|
يتغير السودان، المهم ألا يتغير النظام
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3227 - 2010 / 12 / 26 - 17:24
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
صحيح أن السودان سيخسر جنوبه في وقت قريب، لكن أصح أنه سيكسب "الشريعة الإسلامية" مصدرا وحيدا للدستور. هذا مفاد ما يقوله عمر حسن البشير، حاكم السودان منذ 21 عاما. وعلى هذا النحو يحول الرجل المؤتمن على وحدة بلده الكارثة التي تسبب بها حكمه إلى فتح مبين. وفي هذا ما يغري المرء بالتساؤل: لماذا لم يبادر الرئيس المزمن إلى فصل الجنوب في وقت أبكر ما دام من شان الفصل أن يفتح الباب لتكون "الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للدستور"، و"الإسلام الدين الرسمي والعربية اللغة الرسمية"، و"ينقى الدستور الحالي من أية نصوص غير إسلامية" ("الحياة"، 20/12/2010). أليس مكسبا عظيما للسودان، تاليا، أنه يوشك أن يتخلص من العبء الجنوبي؟ والشيء الوحيد الذي قد يلام عليه البشير أمام هذه الآفاق الواعدة أنه لم يعمل بجد أكبر على فتحها أمام بلده منذ بواكير أيامه في الحكم. وقد يكون الفتح أعظم إن انفصلت دارفور ومناطق من شرق السودان، فضلا عن الجنوب، ضمانا لسودان تام التجانس، لا مجال فيه "للحديث على تنوع الثقافات والأعراق" كما استبشر البشير. ولعل هذا ما يهم الرجل بخاصة: مجتمع بلا تنوع، بلا اختلافات، بلا أصوات نشاز. هناك غريزة عميقة لا تخطئ توجه كلام البشير. وفقا لمنطق الشرعية الوطنية الرجل تسبب في أسوأ ما يمكن أن يصيب دولة: انفصال جزء منها، واحتمال انفصال أجزاء أخرى في غرب البلاد وشرقها. ووفقا لهذا المنطق البشير وحكمه فاقدان للشرعية تماما. لكن من يملك سلطة كسلطة البشير، يستطيع القول إن المشكلة في المنطق. وأن يتحول إلى منطق بديل: الشرعية الدينية. بدلا من دولة وطنية حديثة، متنوعة حتما مثل جميع دول العالم الأخرى، لكنها تتجاوز تنوعها الاجتماعي والثقافي والإثني عبر مبدأ المواطنة والمساواة بين الأفراد والجماعات، يجري التحول إلى شرعية أخرى، تشغل "الشريعة" و"حدود الله" المكانة العليا فيها. يرسب حكم وحاكم في الشرعية الوطنية، فيحول رسوبه إلى نجاح باهر في الشرعية الدينية. يجب على السودان أن يتغير كي لا يتغير الرئيس. أما الشريعة فليست غير قاعدة الشرعية لحكم سودان مختلف، أصغر ومرشح لانقسامات إضافية. ولما كانت قواعدها أقدم زمنا وأضيق نطاقا وأدنى تركيبا، وكانت متمفصلة في الواقع على مشكلات مغايرة لتلك التي تواجه السودان اليوم، كان من المرجح أن يتحول السودان في ظلها إلى كيان واهن، مفكك، يشبه أفغانستان أو الصومال. وباسم هذه الشرعية اعترض البشير على سودانيين تحفظوا عن جلد فتاة، يبدو أنها جلدت لارتدائها لباسا اعتبر غير محتشم. "في هذه الأيام البعض يتحدث عن الفتاة التي جلدت وفق حد من حدود الله"، وينصح "ولي الأمر" الذين خجلوا من جلد الفتاة بأن "يغتسلوا ويصلوا ركعتين ويعودوا للإسلام". هذا قبل أن يضيف أن "الحدود في الشريعة الإسلامية تأمر بالجلد والقطع والقتل، ولن نجامل في حدود الله والشريعة الإسلامية". لكن الشريعة التي لها قول في زي فتاة، أليس لها قول في مصير بلد؟ وفي سياسة حاكم، تسبب في مقتل عشرات الألوف من شعبه؟ الواقع أن قضايا الحكم تقع على النقطة العمياء في عين الشريعة بحكم ملابسات تكونها التاريخي بين القرنين الثاني والرابع الهجريين. كانت الخلافة طوبى للفقهاء حسب عبدالله العروي، وهو ما لم يمنع تعايش الفقهاء مع الدولة السلطانية وأمارات الاستيلاء، وصولا إلى تحريم الخروج عليها حتى وهم يقرون أنها ظالمة. عمليا اجتمع التسليم للمستولي مع مثال يجري الإقرار بأن تحققه يقتضي تغير الطبيعة الإنسانية ذاتها على قول ابن خلدون. بالمقابل، هناك توسع هائل في قضايا تتصل بالمعاملات والطقوس وظواهر العبادات. وقد حملت الشريعة في صلبها هذا التكوين الذي لا يكاد يوفر مأخذا على حاكم فرط بوحدة بلده، بينما يشكل سفور امرأة عزلاء أو ارتداؤها بنطالا قضية موصوفة متكاملة الأركان، لها عقابها المحدد وتنفيذه العاجل. ولم يتحقق في عصرنا الحديث تشكل قيمي جديد للشريعة باتجاه استيعاب القضايا التي كانت شغلت موقعا ثانويا فيها (ومنها فضلا عن مسألة الحكم، قضية ملكية الأرض، حسب عبد المجيد الشرفي)، ولم تجر هيكلة جديدة لموقع الشريعة ضمن الإسلام ذاته (موقعها من قضايا الإيمان والأخلاق بخاصة)، أو ضمن النظام العام بحيث تمسي من مجال الطوعي والخاص لا من مجال القسري والعام. وهو ما سهل انتحالها من حكام وحركات طامحة إلى حكم مطلق، لطالما أمكنها أن تنفلت من ضوابط الشريعة الأخلاقية والسلوكية، بينما هي تسخرها لتحريم أي تجديد فكري وقيمي، وتجريم أي اعتراض سياسي. وعلى هذا النحو هكذا التقى تطلعات حاكم ونخبة حكم فاشلة بمعايير الدولة الوطنية مع تكوين موروث للشريعة، فوجدت تلك في هذه مخرجا من سوء ما عملت. ولقد كان لافتا جدا التسليم القدري من طرف نخبة الحكم السودانية بانفصال الجنوب دون أن تحاول اقتراح مبادرات أو بدائل إيجابية، تمنح الجنوب موقعا متميزا في دولة اتحادية سودانية مثلا. أو تجعل من احتمالات انفصال الجنوب المرجحة الآن فرصة لإعادة النظر في أحوال البلد ككل. ومما يتداول في الأخبار لا يبدو أن الجنوب سينفصل فقط، وإنما قد تنقلب علاقته بالشمال إلى علاقة عدائية، ما من شأنه أن يضعف الجنوب والشمال معا. لا يبعد أن تندفع نخبة الحكم في الجنوب إلى بناء هوية مجتمعها الناشئ ضد الشمال، مستفيدة من ذاكرة مرة، لكن بخاصة لأن ذلك أنسب لإطلاق يدها في حكم الجنوبيين، من العكس. كان يمكن القول دونما تحفظ إن بلدا أوسع هو أفضل للجميع. لكن ليس في كل حال. فقط حين يكون البلد الأوسع إطارا للترقي العام، ويضمن للجميع قدرا متناميا من القدرات والحقوق. ليس هذا حال السودان. وليس حال غير بلد عربي تواجهه اليوم أو يحتمل أن تواجهه ذات يوم مشكلات مقاربة. هذا يطرح تساؤلات على التفكير السياسي العربي يتعين عليه أن يستجيب لها. في تصريحاته المحال إليها فوق أدرج الرئيس السوداني انفصال الجنوب في سياق يعود بالفائدة على إسلامية السودان وعروبته. هل لدى الإسلامية والعروبة ما تقولانه في هذا الشأن؟
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المرض بالإسلام...
-
عرض نقدي لكتاب جلبير الأشقر: العرب والمحرقة النازية، حرب الم
...
-
ويكيليكس والدول
-
الحلول بخير في مصر، والمشكلات أيضا!
-
في الكاريزما وصناعتها وأطوارها وتوابعها الإيديولوجية
-
هذا الفصام الكردي المستمر...
-
عدمية فيض المعنى: نظرات في أصول العنف الإسلامي
-
من العداء للغرب (والتمركز حوله) إلى إصلاح العالم
-
إيران وتركيا وتحولاتهما الامبراطورية
-
حوار هادئ في قضايا راهنة
-
الطائفية كمحصلة لأزمة الهيمنة الوطنية
-
هل من معنى عام لتقييد المظاهر والرموز الدينية في سورية؟
-
من التحرر السياسي إلى الانبعاث الثقافي والأخلاقي
-
تطور معكوس: الطبيعة والماضي يسيطران... والخارج أيضا
-
في شأن -الثمرة المحرمة- وأصول الكلام الصحيح
-
نظرة عامة إلى بعض ملامح الاجتماع السياسي السوري المعاصر
-
هذا التفاوض متهافت، و-عملية السلام- كاذبة
-
التمركز حول الدين في تنويعتين إيديولوجيتين
-
محمد أركون.. منقذا من الضلال!
-
الإصلاح الإسلامي: من -الدين الصلب- إلى -الدين اللين-
المزيد.....
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
-
شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه
...
-
الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع
...
-
حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق
...
-
بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا
...
-
وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل
...
-
الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا
...
-
وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني
...
-
تأثير الشخير على سلوك المراهقين
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|