|
قصة الزورق
ناصرقوطي
الحوار المتمدن-العدد: 3237 - 2011 / 1 / 5 - 00:19
المحور:
الادب والفن
( محاولة للكتابة عن رجل تحول إلى زورق )
لا لبلاد الجليد .. لا لتابوته .. لا لخشبهِ المبلل بالمطر .. لا لشيء ..إنما له .. لسحنته التي يبسّتها شمس الجنوب .. لحزنه العميق ولمزاحه الذي ذهب أدراج الريح أكتب .. أعرف أنه لن يغفر لي هفوة هذه السطور التي جاءت دون علمه ورضاه كما إنها محاولتي الأولى والأخيرة عنه .. عن غيابه .. عن ضياعه .. عن أزماته التي خلفها وراءه كما طل على وردة ذابلة .. أسئلته التي تركها دون أجوبة كما حراب تطعنني كل لحظة .. عن المعرفة الخطرة التي كان يطرق بها رأسي حتى ضياعه الأخير الغير مبرر والمفازات التي ضاع بها أو أضاعته دونما رجعة ، عن بكاءه و ضحكاته التي دفنها بزوايا البيت .. أدون ماتعلق بالذاكرة وله وحده أذرف هذه الكلمات ، هو الذي وهبني أول حرف في المعرفة بينما كنت لا أطالع إلا دروسي المخصصة في اللغة الانكليزية حتى اللحظة التي فوجئت به يتحول الى زورق بشراع شفاف وراح يؤرشف تاريخه الجديد لينأى بعيدا .. لربما غدا فراشة .. فقاعة صابون.....شيئا هلاميا لايُرى .... وأنا بدوري لم أكن بارعة في تسطير الكلمات وفي كتابة القصص بالرغم من معرفتي بأصول كتابتها ومواظبتي على قراءة آخر ما يصدر منها وعنها وهاأنذا أكتبها بالنيابة عنه ـ بعد غيابه الطويل ـ وبصورة أدق هي سيرة ذاتية عنه لا لأنه عاجز عن كتابتها بل لأنه لا يهتم بنشر قصصه التي كان يمزقها حال الانتهاء من قراءتها لي ( لولا سلوى النسيان لامتصت الأحزان آخر رحيق من أعمارنا . ) ـ كان يقول ـ ثم يعود يؤكد ( لا داعي لنكئ الجروح فلندعها تذهب إلى القبر مع كل أسرارنا . فان أروع القصص هي التي لم تدون بعد . ).. كان يؤكد ذلك حال انتهاءه من قراءة كل قصة له ، ولو كنت أجيد كتابة قصته منذ زمن بعيد لما ترددت لحظة ، فقد كان صوته الطاغي الرخيم وهو يقرأ قصصه أمامي يؤجل لدي حس الاندهاش الذي تولده لذة قراءة قصتي في نفسي والتي كان يسخر منها في الوقت الذي تتفاقم سخريته بما يكتبه هو من قصص .. أقول ذلك نتيجة لتحولاته الأخيرة وإحساسه بلا جدوى الوجود والمكان الذي ينتسب إليه ، حتى أضحى غريبا عن نفسه يكلم الريح والجدران ، يصغي كثيرا لإيقاعات كمان " فيفالدي " المحببة لنفسه ، تلك الموسيقى التي حفظتها عن ظهر قلب من كثرة ماكان يستمع إليها والتي مازالت تتصادى في رأسي حتى لحظة كتابتي هذه السطور .. ثم يروح يتساءل عن طلاء النزل وهو يشير إلى ذبابة تركت نقطة صغيرة سوداء تكاد لا ترى بالعين المجردة . ( انظري هنا .. الجدران ملوثة.. السقف غدا مدخنا . العناكب أنظري .. المطبخ .. صالة الضيوف .. كل شيء يلوثه البراز .. انظري.. الحيطان .. السقف .. الفراش .. انظري .. انظري .. رفوف الكتب .. الكتب ألا ترين .. الأزهار .. الحديقة .. جادات المدينة ... ) . كان يكلم نفسه حتى إذا ما اقتربت منه راح يكلم نملة ضائعة تدب على الجدار ( ما الذي أوصلكِ إلى هنا .. لم لا تنزلين إلى بيتكِ .. ولكن لا .. لا .. يبدو انك فررت بعيداً عن أبناء جلدتك ولا تعرفين أن صعودك هذا سيقودك بعيدا ، ربما إلى حتفك .. حيث الوحدة الباردة في كفن العزلة .. اذهبي بعيدا إذن .. ابتعدي .. هيا .. دعي البيوت والجحور والمزاغل أبحثي عن نفسك فقط .. عن منجاتك في عالم لا جدوى منه غير أن تظلي أنتِ. أنتِ فقط بمجساتك الرقيقة التي لا تتواءم مع أبناء جلدتك . ابتعدي وإلا سيسحقك أحد المتطفلين .) . كان يمر بنوبات من اليأس المدمر على مدار صحوته .. فكم كنت ساذجة .. لا .. بل كم كنت غبية حين لم أتركه وشأنه ، فهو بطبعه دمث الخلق طيب القلب حد السذاجة ولو استثنينا عادة تعاطيه الخمرة كل يوم لكان قديسا حقيقيا فروحه السمحة وكرمه اللا متناهي ، وعطفه على الكائنات كانت ترسم في عيني صورة الزاهد ، فكم من مرة جلب معه قطة صغيرة مكسورة الساق ( أسرعي كانت تحت المطر .. لقد دهسها سائق أرعن حقير .. اجلبي أي شي .. أي شيء بسرعة هيا ,, هيا لا تقفي أمامي كالعنزة . ) .. أويحتضن سلحفاة هرمة ظلت طريقها ، ليعود بها بعد أيام إلى النهر القريب وكم من مرة يعود مهموما الى النزل لأن جروا صغيرا دهسته عجلات سيارة . رغم كل طيبته وثقافته التي كنت أعرفها إلا أن الكثير من الذين يمتون لنا بصلة القرابة كانوا يقرعونني بسبب تعاطيه الخمرة وينبهوني لحالته التي تزداد سوءا كل يوم رغم شظفه الدائم . ( حتى القطة تدفن نجاستها فاستتر ) قلت له يوما .. ( لست قطة يا امرأة وإنني لا أخرأ في الطرقات .. العالم يرتد يازوجتي .. العالم يريد أن يضعنا في قناني الاختبار والجهلة يسوقون ويديرون كل ماحولنا .. العالم ياعزيزتي أكبر من مطبخ لسلق السبانغ ) كان همه الوحيد أن يكتب قصة ناجحة ولو احترق العالم من حوله بالرغم من عشرات القصص التي كتبها والتي كان يمزقها حال الانتهاء من قراءتها لي، كان يطرق ويهمس وهو شارد الذهن وكأنه يستمطر الفراغ من حوله ويحيط نفسه بهالات من فزاعات أسطورية ، في الوقت الذي يجلد ذاته نتيجة لإحساسه ـ غير المبرر بالفشل ـ في كتابة قصة ، لربما شعوره بضعة موضوعها الذي كان يتناوله إزاء الأحداث التي كانت تعصف من حوله ، بالرغم من أن جل الموضوعات التي كان يتعاطى معها كانت تنحوا منحى غرائبيا وفيها من الحس الإنساني وصور التضحية والعصامية الشيء الكثير وأنا بدوري كزوجة تعلمت الكتابة عنه وعليّ أن أتأخر عقد من الزمان في سبيل كتابة قصة إن لم تكن بضعة عقود تتعدى سنوات حياتي المتبقية ، طالما لم يلتفت هو الى الخطرفات ـ كما يسميها ـ التي دونتها في محاولات كتابتي الأولى في القصة ، وكثيراً ما تساءلت..!.. لربما العالم ترك التعاطي مع جنسها الممغنط بأحاسيس الدهشة والمفارقة ، فثمة مسافة وبون شاسع بيني وبينه فمادمت أتعامل بغرائبية لاتماثل غرائبيته و لايدركها هو ، فأن الهوة أخذت تتسع بيننا .. حين كان يعلق عجزه وإحساسه على جدوى الوجود والكتابة التي ضيّع كل حياته من أجلها وعلق على مشجبها كل إخفاقاته في الوقت الذي كان يعلل ذلك بـ ( إنها ليست جديرة بالقراءة ، إنها ليست القصة التي أطمح بكتابتها ، لا أريد قصة غبية تستدر العطف والدموع ، أريد أن أكتب قصة تماثل عمل نحات بوهيمي لا فزاعة مهلهلة مهملة في حقل المعرفة .. أبغي قصة بقوة الزلزال ، زلزالا يتعدى كل قياسات ذاك البائس الذي يدعى " رختر " قصة تحكي عن نهاياتنا البائسة ، عن جدوى الوجود ، عن التشويه والتراكم المخيف للمرضى في هذا العالم ، الوجوه التي تتلون بتلون اليوم منذ شروق الشمس حتى مغيبها .. عن الأرواح التي تنضب قسراً في حضيض من روائح المجتمعات الآسنة بكل اعتقاداتها وتقاليدها ، ولا تجد منفذا للخلاص .. أريد قصة مخلّصة وبريئة كما يسوع تحمل كل العذاب البشري على صليب كاتبها لا ملهاة تلوغ في دماء الأبرياء من القراء .. لا أريد أن أكذب عليك .. ) . كنت بدوري أقف أمامه مذهولة ساهمة لا أستطيع أن أبعد عنه نوبات الضجر التي كان يمر بها وهو يرتشف الكأس تلو الآخر ، كما ليس باستطاعتي إيقاف نزيف هذياناته التي كان يسطرها على الورق وقد أدركت ـ متأخرة جداً ـ ان الخمرة تعني له الكثير فهي تحمله على أجنحة الخيال وربما تنسيه إخفاقاته وذكرياته من مرارات الواقع وشدة وطأته عليه . ( يالبؤس العالم ـ كان يقول ـ ويا لبؤسي ان لم أكتب قصة تتعدى حدود الصاعقة ، ويا للتفاهة حين أكذب على نفسي ، وتفاهتكم حين تقرؤون وتصدقون كل ما يكتب ، لا تقرئي كل شيء ، ولكن لا .. لا .. اقرئي .. اقرئي ، لا تتركي القراءة وإلا ستصبحين عنزة أو سلحفاة لا تعرف من العالم شيء ، كوني شيئاً يذكر في هذا العالم وان لم تقدري فكوني مرآة صافية ، لا تكوني شيئا تافها كما المقلاة في مطبخ .) . كنت أنصت له مرغمة حتى بات من العسير ، بل المستحيل الإحاطة بسلوكه ومزاجه المتقلب الذي بات لايرتكن إلى حال ، بعد ان تخلى عن عادة تعاطيه الخمرة . ولو كنت أعرف سلفا ما سيحدث له جراء إصراري على منعه من تعاطيها لما ألححت عليه ولتركته وشأنه ، فمهنته كبحار قديم وسمت شخصيته بإصرار وعناد عجيبين بالرغم من انه لم يشتغل في البحر إلا خمسة أعوام ، ولكن تلك الأعوام صنعت منه كائنا مهوّما غريب الأطوار تضج في رأسه صرخات النوارس وتتراءى أمام عينيه الكليلتين أشرعة مضاءة بألوان سحرية لاتراها إلا عينيه ، حتى إني بدأت أشعر بحزن عميق نتيجة التحولات الأخيرة التي طرأت عليه ، فقد كانت نوبات شروده تتكرر وهو يقف محدقا عبر فراغ النافذة ، مصيخا السمع لنأمات صوته الداخلي البعيد حتى إذا اقتربت منه تناهت همساته مندفعة من بين شفتيه الناشفتين ، متقطعة ضعيفة ، نائية ، كما لو أنها رجع صدى بعيد . .( آآآ .. المراكب ستجيء ، ستجيء .. إنها تقترب .. آآآ .. مراكبي تجيء . ) كان وجهه تحت ضوء الغروب أقرب إلى شبح منه إلى إنسان فيما ظلال باهتة تتراقص على محياه وعتمة رمادية باردة تستوطن في التجاعيد الغائرة حول أنفه وهو يكرر في شرود جملته الأثيرة . ( ستجيء .. المراكب قادمة . ) . وكنت بدوري أبادله ذات النظرات القلقة الحزينة وهو لا يكف عن التلويح لي بسبابته مؤكدا بأنها ستجيء قريبا وستحمله بعيدا عن الماضي الذي غدا ذكرى بعيدة لن تعود . حتى إذا ألحفت عليه بالسؤال: ـ أية مراكب تعني ، ومن ذا الذي سيجيء بها .. رمقني بنظرة شاردة وأطلق قهقهة متقطعة كما مويجات تصطخب في الخضم ، ليعود إلى وجومه ، رافعا حاجبيه الكثين زاما شفتيه ليؤكد من جديد ( إنها تقترب وستحملني بعيداً .. آآآ .. أنصتي معي ، ألا تسمعين عصف الريح تدفع الأشرعة .. آآآ .. صوت النوارس .. ألا تسمعين .. هدير الموج .. ألا .. إنها تقترب .. تقترب ..) . كان يغيب في شروده لساعات طوال لاصقا أذنه على الجدار حينا أو قرب نافذة ، مقرفصا حينا على بلاط غرفة مهجورة تركت كمخزن للأشياء القديمة المهملة ، كان لا يسمع إلا ذلك الصوت البعيد يضج في أذنيه ويروح يصغي في شروده ، وكنت بدوري لا أتذمر من حالته تلك ,, كنت أسأله : _من ذا الذي سيعود .. قواربك الضائعة ..أ صحابك الذين تركوك على الجرف .. من ذا يعودك .. فأنت وحدك معي.. ( كنت وحدي ـ كتب مرة في قصاصة ورق استطعت إنقاذها من بين يديه ـ وحدي ولم أر صديقاً .. ظلمة زرقاء تحاصرني .. أشرعة قوارب تنأى .. تتلاشى في الأفق .. الريح تدفع قاربي وليس سوى زرقة صحارى من اللجج تتقاذفني غير أن الأسماك الوحشية كانت تفترس النوارس وكنت أرى السفن تغرق وهي تتثاءب ، السلاحف الضخمة تنزلق على الجرف .. القروش تبرز سيوفها ، تشق الموج باندفاعات رشيقة والنوتية يهلوسون بتمتمات عن فحوى الشاطئ وما للصخور من الثبات .. تلك الصخور التي كثيرا ما جرحت المويجات الرقيقة و حطمت القوارب وأغرقتها ، تلك الصخور التي خلقتها الصدف العمياء مدت جذورها إلى أبعد من طين الأرض فيما الزبد راح يطفوا رخوا يتهادى على السطح وكان العمق يصطخب وكنت وحدي معه .. كانت هالات غريبة من الضياء تبني أعشاش أقواسها قرب الطين ..كنت أراها وحدي مع سفينة بأشرعة حمر غير أن المد سرقها مني .حتى غصت بعيدا وتوحدت معها ..) كان أن صمته العميق يترك في دخيلتي سؤالا متلجلجا حائرا كما الريح حين تهز الأشرعة حتى إني وجدت تفسيرا منطقيا لسؤاله عن المراكب التي ستجيء وتنقذه مما هو فيه أو من الواقع الذي يرزح تحت وطأته ، غير أن أزمته التي كانت تتفاقم لم تترك لي حرية التعبير حتى عن كتابة سيرته التي أنا بصدد طرحها ، لقد غاب عني في وجوده غيابا تاماً وماعدت أكلمه إلا لماماً .. وهاأنذا أطرح سيرته بعد غيابه الذي يطول .. ابتدأت القصة بأن قال أحد أصدقائه الذي حضر الى نزلنا وكان حديثه عن آخر ما رآه صديقه الذي كان يعلم عن فقدان ابننا الوحيد الذي غرق مساء يوم خريفي حين اصطحبه معه أبيه .. ( رأيته عند الجرف ، كان ينادي بصوته الرخيم ساخطا على أكف الموج التي كانت تصفع الجرف كان حزينا وهو يشتم القوارب و ينادي على سفينة في خياله كان يصيح ( ياسفينة نوح أنقذي ماتبقى من الغرقى الطيبين .. دعي الرعاع يلوغون بعوالمهم .. وأنت أيها الرب الرحيم تنازل عن كبريائك قليلا وخفف آلام عبيدك ) .. حين رأيته آخر مرة .. عند جرف الشط كان ثملا والمطر يبلل ثيابه .. اقترب الى زورق صغير مهشم وراح يهمس له ..( أما أنت أيها القارب الصغير الذي جرى عليك ما جرى دع حطامك يحكي فكل حكايانا حطام وكل حطام له حكاية وهاأنذا أبتعد عنك أنت أيها القارب .. أبتعد عن نوارس ملت الزعيق عن جرف ليس فيه إلا بقايا من زبد ونقيق ...) هذه هي المرة الأخيرة التي رأيته فيها وكان يتقدم نحو العمق .. ) .. قال لي مرة أن من يترك جرفه يعد هجينا وأنا البحار فالقوارب ستأتي بعد حين .. فانتظري انتظري .. ستجيء قواربي وتحملني بعيدا .. هكذا غرب زوجي .. أو هكذا تلاشى ولم أعد أراه .. ربما سرقته المراكب .. الأمواج .. حتى اللحظة التي اكتشفت فيها ان هناك جثة تتأرجح من غصن الشجرة ، والوقت قد قارب منتصف الليل من ليلة شتائية ممطرة وباردة ، طرق الباب بعنف ود خل مخمورا ومغـمورا بالوحل حتى هامته ، كان كرشه المندلق على حزام بنطاله يهتز إثر كل كلمة يتفوه بها والانفعال باديا عليه ، اقترب من أذني وهمس بصوت متهدج .. ( إنهم قادمون ورائي ..!..) ( من هم ) .. سألته باستغراب وحاولت أن أسكن من فورة انفعاله ... ( ألا تصدقينني ..! ) ( تفضل استرح ودعني احضر لك قدحا من الشاي ) .. لكنه لم ينتظر نهاية لجملتي إنما احتواني بنظرة شزرة تشي بالعـد وانية والتف حول نفسه ثم اختفى في الظلام . كان صوت الستائر التي يصبغها البرق بين لحظة وأخرى بلون الأرجوان يختلط مع صوت الريح التي لم تزل تعوي وراء النافذة . فتحت الباب فاندفعت موجات هواء باردة علقت أجنحة الستائر في السقف . أغلقت الباب على الظلمة المستشرية في الخارج وعدت ثانية إلى ركن من النزل ، باحثة عن الوريقات التي سودها بكلماته الأخيرة والتي قد تفصح عما جال في خاطره في حال عثوري عليها ( احم نفسك واحتاطي للأمر ، إنهم قادمون ، ابحثي عما كتبت ، انها كلماتي الأخيرة إزاء ما يحدث للعالم ، حاولي أن تفهمي النهاية ، وتصلين إلى ما توصلت إليه ..) .. كانت همساته الحائرة وهو يؤكد لي مدى الرعب الذي سيصيبني إذا ما حاولت فهم كلماته وحللت شفراتها في حال عثوري على مخطوطته . كان صوته يغلف كل الجدران من حولي بهالة من فحيح أشباح لا ترى ، فيتركني معزولة وسط هذا النزل الموحش الذي لم تحتضن حجارته إلا ذكريات نائية لأصدقائه الذين محقتهم عجلات الغربة ، كانوا شعراء لمرحلة قادمة ، قصاصو حوادث يومية ساذجة وبرودة صمت تغلف ركام من أثاث قديم ، بضعة كراس ومنضدة تتراكم عليها كتب الأدب . الستائر مازالت تخفق مصدرة أنينا خافتا كما لو اختبأ بين طياتها ملقنون متأتئون . فتحت الباب كان مالك النزل ينظر بعين شزرة وينتظر تسديد حساب ثلاثة شهور ، لم أعتذر منه إنما قلت :-( صباح غد ستجد النقود بين يديك ) وتبعته الى الخارج حتى واراه الظلام .. توغلت في العتمة المستشرية وعلى ضوء قمر مريض حثثت خطاي نحو الشجرة ، كان طائر بين البوم والغراب ينقر شيئا ما أسفل الشجرة وكانت الجثة قد اختفت ( هل كنت شريكة في لعبة الموت هذه ) سألت نفسي وأنا أغذ السير باتجاه الشجرة ، رحت أبحث في التربة وكان المطر يتسلل بين أصابعي الخدرة ، كنت أحفر الحفرة بينما الطائر قد حلق فوق هامتي ، حفرت بعيدا في الأرض ، كانت الجذور تلامس أناملي ببرودتها وأنا أهمس ببسملة غامضة عسى أن أجده خلال سعيي في النزول نحو عمق الأرض ، ولكن حين اصطدمت أصابعي بحركة الكائنات الأولى ارتسمت خيبتي . لم أجد إلا الديدان في الحفرة العميقة ، أزلت الوحل عن يدي وعدت الى النزل ولم تكن السماء لتبخل ببريق وامض بين لحظة وأخرى وصوت رعد متقطع يتقهقر ورائي ، دخلت وكان الباب مشرعا ، اقتربت الى الموقد النفطي وعلى كرسي قريب منه ، كانت أردية خلقة منقوعة بالوحل قد فرشت على مسنده ، إنها ثيابه بلا شك ولكن متى جاء بها ..!.. وهل خرج عاريا من هنا وأنا الذي وهبته كل ماأملك من نقود وتخليت له حتى عن علبة سجائري ، تساءلت ودرت دورة كاملة في فلك المكان باحثة في الزوايا المعتمة حتى تحسست أناملي خشونة وريقات المخطوط ، وقرب النافذة وفي الوريقات السمراء استطعت ان أقرا .. * ( بعدما ارتفع بيننا برزخ كثيف لم أعد أراكِ لقد أضحى مستديما مساؤكِ وأقمارك لن تظهر ذات غروب توهمتك جالسة بسنيك العجاف وبياض شعرك الفاقع وقد غمر ذلك البياض تجاويف النزل وانفضت من حولك الأصوات ماذا هل غادروا جميعهم في نزهة ٍ أم أنكِ في زحمة السنين أضعتهم ..... أي صخرةٍ اقتعدتِ تتفيئين ظلها هل كان الرمل شاهَدك حين حفرتِ بأحجاركِ الأرض وأودعتِ السر ..) * ( في مكمنهِ العارف يستوحش صحبة الأنس وينفر من لغط الكلام يهفو إلى النعيم كما الفراشات للضوء ينزلق لهدوءٍ عميق لاتظفر بهِ الجذور تحت الأرض ولا الراقدون انه في مكان قريب يتدلى تحت ظل صفصافة ٍ ومن تحت أرجله ِ الماء يجري ... ــــــــــــــــــــــــــــ * قصيدتا ( اشراق البرزخ ) و ( عزلة العارف ) للشاعر عمار كاصد
#ناصرقوطي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نصوص قصيرة جدا
-
قصة جدار
-
المضمر من علامات الترقيم
-
خلوة حارس الكرسي الدوار
-
انتظار الظل
-
ليل الأبد
-
حلم غريق
-
لعبة
-
حلم يقظة
-
مايتبقى من البياض
-
آخر العمق
-
الأعور والعميان
-
السلالات السعيدة
-
فتيات الملح
-
خضرقد
-
غرباء
-
أعماق
-
الحائك
-
ايقاع الأمكنة
-
قصة
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|