مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 3223 - 2010 / 12 / 22 - 15:45
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
يزعجني , كما يزعج الكثيرين بالتأكيد أن المسيحيين العراقيين قد أخذوا يغادرون بيوتهم , يغادرون بلدهم , نحو مكان أكثر أمنا , حيث يمكن للإنسان أن يعيش و يحيا بشيء من الراحة أو البحبوحة , و هذا يعني عادة في أيامنا هذه الغرب . طبعا تكرر هذا المشهد كثيرا , فقبلهم فر ملايين العراقيين , شيعة و سنة , هربوا من جنون الموت في العراق , و آخرون و آخرون . و ما الذي سيفعله أي عراقي في الغرب , بل أي إنسان هارب من الجوع أو القمع في بلده الأم , مهما كان دينه , إنه سيصبح بروليتاري أو بروليتاري رث , سيأكل و يشرب , و ينام بهدوء على الأغلب , إذا تمكن من تحاشي الفاشيست الجدد في الشارع و إذا تفادى أجهزة الأمن و دوائر الهجرة المحلية , أما أولاده فقد يصبحوا أطباء , أو صحفيين , أو حتى جنودا ترسلهم مجتمعاتهم الجديدة ليقاتلوا شعوبا جديدة , و ربما بعد جيلين فقط أعضاءا في الطبقة الوسطى أو حتى العليا و قد يصبح أحدهم كجون أبي زيد جنرالا يخطط كيف ستحتل جيوش الإمبراطورية أراض جديدة أو كأوباما نفسه , أي أنه سيصبح شخصا ذا وزن في تحديد خيارات حكم النخبة الاجتماعية و السياسية السائدة و في احتلالها أو فرض هيمنتها على شعوب جديدة , لا أعتقد أن أيا كان يستطيع أن يقول أن وصول أبي زيد لرتبة جنرال أو أوباما للبيت الأبيض يعني نهاية عصر التمييز العرقي و الديني ضد السود أو العرب أو غيرهم في أمريكا , في الحقيقة إنه جزء آخر , لكنه أنظف و أقل وحشية و إذلالا , من الدور الذي كان على أسلافهما أن يلعبوه في خدمة الرجل الأبيض السيد , و هو دور العبد . بل لعل أجداد أبي زيد هذا قد فروا من لبنان في ظروف تشبه ظروف المسيحيين العراقيين اليوم , أي من تلك المجازر الطائفية التي صبغت حياة جيل في جبل لبنان بألوان المآسي و المعاناة . كان المسيحيون هناك أي الموارنة قد ملوا على الأغلب لعب دور المضطهد لقرون سواء من على أيدي الحكام الرومان المسيحيين الذين اعتبروهم مهرطقين و خارجين على الإيمان المسيحي الصحيح أو على أيدي الحكام المسلمين الجدد , لذلك قرروا , أو هذا كان قرار نخبتهم الإكليروسية و الإقطاعية , أن يحاولوا كسب ود أحد مضطهديهم الأقوياء المتنافسين , كمخرج ممكن لتجاوز هذا الاضطهاد المزمن , لكن كان عليهم أن "يتكثلكوا" , أن يتخلصوا بسرعة من تلك العقائد التي وصمتهم الكنيسة الكاثوليكية بسببها بالهرطقة ( كأحد بديلين , كان البديل الآخر هو أن يعلنوا إسلامهم بالطبع ) , سينضمون أولا إلى الجيوش الصليبية القادمة و سيتمتعون لوقت قصير بدور مواطنين من الدرجة الأولى و سيعودون لممارسة نفس الدور مع جيش الانتداب الفرنسي , هذا إذا افترضنا جدلا أن الفقراء المسلمين كانوا يلعبون هذا الدور , أي دور مواطنين من الدرجة الأولى , في ما سبق من تاريخ المنطقة , بيد أن هؤلاء الفقراء جميعا كانوا بالتأكيد في درجة أقل من الملوك و الأمراء و القادة العسكريين , المسيحيين و المسلمين معا في كل الأوقات فقد كانت هناك نزعة واضحة منذ أيام الأمويين الأخيرة للتضامن الطبقي و السلطوي الواضح و العلني بين الملوك و الأمراء و القادة المسلمين و منافسيهم المسيحيين , البيزنطيين أولا و من ثم الصليبيين و هذا ينطبق حتى على أكثر أولئك الملوك و الأمراء عداءا للدين الآخر . كان أي ملك أو أمير في أي جهة يتمتع بمكانة أرفع من الفقراء سواء الذين هم على نفس دينه أو على دين خصومه و هذا صحيح بكل تأكيد حتى اليوم . يريد المسؤولون الأوروبيون اليوم أيضا أن يدفعوا باتجاه إعلان المسيحيين في العراق مواطنين من الدرجة الأولى , إذا افترضنا أنه يمكن أن يوجد في عراق الميليشيات مواطنين من الدرجة الأولى , أو حتى مواطنين من الأساس , مع كل الاعتراض على اعتبار المواطنة في دولة ما امتيازا من أي شكل , إنه تعبير عن الخضوع و ليس عن الحقوق الإنسانية كما يحلو للبعض . طالما لعب هذا الدور أي دور المواطنين من الدرجة الأولى أفراد عائلة الحاكم أو منطقته أو عشيرته أو بلدته و طالما كان لعب هذا الدور سببا لكراهية هؤلاء من سائر المواطنين , من الدرجة الثانية في هذه الحالة , و طالما كان هذا الدور مزيفا , مزعوما , يخفي في أحسن الأحوال سيطرة النخبة الحاكمة الحقيقية . هذا الطلب الغربي هو المكافئ المنطقي لحقيقة أن كل عربي , مسيحيا كان أو مسلما , بل كل أجنبي , غريب , هو اليوم بالضرورة مواطن من الدرجة الثانية في أوروبا المتحضرة نفسها اليوم , و هذا التمييز يأخذ شيئا فشيئا وضعا قانونيا صريحا , و هذا لا يعني بالطبع أن "المواطنين من الدرجة الأولى" أي أبناء البلاد الأصليين لهم حقوق فعلية في مواجهة السلطة و الرأسمالية السائدتين , إنهم مجرد بروليتاريون هم أيضا , لكنهم يتمتعون ببعض الحقوق غير المؤثرة التي يحرم منها الأجانب , مثلا يستطيعون أن يمارسوا شعائرهم بحرية , أن يحتجوا دون طائل طبعا على سرقة ما ينتجونه أو على معاملتهم كبروليتاريين دون أن تتمتع الشرطة في مواجهتهم بالحق في عمل ما يحلو لها , إنها فقط تستطيع أن تستخدم العصي في مواجهتهم أو أن ترميهم بالماء فقط , هذا امتياز حقا مقابل ما قد يتعرض له الأجانب أو ما يتعرضون له بالفعل . لا أعتقد أن أي عاقل يمكنه أن يقول أنه لا يوجد فرق بين قضاء ليالي عيد الشكر و رأس الميلاد قرب المدافئ الأمريكية كما تفعل عائلة أبي زيد اليوم أو في تلك البيوت الواطئة على جبال جزين مثلا كما فعل أجداده على الأغلب . إن القبول بأهون الشرين , أو العبوديتين في حالتنا هذه , ما تزال نظرية سائدة , يكفي أن نقول أن من نجا من الهنود الحمر من المذبحة كان هم أولئك الذين لعقوا حذاء الرجل الأبيض , و الذين ربما حملوا السلاح ضد إخوتهم ليقتلوهم لصالح الرجل الأبيض , أولئك الذين حاولوا أن يثبتوا للرجل الأبيض أنهم لن يتصرفوا أبدا كسكان و مالكين أصليين لتلك البلاد بل كعبيد مطيعين , و هذا يشملنا نحن أيضا , فقد كان أجدادنا على الأغلب من الذين استسلموا للأمر الواقع و رفضوا أن يتمردوا عليه , هؤلاء يملكون طبعا فرصة أكبر في النجاة في هذه الحياة و إنجاب الأطفال ممن يتمرد على الطغيان و الاستغلال , هؤلاء عادة يموتون في أعمار مبكرة أكثر و كثيرا ما لا تتاح لهم فرصة إنجاب الأطفال , لكن الخنوع ليس خطيئة أصلية تنتقل بالوراثة , صحيح أن العبيد يورثون لكن هناك دائما فرصة حقيقية ما دام العبد حيا في أن يعيش و يموت حرا , و هناك أيضا حقيقة أخرى هي أنك إذا ارتديت ملابس الرجل الأبيض و عبدت إلهه و سجدت ليسوعه , الذي يختلف كلية عن يسوع جبران بالتأكيد , و تفوقت في مدارسه و و .. فإنك لن تصبح أبدا رجلا أبيض , ستبقى ذلك العبد الذي ولده عبيد سابقون و الذي سينجب عبيدا هو الآخر , هذا لا يعني أن هويتنا التي حملناها بالولادة هي على ما يرام أو أن الأصنام التي تلوح لنا من تاريخنا جديرة بالسجود هي الأخرى , إن تاريخنا و ثقافتنا مفعمة بالروائح الكريهة و ليست الجرائم التي ترتكب بحق المسيحيين العراقيين إلا جزءا منها أو نتيجة لها . كانت هناك أوقات رفض فيها الزنوج خاصة , و إلى حد ما المضطهدون البيض أنفسهم , الموت في سبيل جني الأرباح للنظام , كما حدث في حرب فيتنام التي تصاعد خلالها الوعي الذاتي عند الزنوج لدرجة غير مسبوقة , لكن ها هم الزنوج يحملون البنادق من جديد في العراق و أفغانستان , يقتلون و يموتون لصالح النظام الذي خدمه أسلافهم كعبيد و يخدمونه هم أيضا بنفس الصفة تقريبا , لكن لأن الحياة في النهاية وجهة نظر أبعد و لو قليلا من مجرد الفرائض الفيزيولوجية المفروضة علينا كبشر أو بالأحرى نتيجة لها , نتيجة لتصنيفنا و موقعنا في تأديتها و إشباعها , فإنني أعتقد شخصيا أن أفضل مصير للهندي الأحمر هو أن يموت وثنيا على فرسه برصاص من جاؤوا لتحضيره و نهبه و تخليص روحه بجعله يسجد ليسوعهم و يعمل كعبد في خدمتهم مدى حياة الأجيال القادمة من نسله
مازن كم الماز
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟