DANIEL LAZARE
قد يبدو الحادث في منتهى البساطة، لكن له دلالاته. ففي 28 شباط/فبراير الماضي وأمام الصحافيين اعتبر السيناتور الديموقراطي توم داشلي، زعيم الغالبية، أنه "يريد أن يفهم بوضوح أكبر" ما الفائدة من زيادة الأموال التي عليه هو زملاؤه تخصيصها لحملة الرئيس جورج دبليو بوش الصليبية ضد الارهاب. إذ يبدو أن رئيس الولايات المتحدة، الذي شرع في التحضير للحرب على العراق، بات يعتبر أن النزاع في أفغانستان قد أقفل نهائياً، مع انه، بحسب تعليق السيد آشلي لا تزال هناك أهداف لم تتحقق، وفي نوع أخص القبض على السيد أسامة بن لادن الذي كان هو السبب في نشوب هذه الحرب. ويضيف قائلاً إن الأميركيين "ليسوا في مأمن طالما أننا لم نحطم الخلايا الأساسية لـ"القاعدة"، وهذا ما لم ننجزه حتى الآن".
ومهما بلغت درجة الاعتدال في هذه الأحاديث، فإنها المرة الأولى التي يتجرأ فيها المسؤولون الديموقراطيون في الكونغرس على المساءلة في موضوع السياسة الحربية التي ينتهجها البيت الأبيض. ولم يتأخر الجواب من جانب الجمهوريين، فممثل ولاية فرجينيا، السيد توماس أم. دافيس الثالث، اتهم السيد داشلي بأنه "يدعم أعداءنا ويشجعهم". ومن جهته عبّر السيد ترنت لوت، زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ، عن صدمته قائلاً: "كيف يتجرأ السيناتور داشلي على انتقاد الرئيس بوش فيما نحن نشنّ حربنا على الارهاب وخصوصاً في وقت يقاتل جنودنا على الأرض؟ ما كان عليه أن يسعى الى زرع القسمة في بلادنا بينما نحن جميعاً موحدون". أما السيد توم ديلاي، وهو بدوره البرلماني النافذ الذي يرفع في مكتبه سياط رعاة البقر كرمز للقوة، فاختصر بكلمة واحدة رأي أصدقائه في مجلس النواب: "منفّر".
وما كان جواب السيد داشلي على ردة الفعل الشديدة هذه التي تريد منعه من التعبير عن رأي مختلف عن رأي البيت الأبيض؟ بعد ساعات على ذلك، أصدرت أمانة سرّ مكتبه بياناً يؤكد أنه آخر من يشكك في الرئيس: "لقد أراد البعض أن يروا في التصريحات التي تقدم بها هذا الصباح السيناتور داشلي حول الحرب على الارهاب انتقاداً موجهاً الى الرئيس بوش. وفي الحقيقة أن هذا التصريح [...] لا يتضمن أي انتقاد بحق الرئيس أو لحملته على الارهاب." وبذلك لم يتغير شيء في الدعم الديموقراطي لتوسيع الحملة العسكرية.
وطبعاً، إن اي مراقب ولو قليل الفطنة يعرف أن الحوار السياسي لم يمت كلياً في واشنطن. ففي الواقع، يطيب للأعضاء الديموقراطيين في الكونغرس أن ينتقدوا الادارة لعلاقتها بفضيحة أنرون أو لمشاريع التنقيب عن البترول في القطب الشمالي. وعلى كل حال، فإن ما بقي في الذاكرة بعد حرب فييتنام هو أن على الكونغرس أن يدرس بدقة المغامرات العسكرية التي يمكن أن يقوم بها البيت الأبيض في الخارج، لكن الرئيس بوش قد أعلن عزمه على خوض الحرب في حوالى ستين بلداً ضد عملاء متهمين بعلاقاتهم بتنظيم "القاعدة" ومن دون العودة الى السلطة التشريعية [2] .
ومن جهة أخرى، ومع أن الكونغرس قد فوّض الى الرئيس في منتصف أيلول/سبتمبر استخدام "جميع الوسائل الضرورية والملائمة" ضد المسؤولين عن الاعتداءات على مركز التجارة العالمي، الا أن الرئيس بوش بادر الى اعلان حرب مفترضة على ثلاث دول لا علاقة لها أبداً بأحداث 11 أيلول/سبتمبر، هي العراق وإيران وكوريا الشمالية (محور الشر). وإذ تناسى الكونغرس عقوداً من النضال من أجل الحفاظ على الحريات المدنية، فقد تخلى عن كل شيء للبيت الأبيض عندما أقر مشروع قانون، تحت اسم "يو.أس.آي. باتريوت أكت"، وقد صيغ بعبارات هي من العمومية بحيث تسمح للمدعين العامين بإلصاق تهمة المساعدة والتواطؤ مع الارهاب بأفراد لمجرد أن يساهموا في أعمال خيرية تتعلق بالجيش الجمهوري الايرلندي أو بالمجلس الوطني الافريقي [3] ، لو كنا ما نزال في زمن التمييز العنصري.
ومع ذلك فإن الديموقراطيين في الكونغرس لم يعترضوا، باستثناء بعض النواب الذين لا وزن كبيراً لهم. فقرار الادارة الأميركية بعدم تطبيق اتفاقية جنيف على عناصر "القاعدة"المعتقلين في "معسكر أكس راي" في غوانتانامو قد أثار اعتراضات صاخبة في الخارج، من دون أي ردة فعل كلياً في الولايات المتحدة. فما من مسؤول ديموقراطي بادر الى الدفاع عن حوالى 70 مهاجراً من جنوب آسيا ومن الشرق الأوسط اعتقلوا في سياق الاعتداء على البرجين من دون أن يكونوا متهمين بأي مخالفة، الا اللهم انتهاء مدة تأشيرة الدخول. ليس أكثر.
والأمر نفسه ينطبق على الاقتراح الذي أعلنت عنه الادارة بمحاكمة الارهابيين المتهمين أمام محاكم عسكرية استثنائية، أو على قرارها الاحتفاظ بحق إبقاء عناصر "القاعدة" قيد التوقيف لمدة غير محددة، حتى ولو حكم ببراءتهم. كل هذا تقبله الكونغرس في جو من الصمت المطبق، حتى أن الديموقراطيين لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث في التقرير المنشور في صحيفة "نيويورك تايمز" حول السجن اللامعقول في شيبرغان (في أفغانستان) والذي تتولاه قوات مقربة من الأميركيين، وهو نوع من معسكر موت لحوالى 3000 عنصر من حركة "طالبان" الموقوفين [4] .
فقد علّق العمل السياسي "حتى إشعار آخر"، بحسب ما كان يقول الانكليز خلال الحرب العالمية الثانية، وقد أخطر وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بأن الحرب على الارهاب قد تمتد الى زمن طويل بقدر ما امتدت الحرب الباردة. فالولايات المتحدة أبعد ما تكون عن الديكتاتورية، غير أن الجو فيها أصبح أكثر امتثالية وأكثر استبدادية مما كان لأحد أن يتصوره ما قبل 11 أيلول/سبتمبر.
فما الذي حدث؟ حدث ان الاعتداءات على مركز التجارة العالمي والبنتاغون قد عززت نزعات كانت موجودة أساساً في السياسة الأميركية منذ العامين 1978 و1979. فمنذ ذلك التاريخ، ما قبل وصول رونالد ريغن الى البيت الأبيض، كان هناك انحراف لافت الى اليمين يختمر في المجتمع الأميركي. ومع أن الجمهوريين خسروا الانتخابات الا أنهم خرجوا منها أكثر قوة وأكثر ثقة لدى تعرضهم لأي مواجهة جديدة، فيما كان الديموقراطيون يسعون تارة الى التفاهم مع المحافظين وطوراً يبذلون جهوداً كي ينازعوهم في الميدان الأكثر يمينية (الغاء المساعدات الاتحادية للفقراء) [5] .
وقد تفاقمت هزيمة الديموقراطيين في كانون الأول/ديسمبر عام 2000 وذلك حين قرر السيد آل غور ألا يطعن في الحكم الصادر عن المحكمة العليا (التي يسيطر عليها الجمهوريون) والذي أعلنت فيه فوز السيد بوش في الانتخابات. وأخيراً جاء الانهيار، في اعقاب 11 أيلول/سبتمبر، حين أعلن المسؤولون الديموقراطيون في الكونغرس قيام عصر جديد من "الثنائية الحزبية" وصرحوا أنه في النتيجة لن يكون هناك أي ظلال اختلاف بينهم وبين الرئيس في خصوص الحملة الصليبية الدولية على الارهاب.
إن انهيار البرجين في عاصفة من الحطام والركام يمكن أن يعتبر صورة يشبَّه بها انكفاء الديموقراطية في اميركا. ففي موجة الوطنية المتدفقة بعد الاعتداءات، حيث ظهرت الأعلام الأميركية بنجومها على جميع الواجهات في نيويورك وعلى السيارات والتاكسيات والشاحنات، بات من المستحيل تقريباً امكان طرح فكرة أن السياسة الأميركية قد تكون شجعت على الارهاب، أو بشكل أبسط، أن تكون ساهمت في موجة "العداء لأميركا" في الخارج. وقد بدا ان حكماً صدر بالاجماع وهو أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون مذنبة، وليست مسؤولة عن أي شيء، وأي تصريح معاكس يعني الانحياز الى جانب الأعداء.
في تكساس صُرف صحافي من عمله لأنه استنتج أن السيد بوش كان بعد الاعتداء "ينطّ من طرف الى آخر في البلاد مثل ولد مرعوب" في حين أن أحد مقدّمي برامج الحوارات التلفزيونية قد قطع عنه الارسال عملياً لأنه أبدى ملاحظة مفادها أنه، مهما كان رأي السيد بوش، فإن كلمة "جبان" هي آخر نعت يمكن الصاقه برجال يصدمون بطائرة ملأى بالمحروقات جانباً من الأبنية العملاقة. كلا، الرئيس هو الشجاع والارهابيون هم الجبناء وكفى. وفي كانون الأول/ديسمبر، وفي احتفال توزيع شهادات جامعية في كاليفورنيا، راح عشرة آلاف شخص يشنّعون احد الخطباء لأنه تجرأ على الاشارة الى أن الحملة على الارهاب قد تلحق الأذى بالحريات المدنية [6] .
كانت دول أخرى بالتأكيد ستتصرف بشكل عنيف إزاء حدث، مثل تدمير مركز التجارة العالمي، هو على هذا المستوى من الدموية والعدمية. غير أن بعض زعماء السياسة والفكر، ومن ضمنهم بعض اليسار، قد رأوا أن يتبجحوا بأخطر ما في أميركا من ميول. إنه لمن اللافت أن نسمع جورج بوش يؤكد أن كل من لا يحب أميركا هو إنسان شرير لمجرد أن أميركا تدافع عن "حرية كل انسان وكرامة حياته" [7] . واللافت أيضاً رؤية بعض انتليجنسيا اليسار يتهمون ذوي الروح النقدية أكثر منهم بأنهم يشمتون بالأميركيين لسبب وحيد هو أنهم تجرأوا على التلميح الى أن امبريالية الولايات المتحدة قد تكون هي التي فتحت الطريق أمام السيد بن لادن.
فأصحاب هذه الروح الوطنية من اليسار قد اعتمدوا استراتيجيا مزدوجة. فبعدما أعلنوا أن الارهاب هو جوهر الشر نفسه، وأن كل من لا يسلّم بذلك سريعاً هو معوق أخلاقياً وجبان ومؤيد لتنظيم "القاعدة"، راحوا يشددون على الطابع الرجعي للأصولية الاسلامية كي يبرهنوا بطريقة أفضل على الطبيعة التقدمية للمجتمع الأميركي. فأميركا كانت مكروهة لأنها حرة جداً، ودينامية جداً، وخطيئتها فعلاً هي أنها كانت صالحة جداً. وعندما شن بن لادن الحرب عليها، فإنه هاجم الحرية والفردانية وكل الأمور الرائعة التي تدافع عنها الولايات المتحدة، وعند اللزوم بواسطة القنابل الخانقة التي تزن أطناناً عدة وتصيب من طريق الخطأ عدداً من المدنيين الأبرياء.
بعد مضي شهر على 11 أيلول/سبتمبر، نشر بول برمان، وهو عضو في هيئة التحرير في محلة "ديسنت" الاشتراكية الديموقراطية، والذي حظي بجائزة "جينيوس" من مؤسسة ماك آرثر والبالغة 260000 دولار والمعجب بـ"الفيلسوف الجديد" الفرنسي أندره غلوكسمان، نشر مقالاً يشرح فيه كيف أن تنظيم "القاعدة" هو من نتاج توتاليتارية القرن العشرين، وأن هتلر وستالين وبن لادن يشتركون في الكراهية نفسها حيال الليبيرالية الغربية التي تجسدها الولايات المتحدة خير تجسيد. ويرى برمان أن "جريمة أميركا، جريمتها الفعلية، هي بالتحديد كونها أميركا. وترتكز هذه الجريمة على كونها تتنفس دينامية الحضارة الليبيرالية المستمرة في تطورها. [...] فجريمة أميركا هي في أنها برهنت أن المجتمعات الليبيرالية تستطيع أن تزدهر في حين أن المجتمعات المعادية لليبيرالية لا يمكنها ذلك. وهذا ما يثير جنون الحركات المعادية لليبيرالية. فعلى اميركا أن تتصرف بحذر في الشرق الأوسط وفي كل مكان آخر لكن في هذا النوع من العدائية لا مجال لأي حذر" [8] .
ومع إقراره بأنه ليس كل ما تقدم عليه اميركا رائعاً، يزعم برمان ان سيئاتها ليست هي مبرر الاحداث الاخيرة، ذاك أن نجاحات الديموقراطية هي التي تذكّي العدائية في الشرق الأوسط. فلا يمكن أي إصلاح في مجال السياسة الخارجية أن يخفف من العدائية العربية، وهو تحليل يرضي مؤيدي الوضع القائم، فما الفائدة من تغيير سياسة الولايات المتحدة إذا كانت هذه الشعوب ستستمر في التذمر مهما حدث؟ ولماذا إذاً التوقف عن دعم السياسة الاسرائيلية في الأراضي المحتلة أو عن الحصار المفروض على العراق؟
وكان يكفي تصريح لا قيمة له من ادوارد سعيد كي تسنح الفرصة لمفكر آخر من اليسار، هو تود غيتلن، مؤلف كتاب شهير يثني فيه على الراديكالية الطالبية في الستينات، ليتهجم على هذا الكاتب الفلسطيني الأصل. فإدوارد سعيد الذي استنكر "الرعب المشهود" و"التدمير العبثي" الذي ضرب نيويورك، يلفت الى أن الاعتداء لم يصدر من عدم، على أساس أن الولايات المتحدة "هي على الدوام تقريباً في حالة حرب أو انها متورطة في جميع أنواع النزاعات وفي كل مكان من الأراضي الاسلامية" [9] . وتثير هذه الملاحظة استياء تود غيتلن فيكتب على صفحات مجلة "موذر جونز" الشهرية الليبيرالية: "كما لو أن الولايات المتحدة كانت تسعى دائماً الى المشاغبات، كما لو أنه يمكن التنكر بلمحة بصر للدعم الأميركي لمسيرة أوسلو السلمية، أياً كانت حدوده، كما لو أن الدفاع عن المسلمين في البوسنة والهرسك يذكّر بسياسة فجوات المدافع التي اعتمدت في فييتنام وكمبوديا" [10] .
أما كريستوفر هيتشنز، المحرر في صحيفة "ذا نايشن" اليسارية، فيتدخل في المكان نفسه ليندد هذه المرة بنعوم شومسكي، الذي كان قد ارتكب الخطأ الهجومي القاتل بإدانة الطبيعة الرجعية العميقة للأصولية الاسلامية لكن مع اضافة تقول أن وكالات المخابرات المركزية وحلفاءها كانوا من قبل قد جندوا السيد أسامة بن لادن لمحاربة السوفيات في أفغانستان، ثم للمشاركة في عدد من العمليات الارهابية في روسيا وفي دول البلقان. ومن جهة أخرى فإن معاملة اسرائيل، حليفة الولايات، للفلسطينيين والحصار الأميركي على العراق، كانا قد زادا موجات المؤيدين لتنظيم "القاعدة". وبكلمة أخرى لم تكن الديموقراطية الأميركية هي وحدها المتهمة بل أيضاً الأعمال التي تستحق الملامة وسياسة الغباء التي انتهجتها الولايات المتحدة.
فالسيد كريستوفر هيتشنز يستاء من هذا النوع من الرؤية ويرى أن "مفجري مانهاتن يمثلون الفاشية في وجهها الاسلامي، وما من تورية يمكنها أن تغطي على هذه الحقيقة، أما الثرثرة السهلة حول الموضوع القائل "نحن سعينا الى ما وصلنا اليه"، فتشبه الى حد ما الوساخة الحقود التي نشرها فالويل وروبرتسون (وهما مبشران بروتستانتيان رأيا في 11 أيلول/سبتمبر العقاب الالهي على لاأخلاقية أميركا (الاجهاض والمثلية الجنسية))، وتنم عن القدر نفسه من العمق الفكري. فقد كان يمكن أياً من قراء هذه المجلة الاسبوعية أن يكون موجوداً على متن إحدى هذه الطائرات، او حتى في أي من هذه الأبنية أو حتى في البنتاغون" [11] . بما ان محاولة فهم ما حدث تواجه بتهمة التضامن مع منفذي الاعتداءات، فالمطلوب شد أزر السيد بوش وعدم مقاربة "الفاشية الاسلامية" الا بمعطياتها الماورائية.
ولم يكن لتصريح الرئيس بوش الشهير في 20 أيلول/سبتمبر (" بات على كل دولة في أي منطقة من العالم ان تتخذ قرارها، فإما أن تكونوا معنا وإما تكونوا مع الارهابيين") أن يحظى بهذا التأثير لو لم يسارع بعض أعضاء الانتليجنسيا المؤثرين الى الدفاع عن الفكرة القائلة بأن الليبيرالية الأميركية والارهاب هما على طرفي نقيض. فقد وجد بول برمان الخطاب الرئاسي "رائعاً"، "جاداً في طريقة القائه وواقعياً في عرضه الطبيعة المعقدة للعدو". ورأى أن حل قضية الارهاب "هو رهن بإمكان تحقيق تغييرات هائلة في ثقافة العالمين العربي والاسلامي السياسية. [...] وهو تحول يتطلب تضافر الجهود من جانب العالم الليبيرالي، من عمليات عسكرية وعمليات كومندوس الى الحفاظ الدائم على النظام الى الضغوط الاقتصادية وأمور كثيرة اخرى أيضاً" [12] .
ولأن الارهاب اعتبر في التحليلات أنه نتاج حصري من الشرق الأوسط، يترتب على الغرب أن يقضي عليه بواسطة الضغوط الاقتصادية كما السياسية. وهكذا زعم مايكل والتزر، رئيس التحرير المساعد في مجلة "ديسنت" أن ما جعل الارهاب يتميز بهذا السوء وأن يكون بالتالي مناقضاً للقيم الليبيرالية إنما هو نزوعه الطبيعي الى ضرب المدنيين الأبرياء، وهم مدنيون كانوا بحسب والتزر "أصحاب حق في عيش حياة مديدة بقدر أولئك غير المتورطين عملياً في حرب أو في استعباد أو بالتطهير العرقي أو بالقمع السياسي الوحشي، وهذا ما يسمّى حصانة غير المقاتل المبدأ الجوهري ليس في الحرب فقط وإنما في كل سياسة محترمة. ومن يتناسون هذا الأمر لا يبررون الارهاب وحسب بل ينضوون تحت لواء مؤيدي الارهاب" [13] . ويرى والتزر أن شريحة كبيرة من اليسار الأميركي تتخيل أن بن لادن قد أصبح حليفها في نضالها ضد الرأسمالية لأنه دمر رمزاً عالمياً مشهوراً للسيادة الاقتصادية الأميركية.
لكن من هم هؤلاء اليساريون الذين بلغ بهم الجنون حد الخلط بين مليونير سعودي أصولي ومؤيد للقضية التقدمية؟ عندما طلبنا اليهم أن يحددوا لنا واحداً من هؤلاء المناضلين الفاسدين، ذكر والتزر روبرت فيسك، مراسل صحيفة "ذا اندبندنت" في لندن، ذلك أنه بعد فترة من 11 أيلول/سبتمبر وفي مقال نشرته صحيفة "ذا نايشن" لفت روبرت فيسك الى أنه من غير الواقعي من جانب أميركا أن تعتبر أنها قادرة على البقاء في منأى عن العنف على أراضيها الخاصة بعدما دعمت العديد من أعمال العنف في الشرق الأوسط.
كتب فيسك: "اسألوا أي عربي عن ردة فعله إزاء موت الآلاف من الأبرياء، وهو، أو هي، سيجيبك كأي شخص محترم أنها جريمة نكراء. لكنه سيسألكم أيضاً لماذا لا نستعمل العبارات نفسها في وصف العقوبات التي أودت بحياة 500000 طفل عراقي، ولماذا نحن لا نثور أمام الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982 وقد سقط فيه 17500 مدني" [14] . كان الأمر يتعلق إذاً، بعيداً عن اي سوء نية، بمحاولة التذكير بأن خصوم الولايات المتحدة ليسوا بهذه البساطة حسودين من ليبيراليتها السياسية أو من قوتها الاقتصادية وان البعض تصدمه المظاهر الأقل احتراماً في السياسة الخارجية.
ومن الصعب تمييز العلاقة بين النقاش الفكري وغياب المعارضة البرلمانية، فهناك مدرسة فكرية تعتبر أن أعضاء الكونغرس يسخرون مما يفكر فيه هؤلاء المثقفون ويهتمون حصراً بناخبيهم وببعض المساهمين السياسيين الذين يستثمرون اموالهم في غطاء حملاتهم الانتخابية. لكن السياسة الاميركية ليست على هذا المستوى من الابتذال. ففي غياب نظام حزبي فعلي يصبح مركز القرار ومجموعات الضغط والصحافة الفكرية من الأهمية أكثر مما نتصور، فهم يصوغون المسائل السياسية قبل أن تصل الى الكونغرس، ولذلك عمل مؤيدو الرئيس بوش جاهدين لاحتواء النقاش ضمن حدود تضمن ألا يخرج منه الا ما يناسبهم وأن تطرح بعض القضايا دون الأخرى. فالطبيعة الحقيقية للارهاب، وتوظيف الولايات المتحدة بعض الشخصيات مثل بن لادن وتاريخ الدعم الأميركي للأصولية الاسلامية، وغيرها، كلها مواضيع أبقيت خارج دائرة النقاش.
ومع أن 11 أيلول/سبتمبر قد هز النظام السياسي الأميركي، الا أنه سرعان ما اعيد تثبيت النظام الايديولوجي. ومع ذلك فإن تصرف الرئيس في الأيام التي تلت الاعتداء لم يكن مطمئناً. فكلما انساق وراء البلاغة الببغائية مندداً بالمجرمين الذين أرادهم "أحياء أو أمواتاً" وقد كان يستعد "لإخراجهم" من "اوكارهم"، كان يبدو مثل "ولد مرتعب". لكن كان كافياً للسيد بوش ان يظهر على التلفزيون في 20 أيلول/سبتمبر كي يتنفس الصعداء جهابذة السياسة والصحافة المهيمنون إذ عاد الرئيس يمسك بزمام الأمور، وعادت جذوة الايمان الى نظام قائم على الايمان شبه الديني بالرئاسة وبالدستور. وقد أقفل باب النقاش حول ما إذا كان من الضروري الرد عسكرياً أم لا، ولم يستساغ البحث في دور الولايات المتحدة في تكوين تنظيم "القاعدة"، واكثر من ذلك فموضوع الاختلاف الوحيد المقبول كان معرفة ما إذا كان على أميركا أن تكتفي بشن الحرب على أفغانستان أو أن توسعها لتطاول دولاً أخرى، وحتى في هذا المجال لم يخرج النقاش عن الرقابة.
والأمر نفسه ينطبق على "إعادة النظر في الوضع النووي" التي تمت مؤخراً في البنتاغون والمتعلقة باستخدام الاسلحة النووية التكتيكية ضد قوى غير نووية مثل العراق وإيران وكوريا الشمالية. وهذا الموقف الجديد يشكل تحولاً في السياسة الميركية في هذا المجال، إذ هو يجعل من الممكن استخدام أسلحة نووية تكتيكية في السنوات المقبلة. فهل أن البنتاغون الذي وظف مليارات الدولارات في صناعة الرؤوس النووية الكفيلة تدمير أبنية محصنة على عمق عشرات الأمتار تحت الأرض، سيتمالك نفسه إزاء استخدام هذا النوع من الصواريخ؟
وهنا أيضا لاذ الكونغرس بالصمت. فإذا كانت الممثلة الديموقراطية لكاليفورنيا في مجلس الشيوخ، السيدة ديان فاينشتاين، قد أسفت لرؤية هذا الاستعجال لايجاد أسباب جديدة لاستخدام الترسانة النووية الأميركية، فإن السيد توماس داشلي رفض من جهته البحث في موقف البنتاغون. كما ان شيخاً ديموقراطياً آخر هو السيد روبرت غراهام، رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، أيد البنتاغون واضاف أن بعض "المجموعات والدول التي تحارب المصالح الأميركية قد تخيلت ان الولايات المتحدة هي نمر من ورق". ولهذا السبب فإن السياسة الجديدة "يبدو أنها تخطو في الاتجاه الصحيح" [15] . ومن اجل البرهان على أن أميركا ليست نمراً من ورق قد يكلف الأمر استخدام عدد من الصواريخ النووية.
وكلما جرت التعبئة للحرب في الولايات المتحدة اضطر الشعب الأميركي الى الاقتناع بحصر نظرته الى العالم في النزاع بين الخير والشر، بين الليبيرالية الغربية والارهاب الاسلامي أو في مختصر مفيد "بينهم" وبيننا". فلم يعد من مكان للتمايز والتوازن وحس التبادلية. كما يجب أيضاً التضحية بالرغبة في ضبط العالم انطلاقاً من مختلف وجهات النظر، كي تسود وجهة نظر واحدة. وكل من يشكك في وجهة النظر هذه يندَّد به لأنه انحاز الى الارهابيين ويُعزَل عن جماعة المخلصين.
إذا كانت الدول الأمم تسعى الى مأسسة النرجسية الوطنية فإن أكثر ما ينطبق هذا على الولايات المتحدة، وإنه ليمكن القول إنه ليس لأميركا من جيران سوى بعض القوى، التي لا قيمة لها عسكرياً في الشمال والجنوب، والبحار في الغرب والشرق. وإذا كان هذا البلد لا يولي اهتماماً بالرأي العام الدولي فإنما لذلك سبب ايديولوجي ، فأميركا في نهاية الأمر قد صنعت نفسها بنفسها، فدستور الولايات المتحدة الذي لم يتغير عملياً منذ وضعه في العام 1787 هو وثيقة طوباوية تحاول اختزال السياسة في بعض المبادئ الأبدية التي عندما اعتمدت، حولت أميركا الى هذا "الاتحاد الأكثر كمالاً على الدوام" كما ورد في المقدمة [16] .
وعن هذا الأمر تنتج أمور عديدة متعلقة بالطريقة التي تعتبر بها اميركا نفسها وتحكم على موقعها في العالم. فلأن مبادئها التأسيسية عادلة فإن دور الأجيال الطالعة هو السهر على تأكيدها باستمرار. ولأن هذه المبادئ أخلاقية فإن أميركا غير قادرة على الأذى طالما أن هذه المبادئ تطبق بنزاهة، وفي النتيجة فإن الأجانب الذين يعتنقون مبادئ مختلفة إما ان يكونوا متذمرين وإما أن يعنَّفوا. وكما لاحظ أحد السياح الأوروبيين، الدوق دو ليانكور، فإن الأميركيين اقتنعوا منذ العام 1790 بأنه "خارج الولايات المتحدة ما من أمر جيد وما من أحد يتمتع بالعقل، وان الفكر والخيال والعبقرية في اوروبا قد أصبحت أسساً متداعية" [17] . وهذا ما قاله الرئيس بيل كلينتون بعد قرنين على ذلك : "ما من شيء سيئ في أميركا الا ويمكن معالجته فيما لأميركا حسنات." فلماذا التفتيش إذاً في مكان آخر؟
إذاً في 11 أيلول/سبتمبر ليس أن تنظيم "القاعدة" قد قتل 3000 شخص وحسب، بل أنه أطلق ردة فعل سياسية لا تزال أصداؤها متجاوبة وكان في الامكان توقع خطوطها الكبرى. فبالنسبة الى الأميركيين أن بن لادن ومؤيديه لم يعلنوا الحرب على الولايات المتحدة وحسب بل تعرضوا لمبادئ العدالة والحرية الدائمة التي تجسدها أميركا والتي هي في أساس عظمتها. ولأنهم ألحقوا الأذى بالروحية الأميركية الجماعية يجب مطاردتهم وتدميرهم. وهذا ما اوضحه الرئيس بوش في خطاب أتلانتا في 31 كانون الثاني/يناير المنصرم: "إذا لم تتعلقوا بكل جوارحكم بالقيم الأعز علينا فأنتم أيضاً مدرجون على لائحتنا [...] والبعض يتساءل ماذا يعني هذا، هذا يعني أن من الأفضل أن يسووا الاوضاع عندهم، هذا ما يعنيه ذلك، هذا يعني أنه من الأفضل احترام القانون، يعني انه من الأفضل عدم السعي الى إرهاب اميركا وأصدقائنا وحلفائنا، وإلا فإن عدالة هذا البلد ستطبق عليهم أيضاً".
فقبل قليل من الذكرى السنوية الأولى لاعتداءات 11 أيلول/سبتمبر، لا يدور النقاش السياسي والفكري في الولايات المتحدة الا حول فكرة واحدة لا غير: كيف يمكن التأكد من ان العدالة تتحقق، ولا حاجة الى التذكير بأن المقصود العدالة بالمفهوك الاميركي؟
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صحافي، مؤلف كتاب:
The Frozen Republic : How the Constitution Is Paralyzing Democracy (New York, Harcourt Brace, 1996).
[2] راجع:
Philip Golub, + Retour à une présidence impériale aux Etats-Unis ؛, Le Monde diplomatique, janvier 2002
[3] راجع:
Ronald Dworkin, + The real threat to US values ؛, The Guardian (Londres), 9 mars 2002.
وراجع أيضاً:
Michael Ratner, + Les libertés sacrifiées sur l autel de la guerre ؛, Le Monde diplomatique, novembre 2001
[4] Dexter Filkins, + Marooned Taliban Count Out Grim Hours in Afghan Jails ؛, The New York Yimes, 14 mars 2002.
[5] راجع:
Serge Halimi, + Les simulacres de la politique américaine ؛, Le Monde diplomatique, février 1996, et Loïc Wacquant, + Quand le président Clinton …réformeî la pauvreté ؛, Le Monde diplomatique, septembre 1996.
[6] راجع:
Timothy Egan, + In Sacramento, a Publisher s Question Draws the Wrath of the Crowd ؛, The New York Times, 21 décembre 2001
[7] من خطابه في 29/1/ 2002 حول وضع الاتحاد.
[8] Paul Berman, + Terror and Libéralism ؛, The American Prospect, 22 octobre 2002..
[9] راجع:
Edward Said, + Islam and the West are inadequat banners ؛, The Observer (Londres), 16 septembre 2001
[10] Todd Gitlin, + Blaming America First ؛, Mother Jones, Janvier-février 2002.
[11] Christopher Hitchens, + Against Rationalization ؛, The Nation, 8 octobre 2001.
أما وجهة نظر نوام شومسكي فقد عبر عنها في
+ Terrorisme, liarme des puissants ؛, Le Monde diplomatique, décembre 2001.
[12] المرجع المذكور اعلاه:
Paul Berman, + Terror and Liberalism
[13] Michael Walzer, + Excusing Terror : The Politics of Ideological Apology ؛, The American Prospect, 22 octobre 2001.
وراجع ايضاً:
Louis Pinto, + La croisade antiterroriste du professeur Walzer ؛, Le Monde diplomatique, mai 2002
[14] Robert Fisk, + Terror in America ؛, The Nation, 1er octobre 2001
[15] راجع:
Lire Greg Miller, + Democrats Divide Over Nuclear Plan ؛, Los Angeles Times, 13 mars 2002
[16] . راجع:
+ Cette pesante Constitution américaine ؛, Le Monde diplomatique, février 2000
[17] Henry Adams, History of the United States of America During the Administrations of Thomas Jefferson, New York, Library of America, 1986.
جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم