|
المسألة الشعبية بين جورج صاند وجوستاف فولبير
جمال البنا
الحوار المتمدن-العدد: 3239 - 2011 / 1 / 7 - 00:04
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ـــــــــــــــــ ولدت جورج صاند سنة 1804م ، وتوفيت سنة 1876م ، وأمضت حياة حافلة بالنشاط الفكري والدعوة لحركات النسائية بوجه خاص ، وقد أثارت دهشة معاصريها عندما ارتدت أزياء رجالية ودخنت السيجار وقد تعرفت علي كبار الكتاب في عصرها وبوجه خاص الفرد موسيه وجوستاف فلوبير وأقامت علاقة وثيقة مع الموسيقي شوبان ، وأصدرت عددًا كبيرًا من الروايات والمسرحيات والتراجم ، وجورج صاند هو اسم قلم ، إذ أن أول رواية لها كتبتها كانت مع كاتب يدعي جورج صاند ومنه استعارت اسمه جورج صائد . أما جوستاف فلوبير فهو من أعلام الأدب الفرنسي وقد منحته رواية "مدام بوفاري" شهرة عريضة ، وعرف عنه الدقة في استخدام الكلمات والعناية الفائقة بالأسلوب . ومن النادر أن يختلف كاتبان في المزاج والمذهب والأسلوب ، كما كانت تختلف جورج صاند عن جوستاف فلوبير . كانت جورج صاند ابنة الثورة الفرنسية ، فقد ولدت سنة 1804م وتمثل فيها كل ما في الثورة من تحرر وانطلاق وتفاؤل واستبشار، وتطلع نحو المستقبل وكان أسلوبها سهلاً لا تكلف فيه تكتب بيسر كما لو كانت تغرف من بحر . ومن ناحية أخرى كان جوستاف فلوبير الذي ولد عام 1830م ابنًا للإمبراطورية الثانية ، إمبراطورية الفشل والهزيمة وكان يعكس هذه المشاعر ، مشاعر اليأس والقنوط وعدم الثقة في الطبيعة البشرية والكفر بالشعارات العامة وبوجه خاص الديماجوجية والشعبية ، وكان في كتابته ، كما هو في فكره السياسي ، أرستقراطيًا لا يعني بالكم وإنما يعني بالكيف ، يتخير ويحكم الأسلوب ويعاني في هذا كأنما ينحت من صخر ، وقد يقضي أسبوعًا في صياغة فقرة واحدة ، ولكنه في النهاية يخرج درة فريدة مثل "مدام بوفاري". ومع هذا التفارق والتباين ، فقد جمعتهما أواصر صداقة وثيقة ظلت اثني عشر عامًا بما فيها فترة الكوميون القلقة وهزيمة 1870م التي تشبه إلى حد ما هزيمة مصر سنة 1967م ، ولم تقطعها إلا وفاة جورج صائد ، ولعل العامل الوحيد المشـــترك بينهما وقتئـــذ كان أن كل واحد منهما كان قد اطرح فترة القلق والكفاح وآوي إلي ملاذه الخاص ، هي في "نوهان" وهو في "كروسيه" هي في السابعة والخمسين وهو في الثالثة والأربعين. وقد أصدر كل منهما عيون إنتاجه ودرر كتاباته واعترف به كاتبا عبقريًا فذًا. كان كل واحد منهما يقدر الآخر وإن لم يسلم بوجهة نظره . كان لدي جورج صاند السن والسبق وهذا المعين الذي لا ينضب من العاطفة المشبوبة والمشاعر، وكان لدي جوستاف فلوبير الامتياز، وفحولة الرجولة والثقة في مبادئه التي برهنت عليها الأحداث. وكان يكتب إليها "أستاذتي العزيزة" ، وكانت تكتب إليه "شاعري العزيز" دون أن يتراجع كل واحد منهما عما آمن به وما كان يثبته بالعقل والواقع من ناحية أو بالمزاج والنفسية من ناحية أخرى . ولن نعرض في هذا المقال إلا للمراسلات التي تتعلق بما يمكن أن نسميه "المسألة الشعبية" والتي أبرزتها بوجه خاص هزيمة فرنسا في الحرب السبعينية (1870) أمام الألمان وسقوط الجمهورية وظهور "الكوميون" ثم سقوطه بدوره وما عاصر ذلك وما تلاه من تقلبات وأحداث دفعت إلي صدارة الفكر بالقضية السياسية ودور الجماهير وما هو حسن أو سيئ فيها ، وما إلي هذا كله . في هذه الفترة كتب فلوبير إلى صاند يقول : "لست أظن أن في فرنسا بأسرها رجلاً أشد حزنًا مني (وإن ذلك يتوقف علي حساسية الناس) ، إنني أموت من المهانة تلك هي الحقيقة ، وكل التعازي تثيرني وما يجعلني أكتئب هو وحشية الناس ، والاقتناع بأننا ندخل مرحلة سخيفة ستكون فيها الشعوب معسكرات جماعية حربية إن الحرب البروسية قد أنهت الثورة الفرنسية ودمرتها . قد تفترضين أننا قد ننتصر ولكن هذا الافتراض يناقض تمامًا كل الشواهد التاريخية ، فأين رأيت الجنوب يقهر الشمال ؟ والكاثوليك يحكمون البروتستانت ؟ إن الجنس اللاتيني يحتضر وفرنسا ستذهب لتتبع أسبانيا وإيطاليا . لو كنت أستطيع الفرار إلي بلد لا يرى فيها الإنسان بدلة عسكرية ولا يسمع دوي الطبول ولا يتحدث عن المجازر ولا يجبر علي أن يكون مواطنًا ، ولكن الأرض بأسرها تضيق الآن بالحكماء . وفي اليوم الحادي عشر من أكتوبر من عام 1870م كتب "البروسيون" الآن علي بعد اثنتي عشرة ساعة من روان ، وليس لدينا قيادة ، ولا أوامر، ولا نظام ، لا شيء ، وهم يعلقون الآمال الجسام علي جيش اللوار وأين هو ، هل تعلمين أي شيء عنه ؟ وماذا يفعلون في وسط فرنسا ؟ إن باريس ستنتهي بالمجاعة ، وما من أحد يتحدث عن نجدتها . وفي خطاب آخر يقول : "أما عن الكوميون الذي بدأ يتداعى.. فإنه آخر أعراض القرون الوسطي ، فلنأمل أن يكون خاتمتها. إنني أمقت الديمقراطية (علي الأقل النوع المفهوم في فرنسا) ، أي رفع الرحمة للتحكم في العدل ، وسلب الحقوق ، وباختصار التفسخ الاجتماعي . لقد برأ الكوميون القتلة تماما كما سامح المسيح اللصوص ، وسلبوا قصور الأغنياء لأنهم تعلموا لعن لازاروس الذي لم يكن غنيا شريراً ، ولكنه ببساطة ــ غنيًا ــ وتلك الصيغة "الجمهورية فوق النقد" تماثل "البابا المعصوم" دائما الصيغ، ودائمًا الآلهة . إن الشيء الوحيد المعقول (وأنا دائما أعود إليه) إنما هو حكومة يتولاها الحكماء ، إن الشعب سيظل دائمًا قاصرًا وسيكون مكانه الصف الأخير إذ هو العدد والكتل ، واللامحدود ، وليس المهم أن يتعلم كثير من الفلاحين القراءة ، والاستماع إلي "الخوري" ، ولكن المهم حقًا أن يوجد رجال أمثال "رينان" وأن يستمع إليهم ، إن خلاصنا الآن إنما هو في أرستقراطية مشروعة وأعني بذلك نخبة مكونة من أكثر من أعداد . وردت جورج صاند في ديسمبر 1871م : "لم أكتب إليك لأني حزينة حتى الأعماق ، ومصابة بالداء الذي أصاب بلادي وشعبي ، ولا أستطيع أن أعزل نفسي حيث التبصر والطمأنينة وأحس كأن القيود الثقيلة تتوتر كما لو كانت تتحطم ، وأننا جميعا سنسير ، وإن لم أعلم إلي أين فإذا كان لديك مزيد من الشجاعة عما لدى فأعطني منها" . ولكن فلوبير لم يعطها مزيدا من الشجاعة ، ولكنه أجاب "لماذا أنت حزينة؟" إن الإنسانية لا تقدم جديدا وشقاؤها العضال ملأني بالحزن منذ الشباب ، وإلي جانب هذا فإني لا أتعلق بالأوهام وأؤمن بأن القطيع الشعبي سيظل دائما بغيضًا إلي ، إن الشيء الوحيد الهام هو النخبة القليلة من العقول التي تسلم الشعلة من يد إلي أخرى . وما دمنا لا ننحني أمام النخبة الحكيمة وما دامت أكاديمية العلوم لا تحل محل البابا فلن تكون السياسة في مجموعها، والمجتمع حتى أعمق جذوره إلا عديدًا من الدجالين والمخدوعين إننا نتخبط في أعقاب ميلاد الجمهورية التي كانت إجهاضًا وفشلاً (مهما يقولون) والسبب أنها استلهمت المسيحية والقرون الوسطى ، إن فكرة المساواة (التي هي جماع الديمقراطية الحديثــة) ، إنما هي أساسا فكرة مسيحية تضــاد فكرة العدالة والحظي كيف تتحكم فينا الرحمــة ، الحساسية هي كل شيء ، والعدالة لا شيء . إنني مقتنع أننا سنبدو حمقي أمام الأجيال .. إن كلمات "جمهورية" و"مملكة" ستجعلهم يضحكون منا ، وإنني لأتحدى أن يوضح لي واحد تفرقة حيوية بين هاتين الكلمتين ، إن جمهورية حديثة ومملكة دستورية يتماثلان ، ومع هذا فإنهم يتشاجرون ويتصايحون ويتحاربون وأما بالنسبة للشعب الطيب فإن التعليم الإلزامي المجاني سيتكفل بهم ، وإذا استطاع كل واحد أن يقرأ" البتي جورنال والفيجارو" فلن يرغب في قراءة شيء آخر لأن البورجوازيين والأغنياء لا يقرأون غيرها ، إن الصحافة لهي مدرسة للإفساد لأنها تعفي من التفكير . إن العلاج الأول هو إنهاء التصويت العام الذي هو عار العقل الإنساني إذ هو يقضي بسيادة عنصر واحد على بقية العناصر، والأعداد تسيطر على الفكر والتعليم والجنس حتى النقود ، وهذه كلها أعظم من الأعداد . لو أنك أيتها الأستاذة العزيزة الطيبة تستطيعين أن تكرهي إنه ـ الكره ـ هو ما ينقصك ورغم عينيك الكبيرتين كأبي الهول فإنك ترين العالم خلال لون وردي لأن في قلبك شمسًا ، ولكن ظلالا كثيرة تقوم الآن وتحول بينك وبين الرؤية فتعالى واصرخي بأعلى صوتك "الرعد" خذي قيثارتك الرائعة وألمسي أوتارها الرنانة تهرب الوحوش .. ولكن جورج صاند ردت في 14 سبتمبر بخطاب تاريخي طويل ظهر بعد ذلك (في 3 أكتوبر) في التامب تحت عنوان (رد على صديق) جاء فيه . وإذن فأنت تريد أن لا أحب ، تريد أن أقول إنني كنت مخطئة طوال حياتي وأن البشرية مقيتة مكروهة .. وأنها كانت ـ وستظل ـ دائما كذلك ، وأنت تعد آلامي ضعفا واستخذاء وتؤكد أن الشعوب متوحشة وأن رجال الدين منافقون وأن البورجوازيين جبناء ، وأن الجنود لصوص وتريد أن أعزل نفسي من مواطني من الأسرة العامة العظيمة التي لا تكون أسرتي الخاصة منها إلا كسنبلة قمح في حقل عظيم ، إنه لمستحيل ، ففي أي جنة من جنات عدن ، في أي "الدرادو" سحري تستطيع أن تخفي أسرتك وأصدقاءك المقربين وسعادتك الدائبة؟ حتى لا تدركها الكوارث التي لاتدهم البلاد ، فإذا كنت تريد أن تكو سعيدا فيجب أن يكون الآخرون سعداء أيضاً. كلا .. كلا .. إن الناس لا ينعزل بعضها عن بعض ، إن روابط الدم لا تنفصم وليست البشرية كلمة جوفاء وإنما تقوم حياتنا علي الحب فإذا تجردت منه ماتت . إنك تهمل "الشعب" ولكن الشعب هو أنا وأنت ومن العبث أن تذكر ذلك فليس هناك جنسان ، وخصائص الطبقــات توجد فوارق نسبية ، وفي معظم الأحوال وهمية ، ولست أعلم إن كان أسلافك من أعلا طبقات البورجوازية فإنني من ناحية أمي أنتمي إلي أعماق الشعب وأحس به حيًا في كياني ونحن جميعاً منه حتى وإن انطمست الأصول ، فقد كان الرجال الأولون صيادين ورعاة ، ثم فلاحين وجنودًا وأوجدت القرصنة الناجحة أولي فوارق الطبقات ، وأنت تقول إن الشعب عنيف ، وأنا أقول أن النبالة متوحشة. ليس الشعب عنيفًا ، بل ولا غبيُا ، إن مشكلته هي الجهالة ولم يكن شعب باريس هو الذي ذبح المسجونين وحطم التماثيل وحاول حرق المدينة فقد عرف الآن أن قلة حركها الحقد والحسد ، والفشل والوطنية الخاطئة والتعصب هي التي أدارت هذا الإرهاب ، وأما الأغلبية فبريئة منه ، فلماذا تفترض أن هذه البروليتاريا التي أغلقت عليها أبواب باريس المحصورة والتي لم تكن أكثر من ثمانين ألف جندي من جنود اليأس والجوع تمثل شعب فرنسا . أريد أن أمضي معك إلي النهاية فترى على ما تقوم الفوارق التي تميز بين الطبقات ، أهي علي مزيد من التعليم في ناحية وعوز منه في ناحية أخري ؟ إن الحدود هنا مبهمة فإذا كنت تري في أعلا البورجوازية المثقفين والمهذبين وفي أسفل البروليتاويا السـفلة والهمل ، فإن أوساط الطبقتين ليست كذلك ، ففي أوساط البروليتاريا قد تجد المهذبين والأذكياء ، وفي أوساط البورجوازية قد تجد الجهلة والأغبياء والعدد الأعظم من مثقفي اليوم لهم آباء جهلة قلما يستطيعون كتابة أسماءهم . فهل تكون الثروة هي التي تقسم الناس قسمين مميزين عندئذ تكون المسألة أين يبدأ الشعب ؟ وأين ينتهي ؟ ففي كل يوم تحدث مناوبات فالخراب يسقط البعض والثروات ترفع البعض الآخر والأدوار تتناوب فالذي كان برجوازيا هذا الصباح يعود عاملاً في المساء وعامل اليوم قد يتحول إلي برجوازي ، إذا عثر علي كيس نقود أو ورث عماً له ، إن هذه المقاييس قد صارت عاطلة وأن أي نظام للتصنيف إلي طبقات سيصبح غير علمي ، وأن الرجال إنما يرتفعون أو ينخفضون لزيادة أو نقص في القوي الأخلاقية والمعنوية والفعلية ، أن التعليم الإجباري الذي نريده جميعا لاحترامنا حقوق البشرية ليس هو العلاج الشافي من كل داء فالطبيعة الشريرة قد تجد فيه وسائل لكي تفاقم من شرها ولكن شأن التعليم في ذلك شأن أي شيء يحسن أو يساء استخدامه ، ويوجد منه السم والترياق وأنه لو أردنا علاجًا لا يتطرق إليه وهن لوجب علينا أن نبحث يوما بعد يوم عن كل الوسائل التي نصلح بها العادات ونقرب بها المصالح . إن فرنسا تحتضر ، هذا صحيح ، وقد تطرق إلينا جميعا الجهل والمرض والفساد والفشل ، فإذا قلت أن هذا "مكتوب" فسيكون إعادة للخرافة الديماجوجية ، وقد تقول "يستوي عندي" ولكن لو أضفت "ذلك لا يهمني" لكنت مخطئًا ، فإنه الطوفان يغرقنا جميعا ، وعبثا سنحاول أن تنسحب ، فسيغرق ملاذك بدوره . إن قلبي وعقلي يكافحان أكثر من ذي قبل ، التفرقات النزقة والتمييز الممنوح كحق مسلم به للبعض مستحق علي البعض الآخر ، وأحس أكثر من أي وقت آخر الميل لرفع ما هو ساقط وإقامة ما هو مائل. وسيظل قلبي حتى يقف مفتوحا للرحمة ، مؤيدًا للضعيف فإذا كان الشعب اليوم هو الذي يداس بالأقدام ، فسأضع يدي في يده وإذا كان هو المعتدي الظالم فسأعلن له أن هذه نذالة وجبن . إني لأعرف نفوسا كريمة وقلوبا رقيقة تندم وتلوم نفسها لأنها في هذه اللحظة الرهيبة من تاريخنا ناصرت قضية الضعيف فهم لا يرون أمامهم الشعب الذي أحبوه وإنما يرون عصابة من الأشرار تتقدم جيشًا من الرجال المذعورين الذين دفعوا إلي المسرح دفعًا . على هذه النفوس الطيبة أن تبذل جهدا لكي تري أن كل ما آمنوا به من الطيبة لا يزال موجودا ، ولكنه نحي جانباً ، فعندما تمثل هذه الدراما يتقدم السفلة والطامعون الذين يوجدون دائما في كل الشعوب. وانتظر فرصة كهذه تعرض لأي شعب آخر انتظرها عندما تحق علي الشعب الألماني ، وستري أن شعب باريس أكثر صبرًا وفضيلة منه . وليس هذا تأساء ، وتعزية أو سلوى إذ علينا أن نأسى لانتصار الشعب الألماني قدر ما نأسي لهزيمتنا ، لأن هذا كله إنما هو الفصل الأول من التحلل الخلقي ولن يكون في إذلال ألمانيا الأمان في المستقبل من فرنسا وإذا ألحقنا بها ما ألحقته بنا فلن يعيد ذلك إلينا حياتنا ، مسكينة ألمانيا ! إن كأس النقمة الأزلية ينسكب علينا وبينما تستعلي وتنتشي فإن روح الحكمة تبكي عليك وتعد مرثاتك . وأنت أيها الصديق تريد أن أتقبل هذه الأحوال بهدوء رواقي ، وأن أقول "هكذا خلق الإنسان ، الجريمة منطقه والشر طبيعته". كلا ومائة كلا .. إن البشرية لتنتهك فيّ ومعي ، إن علينا أن نبذل جهوداً خارقة لتحقيق الأخوة وإصلاح ما أفسدته العداوة بحيث ننهي هذا الوباء ونبعث الإيمان" . ورد فلوبير : "لقد تلقيت مقالك أمس ، وقد جعلتني أذرف دمعا دون أن أتحول عن موقفي ، لقد تأثرت ولكني لم اقتنع . لقد بحثت عبثا في المقال عن كلمة واحدة (العدل) وكل متاعبنا إنما تأتت من نسياننا تلك القيمة الأولي من القيم ، وإذا لم تقهر فرنسا تلك الأزمة سريعًا ، فإنني لأعتقد أنها لن تستطيع القيام منها ، ولن يجدي التعليم الإجباري سوي زيادة عدد الأغبياء وقد أوضح ذلك رينان في مقدمة "موضوعات معاصرة" ، وما نحتاج إليه قبل كل شيء إنما هو النخبة ، أرستقراطية مشروعة ، فلا أحد يستطيع أن يفعل شيئًا دون رأس والتصويت العام ــ كما هو موجود ــ أعظم غباء من الحق الإلهي . إن الجماهير ، إن الأعداد دائما غبية وليس لدي معتقدات عديدة ولكني أعتقد هذه الحقيقة ومع هذا فالجماهير تستحق الاحترام مهما كانت حماقتها لأنها تتضمن عدداً لا حصر له من بذور التلقيح فلنعطهم الحرية ولكن ليس السلطة . ولست أؤمن بفوارق الطبقات أكثر مما تؤمنين ، إن الطبقات أثر من الحفريات القديمة ولكني أؤمن أن الفقير يكره الغني وأن الغني يخشى الفقير وسيبقي الأمر كذلك إلي الأبد ومن العبث أن ندعو أحدهما لمحبة الآخر والشيء المهم هو أن نعلـِّـم الذي هو الأقوى وأن "ننور" البورجوازي أولاً لأنه لا يعرف أي شيء علي الإطلاق ، إن كل حلم الديمقراطية هو رفع البروليتاريا إلي مستوي الغباء البورجوازي وقد تحقق هذا الحلم جزئيًا ، فالبروليتاريا تقرأ نفس الجرائد ولها نفس المشاعر . وقد أظهرت درجات التعليم الثلاث خلال العام الماضي ما يمكن أن تثمره وهي : التعليم العالي جعل بروسيا تنتصر . التعليم الثانوي البورجوازي أوجد رجال 4 سبتمبر . التعليم الأولي أعطانا "الكوميون" الذي كان وزير أشغاله العمومية "فاليس" يفخر بأنه يحتقر هوميروس . وفي خلال ثلاث سنين سيتمكن كل فرنسي من القراءة والكتابة. فهل تظنين أننا عندئذ سنكون أحسن؟ إذن تصوري من ناحية مقابلة أن في مجموعة يوجد برجوازي واحد يقرأ باسيتا ويظفر بالاحترام ، إن الأمور عندئذ ستتغير . وفي خطاب آخر ، اقترح أن يكون لكل مواطن أصوات بقدر ماله من مصالح تماما كما يحدث في الشركات عندما يكون لكل مساهم أصوات بعدد أسهمه وقد كان متواضعا لأنه افترض أنه يساوي عشرين صوتًا في دائرته الانتخابية "كروسيه". وفي 14 نوفمبر سنة 1871م اقترح أن يبدأ العمل بتنوير الطبقة التي تقوم بالتنوير"لنبدأ بالرأس التي هي أكثرها إصابة ومرضا وسيتبعها الباقي" . * * * إن مراجعة المكاتبات التي دارت ما بين جورج صاند وجوستاف فلوبير في تلك السنوات المدلهمة ، سنوات هزيمة 1870م والتي دارت بصفة رئيسية حول التعليم العام ، وحق جميع المواطنين في التصويت للانتخابات العامة إن هذه المراجعة توضح لنا سلامة وجهة نظر كل من جورج صاند وفلوبير حتى عندما يبدو أن هناك تعارضاً حادا بين وجهتي النظر . فقد أظهر التطور أن "الطبقة" ليست بالجمود الذي يظنه الطبقيون وأن ارتفاع المستويات يثلم حدة الفروق بين الطبقات ويوجد تقاربا بينهما كما يجعل الحدود بينهما مفتوحة حتى وإن لم تكن كما تصورت جورج صاند ، وقد لا حظ ماركس وإنجلز في الفترة التي عاصرت مكاتبات جورج صاند وفلوبير أن الطبقة العاملة البريطانية "متبرجزة" وأن لا سيبل للماركسية إليها إلا عندما تنضب مائدة الاستعمار البريطاني الحافلة وقد مضت عملية "البرجزة" هذه بحيث سمحت في النهاية بأن ترأس حزب المحافظين سيدة أمها خياطة وأبوها بقال . وفي أيام ماركس وإنجلز وجورج صاند وفلوبير كان ارتفاع المستوي الاقتصادي ومرونة الرأسمالية وظهور النقابات .. الخ ، من العوامل التي ساعدت علي تقارب الطبقات ، ثم جاءت في العصر الحديث والتطورات والتغييرات في توزيع العمل وطرق الإنتاج فهبطت بعدد من العاملين اليدويين وصعدت بعدد العاملين علي المكاتب وفي الإدارة والتوزيع ، بحيث انكمشت البدلة الزرقاء أمام الياقة البيضاء وتحسنت وسائل الأداء بحيث تضاءل العمل العضلي المنهك حتى في المنجم والصناعات المعدنية ولو سمح لوسائل التقنية الآلية أو الأتوماتيكية بالانطلاق لما كانت هناك طبقة عاملة بالمعني التقليدي . ومن ناحية أخري ، فإن فكرة فلوبير السيئة عن أن التعليم ضئيل أو عديم الجدوى لا تخلو من وجاهة نسبية ، فباستثناء ما يقدمه التعليم من قراءة أو كتابة وهي عملية لا تعني في حد ذاتها ثقافة أو معرفة وإن كانت هي الوسيلة الكبرى للثقافة والمعرفة ، فإن قيمة التعليم كأداة في رفع المستوي الخلقي والنفسي خيبت آمال معظم المفكرين لأنه بجانب الكلمة الموضوعية المفيدة فهناك عشر كلمات مفسدة مضللة لا تخاطب إلا الغرائز والشهوات ولا يمكن للكلمة المطبوعة أن تظفر بالاهتمام ما لم تكن مطعمة بطبقة من مقتضيات الاستهواء ، ولم يكن فلوبير مبالغا عندما قال "إن الصحافة لهي مدرسة للإفساد" ، وقد نسب فلوبير ذلك لأنها "تعفي من التفكير" ، ولو عاش وشاهد صحافة الابتذال لأضاف سبباً آخر إلي النتيجة التي انتهي إليها. في الوقت نفسه فإن إيمان جورج صاند في الشعب لم تزعزعه الهزيمة القاسية التي صبت فيها ألمانيا كأس نقمتها على فرنسا ، على العكس إننا نري جورج صاند وهن تأسي لألمانيا ، فقد رأت ببصيرة الفنان أن الشروط الثقيلة التي فرضتها ألمانيا المنتصرة علي فرنسا المنهزمة ستودي خلال فترة ــ قد تطول أو تقصر ــ إلي إنهاض فرنسا من كبوتها واستجماعها لكل قواها لتستطيع الوفاء بما فرض عليها ، في الوقت الذي يؤدي فيه الانتصار بألمانيا إلي الاسترخاء أو الزهو الخادع وتكون النتيجة أن تأتي ساعتها فالأيام دول، وكما تدين تدان ، ومن أسمي اللمسات إنسانية أن تأسى جورج صاند لمصير ألمانيا المنتصرة وللنقمة التي تنتظرها في المستقبل وأن لا تشمت فيها . وقد تحققت نبوءة جورج صاند ، وانتصرت فرنسا علي ألمانيا في الحرب العالمية الأولي ، وفي المواقع التي أرغم الألمان الفرنسيين علي توقيع معاهدة الهزيمة فرضت فرنسا المنتصرة علي ألمانيا المنهزمة شروط معاهدة فرساى التي كانت أشد قسوة من شروط معاهدة 1870 وجابه كلمنصو الفرنسي المنتصر ، ممثل ألمانيا المهزومة الكونت بروكددرف وانتز قائلاً "لا الوقت ولا المكان يسمحان بعبارات جوفاء ، إن ساعة التسوية الثقيلة لحساباتنا قد دقت" وفي المكان نفسه التي وقعت فرنسا معاهدة 1870 وقعت ألمانيا معاهدة فرساي سنة 1918م . وفي قضية التعليم العام أو الإلزامي ، فإن الأهمية العظمي للتعليم العام قد أصبحت إحدى المسلمات ولكن من المفيد دائما أن نفاجأ وسط تيار التسليم برأي مختلف لأن من المؤكد أن هناك ما يستحق التعليق وتوجيه الاهتمام بدلاً من مجرد الموافقة والتسليم ، وقد صدم أحد رجال التعليم في مصر زملاءه عندما نشر رأيًا يهبط بالأهمية المظنونة للتعليم بما يماثل ما ذهب إليه فلوبير . ذلكم هو الأستاذ محمد فريد أبو حديد الذي قضي كل حياته تقريبا في خدمة التعليم ونشر في العدد الأول من السنة الأولي من صحيفة التربية التي تصدرها رابطة خريجي معهد التربية بالقاهرة (يونيو 1948) مقالاً مركزاً تحت عنوان "رأي في نشر التعليم" . في هذا المقال أشار الأستاذ فريد أبو حديد إلي موجة التسليم بضرورة نشر التعليم السائدة ودعا إلي التفكير في مسألتين هامتين الأولي هي "هل كان نشر التعليم حقا هو العامل علي النهوض بالأمم في الماضي" والثانية هي "هل كان تقدم التعليم وتطوره في البلاد الأخرى هو الباعث علي تقدم تلك البلاد وتطورها أم أن تطوره هو كان نتيجة لتطور الحياة في المجتمع". ويستطرد الأستاذ فريد أبو حديد .. أما المسألة الأولي فإن مجرد الرجوع إلي التاريخ يبين لنا أن الأمم قد كانت منذ القدم تعلو وتنشئ مدنيات عظيمة وأن تيار التقدم الإنساني كان متصلا علي مدي قرون كثيرة قبل أن يعرف العالم شيئا عن تعميم التعليم بالمعني المعروف اليوم ، بل أن من الأمم الحديثة ما عرفت عنه حياة رائعة وتقدماً كبيراً في كل مناحي النشاط الإنساني قبل أن تخطر عليها فكرة تعميم التعليم فإن نهضة بريطانيا مثلا منذ القرن السادس عشر إلي القرن التاسع عشر وما صاحبها من بناء أعظم إمبراطورية في التاريخ وازدهار صناعتها إلي القدر الذي جعلها أكبر دولة صناعية إلي أوائل القرن العشرين كل ذلك حدث وتم قبل أن تفطن بريطانيا إلي تعميم التعليم . ومن المعروف أن حركة نشر التعليم في إنجلترا وسائر بلاد أوربا لم تبدأ جديا إلا في أواخر القرن التاسع عشر فهل يمكن مع هذه الحقائق التاريخية أن يقال إن رقي الأمم في النشاط أو في الصناعة إنما هو نتيجة للتعليم ونشره في صفوفها؟ هذه كلمة موجزة يمكن أن يكون نواة لدراسة تاريخية أوسع دائرة ومنها يمكن الوصول إلي جلاء الحقيقة التي أعتقد أن من الضروري جلاءها وإبرازها بكل وضوح وهي أن حيوية الأم ونشاطها ونهوضها الصناعي والإنتاجي والأدبي إنما هو وليد جهود الأقلية الممتازة من الأمة وليس وليد التعليم العام هذه هي المسألة الأولي موجزة وأما المسألة الثانية فيدل التاريخ عليها أيضاً لأن نظم التعليم في البلاد المختلفة قد تطورت تبعا لتطور الحياة نفسها فالتعليم في الأمة الإسلامية مثلا لم يتطور في نوعه إلا بعد أن تطورت الحياة الإسلامية نفسها من حالة البداوة في جزيرة العرب إلى حالة التحضر بعد أن امتد الفتح الإسلامي خارج تلك الجزيرة وهذا ظاهر لمن يتبع مسيرة التاريخ الإسلامي ويمكن للباحث أن يصل إلي هذه النتيجة عينها إذا هو تعمق في بحث تواريخ الأمم المختلفة فقد تطورت نظم التعليم في ألمانيا وفي إنجلترا وفي فرنسا تبعا لتطور حالة البلاد نفسها ونظمها الاجتماعية ومن الواضح في تاريخ أمريكا أن نظام التعليم كان وليد الحياة المتطورة سريعا في تلك القارة العظيمة . فمن اليسير مع تتبع تاريخ هذه الأمم أن نصل إلي الحقيقة الأولية الآتية : إن نظام التعليم في بلد من البلاد يسير وراء تطور المجتمع في ذلك البلد فالتعليم لم يحدث التطور بل هو يتبعه . وقد كان بودنا أن نستكمل بقية ما كتبه الأستاذ أبو حديد خاصة ما تحدث فيه عن مصر ولكننا لم نشأ أن نستطرد خاصة وأن المقال ما أن نشر مع تحفظات المجلة ومع طلب الكاتب نفسه جعل هذا الموضوع محور الدراسة حتى تضمن العدد التالي (أكتوبر 1948) تعليقين عرضتهما المجلة عن الأستاذ محمد فريد أبو حديد فكتب "قد بينت في كلمتي ما قصدت ولكل من حضرات الكتاب أن يقول ما يريد بحسب ما يراه ولعل السبب في عدم اتفاقنا هو أننا لا نتفق علي المعاني التي يقصدها كل منا من عبارته" . "وأما دلالة التاريخ علي أن نهضة الأمم كانت وليدة القلة الممتازة فهذا ما وصل إليه علمي من دراسة التاريخ ولا أظن الجدل في هذا يجدي في الموضوع الذي نحن فيه". فهذه الفقرات من أحد رجال التعليم البارزين تتفق تمام الاتفاق مع ما ذهب إليه جوستاف فلوبير ليس فحسب في التعليم العام بل أيضا في أن سبب نهضة الأمم يعود إلي القلة الممتازة . وفيما نري فإن هذا الرأي منهما (أي من فلوبير وفريد وأبو حديد) لا ينفي الضرورة القصوى لمحو أمية جميع الناس رجالاً ونساء في هذا العصر بصرف النظر عن تقدير مدي أهمية ذلك .. لأن المسألة ليست مدي إسهام التعليم الشعبي في نهضة الأمم ولكنها مسألة استلزام للقراءة والكتابة لمعايشة العصر لأن ذلك أصبح من المهارات التي لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاهلها في العصر الحديث وأي خلاف حول أهمية التعليم يجب أن يأتي بعد محو الأمية لأن مائة وثلاثين عاما من التطور السريع من سبعينات القرن التاسع عشر جعلت القراءة والكتابة أهم من مجرد قراءة البتي جورنال أو الفيجارو "كما كان الحال أيام فلوبير". أما قضية حكم النخبة والقلة الحكيمة وليس الكثرة والدهماء والقطيع الشعبي كما عبر عنه فلوبير فإنها من الناحية العملية ليست إلا حكم الضرورة فكما قال فلوبير إن الشعب يمثل "الأعداد" ولا يمكن أن يحكم نفسه فلابد أن يحكم عنه من يقدر عليه وقبل فلوبير بعشرات القرون دعا "أفلاطون" إلي حكومة الفلاسفة، وبعده (فلوبير) بعشرات العقود دعا أكبر من تمسح بحكم الشعوب ــ لينين إلي حكم الحزب ــ طليعة الطبقة العاملة أي النخبة الأكثر وعيًا ، فإذا استبعدنا التمسح الأجوف بكلمات الجماهير والشعوب والعمال .. الخ ، فإن الحكم عمليًا يظل في أيدي القلة التي أرادها لينين بلشفية وأرادها فلوبير حكيمة . والشيء الوحيد الذي يمكن أن يؤخذ علي فلوبير هو أنه فصل ما بين الشعوب والقلة في حين أن الشعب هو الكل الذي يضم ــ فيما يضم ــ القلة وأن هذه القلة الحكيمة والواعية يمكن أن تظهر الزهرة الناصعة البياض أو الفاقعة الحمرة من التربة المغبرة وتتغذى بما تتضمنه التربة دون أن ينال هذا من نقاء لونها الخاص ، وإن كان قد أشار إليها إشارة خاطفة وبنى عليها أن علينا أن نعطيها الحرية ، ولكن ليس السلطة . بقي بعد هذا قضية التصويت العام ، وقد أثبتت التطورات المعاصرة أن التصويت العام يمكن أن يكون وثنًا وشعاراً يخدع به الجمهور وتستغله النظم الحاكمة، كما يحدث في النظم الشمولية التي تدعي أنها تمثل الديمقراطية الحقيقية ، وتأتي نتائج انتخاباتها بنسبة 99% لمرشحي الحزب الحاكم ، وكما يحدث أيضًا في النظــم الليبرالية ، التي تتفتت فيها الأصوات علي العدد الكبير من المرشحين الأمر الذي يساعد الأغنياء والأقوياء علي الانتصار بفضل ما يتميزون به علي الفقراء والضعفاء من ثروة وقوة ومهارة في إدارة المعركة الانتخابية وتضليل الناخبين والتأثير عليهم فضلا عما يحدث للبطاقات والصناديق من تلاعب ما بين إنهاء عملية التصويت وعمليه إعلان النتيجة وهو تلاعب ثبت أن معظم الحكومات لا تعف عن ارتكابه بقدر كبير من البجاحة والصفاقة والجرأة بحيث لم يبعد كثيراً عن وصف فلوبير له بأنه "عار العقل الإنساني". وهكذا نري أن كلا من فلوبير وصاند كان يدافع عن قضية صائبة حتى وإن تشابكت أقلامهما .. * * * لم يكن الأستاذ فريد أبو حديد هو الوحيد الذي آمن بما ذهب إليه، إن سيدة تربوية هي السيدة نبوية موسى رائدة تعليم البنات في مصر تشاركه أراءه فقد عارضت بشدة مشروعات التعليم الأولي الإلزامي ، ورأت أنه من الأصوب والأفيد توجيه الجهود إلي تعليم النخبة تعليما مثمراً ، فلم تكن نبوية موسى من المؤمنين بتعليم الشعب أو الداعين لنشر التعليم الأولي الإلزامي ، بل كانت ترى في ذلك عبثا خير منه تعليم أبناء القلة تعليما عالياً ، ولذلك تقول نبوية موسى "إن الأمة كجسم واحد لابد له من أعضاء كثيرة تقوم بالحركة والعمل ورأس مفكر يدير هذه الأعضاء وينظم حركتها ، والأعضاء العاملة في جسم الأمة هم السوقة وهم سوادها الأعظم ، أما الرأس فقادة الأمة من علمائها ونبغائها وحكامها المتعلمين ، ومتي صلح الرأس وأحسن التفكير توجهت كل أعمال الإنسان إلي الخير وصلحت أحواله فإذا أوصينا بأمتنا خيرا وجب علينا أن نسعى في تعليم قادتها ونبغائها تعليما صحيحاً عاليا يستطيعون معه إرشاد الأمة إلي ما فيه الخير والمنفعة ، أما التعليم الأولي وحده فلا فائدة منه إذا اقتصرنا عليه ، وإنما هو أساس بني عليه دعائم التعليم العالي، فإذا ظهرت كفاءة الطفل في التعليم الأولي تخطينا به إلي ما هو أهل لمواهبه السامية ، إما إنفاق ما لدينا من المال في التعليم الأولي وعدم تقديرنا التعليم العالي فهو خطأ، لأن التعليم الأولي من دون التعليم العالي لا تأتي منه فائدة تذكر والمعرفة القليلة أضر من الجهل . وليس هناك فرق بين فلاح فقير يعرف القراءة وآخر أمي لا يعرفها ما دام الثاني يقوم بعمل في حرث الأرض وزرعها كما يقوم الأول ، وما فائدة معرفة القراءة للفلاح الفقير طالما أنه والفلاح الأمي في المنفعة سواء ، ولا يخشى من تقهقر الأمة لجهل فلاحيها ما دام في الأمة نبغاء يستطيعون إرشاد الفلاحين إلى ما فيه النفع ، والفلاح الذي يستطيع أن يزرع الفول أفضل من ذلك الذي يستطيع كتابة هذه الكلمة ، ومن الخطأ أن يقاس رقي الأمة بعدد من يعرفون الحروف الهجائية فيها ، وإنما يعرف رقي الأمة بعدد نبغائها وسداد رأي قادتها فالأمة التي تفوز في ميدان الحرب لا تجني ذلك الفوز لمعرفة جميع جنودها مبادئ القراءة والكتابة ، وإنما تحرزه بما يبديه قوادها من الرأي السديد والحكمة في تنظيم الجيوش . ولهذا كان من العيب أن نترك التعليم العالي ونهتم بالتعليم الأولي فقط. ولقد تغالينا في ذلك حتى أصبح الناس ينادون بتعليم أولاد الباعة والخدم ومساحي الأحذية ، مع أن أبناء هؤلاء المصلحين الذين ينادون بتعليم أبناء السوقة لم يوفقوا إلى نيل ما يليق بهم من التعليم ، ولو أنصف هؤلاء المصلحون لتركوا السوقة للبيع والخدمة ، وساعدوا أنفسهم وأبناءهم بفتح الكليات العالية وإرسال الإرساليات إلي أوروبا لنقل أفكار الأمم الراقية . لا يضير أمتنا أن يكون ابن الخادم خادما مثله ، ولكن يعوزها وجود رجال أكفاء يسيرون بها في مراقي الفلاح ، ومن العبث أن نحاول أن يكون لخادمنا من المعرفة ما للخادم الغربي ، ما لم نسع أن تتساوى معلومات أغنيائنا بمعلومات أمثالهم من الغربيين، فإن هذا الخلط في الرأي قد يؤدي إلي أن يكون الخادم أعلم من سيده وهو ما لم ير في أمة من الأمم" . إن فريد أبو حديد ونبوية موسى تصورا أن موارد البلاد لا تسمح بالتعليم الإلزامي وأن الخيار هو ما بينه وبين الأنماط الأعلى ولكن الموارد تسمح ــ ويجب أن تسمح ــ بالاثنين مع وضع ملاحظات فريد أبو حديد ونبوية موسى في الاعتبار (*) .
#جمال_البنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عندما ثار الأسطول البريطاني
-
الأديان لا ينسخ بعضها بعضًا ولكن يكمل بعضها بعضًا ( 3 3 )
-
كلكم سيدخل الجنة «إن شاء الله» إلا المارد المتمرد
-
مانيفستو المسلم المعاصر
-
الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإسلامي هو الحل ( 1 3 )
-
الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإسلامي هو الحل ( 2 3 )
-
الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإسلامي هو الحل ( 3 3 )
-
الطقوسية العدو اللدود للإسلام
-
الأديان لا ينسخ بعضها بعضًا ولكن يكمل بعضها بعضًا ( 1 3 )
-
الأديان لا ينسخ بعضها بعضًا ولكن يكمل بعضها بعضًا ( 2 3 )
-
الحكمة باب يفتحه الإسلام على الزمان والمكان
-
امريكا افضل من صدام
-
الرد على شاكر النابلسي
-
دعوة لإعمال العقول
-
فصل من كتاب ( مسؤولية فشل الدولة الاسلامية) الذي منع نشره
-
يا نواب الشعب.. التعذيب في أقسام البوليس أولي بالاستجواب من
...
-
معضلة التعليم بين الدين والعلمانية.. والحل تعلم الحكمة
-
مرة أخرى أقول لمحمود سعد لا يوجد حد للردة
-
الحل الإسلامي لطريقة انتخاب رئيس الجمهورية
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|