|
قصة جدار
ناصرقوطي
الحوار المتمدن-العدد: 3235 - 2011 / 1 / 3 - 16:09
المحور:
الادب والفن
لاشك أن أقسى مراحل جهاد المرء هو جهاد النفس ومحاربة نوازعها الشريرة وماتضمر من سوءات مستترة ، وإذا كان الإخفاق في المرة الأولى يفضي بالنتيجة إلى العجز ومن ثم الحذر والتوجس من ولوج تجربة جديدة خوفا من الجروح التي قد تخلفها تلك التجربة ، فان الفشل الذي يتولد عنها يهبك من القوة والجلد على مواصلة الشروع والإيغال أكثر في خضم تجارب عديدة أخر ستخوضها بكل جوارحك ، أكثر مما يتركه النجاح الآني في تجربة ما ، ففشلك في التجربة لمحاربة وساوسك أشبه بمحاولة للوصول إلى ذروة مكللة بسعي محارب عنيد لم تترك الطعنات في جسده موطيء للهزيمة ، وهو يتوج هامته بأكاليل نصر تعادل بذات الوقت خذلانه من رؤية ماتتردى إليه معارك الأبطال المزيفين الذين لاتنطوي مواجهاتهم مع الآخر إلا على أساليب الغدر والمناورات الرخيصة . هذه الموعظة التي تعلمتها إثر هزائم عديدة ـ أمام النفس ـ جعلتني أرى بعدسة مرقاب داخلي شديد الحساسية آخر حادثة مرت معي ، هذه الحادثة الغريبة التي مازلت أقف حيالها مذهولا ، شارد الذهن وقد مرت علي كما حلم يقظة ، وإني لأعجب كيف خرجت منها سالما إلا من بعض الجراح الغائرة في الروح والتي دعتني إلى سرد بعض تفاصيلها المؤلمة علها تكون بلسما يرمم ماتهدم في الشغاف خاصة ان ضحيتها كان من أقرب الناس لي، مازلت أذكر محاولتي الأخيرة في الخلاص منه وهو يهمس في داخلي ( تقدم .. لاتخف ، انها خطوة واحدة وينتهي كل شيء ) . كنت أستند على جدار تزدهي على واجهته رسومات لطيور وفراشات زاهية الألوان وكانت ثمة حدائق وساحات فارهة ووجوه بضحكات تمر خطفا أمامي لتتلاشى في الأثير قبل أن تميد الأرض وينفتح أمامي ذلك الأفق الرمادي وهو ينوء تحت ثقل سماء رصاصية حتى لم أعد أرى غير توهجات صفراء فاقعة في سراب يبلبل الحواس وهوة قريبة مني سيسقط فيها ، حاولت أن أتبعه ، ركضت صوبه ، غير أن خطواتي لم تبرح ظلالها المسمرة في ذات المكان ، صرخت به ألا يتقدم أكثر فالهوة تحته تفغر فاها كشدق أفعى عملاقة ، غير أن صوتي تبدد مع صفير الريح . ـ إنها النهاية ..! كان صوته يجيء متحشرجا عاويا ، كما لو ينبعث من جوفي . ـ ستندم على فعلتك ان كانت هناك مسافة للندم . ولأن صوتي كان يخرج متقطعا من شدة العصف الذي رسمه ذهني المحموم وكيف سيسقط في الهوة السحيقة ، حيث سلاحف الظلمة تغلق بتروسها أبواب الجحيم التي سيشرعها لي قبل أن يستجب لتوسلاتي وردعه عن السقوط وارجاعه إلى جادة الصواب فأنا ـ والحق يقال ـ لازمته في صغره ، بل هو الذي ما انفك ملتصقا بي حتى توحدت معه وغدى أحدنا لايستغني عن الآخر في أشد المسائل خصوصية وحراجة .
*******
محض صدفة فتقتك ، صدفة غبية عرفتني بذويك ، تلك الصدفة التي ذرقتنا من ذات الرحم وألقتنا في غفلة من الزمن تحت رحمة الفتاوى الشيطانية ، لم أكن أتخيل انكم من فصيلة يصعب استكناه ميولها الغريبة وأنت الصبي الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة ، فكيف ساقتك الضنون وأقنعتك تلك الفتاوى الجهنمية التي غرسها أبيك في وجدانك ، أما كان جديرا بك أن تبرق لإحدى الكواكب السيارة وتخبرهم عنا ، عن ذويك ، من أجل تقييم جيناتهم الوراثية ومعاينتها عن كثب ، أن تسألهم لم اختاروا الفناء بهذه الطريقة التي تأنف منها أخلاقيات عصور ماقبل التاريخ ، كيف طاوعتك نفسك أن تفارق الجانب المشرق من الوجود وتعانق الظلمة وتنصت لعواء الذئب فيك .
*******
كنت أراك طفلا يحبو ، يفلت زورقه الورقي الصغير في المياه التي تخلفها سيول المطر ، كنت أرى لعبك ، قطاراتك الصغيرة التي لم تغادر سكة دائرتها الصغيرة ، كنت أرى غيمات ماطرة فرحة من موق أقرانك الصغار وشموس راجفة تهب الدفء لنسوغ الشجر حين تندى الأرض بأعشابها وديدانها المشاكسة ، حتى اللحظة التي سمعت فيها عواء موحشا ينبثق من أعماقي ، كنت أراك تحاول الخروج لتطلق عوائك .
******* ـ ماذا أرى ..! صرخت به في الوقت الذي كان يلازم صمته . سألت ثانية .. ـ من حولك إلى مسخ ..! ـ أنت تعرف ، لم تسأل ، خلصني ان استطعت .. ـ سأفعل ، و... حضرت الصحراء ثانية ، ماذا أرى ، همست بحيرة ، تحركت ساقي المتصلبة والمسمرة من هول المشهد ، حين غمرت الرمال وجه المدينة والفسحة التي كنت أقف عليها ، تقدمت ، صرخت صرخات متتالية وقبل أن أقترب منه راح يتطوى ، يتلوى ، تصاحبه عواءات طويلة وهو يحاول الخروج من جسدي ، كان لسانه اللاهث يتحسس أثر الدماء في حبيبات الغبار ، حتى إذا اندفع من صدري تركني خائرا بعد أن تجسد أمامي بكامل هيأته ، هيأة ذئب أغبر بأنياب يسيل بينها لعاب أصفر ، اقتربت منه لمست جبهته التي تضيق عند نهاية خطمه ، يعوي عواء مريرا وكانت الريح تشاطره العواء ، كنت مشدوها خائر القوى ، غير اني احسست بخفة ورشاقة جسدي حين خروجه مني ، كانت عيناه تتلصصان ومنخاريه تتشممان رائحة دماء بعيدة . ـ أعرف من غرس بذرتك في .. أعرف .. قلت ذلك بينما لم يحرك ساكنا ، لم يعد يعوي في داخلي بعد الآن ، وقد تجسد أمامي بأجلى صورة ، ذئبا مخيفا وبره الذي بلون رمال الصحراء ملطخ بالوحل والدماء ، مددت كلتا يدي وطوقت عنقه ثم ضغطت بشدة ، حاول أن يراوغ أو يطلق عواء استغاثة ، غير أن نقمة خلاصي منه كانت قد تحولت إلى قبظة فولاذية لم تتركه حتى لفض آخر أنفاسه في اللحظة التي تلاشى فيها الغبار وذابت الدماء على الأرصفة رجعت الحدائق والساحات ورجعت بدوري أنقل خطواتي الثابتة نحو البيت منبهرا بالذي حصل كما لو ولدت توا نسيمات نيسان تلاعب خصلات شعري والسماء فوقي رائقة تشاركني فرحتي في الخلاص ، غير أن فرحتي تلك لم تكتمل فهاهو أبي يطل بلحيته الرمادية وهو يزيح عمته إلى قحف رأسه مظهرا جبهته الجبارة وهو يقطع الطريق أمامي وعلامات الدهشة بادية في تقطيبة حاجبيه وهو يسألني . ـ لم تفعلها اذن ..! ـ ماذا أفعل .. ـ ماأمرتك بتنفيذه . ـ بل فعلتها . ـ كيف أراك امامي اذن . ـ قتلت الذئب ، النطفة التي غرستها في وجداني . ـ ماذا أسمع ، ويلك ، ـ نفذت ما أملاه على ضميري . ـ لم تفعلها اذن . قال أبي ذلك وراح يمسد لحيته الكثة التي استحالت أمام ناظري الى ثعابين صغيرة تتلوى ثم عوى عواء جريحا راح يتردد في كل مكان وحدق في عيوني طويلا وهمس بصوت واه مشوش . ـ لست ابني ، ستحل عليك اللعنة أبد الآبدين . ـ ولست فخورا بك ، أ لأنني لم أفجر نفسي كما أمرتك شياطينك ولتذهب مع غبار أسلافك . _ عوووووووووووو راح عواءه يتصادى ، ينشطر ، فيما احدودب ظهره وأخذ يزحف على قوائمه وهو يتشمم رائحة دماء بعيدة كانت تجذبه اليها رائحة دماء بشرية ، ومن يومها لم نعثر عليه حتى لحظة وقوفي أمام الجدار حين تصاعد الغبار وهيمن عصف الريح ، رحت أبحث عنه بين ذرات الغبار والأشلاء البشرية حين رأيته ـ بين الحقيقة والوهم ـ يتجسد أمامي وهو يلعق الدماء من الرصيف القريب ويتمتم بعبارات وطلاسم غريبة ، حتى إذا ما شعر بوجودي دس ذنبه بين قائميه الخلفيتين وعوى عواء طويلا وتلاشى بين الغبار والدخان الذي خلفه الانفجار ، كنت أستشعر ان موتا أو فناء في انتظاره ، كان يسعى اليه حثيث الخطى ، بقناعات من هذيانات خطب ومقولات سقيمة كان يلوكها ويتمتم بها كل لحظة ، بعد أن فشلت محاولاته في غرسها بوجدان أقرب الناس اليه حتى قضى وتبخر وغدى ذرات غبار ، حيث لارميم أو شاهدة تدل عليه .
#ناصرقوطي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المضمر من علامات الترقيم
-
خلوة حارس الكرسي الدوار
-
انتظار الظل
-
ليل الأبد
-
حلم غريق
-
لعبة
-
حلم يقظة
-
مايتبقى من البياض
-
آخر العمق
-
الأعور والعميان
-
السلالات السعيدة
-
فتيات الملح
-
خضرقد
-
غرباء
-
أعماق
-
الحائك
-
ايقاع الأمكنة
-
قصة
-
المحنة
-
عين النخلة
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|