|
انتقام امرأة- قصة قصيرة
حوا بطواش
كاتبة
(Hawa Batwash)
الحوار المتمدن-العدد: 3226 - 2010 / 12 / 25 - 15:18
المحور:
الادب والفن
مهداة الى الإعلامي علي مولود الطالبي
القاعة كانت تضجّ بالطلاب، صخب مدوٍّ يملؤها، أحاديث، ضحكات وصرخات عشرات الطلاب والطالبات، بعضهم اتّخذ مكانه على المقاعد، بعضهم ما زال يبحث عن مقعده والبعض الآخر واقف غارق بأحاديث لا نهائية، دردشات سريعة على الماشي او أحاديث مطوّلة تتخلّلها قهقهات مرحة.
دخل علي الى داخل القاعة، عيناه تبحثان عن شيء ما بين جموع الطلاب والطالبات، الجالسين منهم والواقفين، تبحثان دون مبرّر واضح ودون توقف، عن غزلان. ولكن... دون جدوى.
منذ ان فتح عينيه في الصباح الباكر، يراوده شعور غريب لا يدرك كنهه، ولا يجد له تفسيرا، شعور بالتوتر والإضطراب لا يفارقه.
جلس علي في مكانه المعتاد في الصف الأول من المقاعد، أخرج قلمه وأوراقه استعدادا لبدء المحاضرة. استغرب في داخله: اين يمكن ان تكون؟ انها أبدا لا تتأخّر، وكان متلهّفا لرؤيتها ومتشوّقا لمعانقة نظراتها النقية.
وبينما كان علي جالسا في مكانه، سارحا بأفكاره، بعيدا عن القاعة وعن كل ما يدور حوله، فجأة... لمح الفتاة ذات العينين الخضراوين وهي تدخل القاعة بخطواتها البطيئة الواثقة، تسلك طريقها بين جموع الطلاب المتواجدين في كل الزوايا. ثم رفعت اليه بصرها والتقت عيناها بعينيه برهة، دون أن تسلّما، وشرعت تبحث عن مقعد مناسب لها.
استغرب علي مما رأى، حيث ميّز في ملامحها تعبيرا غريبا لم يعتد عليه، ولم يألفه منذ أن تعرّف عليها، نظرة غريبة توحي بالغضب شتّتت فكره وزادت من توتره. لماذا تغضب منه؟ تعجّب في نفسه. ولم يجد سببا يدعوها الى الغضب خلال بحثه السريع في داخل ذهنه.
ولكنه نسي وجودها، ونسي أمرها بسرعة كبيرة، اذ رأى غزلان وهي تدخل القاعة بصحبة احدى صديقاتها، بهية الطلعة، جميلة الحضور، مشرقة كعادتها، تبثّ رقة الشوق في روحه التي اعتادت ان تعانقها بالكلمات صباح كل يوم، وتلامس أوردتها بشغف.
نظراته ترنو اليها مملوءة بالنشوة، تنتظر ضحكة عينيها حين التقائهما بعينيه، وهمس نظراتها الدافئة فوق وجهه، بعد غيابه عن الجامعة في اليومين الماضيين بسبب المرض. ولكنه فوجئ حين مرّت بجانبه، لا نظرة ولا ضحكة، ولا حتى التفاتة تشي بشيء، وجلست مع صديقتها في احد المقاعد الخلفية، تاركة مقعدها المعتاد الى جانبه خاويا، حزينا.
أحسّ علي بالقلق واصابه الوجوم. لم يدرك ماذا يفعل وماذا يفكّر؟!
مرّت المحاضرة ببطء كألف عام، وبعد انتهائها، قرر الذهاب اليها. اقترب منها وابتسامة عذبة تكسو شفتيه الورديتين، ينبض قلبه بالمودة، ويشعر بسحر جمالها يخترق حواسه. ولكنه عندما وقف قبالتها عاوده ذلك الإحساس الغامض الخفي بالتوتر والقلق.
رمته غزلان بنظرة تطفح بالخيبة والأسى، ولم تقُل شيئا. بل أرخت نظرتها وانشغلت في ترتيب أوراقها. لم يعرف علي ماذا يفعل... وماذا يقول؟! وتعجّب في داخله: لماذا تتجهّم الدنيا بأكملها في وجهه منذ الصباح؟!
بعد لحظتين... سألها والتردد يسري في صوته: "ما بك غزلان؟" ولكنها لم ترفع نظرها اليه، وتابعت عملها دون اكتراث، حتى خيّل اليه انها لن ترد. ولكن، وبعد ان انتهت من ضب أغراضها في حقيبتها، وقفت أمامه ورمقته بنظرة طويلة تفيض بالحسرة والأسى، وقالت له جملة واحدة: "يؤسفني أني فقدت ثقتي بك."
واختفت من امام عينيه بسرعة البرق.
أحسّ علي بوخزة أليمة في صدره، غامت عيناه بالدموع، ولم يعُد قادرا على الوقوف بثبات، ولم يعُد يرى شيئا أمامه. كل شيء بدا له أسود قاتما، ويسائل نفسه دون انقطاع: ماذا فعلت؟؟ جلس على المقعد القريب واضعا رأسه بين يديه، أطرق مستغرقا في الفكر، محاولا أن يسترجع نفسه.
وعندما رفع بصره ثانية، فجأة، وقع نظره عليها بين جموع الطلاب الذين كانوا منشغلين في مغادرة القاعة، ذات العينين الخضراوين واقفة برفقة غزلان، تهمس في أذنها شيئا ما، وعيناها تصوبان نحوه نظرات مشوبة بالحقد والإزدراء، وابتسامة خبيثة تشعّ على شفتيها.
فجأة، شعر بانفجار مبهم في رأسه، وانقبض قلبه بشدة، اذ أيقن في تلك اللحظة، انها السبب وراء غضب غزلان! فقد تذكر كيف تغيّرت ملامحها وامتُقع وجهها وتلوّن بشتى الألوان، حين قال لها قبل عدة أيام، بصدقه المعهود: "انت مثل أختي."
فبعد ان أحس بمحاولاتها للتقرّب منه، أراد أن يصارحها بطريقة لطيفة، خشية عليها، أنها بالنسبة له أخت عزيزة ليس أكثر.
ولم يكن علي يدرك مدى الجرح والطعن في كبريائها وأنوثتها الذي أصابها حين قال لها ذلك الكلام، وهي الإبنة المدللة وجوهرة والديها، التي لا تتفوّه بطلب صغير الا وقد تحقّق لها! فمن ذا علي حتى يصدّها بالقول "انت مثل أختي"؟!
اشتعل صدرها بنار الحقد والغضب وكراهية الدنيا بأكملها... وقررت الإنتقام! انها مستعدة ان تفعل اي شيء حتى تلحق به كل الأذى، حتى ترتاح نفسها المطعونة، فقط لأنها أخته! فأخذت تروّج الإشاعات الكاذبة عنه، حيث تصوّره وكأنه كاذب، مخادع ومنافق. وأنه يهدّدها على الجوال ويقول لها كلاما بذيئا، يلطّخ سمعتها وكرامتها. حتى ابتعد عنه أصدقاؤه وصديقاته، ولم يكن أحد يصدّقه ولا حتى يصغي اليه حين يحاول الدفاع عن نفسه. عاش علي أياما عصيبة لا تخطر على بال ولا يتخيّلها أحد في أسوأ لحظاته.
وكان أكثر ما يشقّ صدره ويمزّقه أشلاءً، حين يرى غزلان تمشي مع ذات العينين الخضراوين، او تجالسها، فيتخيّل في نفسه كأنها تقبض على قلبها وتسكب فيه سم حقدها المتأجّج في داخلها بافتراءاتها الكاذبة، ويشعر علي بروحه تتلوى، وتقتله الرغبة بأن تدرك غزلان الحقيقة، وتذرف عيناه دمعة حارقة حين يتسلل الحنين والشوق الى صدره، وتعاوده صور كثيرة جميلة من أيام ليست ببعيدة، يتمنى لو كانت تعود.
آه، كم كان بحاجة الى دفئها وحنانها! كم كان متشوّقا لمواساتها له، توّاقا لرقة لمسها على خدوده المتحرّقة!
ما زال يذكر ذلك اليوم، كأنه كان بالأمس، وقد انطبعت صورتها في مخيّلته، عندما خرجت من احد الإمتحانات باكية، حيث اخفقت في الإجابة على سؤال ظالم لم يكن ضمن مادة القراءة. فخرج علي وراءها، وقد غلبه الخوف عليها، وسيطر عليه القلق، أراد مواساتها في حزنها وتهدئة نفسها.
كانت محطّمة وحالتها تدعوه الى التألّم والرثاء. وقفت أمامه تبكي بكاءً حارقا، تمزّق له قلبه، وهو يرى دموعها الحارة تنساب على وجنتيها، فيرتمض من الحزن، واستولى عليه الضيق والإحباط، اذ لم تفلح توسّلاته لها بأن تكفّ عن البكاء. فتملّكته رغبة شديدة بأن يضمّ وجنتيها بيديه ليمسح عنهما دموعها الغالية. ولكنه لم يملك أن يفعل شيئا الا أن يذهب ويحضر لها منديلا لتمسح به دموعها.
كم كان هو اليوم بحاجة الى رقة لمسها لتمسح دموعه عن وجهه وتلملمه من تعاسة أيامه وكآبة لياليه.
مرّت الأيام والشهور، وغزلان على غضبها، لا تبادله كلمة واحدة ولا حتى نظرة. وباءت كل محاولاته في إرضائها وكسب ثقتها من جديد بالفشل.
ولكن الظلم لا يدوم، والكذب لا يطول. يأتي يوم ينتصر فيه الحق على الباطل، مهما طال الإنتظار.
ذات يوم، أعلن رئيس الجامعة بأنهم سيختارون اثنين، شابا وشابة من بين المتفوّقين والمتفوّقات حتى يبعثوهما الى رحلة دراسية في الخارج، والإختيار سيكون بالقرعة. وكان علي من المتفوّقين في القسم، فكان اسمه من بين المرشحين.
جلس الجميع والهدوء مطبق عليهم، والتوتر بادٍ على وجوههم، ينتظرون بفارغ الصبر ان يعرفوا من هما الاثنان اللذان سيتم اختيارهما في القرعة.
نادى الأستاذ الى احد الطلاب لسحب الورقة الأولى، فاختار اسم الطالبة سعيدة الحظ. وبعد ذلك، طلب من غزلان ان تسحب الورقة الثانية التي تحدد اسم الطالب الفائز. فمدّت يدها واختارت ورقة من بين الأوراق. وحين فتحتها، اتّسعت عيناها دهشة، وانفرجت شفتاها، ووقفت مبهوتة لحظة طويلة، ثم قرأت اسم الطالب بصوت مرتعش: "علي ....."
خفق قلب علي بقوة حتى كاد ان يخترق صدره، وغمره طوفان الفرح وهو يسمع همهمات زملائه وزميلاته من حوله وهم يتهامسون: "ليست غزلان التي اختارت... بل قلبها!"
اقتربت غزلان من علي، ابتسامة رقيقة تغطي شفتيها بغشاء من الجمال، ونظراتها تعانق نظراته بشوق وحنان. مدّت يدها اليه وقالت:"مبروك علي."
وتبخّر كل خلاف بينهما وتلاشى الغضب. تلامست يداهما وتشابكت نظراتهما، عندها، أيقنت غزلان أن حبها له حقيقة، وتأكّدت في نفسها أن مشاعرها نحوه كانت صادقة وحقيقية، نابعة من قلبها الذي أحبه بصدق، وكانت سعيدة وهي واقفة هناك معه، سعيدة من أجله ولأجل فرحته. ولكنها لم تكن تدرك أن السبب الحقيقي لفرحته ليس اختياره للذهاب الى الرحلة الدراسية. لا أبدا! بل لأن الإختيار كان على يديها.
نظر اليها علي وغمرها بنظراته الدافئة الحانية، أراد ان ينحني اليها ويهمس في أذنها: أحبك. ولكنه بقي جامدا في مكانه يتساءل في نفسه: ترى، هل سيعلن لها حبه ذات يوم؟ أم أن القدر سيحول دون ذلك؟
ابتسم لها علي وشعر براحة عذبة وغمر الرضا نفسه وقلبه... وترك ذلك التساؤل للأيام.
كفر كما 18.11.10
#حوا_بطواش (هاشتاغ)
Hawa_Batwash#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرجل الخطأ- الحلقة الثانية عشر والأخيرة
-
الرجل الخطأ- الحلقة الحادية عشر
-
الرجل الخطأ- الحلقة العاشرة
-
الرجل الخطأ- الحلقة التاسعة
-
الرجل الخطأ- الحلقة الثامنة
-
الرجل الخطأ- الحلقة السابعة
-
الرجل الخطأ- الحلقة السادسة
-
الرجل الخطأ- الحلقة الخامسة
-
الرجل الخطأ- الحلقة الرابعة
-
الرجل الخطأ- الحلقة الثالثة
-
الرجل الخطأ- الحلقة الثانية
-
الرجل الخطأ- الحلقة الأولى
-
منازلة الصمت- قصة قصيرة
-
مذكرات عاملة في سوبر ماركت- الجزء الثاني
-
مذكرات عاملة في سوبر ماركت- الجزء الأول
-
العودة- قصة قصيرة
-
حدّثتني جدتي...
-
بيت الأحلام- قصة قصيرة
-
الشاردة- قصة قصيرة
-
حب خلال الهاتف- قصة قصيرة
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|