوصاً حينما تسعى الحكومة إلى رفع الدعم عن السلع الأساسية (الخبز، الدقيق، السكر، الزيت...). حيث تتضرر قطاعات واسعة من الجماهير، وتُدفع إلى حالة "الموت جوعاً ".لذا يكون الاحتجاج العنيف والشامل، هو الشكل المناسب، والعفوي في نفس الوقت. والثاني: تصاعد النشاط العمالي، حيث تزايد عدد إضرابات، والاعتصامات، وتزايدت المطالبة بحقوق مطلبية، وإذا كان التصاعد ابتدأ منذ عام 1984، إن السنتين الأخيرتين شهدتا تصاعداً كبيراً، وتركزت في مراكز التجمع العمالي الكبير. وهذا ما اعترف به نائب رئيس اتحاد العمال (وهو معيَّن من قبل السلطة). فإن أشكال الاحتجاج المختلفة، بدأت تتكرر، وعدَّد مواقع حدوثها في مصانع أسكو، المحلّة، كفر الدوّار، وأخيراً مجمَّع الحديد والصلب (المصوّر 18/ 8/ 1989). وهذا ما دعا جريدة الأهالي إلى الإشارة إلى تزايد حركة الاحتجاج في المجتمع المصري، وبإشكال مختلفة، منها الاعتصام والإضراب، والتظاهر، والامتناع عن تقاضي الأجر (عدد 9/ 8/ 1989). ولعل الإضراب العمالي الذي وقع أخيراً في مجمّع الحديد والصلب (يعمل به 26 ألف عامل)، والذي قمع بشدة، حيث استشهد عاملان، وجرح 14 عاملاً، وجرى اعتقال 750 عاملاً، يعبّر عن مرحلة جديدة في الصراع الاجتماعي، ويؤشر إلى عمق الأزمة التي تعيشها الجماهير الشعبية، والطبقة العاملة على وجه التحديد. والمسألة التي تزيد من تأزم الأوضاع، وتنذر بحدوث إنجازات عمالية وشعبية كبيرة، هي التزام الحكومة بـ"روشيتة" صندوق النقد الدولي، التي تدعو إلى تحرير الأسعار، وإلغاء الدعم عن السلع الأساسية، وإخضاع سعر الجنيه مقابل الدولار إلى تقلبات السوق... وإذا كانت الحكومة قد عملت على تأجيل هذه الإجراءات، أو تنفيذ بعضها وتأجيل الآخر، خشية من الإنفجارات المرقب، فإن أعباء الديوان، والحاح الصندوق، يدفعان إلى تنفيذ هذه الروشيتة في النهاية. لذا، يمكن القول أنه سوف يزداد عنف النضال الجماهيري، ويتصاعد ويتعمق، ولا شك أن كل ذلك سوف يضعف السلطة، لكن دون أن يعني ذلك حدوث التغيير المطلوب، فالتغيير ما زال إمكانية، وربما، إذا لم يأخذ مساره الصحيح، أن يؤدي إلى أشكال من "التغيير" محدودة، فالأمر يتوقف على دور الحركة السياسية، التي لا تزال تغرق في أصلاحيتها، وكل ما تفعله هو تنبيه السلطة إلى مخاطر الانفجار، ومطالبتها بإيجاد متنفَّس ديمقراطي، وتحقيق إصلاحات جزئية، والعمل على "ترشيد" سياساتها، وفي هذا الوضع، يكون من الطبيعي، حدوث انقسامات ي الأحزاب، وابتعاد الجماهير عنها. تصاعد الصراع الطبقي، يفرض تسارع تبلور النشاط السياسي الموازي، الذي يعبّر عن جذرية الارتباط بالجماهير، وعن وضوح الرؤية فيما يتعلق بالمسار الذي تأخذه الأحداث، وبالتالي تحديد طريق تطور النشاط الجماهيري، والهدف المراد الوصول إليه. أيلول 1989
مصر أميركا ومصير القطاع العام حرب ضد طموح التطور الصناعي
منذ مدة يدور حوار في مصر، حول مصير القطاع العام. ورغم أن خطوات كبيرة اتخذت منذ بداية "عصر السادات" من أجل تحجيم دورة، وتحويله إلى "خادم" في مصلحة القطاع الخاص الذي فتحت له كل الأبواب، ليصبح القطاع المهيمن في الاقتصاد، ورغم ذلك، عاد البحث في مصير هذا القطاع. لكن هذه المرة من أجل تصفيته، لهذا طرحت اقتراحات مختلفة كان منها اقتراح أميركي بأن تقدم بعض صناديق "المساعدة" الأميركية، قروضاً للعمال لكي يشتروه. أو على الأقل أن يشتروا نسبة منه. لكن كل حلول البيع لم تنجح، لهذا حلت الحكومة المشكلة نظرياً بقرار إداري، حيث فصلت موازنة هذا القطاع عن موازنة الدولة،، وهذه هي الخطوة الأولى، حيث "استقل" عن الدولة. أو يمكن القول، أنها الخطوة الأولى لتخلي الدولة عنه. ماذا سيحدث بعد ذلك؟ الأمور واضحة كما نعتقد. حيث أن القطاع العام (الذي قدرت قيمته بـ 300 مليار دولار) سيخسر وهو يخسر الآن، نتيجة تطويعه لخدمة القطاع الخاص، ونتيجة نهبه من جانب الفئات المتحكمة فيه، ولقد كان هذا السبب هو مبرر كل الدعوة من أجل تصفيته. وحينما يخسر، فسيضطر للاستدانة من أجل تغطية العجز، ثم يعجز عن السداد، هنا تأتي الخطوة الأخيرة، حيث يباع قطعة قطعة، للدائنين الذين دفعوا الأمور إلى هذه النتيجة، وهم رأسماليون محليون وأجانب، الذين لن يشتروا سوى المشروعات "المفيدة". أما المشروعات التي لا تحقق ربحاً سريعاً، فستبقى من حصة الحكومة (أي سوف تزيد من عبء الدولة في النهاية، لا إن تقلل من هذا العبء، حسب إدعاءات صندوق النقد الدولي). هنا يطرح التساؤل لماذا هذا الضغط المحموم الذي تمارسه الولايات المتحدة، من أجل التخلص من القطاع العام؟ ثم لماذا الإصرار على تصفيته، ما دامت مصر أصبحت دولة تابعة؟ إن استخدام الدولة في الاقتصاد صيغة ليست جديدة، وهي الصيغة السائدة في الدول الاشتراكية في الوقت الراهن، كما إن بعض الدول الرأسمالية قد استخدمت هذا الأسلوب، حينما عانى اقتصادها من الأزمات، وكانت صيغة فعالة في تجاوز بعضها، أما في البلدان المتخلفة فقد مثلت الصيغة الوحيدة في التطور. ما دام الرأسمال الخاص غير معني بالتطوير الصناعي، الذي هو عماد كل تطور في هذا الوقت، وما دامت السيطرة الإمبريالية تمنع التطور المحلي، في ظل "المنافسة الحرة" التي هي قانونها الأساسي. لهذا استخدمت الدولة في الاقتصاد، ولقد حقق هذا الاستخدام تقدماً مهماً، وأصبح القطاع العام قوة اقتصادية كبيرة. وقيمة هذا الأسلوب أنه يمركز رأس المال. وتكفي الملاحظة أن قيمة القطاع العام في مصر هي 300 مليار دولار تقريباً، من أجل تبيان قدرته على مقاومة "المنافسة الحرة"، ويكون من المستحيل ابتلاعه، ويستلزم الخضوع لشروطه. ولما كان التمركز الرأسمالي الذي حققته الرأسمالية الأميركية، يفترض في إطار المنافسة الحرة، قدرته على هزيمة الرأسمال الخاص الذي لم يصل إلى مستواه في التمركز، فإن تمركزاً في يد دولة أجنبية عنه يحقق اختلالاً في حساباته، وبالتالي يحقق اختلالاً في السياسات الاقتصادية التي يرسمها لمختلف مناطق العالم. ثم إن قيمة تمركز رأس المال أنه يسمح بتحقيق تطوير صناعي في مناطق، لا ترغب الرأسمالية الأميركية (وقبلها الأوروبية، وبعدها اليابانية) تحَّولها إلى مناطق صناعية (وتجربة القطاع العام في مصر. مهمة في هذا المجال). لقد كان الهدف الأساسي من إنشاء القطاع العام هو الصناعة، وجرت الاستفادة من تمركز رأس المال من أجل تحقيق هذا الغرض ولهذا فإن هدف الولايات المتحدة (أي الرأسمالية العالمية، بقيادة الرأسمالية الأميركية) هو تصفية كل "الكتل" التي تبدو عصيّة الابتلاع، وعصية على سيطرة الرأسمال الإمبريالي وبالتالي كان من الضروري أن تتخلى الدولة عنها لكي يسهل ابتلاعها، أو تدميرها، بحيث يمكن أن تتحول بعض المصانع إلى فروع لشركات متعددة الجنسيات ويمكن أن يصفى بعضها الآخر لأنه لا حاجة للإمبريالية. وبهذا يذوى دور الصناعة في الناتج المحليّ الإجمالي، وتزداد الحاجة إلى الاستيراد، كما يصبّ ربح المصانع المباعة في جيوب أصحاب الشركات متعددة الجنسيات. إن هذا الهجوم على القطاع العام، يهدف إلى تدمير ما تبقى من التقدم الذي تحقق في فترة جمال عبد الناصر، والعودة بمصر ملحقاً تابعاً ضعيفاً، يخضع لكل ما يطلبه صندوق النقد الدولي. أنها خطوة من أجل أن تزيد الشركات الاحتكارية الإمبريالية نهبها لمصر، وبالتالي تفاقم من فقر الجماهير، وتزيد من الذين لا يستطيعون العيش، أي تزيد من دفع الجماهير إلى حافة الموت جوعاً. إن دور الدولة القومية الاقتصادية هو خيار التقدم في كل الأمم المتخلفة، ورغم الإشكالات التي نشأت في التجربة، والتي كانت نتيجة شره فئة من البرجوازية الصغيرة، التي عملت على نهب القطاع العام، وتحويل أرباحه إلى ثورة خاصة، رغم ذلك، فإنه الخيار الوحيد الذي يسهم في التقدم، لأنه الخيار الوحيد الذي يسمح بتحقيق تطوير صناعي، وهي الخطوة الأولى في طريق التقدم. ولهذا تشن الولايات المتحدة الحرب ضده، وتعمل من أجل تصفيته، وبالتالي أنها في النهاية حرب اختيارات التقدم أو التبعية، والولايات المتحدة تعمل من أجل تعميق التبعية، هذه سياستها التي تسمح لها إعادة إنتاج ذاتها باعتبارها إمبريالية، وتسمح لها بإعادة إنتاج النظام الإمبريالي العالمي، في ظل زعامتها.
السودان. الانفجار من جديد
كان السودان قد شهد انتفاضة شعبية كبيرة، في بداية عام 1985، تُوَّجت بانتصارات في 6 نيسان ذ1985، حيث انتهى نظام حكم جعفر النميري الذي استمر طيلة ستة عشر عاماً، وقام حكم عسكري انتقالي استمر ما يقرب من السنة، أفضى إلى قيام نظام جديد، من خلال انتخابات أعادت حكم الأحزاب التقليدية القديمة، التي كانت تحكم السودان كلما عجز العسكر عن الاستمرار، والتي كانت تقود إلى عودة حكم العسكر نتيجة العجز الذي تبديه، فتفاقم المشكلات الاقتصادية والسياسية، مما يفرض عليها التفاهم مع بعض الضباط من أجل القيام بانقلاب عسكري، أو انتظار هؤلاء في انقلاب عسكري يطيح بها، ويبعدها عن الساحة السياسية. وإذا كان نظام جعفر النميري قد سقط في 6 نيسان عام 1985، وإذا كانت الأحزاب التقليدية (الأمة، والاتحادي) قد استلمت الحكم منذ نيسان عام 1986، فإن المشكلات الجديدة تلقي بظلالها على التجربة. فقد عادت المظاهرات إلى شوارع عدد من المدن السودانية، كما شهدت السودان إضرابات مختلفة، طيلة الفترة الماضية. والمسألة البارزة، هذه المرة أيضاً، هي المسألة الاقتصادية، حيث تفاقمت مشكلة الجوع، وشهدت السودان فقداناً للمواد الأساسية، وخصوصاً الخبز. وبالتالي عادت السودان لتدخل دوامة الغليان الشعبي. ما هي الأسباب؟ لا شك أن الكوارث الطبيعية التي تعرضت لها السودان خلال الأشهر الأخيرة، أدت إلى نشوء أزمات، من مثل افتقاد السلع وخصوصاً الخبز، وغياب المواصلات نتيجة التخريب الذي سببته الفيضانات في البنية الأساسية للدولة وللاقتصاد. ولا شك أن زحف الجراد الذي تزامن الفيضانات، أدى إلى تدمير محاصيل زراعية عديدة، وبالتالي أضرّ بالاقتصاد. لكن يجب أن نتساءل: لماذا كان تأثير كل هذه الكوارث الطبيعية مدمراً ورهيباً إلى هذا الحدّ؟ لن ندخل في التفاصيل حول الوضع الاقتصادي السوداني، قبل حدوث الكوارث، لكن يمكن الإشارة إلى أن ديون السودان الخارجية بلغت 13 مليار دولار، وإن وارداته المقدرة للعام الحالي هي 5889 مليون جنيه. وبالتالي فإن كل دخل الدولة لا يستطيع سداد فوائد الديون المستحقة، ولا تمويل الواردات، وهذه حالة غدت مزمنة، لم توجدها الكوارث، وإن كانت قد أسهمت في تفاقمها، بل جاءت نتيجة السياسات الاقتصادية التي طبقت منذ أستقل السودان، والتي فرضتها الطبقة البرجوازية التقليدية، بجناحيها (الأول ممثلاً بحزب الأمة والثاني بالحزب الاتحادي، والمعبِّرة عن كبار ارستقراطية الطائفتين المهدية والختمية)، أو التي فرضتها الشرائح الطفيلية والبيروقراطية في فترة حكم جعفر النميري. وإذا كانت الأزمة الاقتصادية قد أدت إلى سقوط جعفر النميري، وأفضت الانتخابات التي تلت ذلك إلى نجاح الأحزاب التقليدية، على أمل أن تكون قادرة على حلِّ تلك الأزمة، فإن حوالي سنتين ونصف من حكمها، أعادت طرح الإشكالية ذاتها من جديد، فهل تستطيع هذه الأحزاب حلّ الأزمة الاقتصادية (ولا نريد هنا الغوص في البحث في المشاكل السياسية، وقدرتها على حلّها)؟ لعل الإجابة على هذا السؤال أهم من الشطط في الحديث عن الآثار التي تركتها الكوارث الطبيعية، لأن تأسيس بنية اقتصادية، متينة، كان سيجنب السودان جزءاً مهماً من هذه الكوارث، وسيقلل من أثارها على الجماهير، التي كادت تموت جوعاً نهاية حكم جعفر النميري (حيث بلغ عدد الأشخاص المهددين بالمجاعة، حوالي 11 مليوناً من أصل 21 مليوناً هم عدد سكان السودان أنئذ)، ثم ها هي تكاد تموت من الفيضانات، ومن الآثار التي خلفها زحف الجراد. وبالتالي، فلا زال السودان يقف في النقطة عينها التي أدت إلى حدوث الانتفاضة الشعبية بداية عام 1985. وهذه المسألة هي التي أعادت قطاعات من الجماهير إلى الشارع لكي تمارس دورها الاحتجاجي، حيث شهدت السودان منذ مدّة إضرابات عمّالية مختلفة، أو يمكن القول أن الإضرابات الحالية لم تنقطع منذ انتفاضة نيسان، كما شهدت في الفترة الأخيرة مظاهرات طلابية في عدد من المدن السودانية، من بينها العاصمة الخرطوم. وهذا يجعلنا نشير إلى أن الأحزاب الحاكمة، لم تستطع حلّ مشكلات السودان، الأساسية، المتمثلة في تطوير البنية الاقتصادية الاجتماعية، بما يحقق نمواً في الدخل المحلي، وبما يوفر العمل لقطاعات كبيرة، لكن أساساً (وهذا ما لا يستطيع هذه الأحزاب فعله) إنهاء علاقات التبعية للسوق الإمبريالي العالمي، بما يحقق نمواً محلياً مستقلاً، يتساوى ارتفاع الأسعار فيه، مع ارتفاع الأجور، ولا تصبح العملة مهددة بالانهيار أمام التقدم المذهل الذي يحققه الدولار محلياً، حتى يكاد يصبح عملة محلية، أو على الأقل وحدة قياس، خصوصاً في مجال أسعار السلع والخدمات. لأن تحسّن أوضاع الجماهير لا يتحقق إلا بوقف آلية النهب الإمبريالي، وأشكال النهب التي تمارسها الفئات المستغلة-الحاكمة، وتوظيف القسم الأساسي من دخل الدولة، ومن الدخل المحلي من أجل تحقيق التقدم الاقتصادي الاجتماعي. ولأن الأحزاب الحاكمة عاجزة عن تحقيق ذلك، بحكم كونها التعبير عن الفئات البرجوازية (التجارية خصوصاً)، والمعنية باستمرار العلاقة مع السوق الإمبريالي العالمي، لأنه وسيلة إثرائها، ومجال نشاطها، لأنها كذلك فقد اهتمت بترتيب أمور السلطة، بما يجعلها قادرة على السيطرة، وحماية مصالحها، ولهذا استعانت برموز مرحلة النميري، وأعادت جهاز الأمن المنحل، وتعكّزت على الضباط حُماة النميري، ثم تحالفت في حكومة "الائتلاف الوطني" مع الجبهة الإسلامية وليدة مرحلة جعفر النميري، في الوقت الذي همّشت فيه قوى الانتفاضة، وأسقطت البرنامج الذي قامت الانتفاضة من أجل تحقيقه. من هنا نقول أن مشكلة السودان، هي مشكلة الفئات المستغلة-الحاكمة، ذات التلاوين المختلفة، والتي تنفذ السياسات عينها. وإذا كانت الكوارث الطبيعية أصابت السودان، فإن السياسات المتّبعة، سمحت لها أن تدمّر السودان، وأن تحدث خسائر جسيمة.
التبعية وأزمة المجتمع العربي
إذا كانت السياسة هي التعبير المكثف عن الاقتصاد، فإن فهم الأزمات السياسية التي يعيشها الوطن العربي، تفرض البحث في الاقتصاد، لأن كل المظاهر السياسية هي انعكاس لبنية الاقتصاد. وبالتالي فإن فهم الأزمات السياسة يفرض السعي من أجل فهم الأزمة الاقتصادية التي يعيشها المجتمع العربي. وإذا كانت البنية الاقتصادية الاجتماعية العربية تتسم بالتخلف والتبعية معاً، فإن المطمح الذي يحدونا هو تحقيق التقدم، الذي يعني «دخول الحضارة الحديثة» التي هي في الجوهر، تأسيس المجتمع الصناعي، هذا الحلم الذي بدأ منذ الاحتكاك بأوروبا الرأسمالية، في نهاية القرن الماضي، والذي كان حلم فئة قليلة، طمحت في أن تؤسس مجتمعاً برجوازياً. لكنه استمر، برغم العثرات والعجز، ليغدو اليوم حلم مجتمع بأسره. لكن الفارق بين الحلم والواقع كبير، إلى الحد الذي جعله أقرب إلى الخيال. وفي هذا الإطار تنمو كل الفذلكات النظرية، ويتقيأ التاريخ كل حثالاته، في صورة مشاريع هرمة. ويتوه الفكر العربي في تصورات، و تنظيرات مذهلة الخفة. والمشكلة مركبة، لأنها تتعلق بالتخلف البنيوي، القائم في أساس بنية المجتمع العربي، بل وبالتبعية التي يفرضها التخلف من جهة، وجبروت الاستعمار ثم الإمبريالية، هذا الجبروت الذي فرض نفسه على كل المجتمعات المتخلفة، فأصبح عامل تأثير أساسي، رغم كونه عاملاً خارجياً. لكن التخلف الاقتصادي الاجتماعي، ونشوء فئات محلية ذات عوى «غربي»، تطمح لأن تصبح جزءاً من النظام الإمبريالي العالمي، حتى ولو كان جزءاً تابعاً هزيلاً، وأيضاً العجز عن تحديد الاختيارات الصحيحة في التقدم/ التطور، جعل التأثير الخارجي مهماً إلى هذا الحد. لهذا فالمشكلة هي مشكلة البنية الاقتصادية الاجتماعية الراهنة، ومشكلة الاختيارات التي تسمح بتجاوزها. فما هي إذن مشكلة التبعية؟ وكيف تكرس التخلف؟ كيف تضع الاقتصاد العربي في أزمة متفاقمة، وبالتالي تنعكس في البنية السياسية كلها؟ إن مظهر التبعية الاقتصادية هو سياسة النهب التي يتبعها الرأسمال المالي الإمبريالي، من خلال الشركات الاحتكارية، في تعامله مع الوطن العربي والتي تؤدي إلى تفاقم حالة الإفقار الجماهيري لكنها تؤدي إلى امتصاص جزء مهم من الدخل القومي، عبر قنوات مختلفة، وهو ما تريده الإمبريالية، لكي تحافظ على مستوى معيشي مرتفع لقلة من الرأسماليين، وعلى مستوى معين من التماسك داخل المجتمع الرأسمالي، في البلد ـ المركز. لكن ولضمان ذلك تكون الإمبريالية معنية، بإعادة تكوين البنية الاقتصادية الاجتماعية كلها، والسعي من أجل أن تظل وثيقة الارتباط بها. وهنا يطرح التساؤل الآخر. ما هو خيار التطور، الذي يلغي كل ذلك ويؤسس بنية اقتصادية اجتماعية، متمحورة على ذاتها، بمعنى أنها تجعل التراكم الرأسمالي في خدمة المجتمع ذاته، لكي يسهم في تحقيق تطوير في المستوى المعاشي للجماهير العربية؟ 1ـ نهب الاقتصاد وتفاقم التبعية العربية: إذا كان الدور السياسي (والعسكري) للدول الاستعمارية هو الطاغي، في الوطن العربي، قبل الخمسينات، فقد أصبح الدور الاقتصادي هو الطاغي الآن. لقد احتل الاستعمار الوطن العربي لسنوات طويلة، ثم سحب بعض قواته العسكرية دون أن ينهي هيمنته السياسية، لكن النضال الوطني العربي استطاع أن يغير من هذه المعادلة، خصوصاً حينما سيطرت قوى وطنية على السلطة في العديد من الدول العربية. لكن الملاحظة الظاهرة اليوم، هي تلك العلاقة الاقتصادية التي غدت تربط بين الوطن العربي بالدول الإمبريالية، وكأن قضية الاستقلال غدت مثار النقاش. ليس لأن الوطن العربي قد احتل وإن كانت قد عادت لتتواجد قوة عسكرية على أرضه، ولكن لأن آليات حركة الاقتصاد، وسياق نموه، تشيران إلى عمق ارتباطه بالشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية، التي أصبحت تتحكم بمسار حركته. وهنا نواجه بمجالين هامين الأول: مسألة البنية الاقتصادية ذاتها، فلقد أخذت حركة الاقتصاد تتجه نحو قطاعات معينة، لا تسهم في تحقيق التقدم والنهوض الاقتصاديين، بل كل ماتوضح أنها تخدم الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية.لهذا تقلص الاهتمام (وربما يكون التعبير الأدق، هو انعدام الاهتمام) بالزراعة مثلاً، إلى الحد الذي أطلق الحديث عن تحقيق« الأمن الغذائي» لأن الوطن العربي أصبح يستورد كل المنتجات الزراعية من الخارج. وكذلك حصل مع الصناعة، التي افتقدها الوطن العربي منذ البدء، وظلت كل محاولات التصنيع، سوى ما يخدم الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية، وهنا نعود إلى دوامة ذاتها. والمجال الثاني هو بالتالي تحصيل للمجال الأول، ويتمثل في اتساع نطاق التجارة، في بعدها الاتحادي، أي تجارة الاستيراد. ولاشك أن هذه تصب مباشرة في خدمة الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية، لأنها تعني استيراد السلع التي تنتجها هذه الشركات. لهذا نرى مثلاً أن الميزان التجاري للولايات المتحدة، يعاني من العجز، إلا في العلاقة مع الدول العربية، حيث يشهد إنعاشاً دائماً، ويحقق أرباحاً تصل إلى خمسة مليارات دولار (حسب أرقام عام 1986).ولاشك في أن غياب الاهتمام بما أطلق علية «التنمية الاقتصادية» أي تنمية وتطوير البنية الاقتصادية العربية (وأساسها الزراعة والصناعة)،وبالتالي العجز عن التصنيع، والإنتاج الزراعي، يفرض الحاجة إلى الاستيراد. ولكن الاستيراد يحتاج إلى الاستيراد. ولكن الاستيراد يحتاج إلى رأسمال، الذي إذا توافر مؤقتاً ولدى بعض الدول، فلن يتوفر دائماً، الأمر الذي يعني تفاقم مشكلة الاستدانة. هذه المشكلة التي لها قصة أخرى، سوف نشير إليها لاحقاً. لكن، لماذا لا يجري تطوير البنية الاقتصادية؟ هنا نصطدم بمشكلتين، تهمنا الآن، المشكلة الأولى فيهما، وهي مشكلة السيطرة الاقتصادية الإمبريالية. لهذا قلنا منذ البدء إن الدور الاقتصادي الإمبريالية. رغم أن الاقتصاد هو السبب في السيطرة العسكرية، أو السياسية. إن ما تهدف إليه الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية وبالتالي الدول الإمبريالية، هو نهب الوطن، على شكل نهب للمواد الأولية فيه، التي هي حاجة مهمة، في عملية إنتاج السلع، سواء المسوقة في الدول الإمبريالية أو المباعة في كل بلدان العالم الأخرى. ويجري النهب هنا من خلال «سطوة القوة»، من جهة، و«حالة التخلف»التي يشهدها الوطن العربي من جهة أخرى مما يجعلها تنهب، وفق أسعار زهيدة في الغالب.كما يتم النهب على شكل نهب لرأس المال المحلي، أي نهب ما يطلق عليه الدخل القومي، من خلال قنوات مختلفة، عديدة، متشعبة، منها استثمار رأس المال، ومنها التجارة، وبيع الأسلحة، و... الخ. إن «سطوة القوة» و «حالة التخلف» تسمحان بأن يصبح الشركات الاحتكارية، وكل أدواتها في بنية الاقتصاد، كبيراً إلى الحد الذي يجعلها تتحكم بآلية حركة الاقتصاد، (مثل وقف تطوير الصناعة، إهمال الزراعة، تنمية قطاع الخدمات، والتجارة) ويسمح لها بتحويل البنية الاقتصادية المحلية، إلى تابع للبنية الرأسمالية العامة، مما يربط الاقتصاد المحلي بكل تقلبات السوق العالمي. وتحديداً فيما يتعلق بكل الظواهر السلبية فيه، مثل التضخم، ارتفاع أسعار السلع، انخفاض سعر العملة المحلية... الخ هنا تتبلور التبعية. والتبعية تعني ارتهان الاقتصاد المحلي، للشركات الاحتكارية والدول الإمبريالية، والذي يغدو دائمة بحاجة للتكيف وفق حاجة تلك الشركات، وهاتيك الدول، مما يفقده صفته الوطنية، ويبعده عن أن يكون اقتصاداً يلبي رغبات الطبقات المحلية، (سوى فئة معينة)، خصوصاً الجماهير الشعبية. إن الشركات الاحتكارية تسعى من اجل توثيق تبعية الوطن العربي، لكنها تحقق مصالحها، بأقصى ما يكون من القدرة، الأمر الذي يسمح بالقول إن الوطن ينهب. 2ـ مشكلة ديون خارجية، أم مشكلة اقتصاد؟ ومن يتابع الأحداث الاقتصادية، يلاحظ مدى الاهتمام الذي أصاب مسألة الديون الخارجية للدول المختلفة. وإذا كان الاهتمام في الماضي قد نتج عن حاجة الدول للقروض والمساعدات فإن الاهتمام اليوم ينطلق من الحاجة إلى القروض، ومن العجز عن تسديدها معاً. وبذلك فقد غدت المشكلة مشكلتين. لهذا وجدنا بعض دول أميركا اللاتينية تلجأ إلى أسلوب وقف تسديد فوائد الديون، وتدعو لتشكيل منظمة تضم الدول المدنية. كما وجدنا فيديل كاسترو يطلب منذ مدة، ليس بوقت تسديد الفوائد، بل إلغاء الديون. ولما كانت مشكلة الديون، قد طالت عدداً من الدول العربية، وأصبحت عبئاً حقيقياً، فقد لجأ بعضها إلى السعي من أجل إعادة جدولة تسديد أقساطها ومطالبه بعض الدول الرأسمالية بتقديم قروض لتسديد أقساطها، وبذلك فقد أخذت هذه المشكلة تكبر، وبدأت خطورتها تظهر للعيان، دون أن تجد الحل الذي يحد من تلك الخطورة، أو على الأقل يحد من الحاجة الدائمة للقروض. وإذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه (وهي على الأرجح مستمرة) فإننا سوف نصل إلى زمن نبيع فيه الوطن بالمزاد، وربما لن يفي بحاجة الدائنين، فنباع نحن عبيداً في عصر التكنولوجيا. والذي يجعل القضية جادة إلى هذا الحد أن المشكلة تتفاقم، لذلك نقرأ كل عام حصيلة الديون المتراكمة على كل بلد، وتراكم الفوائد المستحقة الدفع، تلك الفوائد التي تزداد نسبتها إلى الدخل المحلي لكل بلد، ازدياداً مضطرداً. فكما قلنا لقد غدت المشكلة مشكلتين: الأولى: عبء الديون التي تعجز موازنة الدولة، في كل هذه البلدان، عن سداها، لتصبح مجالاً لطلب المزيد من الديون من أجل الإيفاء بالفوائد، وهذه عملية متتالية، يمكنها وحدها أن توجد تراكماً هائلاً للديون، كيف لا والحاجة للاقتراض من صلب بنية الاقتصاد السائد؟ وهذا يعني أن هناك تسارعاً كبيراً في زيادة الديون، لهذا نجد مثلاً أن ديون مصر كانت سنة 1986 تقريباً نحو 40 مليار دولار، وصلت عام 1988 إلى 50 مليار دولار. وهذا يعني أنها قد تصل هذا العام أو العام القادم إلى 70 مليار دولار. ثم إن الديون وفوائدها قد فرصت تدخل قوى خارجية (الولايات المتحدة، من خلال البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي) في السياسات الاقتصادية المحلية، وفرضها خطوات معينة، تخدم سيطرة الرأسمال الإمبريالي، وتدعم اتساع استيراد السلعة الرأسمالية. وهذا يعني المزيد من التبعية الإمبريالية، وبالتالي تلبية احتياجاتها، فتمعن في نهب الدخل المحلي، ليس من خلال نشاط شركاتها المتعددة الجنسية، فقط، ولا من خلال إغراق أسواقنا بسلعها فحسب، بل ومن خلال فوائد الديون، التي غدت مصدراً جديداً لمراكمة رأس المال لديها. والمشكلة الثانية: هي مشكلة لحاجة إلى الديون، أي إننا نلمس هنا المشكلة الجوهرية فلماذا نحتاج إلى الاستدانة؟ هذا يرتبط بطبيعة السياسات الاقتصادية المتبعة، التي تهدر الدخل المحلي، دون أن تسعى لإتباع السياسات التي تعيد مراكمته، ومن ثم تزيد من هذه المراكمة. والسبب أن الاقتصاد يختصر إلى تجارة، أي إلى استيراد السلع، وبيعها في السوق المحلي، ومن ثم تصدير الربح إلى البنوك الخارجية. أي إنه ليست هناك دورة رأسمال محلية، بل إن هذه الدورة تمر بالمركز الرأسمالي. أما الصناعة التي هي من أهم مقومات التقدم، والتسريع في مراكمة الدخل القومي، فإن الاهتمام بها مازال هامشياً، وشكلياً في أغلب الأحوال. وأما الزراعة وهي المصدر الوحيد لإطعام شعب ينمو بوتائر سريعة فقد تدمرت، وغدونا نستورد المنتجات الزراعية. والمشكلة أن المطلوب حل القضية الجوهرية، التي تؤدي إلى الحاجة إلى الاستدانة، أي مشكلة البنية الاقتصادية، الملحقة، التابعة للإمبريالية، والتي لا تنتج سوى الفقر، والمزيد من الفقر. أما قضية الديون فاعتقد أن حلها واضح، وهو إلغاء الديون، ولعلنا في ذلك نعوض عن جزء يسير مما نهب. 3ـ مشكلة التقدم، مشكلة تطوير الاقتصاد: إذن باتت مشكلة الاقتصاد، مشكلة ملحة، تفرض نفسها كل لحظة، وتستدعي أن تناقش في العلن، وتطرق في التصريحات المختلفة من قبل المعنيين بالاقتصاد، وغير المعنيين به. ولعل التفاقم السريع للمشكلة، بعد انخفاض أسعار النفط، هو الذي أعلى من أهميتها وأولاها هذا الحد من الاهتمام. لكن المشكلة مطروحة منذ زمن. إنها مشكلة تقدم البلدان المتخلفة، وتطورها. وإذا كان هناك من اهتم بالتطور الشكلي أكثر مما اهتم بتحديد الطريق الذي يسمح بتجاوز فعلي لها، فقد كانت المشكلة تختصر، وأعتقد أنها أصبحت أعقد من أن تحلّها اختيارات شكلية، أو خطوات جزئية. لهذا غدت المشكلة همّاً حقيقاً، لكنها غدت تحتاج إلى الحلول الصحيحة، إلى الاختيارات الممكنة والضرورية، التي تسمح بتجاوزها. إن بداية المشكلة كانت حينما تقدمت أوروبا الرأسمالية، خلال القرون الخمسة الماضية وتقهقر وضعنا نحن، تخلّفنا، انهارت كل البنية التي أسست الحضارة العربية، وعبّرت عن قمة التطور الحضاري العالمي في ذلك الوقت. ولقد أدَّت هذه العملية إلى أن تستطيع البنية المتقدمة هزيمة البنية المتخلفة، وإلحاقها بها. وبالتالي التحكم في سياق حركتها. ولما كانت الرأسمالية تحتاج إلى المواد الأولية(الزراعية، ثم الطبيعية) وإلى الأسواق من أجل تصريف بضاعتها، حتى الرأسمالي منه، لهذا نمت في الوطن العربي، قطاعات اقتصادية معينة، وهي القطاعات المسماة ـ أو المتعارف على أنها ـ هامشية، في الوقت الذي فشلت كل المحاولات التي اتجهت من أجل تطوير الصناعة، أو تحديث الزراعة. لقد نشطت التجارة، في هذا الوضع، فكانت تجارة تعتمد الاستيراد أساساً لها. ولما كان نمو الدخل القومي محدوداً بسبب غياب القطاعات المنتجة التي تؤسس لدخل قومي حقيقي، فقد أصبحت العلمية الاقتصادية، تعني استيراد السلع، وتصدير رأس المال، وبالتالي تعني انتشار النمط الاستهلاكي، المعتمد على هدر المستورد وتحويل القسم الأكبر من الدخل القومي للخارج ـ للشركات صانعة السلع ـ وهو ما يعني في التحليل الأخير، تدمير المجتمع ونهب ثرواته. لهذا عاشت الدول أزمات حقيقة، لأن مداخيلها لا تشكل أساساً لميزانية ممكنة، خصوصاً مع ازدياد دور الدولة، وتوسع نشاطاتها، مما كان يعني حاجة الدولة إلى الاستدانة لتغطية العجز. كما أن بنية المجتمع غير المنتجة، تفرض إفقار الناس، لأنها تبقي المداخيل محدودة، بينما ترتفع أسعار السلع، بسبب ارتباط سعرها بالبلد المنتج. لهذا، ونتيجة لذلك، تنتشر مظاهر التضخم وارتفاع الأسعار، وعجز الميزان التجاري، وعجز الميزانية. وفي هذا الوضع تصبح مشكلة التقدم، مشكلة حادة أيضاً. فكيف يمكن مواجهة عجز الميزان التجاري، وميزانية الدولة، والتقليل من التضخم، والسيطرة على ارتفاع الأسعار؟ والحل النظري ـ المنطقي، هو تأسيس بنية محلية منتجة، أي تطوير الصناعة، والزراعة، تصنيع السلعة، وإنتاج ما يحتاجه الوطن من السلع الغذائية. لأن ذلك يحقق أكثر من قضية مهمة. فأولاً: توجد مراكمة لرأس المال، وبالتالي تسارع نمو الدخل القومي. لأن هذه العملية، عملية إنتاجية، توظف العمال، ورأس المال من أجل مراكمة الرأسمال. وثانياً يقلل من الحاجة إلى الاستيراد، وبالتالي يحد من عجز الميزان التجاري. هذا إضافة إلى أنه يسمح بزيادة التصدير. وثالثاً: يسمح بزيادة دخل الدولة، لأن زيادة الإنتاج ترتبط بزيادة الضرائب والرسوم المستحقة لها. ورابعاً: يحد من تأثير ظواهر التضخم وارتفاع الأسعار العالمية. وفي كل الأحوال يسمح بعلاج أكثر من مشكلة ظاهرة. وهذه صيغة معروفة للتطور، ولتجاوز المشكلات من النوع التي يشهدها بلد متخلف. لكن هذا الوضوح في الصيغة يطرح سؤالاً يبدو ساذجاً إلى أبعد الحدود، فما دام الأمر بهذه السهولة، فلماذا لا يُطبق؟ لاشك أن هذا الحل، شكل مجرد للتطور، أي شكل تقني، أخذت به الرأسمالية وأخذت به الاشتراكية. إنها الصيغة المجرّدة للتطور، لكن قضية التطور، قضية ليست ممكنة التجريد، لأنه ترتبط بمصلحة الذين يعملون على تحقيقها، ولأنَّها تخضع للظروف العامة، وتحديداً للسيطرة العالمية للرأسمالية التي تحاول رسم العالم على صورتها ومثالها (لكن بالمعنى المشوَّه) حيث تسعى من أجل تكييف كل القدرات العالمية، من أجل تحقيق رفاه فئة قليلة، وضمان تحقيقها تطوراً مضطرداً في مستوى المعيشة. مما يجعل المنافسة الحرة المبدأ الذي يقوم عليه الاقتصاد الحر، (أي الاقتصاد البرجوازي) تطيح بكل المحاولات الجديدة من أجل التطور الصناعي، أو الزراعي، سواء بسبب المنافسة الحرة بين شركة تنتج فيضاً هائلاً من السلع، وأخرى تنتج كمية محدودة، بسبب أنها شركة مبتدئة، أو لأن الشركة التي تنتج كمية محدودة، بسبب أنها شركة مبتدئة، أن لأنّ الشركة التي تنتج هذا الفيض قادرة على تخفيض سعر السلعة، بما لا تستطيع الشركة الحديثة فعله، أو بسبب أنَّ «سر» الصناعة الحديثة، تمتلكه الشركات الرأسمالية العالمية، التي لا تسمح له أن يتسرب إلى البلدان المتخلفة، أو بسبب الضغط الذي تستخدمه الشركات الإمبريالية، من خلال دولها (وبالتالي جيوشها) ضد كل قوة تفكر بالتطور. ولكن أيضاً بسبب التخلف، وقلة المهارة، التي تقلّل من القدرة، ومن مسألة إتقان السلعة. ويمكن أن نضيف أن السيطرة العالمية للرأسمالية، وفي إطار قدرتها على التحكم بالتطور في البلدان المتخلفة، وبسبب فيض الإنتاج لديها، سمحت أن تكون مراكمة رأس المال، حين تشغيلها في التجارة، أكثر منها، حين تشغيلها في الصناعة أو الزراعة، مما يدفع أصحاب رؤوس الأموال للاتجاه إلى القطاع الذي يحقق أرباحاً أكثر، ويوفر استقراراً مؤكداً. لهذا ساد القطاع التجاري على القطاعات المنتجة، و تدمّرت كل محاولات التطور الصناعي ـ الزراعي. وهذا يوضح أنَّ إمكانيات التطور في ظل المنافسة الحرة في إطار السوق الرأسمالي، لا تنتج سوى بنية استهلاكية ـ تجارية، وفئات طفيلية كمبرادورية. مما يفرض القول إن التطور يحتاج إلى إلغاء مبدأ المنافسة الحرة، أي إلى منع منافسة السلع الرأسمالية للسلع المحلية، ولقد تحقق ذلك من خلال دور الدولة الاقتصادي، لأنه وضع صوراً، وأوجد إمكانيات تطور داخلي بعيداً عن مؤثرات السيطرة الإمبريالية. إن سيطرة الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية، لا تسمح بتحقيق أي تطور، لأنها تريد عالماً متخلفاً، تابعاً، تحقق هي الأرباح من خلال استغلاله وفق ما يخدم المراكز الرأسمالية، وبالتالي فالتطور يفترض القطع مع السوق الرأسمالية العالمية، يفترض إلغاء التبعية، لكي يكون ممكناً تطوير صناعة قومية وزراعة تفي باحتياجات الوطن العربي على الأقل. وقطع العلاقة مع السوق الرأسمالية، يفترض أن تلعب طبقات معينة الدور القيادي، لأنه يفترض أن تكون لها مصلحة في إنهاء العلاقة. وهذه الطبقات ليست الطبقات المعنية بالملكية الخاصة، والرأسمال الخاص، لأنها تسعى من أجل تحقيق التراكم الرأسمالي، بالتالي تحتاج إلى «السوق الحرة» الأمر الذي يفرض ربط العلاقة بالسوق الرأسمالي وليس قطعها. وبالتالي فإن خيار التطور، لا يفرض فقط بناء المجتمع الصناعي، ولكن أيضاً، إلغاء الاضطهاد الطبقي. وهذه خاصية التطور منذ غدت الرأسمالية نظاماً عالمياً، ومنذ أن تطورت الرأسمالية إلى إمبريالية.
وضع الحزب في الصراع الطبقي
الرفيق العزيز تحية قرأت ملاحظاتك حول مقال: "النهب الامبريالي"، وأود إبداء الملاحظات التالية، رغم قصر واقتضاب ملاحظاتك: 1) أنني بدأت من الأزمة التي تعيشها الجماهير، وهذا ما ورد في المقالتين السابقتين حول "الغرب الامبريالي"، وليس منطقياً أن أتحدث بعد ذلك حول مهام إزالة الاحتلال والثورة الديمقراطية، لأنني أكون قد انتقلت إلى الوعظ، وأنا أتناول قضية "ساخنة" كقضية حالة الإفقار التي تعيشها الجماهير، وإن سياق المقالات الأولى والثانية، يفرضن البدء بالحديث عن تبني مطالب الجماهير. خصوصاً أنها هي المادة التي يتأسس من بينها جيش التحرير، كما أنها هي مادة الثورة الديمقراطية. 2) وحين بدأت بهذه المهمة (تحسين أحوال المعيشة)، لم أكن اعتقد أن هناك أولويات بهذه الدقة على صعيد المهام على وجه التحديد (أولاً كذا وثالثاً كذا ..) لأنني لا أرى أن هناك أولويات واقعياً. على الصعيد النظري يمكن تحديد أن تحرير الأرض المحتلة يخص بالأولوية، ثم الثورة الديمقراطية ومن ثم الاشتراكين. وقد ينطبق ذلك على بلاد محتلة تماماً، (مثل جنوب فيتنام مثلاً)، ولكن وضعنا ليس كذلك، فالأرض المحتلة تشكل جزءاً ضئيلاً من الوطن (رغم أهمية الدور الصهيوني وتأثيره في كل المنطقة المحيطة بفلسطين)، بينما الجزء الأساسي من يعيش مستقلاً سياسياً، وتابعاً اقتصادياً، وهنا تتداخل السيطرة الامبريالية بأزمة الجماهير، ويكون السعي لتحسين أوضاع الجماهير سعياً لإزالة التبعية والتخلف، وهذا واضح في المقال. حيث أنني لا أطرح قضية تحسين أوضاع الجماهير بأفق إصلاحي وهذا ما يصرّ المقال على رفض، بل من منطلق إحداث تغيير جذري في بنية السلطة السياسية، وفي طبيعة الفئات الحاكمة، وهذا يعني ارتباط النضال لـ "تحسين أحوال المعيشة" بالنضال ضد الامبريالية وضد أدواتها (ومن أدواتها الأساسيين الكيان الصهيوني طبعاً) وبالنضال من أجل الوحدة القومية. وهنا، وإن بدأت من قضية تحسين أحوال المعيشة"، أطرح تحقيق الثورة الديمقراطية كلها. 3-إن نمو الحزب، أي حزب، يرتبط بمدى انسجامه مع الحركة الجماهيرية، والانسجام مع الحركة الجماهيرية، لا يكون بطرح القضايا الكبيرة (مثل التحرر والوحدة والديمقراطية)، لأن هذه الجماهير تعتبر هذه القضايا حلماً جميلاً، لكن لا يغني ولا يسمن من جوع" بالنسبة لحالتها الراهنة تحديداً، وهي الحالة التي تكون مدخل إتحاد الحزب بالجماهير. ولقد قيل لنا الكثير عن برنامجنا الحالم. الآن الذي يكتوي بالنار، لا يريد الغسل. وهذا يعني بالضبط أن نربط بين البرنامج العام والحركة الجماهيرية. بتحديد المهام العملية، القادرة على إقناع الجماهير. أننا لا نطرح "حلماً" فقط، بل والقضايا مثل قضية تحرير فلسطين، وتتطوع للقتال لتحريرها، وكانت هناك فئات أخرى تطالب بالديمقراطية والوحدة، فإن كل هذه الفئات ستبقى محدودة العدد قليلة التأثير إذا لم تربط الحرية والديمقراطية والوحدة بالجوع والفقر. إن حركة الجماهير الأساسية تندفع، كما هو واضح في الكتلة الأساسية في الوطن العربي (الكتلة الأساسية من البشر)، في الانتفاضات العفوية، حين يهتز وضعها المعاشي، حين تزداد فقراً، فلماذا لا نعتبر هذه هي نقطة البدء، لتسييس الحركة الجماهيرية وإعطائها "الوعي" السياسي العميق، الوعي الذي يؤهلها استيعاب إستراتيجية الثورة القومية الديمقراطية الشعبية وبالتالي العمل على تحقيقها؟. 4-ثم هل يستثير الخطر الخارجي كل الجماهير العربية، لكي نعتبره الخطر الأول؟. في الدول المحتلة يمكن الإجابة بنعم، وهذه هي حالة الفلسطينيين مثلاً، أما في الوطن العربي، فلا. فهو يمكن أن يستثير فئات محدودة فقط (خارج نطاق الأرض المحتلة مباشرة)، واستنارة كل الجماهير العربية ضد هذا الخطر تتطلب دوراً دعاوياً يخلق الوعي بهذه الحقيقة. أما الخطر الامبريالي، فأنه كامن في السيطرة غير المباشرة (التبعية تحديداً)، وهذا يغير فن الجديد عن النهب الامبريالي". وبالتالي تبني المطالب الاقتصادية -المطلبية" والانطلاق منها لتغيير السلطة السياسية. إن خوض الجماهير لمعمعان النضال الاقتصادي. يفرض على القوى الثورية أن تقنع الجماهير بارتباط قضية تحسين الأحوال المعيشية، بقضية السيطرة الامبريالية من جهة، وقضية استحالة النمو وتحقيق الرفاه ودون تحقيق الوحدة القومية. لكن دون أن يكون شعار تحسين الأحوال المعيشية شعاراً راهناً للقوى الثورية، لا تستطيع إعطاء الحركة الجماهيرية توجهاً استراتيجياً مرتبطاً بتحقيق الثورة الديمقراطية. 5)حتى نحن نصيّر الخطر الخارجي هو الأوّل، والخطر الخارجي خطرين، عسكريّ ممثلاً الآن بالكيان الصهيوني، واقتصادي سياسي ممثلاً الآن بالسيطرة الامبريالية، فإن مواجهته تقتضي تنظيم الجماهير. وهذا لا يتم إلا ببرنامج يعبّر عنها. ويمثل مصالحها، وإذا كان تحرير الأرض المحتلة. كما في حالة الوطن العربي، وتحقيق الوحدة القومية أهداف أساسية، إلا أن الجماهير، وبحكم وضعها المباشر، تنجذب نحو الأهداف الأكثر تأثيراً في حياتها. أنها ترى في التحرير والوحدة والديمقراطية مطامح مستقبلية، وأهداف بعيدة، وتعتبرها أحلاماً جميلة (وهنا نتحدث عن كتلة الجماهير الأساسية)، لكنها تنجذب بقوة إلى القضايا العملية، إلى المشاكل الراهنة، إلى اللحظة الراهنة، أي باختصار إلى وضعها اليومي، ولذلك فهي ترى ارتفاع سعر رغيف الخبز، وتعتبر ذلك قضيتها الملحاحة، أنها تدافع عن قوت يومها لكي يتسنى لها أن تفكر بالتحرير والوحدة. وحين تعيش حالة الفقر الشديد، وتشعر أنها على حافة الموت، يكون الحديث عن الوحدة والديمقراطية والتحرير وعظاً لا مبرر له. أنها مع تجاوز جوع أولاً، ثم تسعى لتحقيق القضايا الأخرى. وهنا فإن تجاوز الجوع "مرتبط أشد الارتباط بثلاث قضايا جوهرية، هي الثورة القومية الديمقراطية، أولها أن تجاوز الجوع" يفرض إسقاط الفئات الحاكمة، لأنها السبب المباشر فيه، وثانيها، الاصطدام بالامبريالية وأدواتها لأنها تلعب دوراً مهماً في إبقاء الجماهير، ولأنها تدافع عن الفئات الحاكمة، وهنا يطرح الصراع مع ثالثها تحقيق الوحدة القومية أيضاً، كمنفذ للسياسة الامبريالية في الوطن العربي. ثالثها تحقيق الوحدة القومية، لتجاوز التأخر والتبعية معاً. وهذه كلها أهداف الثورة القومية. وإذا كان شعار الدفاع عن مصالح الجماهير والسعي لتحسين أوضاعها شعاراً أولياً، فإنه يفضي في صيرورة تحقيق الثورة الديمقراطية. ومن هنا يكتسب شعار الدفاع عن مصالح الجماهير، أهمية راهنة، ويعتبر هدفاً أولياً. وإذا كانت الحركة السياسية تبتغى هذا الشعار، فليس لأنها تنزع للنضال الاقتصادي المطلبي، بل لأنه شعار أوليّ، لكن مهمة الحركة السياسية وضع هذا الشعار في سياقه الصحيح، ولهذا يقع على عاتقها طرح شعار إسقاط السلطة، وتطوير النضال من خلال تأسيس القوى المسلحة. وهي كلما نجحت في تجاوز مشكلة الفقر من خلال إسقاط الفئات الحاكمة، كلها مهّدت الظروف المؤاتية لتطوير الصراع مع القوى الخارجية. وحينها لا تستطيع إسقاط الفئات الحاكمة، والظروف مؤاتية لذلك (بتوفر عنصر النشاط الجماهيري الكبير في لحظات محدودة)، لن نستطيع تنظيم الجماهير في الحرب ضد القوى الخارجية. وما دام "تجاوز الجوع" لن يتم إلا بتغيير السياسة الاقتصادية في كل دولة، وهذا لا يتم إلا بإسقاط الفئات الحاكمة، وبالتالي التصادم مع السيطرة الامبريالية (الاقتصادية، السياسية، والعسكرية). فإن ذلك يفرض ترابط الأهداف، مواجهة الخطر الخارجي، وتحقيق الثورة الديمقراطية، وليس أولوية واحد على الآخر. إن اعتبار شعار مواجهة الخطر الخارجي. هو الأول، لا تؤدي إلى توحيد الجماهير العربية، إنه يوحد الجماهير المتضررة فقط، وبعض المتحمسين الذين يمتلكون قدراً من الوعي، لكن لا يوحّد الجماهير العربية، فالاحتلال موضعي، وخطره موضعي أيضاً –حسب رؤية الجماهير العربي. وإذا كانت الجماهير الفلسطينيين ترى أن الكيان الصهيوني هو الخطر الذي تسعى لمواجهته، فإن جماهير السودان رأت في جعفر النميري هذا الخطر، وجماهير المغرب في الحسن الثاني هذا الخطر... الخ. فهل نعتبر أن الشعار واحداً لدى التعامل مع الجماهير الفلسطينيين، والسودانيين والمغربين...الخ؟؟. إن أزمة الكتلة الأساسية من والجماهير العربية، هي الجوع –الفقر، بينما أزمة الجماهير الفلسطينيين هي الاحتلال، فهل نغلب أزمة الأقلية على أزمة الأغلبية؟؟. 6) وهناك قضية نظرية، يبدو أننا بحاجة لإعادة النقاش حولها، رغم أنها نوقشت كثيراً في الماركسية، فهل للصراع مستوى واحد؟؟ أجابت الماركسية أن له ثلاث مستويات، نظري، سياسي واقتصادي، وهي مترابطة متداخلة، رغم أنه يمكن أن تكون الأولوية لإحداها في لحظة من اللحظات، والأولوية لا تعني تجميد أو إلغاء المستويات الأخرى، بل تكون مدخلاً لتطورها. لهذا فالنضال الاقتصادي المطلبي مستوى، والنضال السياسي (مواجهة العدو الخارجي، الثورة الديمقراطية) مستوى آخر، والنضال النظري مستوى ثالث. ولقد كانت مواجهة الاستعمار مدخلاً لتحقيق الثورة الديمقراطية في بعض البلدان. وكان النضال المطلبي مدخلاً لتحقيق الثورة الديمقراطية في بلدان أخرى، تبعاً للحالة المباشرة التي تواجهها الجماهير. ثم أن الجماهير الصعبة تخوض نضالاً مطلبياً، بينما الحركة السياسية تخوض نضالاً مطلبياً سياسياً، نظرياً. لهذا فحين اعتبر شعار الدفاع عن مصالح الجماهير شعاراً أولياً، فلأن نشاط الجماهير يتخذ منحى مطلبياً، بسبب عمق الأزمة في هذا المجال، إن حالة الفقر هي الطاغية في هذا المجال، إن حالة الفقر هي الطاغية اليوم على وضع القسم الأكبر من الجماهير العربية، ولما كان على الحركة السياسية أن ترتبط بحركة الجماهير، رفعت هذا الشعار، وأعطته الاهتمام الذي يستحق. بعد ذلك يجب أن تعطي الحركة السياسية، والحركة الجماهيرية أبعادها السياسية والنظرية. وهذا يعني بالبدء بالاقتصادي (على صعيد النشاط العملي)، أما على صعيد البرنامج فإن الأهداف التي تطرحها مترابطة، وهذا ما تحدده أدبيتنا، وأن كانت الأهمية النظرية لمواجهة الخطر الخارجي، فنحن نطرح برنامجاً واحداً، نسعى لتحقيقه والبرنامج يمثل رؤية متماسكة، ويطرح القضايا بترابطها، والحزب حين يسعى لتحقيقه يتخذ أساليباً مختلفة. وهذا يطرح الخوض في المستويات الثلاث: أ) فهو لكي يبلور اتجاهاً واتجاهاً نظرياً متماسكاً، ولكي يتبلور، يخوض النضال النظري، ضد الاتجاهات الإصلاحية والطفولية. ب) وهو لكي يصبح حزباً جماهيرياً، يطرح قضايا الجماهير الملتهبة فيخوض النضال الاقتصادي. ج) وهدفه الأساسي تحقيق المشروع السياسي الذي يطرحه، من خلال بلورة القوى الثورية من جهة، وتطوير نشاط الجماهير من جهة أخرى، ليتحول من نشاط مطلبي، إلى نشاط سياسي، يسقط الأنظمة، ويحقق الوحدة القومية، ويواجه الخطر الخارجي. 7)كما أوضحت في النقطة الأولى، فقد بدأت بالاقتصادي المطلبي للوصول إلى السياسي، يسقط الأنظمة، ويحقق الوحدة القومية، وهذا هو ترتيب المهمات الواردة في المقال، وهذا هو طريق تطور "وعي" الجماهير، وطريق تبلور الظروف المؤاتية لمواجهة الخطر الخارجي، كما أنه طريق تأسيس القوى المقاتلة القادرة على التصدي لهذا الخطر. 8) أن تحديد الأولويات، يعني في الممارسة العملية، تركيز الجهود العملية، أن تركيز النشاط في اتجاه محدد، وأرى أن اعتبار مواجهة الخطر الخارجي يحظى بالأولوية. يؤدي إلى اختلالات أساسية. أولها النزوع الفلسطيني -وأن كان بغطاء عربي، كما فعلت حركة القوميين العرب -، وثانيها، إبلاء العمل العسكري أهمية فائقة، تتجاوز الدور الذي يمكن أن يلعبه في إطار المشروع السياسي كله (في حال النظر إليه بترابط أهدافه)، وثالثها إهمال الحركة الجماهيرية، بإهمال ظروفها، وبالتالي مصالحها الراهنة. ورابعها التقليل من طابع الصراع بين الجماهير والأنظمة، والنظر للأخيرة أو لبعضها نظرة محايدة. وهذه كلها اختلالات تطيح بمشروع الثورة القومية الديمقراطية. 28/7/1985
#سلامة_كيلة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المسألة الطائفية كتحدي للمسألة القومية العربية
-
طريق الانتفاضة لماذا تثور الطبقات الشعبية؟
-
أطروحات من أجل ماركسية مناضلة
-
بيان لن يصدر حول الدعاية الصهيونية باسم اليسار
-
الدفاع عن الصهيونية -ماركسياً-؟
-
سلامة كيلة في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الماركسية
...
-
الليبرالية بصفتها يسار ملاحظات حول أطروحات كريم مروة الأخيرة
-
عن الأفق الاشتراكي: علينا أن ندفن موتانا
-
عن عودة المفاوضات المباشرةالسلطة تكيفت مع المشروع الإمبريالي
-
قضية الصحراء المغربية سنوات من حرب لا معنى لها
-
العودة إلى مفاوضات فاشلة
-
الحياة مفاوضات فاشلة
-
هل ستتغيّر السياسة الأميركية؟
-
اليسار العربي والصهيونية والدولة الصهيونية (حوار مع يعقوب اب
...
-
ماركس وحلم الرأسمالية
-
لم يخطئ غطاس
-
النضال التحرري حينما يسقط في نظرة ضيقة
-
حول مشروع المهمات البرنامجية-2 الذي نشره تجمع اليسار الماركس
...
-
حول مشروع المهمات البرنامجية- 1 الذي نشره تجمع اليسار المارك
...
-
المقاومة من منظور اليسار مرة مكررة
المزيد.....
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
-
تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل
...
-
في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو
...
-
التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل
...
-
السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي
...
-
الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو
...
-
بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
-
محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان
...
-
المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
-
القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟
...
المزيد.....
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
المزيد.....
|