أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - شاكر الساعدي - اليسار الهيكلي















المزيد.....



اليسار الهيكلي


شاكر الساعدي

الحوار المتمدن-العدد: 3219 - 2010 / 12 / 18 - 21:17
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    



المقدمة
تهدف هذه الدراسة إلى تصحيح خطأ شائع استمر طويلا باعتبار تجمع (نادي الدكاترة في برلين) "الشباب الهيگلي" في بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ( شتراوس، باور، روك، سيازفسكي، كوبن، فيورباخ، ماركس، أنجلس، موسى هيس وأخرين.) بأنهم من إتباع الاتجاه اليساري في ذلك الوقت، ومن ورثة وأنصار الفكر الهيگلي، الذي انتشر حينئذ بعد تسنم هيگل كرسي الفلسفة عام 1818 في برلين، الذي ظل شاغرا بعد وفاة (فيخته).كما أنها ستلقي الضوء، وتصحح بعض المفاهيم الخاطئة حول الفكر الهيگلي، باعتباره يمثل نوعين من المفاهيم (اليمين واليسار)، أحداهما خارجية وهي رجعية تبريرية (النظام الفلسفي )، والأخرى داخلية وهي تقدمية، على ضوء المنهج الديالكتيكي، (لكنه مقلوب )، الذي صور خطأ وهو يسير على رأسه بدلا من قدميه. والحقيقة بان الديالتيك الهيگلي له قاعدته المثالية المنسجمة مع الفلسفة التأملية الهيگلية، وهو يسير على رجليه.
"الفلسفة التأملية هي وعي الفكرة، وهي وعي إلى درجة أن كل شي يفهم كفكرة"
" أن موضوع العمل الفلسفي لا يمكنه أن يكون إلا الفكرة " " فالنظام الهيگلي ينطلق من الفكرة ويعود إلى الفكرة، دون الكف أبدا عن المرابطة في الفكرة" هذه الفكرة لدى هيگل تبقى مرتبطة بالواقع، وعلية ففلسفة هيگل هي فلسفة تأملية موضوعية، فديالكتيك هيگل يقول ( الكل يتفسخ). "
وهيگل كان يعي جيداً الأسباب الحقيقية التي تقف وراء صعوبة وغموض بعض أعماله. ففي 1812 كتب إلى أحد تلاميذه بصدد كتابه (المنطق).
" يؤسفني أن يشتكي من صعوبة العرض. ذلك لأن طبيعة هذه المسائل المجردة ذاتها تجعل من غير المستطاع عند تناولها الكتابة بذات السهولة الممكنة في كتاب عادي. فالفلسفة التأملية الحقة لا تستطيع أن ترتدي رداء جان لوك أو الفلسفة الفرنسية العادية. وبالنسبة للمبتدئين ينبغي أن تظهر من جهة محتواها أشبه بعالم مقلوب كما لو أنها في تناقض مع كافة المفاهيم التي اعتادوا عليها ومع ما يبدو لهم موافقاً وما نسميه بالمعنى المقبول " ( هيگل، المراسلات, عن، دونت، هيگل والهيگلية. ت . ح. هنداوي)
( لقد طور ماركس وانجلس فلسفة مختلفة جداً عن فلسفة هيگل. لكنهما لم يعتقدا بأنهما أقاماها انطلاقاً من لا شيء إجمالا. وهما يجعلانها في تعارض مع الهيگلية بالنسبة لعدد من الجوانب، لكنهما لا يترددان بالمقابل أخذ ما يعتبرانه أفكاراً أساسية فيها. فالمنهج الديالكتيكي بالنسبة لهما ينطبق على قاعدة فلسفية مادية مثلما ينطبق على قاعدة فلسفية معاكسة أي المثالية " ( المصدر السابق ). وماركس يحدد بوضوح الاختلاف أو التعارض بقوله.
" منهجي في التطور ليس المنهج الهيگلي. لأنني مادي وهو مثالي. فالديالكتيك الهيگلي هو الشكل الأساسي لكل ديالكتيك، لكن فقط بعد تجريده من طابعه الصوفي، ( لم يكن هيگل صوفياً، الدليل على ذلك، نقده الموجه إلى الرواقية والأبيقورية اللتان أكدتا على ضرورة الانعزال عن الواقع للحصول على اللذة )، وهذا على وجه الدقة ما يميز منهجي " وهكذا فالتمايز والتعديل لا يعنيان الإلغاء. ( مصدر سابق ).
وماركس عاش في عصر غير عصر هيگل. وأعطى لهذا الأخير دور فيلسوف البرجوازية، بينما كان هو يتطلع، في عالم اقتصادي واجتماعي آخر إلى أن يكون فيلسوف البروليتاريا التي لم تكن قد عبرت عن نفسها بعد بصورة مستقلة، عندما كان هيگل يتابع الحياة الاقتصادية والاجتماعية " ( المصدر السابق). (هذا لا يعني رجاحة النقد الموجه إلى جدل الطبيعة "خرافة الجدل في الطبيعة" والاقتصار على جدل الإنسان كما تصوره لوكاش بأن الماركسية احتفظت بما هو حق في الهيگلية ورفضت المفاهيم التي تعارضها، وهو يحتفظ بمقولة (الشمول العيني) و( الحقيقي هو الكل)، وهذا التصور لا يستقيم إلا في جدل التاريخ وحده، لكنه ينسى بأن ماركس كان اقرب (اليساريين الهيگلين) إلى هيگل، لكنه لم يكن هيگلياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأنه يعتبر الصيرورة التاريخية هي عبارة عن علاقة متبادلة ومترابطة بين الواقع والفكر. أن هيگل الذي شجب الدوغمائية والطوبائية، قد جهد باستمرار للاحتفاظ بوحدة وثيقة بيت الفكر والوجود، بين الروح والعالم بربطهما ربطاً لا فكاك فيه (كورنو) أما سارتر فيؤكد "بان الجدل الماركسي للطبيعة اختراع طبيعة بلا إنسان، أما كوجيف فيقول، "لا يمكن أن يكون ثمة جدل بدون إنسان وبغير أنشطة الإنسان" (جدل الإنسان أو الفكر)، أو عقل يجُدّل مبادئه Dialectiser كما يلاحظ جاستون باشلار وهذا خطأ ( إلا إذا كان يقصد، أن يتبع العقل الطريقة الديالكتيكية كمنهج) لأن العقل لا يمكن أن يجُدّل مبادئه، لأن الجدل موجود خارج العقل، لأنه قانون، مثل قانون الجاذبية. وعلى العقل أن يكتشفه، وهم بذلك ينفون أن يكون الإنسان جزء من الطبيعة.
" كان مفهوم هيگل للتطور الجدلي للتاريخ يستلزم، في الواقع، صيرورة لا انقطاع فيها، وتغيراً مستمراً لا يمكن أن يعيّن له شكل معين بمثابة حد أو نهاية. إن كل واقع ذي صفة اقتصادية وسياسية واجتماعية أو حقوقية ينزع في الحقيقة، على أساس التقدم الديالكتيكي، إلى فقدان ما يتلبس به من طابع الضرورة التاريخية والمنطقية معاً في لحظة معينة، وهو يصبح غير عقلاني بسبب هذا الواقع، ويجب أن يفسح المجال، عوضاً عنه، لواقع جديد محكوم عليه أن يتلاشى يوماً ما. والحال، فبعكس هذا التصور ألمفهومي الجدلي، فان هيگل، الذي كان يميل أكثر فلأكثر نحو النزعة (المحافظة )، كان محمولا على أن يمنح مؤسسات زمنه، وبخاصة الدين المسيحي والدولة البروسية، قيمة مطلقة ويوقف بذلك عندهما سير التاريخ "( أنجلس، فيورباخ ونهاية). الحقيقة بأن أنجلس يتجنى على هيگل في موضوعي القيمة المطلقة للدين المسيحي والدولة البروسية، لأنه لم يرد في مؤلفات هيگل ما يثبت ذلك، يضاف إلى ذلك بأن هيگل فيلسوف ديالكتيكي فلا يمكن أن يضفي أي قيمة مطلقة لأي واقع ويوقف سير التاريخ!!!!!
كما سنصحح المفهوم الخاطئ حول مقولة هيگل الشهيرة التي نقلت بصيغة خاطئة، حيث وردت كالتالي: بمقالة أنجلس ( فيور باخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية)
( كل ما هو واقع هو معقول، وكل ماهر معقول هو واقع )
”Tout Ce qui est réel est rationnel et tout ce qui rationnel est réel” ، وهذه الصيغة الخاطئة تذهب عكس ما ذهب إليه هيگل، وهي تتعارض مع فكر هيگل الذي قال:
Ce qui est rationnel est réel ; et ce qui est réel est rationnel »
« (ماهو عقلاني، فهو واقعي، وما هو واقعي، فهو عقلاني)
(Was vernünftig ist،das IST wirklich، und was wirklich ist، das IST vernünftig
إني استغرب اشد الأسنغراب، بأن يقع أنجلس بهذا الخطأ الفادح. الظاهر بأنه لم يطلع على مقولة هيگل بصورة مباشرة, لكن عن طريق النقل الشفهي، أو الاقتباس من مصدر غير دقيق. مع ذلك فأن أنجلس في سياق الشرح ذهب إلى ما ذهب إليه هيگل حول الترابط بين الواقع والضرورة.
وهيگل يربط الواقع بالضرورة، ولكن الضروري في لحظة معينة يصبح غير ضروري، وعليه أن يفسح المجال لواقع ضروري جديد.
لقد استقبل هيگل الثورة الفرنسية بترحاب عميق 1789، يوم كان تلميذ بمهد ألاهوت، وكان عمره تسعة عشر عاما, وغرس مع صديقه شيلنج شجرة الحرية في أطراف مدينة توبنگن احتفاً بتلك الثورة، وكان يعتبر الثورة الفرنسية بأنها وليد الفلسفة وأول محاولة لإقامة دولة قائمة على العقل.
" لم يحدث قط أن رأينا الإنسان... يؤسس نفسه على الفكرة ويبني الواقع تبعاً لها... كان أذن شروقاً رائعاً للشمس " (هيگل: دروس في تاريخ الفلسفة". وذهب أكثر من ذلك عندما برر الإرهاب الروبسبيري، باعتباره محاولة لإعادة النظام إلى الدولة الفتية. كان هيگل معجباً بنابليون ولقد حياة عندما دخل "أينا" وسحق الجيش البروسي، ومقولة المشهورة، في خريف 1807 ( رسالة إلى صديقه نيتماير).
" لقد رأيت الإمبراطور روح العالم، على صهوة جواده، يرنو في الأفق ويهيمن على العالم".
( الحقيقة بأن هيگل، لم يصف نابليون بروح العالم ، Geist التي تقابل Esprit بالفرنسية، بل قال أنه Seele التي تقابل بالفرنسية âme, souffle التي تعني بالعربية نفس أو نسمة، لأن مفهوم الروح بالنسبة إلى هيگل مفهوم فلسفي يعني ( المطلق، الفكرة، الله، العقل ). وهذا لاينطبق على نابليون أوعلى أي شخص آخر.
لقد تعاون هيگل مع الاحتلال الفرنسي لبلده، وقام بتحرير صحيفة (بامبرج Gazette de Bamberg ) بالاتفاق التام مع الإدارة الفرنسية، وهو بهذا الموقف ينظر إلى نابليون باعتباره ضرورة واقعية، ويمثل بنفس الوقت شكل من إشكال تموضع (الروح التاريخي). لكن بمرور الزمن غير هيگل موقفه من الجمهورية الفرنسية ومن نابليون بناءاً على استمرار الإرهاب الغير ضروري، واعتبر ما قامت به فرنسا في ألمانيا هو( طغيان أجنبي بربري) ولم يعد ضروري.( خطاب هيگل عندما تسنم مركزه كأستاذ لقسم الفلسفة جامعة برلين خريف 1818. يرى بعض الباحثين بأن هذا الموقف لا ينم عن انتهازية، بل هو من صلب النظام الهيگلي. لايمكن مقارنة الأمس باليوم .
لا تهدف هذه الدراسة( الأكاديمية البحتة التي هي جزء من أطروحة ) إلى أي مقارنة (سياسية- فلسفية) بين الماضي والحاضر.. أي مقارنة فلسفة وعي ألذات، وفلسفة النقد الديني لجماعة "اليسار الهيگلي" التي كانت تهدف عن طريق النقد إلى عقلنة الواقع بإزالة العناصر اللاعقلانية عن الفلسفة، وبصورة خاصة فلسفة النقد، وفلسفة النقد الديني بصورة اشمل واعم.. المقارنة غير موضوعية بين أفكار واتجاهات تعود إلى ما يقارب قرنيين من الزمن، فكل عصر له فلسفة الخاصة واهتماماته الموسومة والمحددة بطابع الإنتاج البشري وعلاقاته الاجتماعية. علاوة على ذلك فان (اليسار الهيگلي) لم يكن منسجما بأغلب أطروحاته الفلسفية وتوجهاته (السياسية) اللاحقة، وظهرت خلافات عميقة بين (أعضائه) أدت إلى قطيعة واتهامات متعددة –سنشرحها لاحقا-
ومن ضمنها ما قاله روگ (روغه أو روج) اتجاه ماركس.
" كان يغلي غضباً على ماركس الذي أشار إليه بأنه (رجل حقير تماماً) و"يهودياً وقح".كما أن أحدا لاينكر إن روگ عمد بعد ذلك بسنوات إلى إرسال استرحام توبة إلى وزير الداخلية البروسي يخون فيها رفاقه في المنفى في باريس ويحمل هؤلاء (الشباب) مسؤولية الخطايا التي اقترفها في صحيفة (فورواتز)"
(فرانس مهرينج، كارل ماركس).
بعكس كارل ماركس وزوجته جيني، الذي كان أخوها غير الشقيق وزير داخلية لمقاطعة غرب ألمانيا ، فأنهنا لم يطلبا منه أي مساعدة، رغم الفقر المدقع الذي عاشاه مع أطفالهم في لندن، وفقدا اثنين 1852-1855 منهم نتيجة سوء التغذية والعناية الصحية.ومن المعروف فأن خلافاً قويا ظهر بين ماركس وروگ ادا بينهما إلى قطيعة كاملة وهو دفاع ماركس حول ضرورة بناء الحزب الشيوعي الذي اعتبره روگ نوعا من الديڴماوية التي تشبه إلى حد كبير ديڴماوية الأديان.
كان شتراوس ابعد الهيگليين للعمل بالسياسة، وكذلك روڴ بعد إطلاق سراحه، أهتم بالآداب والثقافة بصورة عامة بعيدا عن النشاط السياسي، لاسيما وان زيجة موفقة ساعدته على العمل بجامعة (هال)، وكان يعتبر نفسه تاجر أفكار بالجملة. ( أدت به زيجة موفقة إلى أن يصبح محاضرا في جامعة هال.فعاش حياة مريحة رغم مصائبه السابقة(قضى ست سنوات بالسجن)وسمح له ذلك أن يعلن أن نظام الدولة البروسية حر وعادل. وكان بالفعل يود أن يجعل من شخصه مصداقاً لقول الموظفين البروسيين الكبار من أن أحداً لا يستطيع النجاح أكثر من ديماغوغي مرتد) (كورنو)
والحقيقة إن صحيفة (حوليات هال) لم تكن في البدء ذات طابع سياسي وكانت تعني فقط بالفن والآداب، ويحث السلطات الرسمية على منحه مركزا مهما جزاء خدماته التي يقدمها باعتباره مدافعا عن الدولة البروسية.
(كان روگ يعتقد حينئذ أن ثمة توافقا بين فكرة الحرية ومبادئ "الإصلاح الديني"، ومباديْ الدولة البروسية) وكذلك (إن روگ بدعمه الحكومة البروسية ضد الكنيسة الكاثوليكية كان يأمل كسب تلك الحكومة إلى حد ما على الأقل إلى جانب النضال الذي كان يخوضه ضد الرجعية السياسية) ( كورنو، أوكست. ماركس وانجلس ).


قبل البدء بمعالجة موضوعنا، لابد من الإشارة إلى مراحل تكوين ماعرف لاحقا(المدرسة الهيگلية)، وهو خطأ تاريخي آخر، لان هيگل لم يسعى مطلقا إلى إنشاء مدرسة وتكوين إتباع، ولم يعرف عنه نقاش أو حوار خارج قاعات الجامعة. ولم يعرف كذلك بأن إتباع هيگل بصورة عامة شكلوا هيكلاً يعرفون به أنفسهم، عدا بعض الحوليات والمجلات التي تحتوي على مقالات تفسر هيگل على هواها وبما ينسجم مع توجهاتها (اليمينية أو اليسارية) وهو خطأ آخر، ارتكب بحق ذلك الرجل، لأن هيگل لم يتبنى في يوم من الأيام أي شكل من الأشكال السياسية، لأنه وببساطة كان فيلسوف الواقع، وكان يردد دائما بان مهمة الفيلسوف هو محاولة فهم وإدراك الواقع وليس وضع نماذج للمستقبل.

يمكن أن نطلق على تلك الفترة الأولى:

--- فترة الحماس الهيگلي، حيث شمل من يؤمنون بالفكر الهيگلي، عدة اتجاهات مختلفة ومتناقضة، ستفجرها التحولات الاجتماعية الألمانية المتلاحقة (الثورات العمالية).

" انتشرت الهيگلية في هذه الفترة حتى أوشكت إن تصبح العقيدة الرسمية للدولة البروتستانتية، وبعد إن كان عدد طلابه محدودا ًتوافد عليه المئات من الطلاب من جميع أنحاء البلاد.بل أصبح الأيمان بالهيگلية من الوسائل التي تمكن الفرد من الحصول على الوظائف الحكومية ومن الترقي في هذه الوظائف، حتى إن أستاذا لعلم النفس التجريبي فصل من الجامعة لأنه هاجم الجانب المثالي في الفلسفة الهيگلية. وبتداءاً من عام 1823 بدا الأساتذة في تدريسها وبدأت تتكون العصبة الأولى من الهيگليين المتحمسين، ومن تلامذته المشهورين في هذه الفترة (غانس-مانسز) و(ماهرنيكه) و باور... ولقد جرت عليه هذه الشهرة الكثير من العداء خاصة وان بعض تلاميذه اندفع في حماس إلى الزعم بأن (كل من ليس هيگلياً فهو أحمق) ومن هنا وقعت العداوة بينه وبين بقية الفلاسفة في عصره. فبعد إن كانت العلاقة قوية بينه وبين(شليرماخير)رئيس الأكاديمية في برلين، فترت ثم انقلبت إلى عداء وهجوم صريح"

--- فترة التكوين أو العصر الذهبي للشباب الهيگلي و ( لليسار الهيگلي)، بدأ بظهور كتاب شتراوس (حياة المسيح) إلى وفاة گيوم الثالث1840.

--- فترة الراديكالية السياسية مع بداية حكم گيوم الرابع.

رغم إطلاق صفة اليسار بالمفهوم السياسي على (اليسار الهيگلي) فان اهتمامات تلك المجموعة بالسياسة خلال فترة حكم گيوم الثالث كانت متراجعة إلى الخلف. كان الاهتمام الأهم هو (فلسفة النقد الديني) أو الدين المسيحي الكاثوليكي وكنيسة البابا في روما مقابل البروتستانتية واتجاهها اللوثري أو بما يعرف بالإصلاح الديني.
كان لذلك التراجع ظروف موضوعية فرضتها سياسة فردريك گيوم الثالث بعد دحر حملة نابليون 1814 وسيطرة (الحلف المقدس) 1815، وعودة الملكية في عموم أوربا، فتم قمع الحركات السياسية التي شاركت في دحر الاحتلال الفرنسي. لقد أدت حملة ملاحقة (الديماغوغيين) إلى اعتقال كثير من الذين شاركوا في حرب التحرير والى تشريد قسم منهم خارج ألمانيا واعتقال وسجن البعض الأخر، تكللت تلك الحملة بمنع إصدارات (ألمانيا الفتاة) التي كانت تعبر عن روح التحرر من السيطرة الأجنبية والاضطهاد القومي.
كانت السياسة كما يقول انجلس أرض شائكة.
(وحوالي نهاية الثلاثينيات، كان الانقسام في المدرسة الهيگلية يغدو ظاهريا أكثر فأكثر. فالجناح اليساري، أي أولئك الذين يسمون "اليسار الهيگلي، تخلى، في نضاله ضد التزمت التقوى والرجعية القطاعية، عن هذا التحفظ الفلسفي المتميز، الذي كان قد ضمن حتى ذلك الحين للمذهب الهيگلي تسامح الدولة وحتى حمايتها... كان الصراع ما يزال يخاض بأسلحة فلسفية، ولكن ليس لأغراض فلسفية مجردة، ذلك لأن موضوع الصراع كان تدمير الدين التقليدي والدولة... كانت السياسة ما تزال أرضا شائكة لذا جرى توجيه المعركة الرئيسية ضد الدين ).( أنجلس، لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الامانية) .
" أن اهتمام ألمانيا المعاصرة الرئيسي ينصب على الدين وفي المكان الثاني فحسب على السياسة، سواء رضي المرء عن ذلك أم لم يرض" ( فرانس مهرينڴ – كارل ماركس)
" أما الهيگليون الشباب فكانوا ما يزالون مثاليين، وكانوا يؤمنون بنوع من تجديد يصيب الإنسان والمجتمع، أكثر من إيمانهم بالثورة، وكانوا يرون أن الفكر، والنقد الحر، يكفيان للقيام بهذا التجديد. وكان أقصى ما يمكن أن يذهبوا إليه"ثورة في الضمائر... لا ثورة سياسية". ( هنري لوفيفر. كارل ماركس)
" فالهيگليون الشباب، الهدامون في مجال الدين، ظلوا أحياناً محافظين في مجال السياسة – كشتراوس- "
( جاك دونت. ت.ل والهيگلية. ت . حسين هنداوي)

(ونظرا لأن انتقاد الكنيسة وطقوسها كان أقل خطرا من انتقاد الدولة ومؤسساتها، فان الشباب الهيگليين وانسيكلوبدي القرن الثامن عشر الفرنسيين وجهوا هجماتهم الأولى ضد الدين قبل خوض النضال على الصعيد السياسي. وكانوا يواصلون بذلك، على كل حال، ولكن بكيفية مختلفة، الكفاح المضاد للدين، الذي كان خاضه قبلهم كتاب "ألمانيا الفتاة"الذين كانوا يستوحون السان سيمونية). ( كورنو)

يضاف إلى ذلك فأن مصطلح اليسار هو مصطلح فرنسي بامتياز، وتم بعد الثورة الفرنسية في 14 تموز 1789 حيث انقسم السياسيون في الجمعية الوطنية إلى يساريين.. يسار رئيس الجمعية( القاعة) والذين يؤمنون بالتقدم والإصلاحات ويطالبون بالاقتراع العام والمساواة، وبين يمين القاعة الذين يمثلون النظام الإقطاعي السابق، فاليمين واليسار كان مجرد اختلاف في كراسي القاعة.كما إن مصطلح الشيوخ والشباب الهيگليين غير موفق، فان غانس العجوز كان الأب الروحي للشباب الهيگلين، وان برنو باور-الشاب- داينمو الشباب الهيگلي لاحقاً، بدأ كأحد أفراد الشيوخ الهيگليين مع أستاذه العجوز ماهر نكه بالرد على كتاب شتراوس (حياة يسوع) ،
وفرنسا باعتبارها المثال الحقيقي لصراع الطبقات كما يقول كارل ماركس،( ساعدت الثورة الفرنسية ماركس إلى فهم طبيعة الصراع في المجتمع ، كما ساعد الاقتصاد الانكليزي أنجلس إلى فهم طبيعة الرأسمالية) فان اتجاهات اليسار الفرنسي وقتئذ تختلف جذريا عن اتجاهات اليسار الألماني، ومن المعروف فأن الاتجاهات التقدمية الألمانية ظهرت بتأثير فرنسي، فلسفة الأنوار وأطروحات (سان سيموت –فوريه- أوين) وتعززت بعد الثورة الفرنسية وبعد حملة نابليون والتي كان مرحب بها في المناطق المحتلة، حيث أدى احتلال نابليون لأجزاء من ألمانيا إلى تغير مهم في عقلية وأرضية المجتمع الألماني، وكان إدخال المكننة الحديثة إلى ألمانيا وفتح المشاريع الاقتصادية الصناعية بصورة أوسع أدى إلى خلق (بروليتاريا مصطنعة) في الجزء الغربي من ألمانيا وست فالي.. وكذلك أدى إلى خلق (برجوازية مصطنعة) فمصادرة أملاك الكنيسة وأراضي النبلاء من قبل نابليون استفاد منها الفلاحين المتوسطين والأغنياء من البرجوازية الصغيرة، وكان إنشاء المعامل والمصانع الحديثة التي جلبت من فرنسا أدي إلى ترك الفلاحين الفقراء مهنة الزراعة والالتحاق بالمدن للعمل بالمصانع الجديدة، ولقد حافظ البروليتاري الجديد على عاداته وتقاليده السابقة والاحتفاظ بدينة ومعتقداته الموروثة، وهذا مانسميه (البروليتاريا المصطنعة) أي إن البوليتاريا هذه لم تجتاز المراحل الطبقية التي تكلم عنا ماركس، وأدت هذه الحالة إلى إيجاد شكل جديد ومختلف حول( خصوصية الطبقة العاملة الألمانية، الخلافات العميقة بين لاسال وماركس، حيث كان لاسال ضحية خداع بسمارك، وكان الشعور القومي الوطني هو الغالب بصفوف الحركة العمالية الألمانية، على الشعور ألأممي) عندما يقرر العمال الألمان احتلال محطة قطار فأنهم يشترون تذاكر الدخول إلى المحطة. لكن بمرور الزمن تغيرت تلك الطبيعة وأظهرت الطبقة العاملة في ألمانيا وجه جديد تمثل بثورات 1830 و1848.وبالمقابل فان البرجوازية الألمانية لم تقف بمثل ما وقفت به البرجوازية الصغيرة الفرنسية بإسناد الحركة التقدمية.

"ولان حركة اليسار الهيگلي لم تجد لدى البرجوازية الألمانية، بسبب ضعف هذه البرجوازية ونزعتها شبه المحافظة، الدعم الثوري الذي وجده الموسوعيون الفرنسيون في القرن الثامن عشر لدي البرجوازية الفرنسية، فقد كان عليها أن تظل حركة أيدلوجية بصورة أساسية" كورنو، أوگست.كارل ماركس وفرد ريك أنجلس"

شكل (اليسار الهيگلي ) وهو اتجاه لدى البرجوازية الصغيرة الألمانية ذات الاتجاه الخاص كما اشرنا سابقا (أساتذة جامعة ) حلقة من ذلك الاتجاه الفكري النظري الذي يعُول على إن مجرد إدراك ونقد الواقع يؤدي حتما إلى تغيره بمجرد نضوج العامل الذاتي (الوعي) والعامل الموضوعي (الاستغلال الرأسمالي) حتى تنضج التفاحة ويسهل قطفها، ولقد أدى هذا الاتجاه إلى انهيار (اليسار الهيگلي) لأنه لم ينظر إلى العلاقة بين الفكر والواقع وضرورة التأثر والتأثير المقابل كعامل مهم في الصيرورة التاريخية، كما انه لم يدرك وقتئذ بان القوة المادية لا يمكن تغيرها إلا بالقوة المادية، وهذه ستكون مهمة كارل ماركس بعد إن ينفصل نهائيا عن أطريحات (اليسار الهيگلي) ويتوصل إلى فهم جديد للصيرورة التاريخية وهي المادية الديالكتيكية. ولهذا السبب لم يدافع كارل ماركس عن أطروحة للدكتوراه مباشرة أمام الأساتذة ، لأنه توصل إلى مفهوم جديد للعلاقات الاجتماعية تتعارض مع أطروحته الهيگلية.
نشر ماركس في " دويتشه –فرانزوسيش ياربشر " مساهمتين: "مقدمة لنقد فلسفة الحق عند هيڴل"، وملاحظات عن كتابين في المسألة اليهودية اصدرهما برونو باور. وعلى الرغم من اختلاف المساهمتين اختلافا بيناً في موضوعيهما، إلا أنهما كانتا مرتبطتين ارتباطا وثيقاَ في محتواهما الأيدلوجي. وفيما بعد لخص ماركس نقده لفلسفة الحق لدي هيڴل بالقول، أن مفتاح فهم التطور التاريخي يكمن في دراسة المجتمع، الذي يحتقره هيڴل، وليس في دراسة الدولة التي يمجدها. وفي المساهمة الثانية يعالج ماركس وجهة النظر هذه بقدر اكبر من التفصيل الذي عالجها به في المساهمة الأولى" ( فرانس مهرينڴ، كارل ماركس)

: ملاحظة مهمة ، أن المجتمع الذي يحتقره هيڴل هو المجتمع المدني – تجمع اثنيات وطوائف- والخالي من الوحدة الروحية المتماسكة ، روح الشعب ، اما الدولة التي يمجدها هيڴل فهي دولة الشعب الحيوي الواحد الموحد ولست دولة التجمعات الاثنية والدينية والطائفية الممزقة عملياً بحروبها المتسترة تارة أو العلنية تارة أخرى. أن الدولة الحقيقية لدى هيڴل هي التعبير الحقيقي عن المجتمع الحقيقي.

لقد ساعد ابتعاد ماركس من ألمانيا 1843 ولجوؤه إلى فرنسا الاتصال بالحركات الثورية الفرنسية والتي ساعدته إضافة إلى الواقع الفرنسي وقتئذ إلى فهم جديد للصيرورة التاريخية، فكان ذلك الابتعاد بمثابة هدية لا تقدر بثمن، ونحن نعتقد بأنه لو تسنى لماركس المكوث كلياً في ألمانيا وبجوها الثقافي حينذاك لانتهى إلى فيلسوف ليبرالي تقدمي.

كما إن حركة( اليسار الهيگلي) كانت مصونة ومحمية ومرحب بها من قبل الدولة البروسية وكان إتباع هيگل (اليسار الهيگلي) يتبؤون أهم المناصب في الجامعات الألمانية وكان هناك نوع من التحالف بين الدولة و(اليسار الهيگلي).

" هذه الفلسفة كانت تتمتع حينئذ يرضى الحكومة البروسية، وقد أصبحت الفلسفة الرسمية للدولة، وكان التنشتاين Altenstein (وهو موظف هيگلي )وزير التعليم العام وشؤون العبادة، يشجع وصول الهيگلين إلى كراسي التعليم في الجامعات ،كان جميع هؤلاء الدكاترة في الفلسفة أو التاريخ أو اللاهوت أنصارا متحمسين للفلسفة الهيگلية، التي كانت تبدو لهم أنها أعطت حلا نهائيا للقضايا الأساسية "
(«روك، روغه، روج." صراع الدولة البروسية مع الكنيسة الكاثوليكية، كورنو، أوكست كونت. حياة كارل ماركس وفريدريك أنجلس"
لابد من الإشارة إلى إن سياسة التسامح التي كان يتمتع بها (اليسار الهيگلي ) إلى أواخر حكم گيوم الثالث، كانت تعبيرا عن دهاء ملكي ضمن صراع الملك گيوم الثالث مع البابا وممثلي الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا حول مسألة (الزواج المختلط) يعني زواج البروتستانتي مع الكاثوليكية.. ولقد شغلت تلك القضية التي عرفت بقضية كولونيا الرأي العام الألماني ردحا من الزمن، فكان الملك يصر على إن أبناء الزواج المختلط هم بروتستانت بالضرورة، ولقد استخدم الملك (اليسار الهيگلي) لتقوية موقفه اتجاه الكاثوليك وتهديد البابا بحملات (اليسار الهيگلي) ضد الدين المسيحي الكاثوليكي.
" وبدأ الهجوم ضد (حوليات هال) بصدد نزاع نشب بين رئيس أساقفة كولونيا والحكومة البروسية بصدد حالات الزواج المختلط. ونظراً لأن الكاتب المونتاني المتطرف من أنصار البابا غٌورس قد اتخذ جانب الدفاع عن الكاثوليك الرينانيين، فقد تعرض لرد عنيف من ه. ليو الأستاذ الجامعي في هال الذي اتهمه باستأناف السياسة القديمة المناصرة للبابا بشكل مطلق(guelf) ودعم مصالح البابا ضد مصالح ألمانيا" ( كورنو. كارل ماركس) _ حوليات هال _ جريدة( اليسار الهيڴلي ) كان يحررها روڴ.

كما لعب برونو باور دوراً مهما في إبعاد ماركس عن نشر إي نقد للدولة البروسية ،أملاً بأن تعطف علية الحكومة بتثبيت مركزه كأستاذ للفلسفة في بون.( عندما انتقل إلى بون استمر يراسل ماركس في برلين، واتفقا على إصدار مجلة تم الاتفاق على اسمها وهو:أرشيف الإلحاد: لكن باور تراجع بعد ذلك، وعندما شرع ماركس بنقد المحاولات التي كان يقوم بها الكاثوليك والبروتستانت للتوفيق بي الأيمان والعقل، كان ماركس يعتزم بادىء بدء مهاجمة( الهيڴليين الشيوخ )وبخاصة مارهينكة أستاذ الاهوت في برلين الذي كان معلم باور. لكن باور عارض ذلك واستجاب ماركس لنداءات باور في مراعاة اليمين الهيكلي وبجانب هذا جهد باور لتجنب نشر أي مطبوع لماركس ضد الدولة البروسية. ) "لا تتأخر كثيرا بعملك حول فلسفة الدين وحذاري أن تتركها.... وقبل كل شيء عليك محاباة مهرنكه ( أستاذ بوير) لأن ذلك سيحرجني كثيراً" رسالة بوير إلى ماركس 30 آذار 1840

لقد حيا برنو باور احد أهم رموز( اليسار الهيگلي) ارتقاء گيوم (غليوم) الرابع عرش الدولة البروسية التي كان (اليسار الهيگلي ) يعول عليها كثيرا بصراعهم ضد الكنيسة الكاثوليكية بعبارات تقريظية حيث قال.
" ساد الظلام الوعي البشري أكثر فأكثر، فاقدا الأيمان في ذاته، وبروح الأزمنة الحديثة وفي مصيره، ولقد تخلى الناس عن الأمل في الحرية وسعادة جديرة بالبشر... ولكن هاهو الربيع يخضوضر مجددا في القلوب، والرغبات المخنوقة منذ زمن طويل، والآمال شبه المنطفئة تستيقظ. والناس وهم يرفعون رؤوسهم، ينظر بعضهم إلى البعض بصراحة أكثر وبوضوح اكبر، ويستعيدون الاتصال فيما بينهم. كل شيء يبدو قد تحول، لم يعودوا هؤلاء الناس الذين كنا نلتقي بهم فها هو كل منهم يسير بمزيد من الاندفاع والبهجة، وينعكس فجر من الأمل على وجوه الجميع، ويشع التألق في العيون، وكأنما جميع القلوب تريد إن تتدفق في لحظة بجذل وسرور" برونو باور، صعود وسقوط الراديكالية الألمانية، 1842»الطبعة الثانية برلين 1850، ص، 5
إن الدولة البروسية البروتستانتية كانت تدعي استيعاب (الروح البروتستانتية) لتفسير الدين المسيحي الذي يعني بالضرورة فصل الدين عن العقائد واستلهام الحرية، وضمن هذا التوجه (التحرري) انخرط (اليسار الهيگلي) بالدفاع عن الدولة البروسية البروتستانتية باعتبارها تجسيدا للحرية، مقابل الدوكماتيكية الكاثوليكية وكان هذا التوجه التحرري نتيجة للإصلاح اللوثري البروتستانتي الذي عرف باسم Aufklaerung عصر التنوير الألماني الذي يختلف جذريا عن عصر الأنوار في أوربا الغربية الذي كان هيگل يصفه بعصر الأنوار البائس( الذي كان يدعو للتوفيق بين الدين والعقل ويؤكد احترام الحرية الفردية)، فعصر الأنوار الألماني يعني (الإيمان بالله عن طريق العقل لا عن طريق الوحي والإلهام )، أو روح البروتستانتية المجردة من كل عقيدة دينية والمجسدة في فكرة الحرية. لقد كتب كوبين وهو احد أقطاب (اليسار الهيگلي) يقول:
" لقد آن الأوان تماماً لكي تتوقف الخطب التافهة ضد فلاسفة القرن الثامن عشر، وان يعترف حتى باستحقاقات فلسفة الأنوار الألمانية رغم طابعها الممل. والحقيقة أننا مدينون لها بالكثير، بنفس مقدار ما ندين به للوثر ولرجال الإصلاح الديني..... إن فلسفة الأنوار كانت بروميثيوس الذي حمل إلى الأرض القبس السماوي لكي ينير الطريق للعمى، للشعب، لتحريرهم من أفكارهم المسبقة وأخطائهم."
(كوبين:"فردريك الكبير) عن كورنو، ماركس وأنجلس).

كان هيگل من أكثر الفلاسفة الألمان الذين يدافعون عن قيمة العقل الإنساني وقابليته بادراك المطلق(الله ) وان العقل الإنساني لا يحتاج إلى واسطة لمعرفة الله، وهو بهذا الاتجاه أنكر النبوة والأنبياء ، حسب المفهوم البابوي، كمرسلين من قبل الله وكان يعتبر المسيح احد الحكماء، واعتبر القصص التوراتية إعمال أدبية، كما انه شكك بكثير من رواياتها، ورفض المعجزات. لكن هيگل يؤمن بالوحي الشخصي الذي يتعرف على حقيقة (المطلق –الله)بصورة فردية عن طريق التأمل الفلسفي الذي ينقل الإنسان من درجة إلى أخرى، حتى يصل إلى إدراك المطلق، عن طريق العقل. وهذه الطريقة تتعارض مع التصوف، لأن هيگل يعارض تماماً الانعزال عن الواقع، وهو ضد طلب السعادة والراحة النفسية برفض المجتمع. وعلى هذا الأساس فلقد انتقد الرواقية والأبيقورية واعتبراهما فلسفة للبؤس، التي تعبر عن حالة الإمبراطورية الرومانية التي قتلت كل ما هو جميل في الحضارة اليونانية.
" أن كل ماكان في الشخصية الروحية من جميل ونبيل ، قد دمر بلا رحمة في شقاء الإمبراطورية الرومانية. ففي هذا العالم حيث كان يسيطر الطغيان اضطر الفرد أن يبحث في ذاته وبصورة مجردة عن المتع التي كان الواقع يمنعها عنه. وقد اضطر بصفته احد الرعايا للجوء إلى التجريد في شكل تفكير وان يجد ملجأ في حرية الذات الداخلية" ( هيگل، المؤلفات الكاملة، شتوتغارت، 1928 تاريخ الفلسفة ، الجزء الثاني ص 434)
وهو في كتابه (حياة المسيح) يعتبر السيد المسيح حكيماً. ويقارن بين الديانة الشعبية اليونانية المرحة والديانة المسيحية الحزينة التي أنهكتها الطقوس المملة والقرابين المقدسة، والثياب السوداء. واعتبر هيگل كافة الأناجيل أنتاجات أدبية.
في عام 1793 تخرج هيگل من معهد ألاهوت البروتستانتي في توبنگن، وكان من المفروض أن يصبح راعيًا رسولياً، لكنه عدل عن ذلك لأسباب فلسفية، وليس كما قيل انه أتبع نصيحة مرؤوسيه بعدم قدرته على الخطابة والوعظ. أن السبب الرئيسي لعزوف هيگل عن متابعة دراسة ألاهوت، هو توصله إلى مفهوم جديد للواقع ومن ضمنه الدين، وهم المفهوم العقلي الذي سيشيد عليه هيگل كامل نظامه الفلسفي.
أن مهنة (مُؤدب) التي مارسها هيگل في ببرن وفرانكفورت بين أعوام 1893-1800) تدل على مقدرته على التعليم والإقناع، عكس ما ذهب إليه أساتذة ألاهوت، وفي تلك الفترة انتقل من ألاهوت إلى العلوم ومحولا اهتماماته للتاريخ والسياسة.
في برن وقع هيگل أسيرا لكانت وللعقليين من فلاسفة القرن الثامن عشر، وكتب وهو تحت تأثيرهم مقالات لم تعرف حتى نشرها (نول Nohl ) عام 1907 منها "وضعية الديانة المسيحية" و"حياة يسوع". وقد هاجم في هذه المقالات الكنيسة بعنف مفسراً الأسباب التي حولت الديانة المسيحية إلى ديانة تثقل ظهرها بالسنن والشرائع حتى غدت ديانة حزينة معتمة إذا ما قورنت بديانة اليونانيين القدماء.
" فالأعياد الشعبية عند اليونان كانت كلها أعياد ًدينية... أما معظم أعيادنا العامة، فأن الفرد يتقدم للمشاركة في القربان المقدس في ثياب الحداد ليلاً مكسور الخاطر.... بينما الإغريق بما هبتهم الطبيعة من مواهب يضعون أكاليل الزهور ويرتدون ملابس زاهية، وهو يقارن بين سقراط والسيد المسيح فيقول مفظلاً الفيلسوف الأثيني:
"بالطبع لم يسمع إنسان قط إن سقراط ألقى عظاته من منصة الخطابة أو من فوق جبل، وكيف كان يمكن لسقراط إن يلقي عظات في بلاد اليونان...( وهل يمكن لإنسان عاقل في العراق أن يقول أنا شاعر) انه لم يستهدف إلا تنوير الأذهان فحسب، ولهذا لم يكن عدد أصدقائه محدداً! ربما كانوا ثلاثة عشر صديقاً أو أربعة عشر لكنه كان يرحب ببقية الناس كأصدقاء سواء بسواء، فلم يكن رئيساً عليهم يستمدون منه الحكمة كما يستمد أعضاء الجسد من الرأس عصارة الحياة، ولم يفكر إن ينظم جماعة تكون له حرس شرف! بزي واحد وتدريب واحد، وشعار واحد، جماعة ذات روح واحدة تحمل اسمه إلى الأبد، بل كان لكل تلميذ من تلامذته هو نفسه أستاذا... وكثيرون منهم انشأوا مدارس خاصة ينشرون فيها تعاليمهم، كثيرون غيرهم كانوا قواداً عظاماً وساسة وإبطالا من كل حزب... ولم يدع لواحد منهم مبرراً إن يسأل، كيف... أليس هذا ابن (سفروفيسكس ) أنى له كل هذه الحكمة التي يتجرأ ويعلمنا إياها)... ولم يحاول قط إن يضايق أحدا أو أن يفاخر بما له من أهمية أو أن يستخدم عبارات رنانة غامضة من ذلك النوع الذي لا يؤثر إلا في الجهلاء والسذج( إمام عبد الفتاح إمام ). وهيگل في نقده الدين (الدوگماتي)لا يرى في المسيح إلها تأنس بقدر ما يرى فيه إنسانا تأله. وما الدين في نظره إلا "الإنسان المرتفع عن الحياة المتناهية إلى الحياة الامتناهية" (گارودي..كارل ماركس. ص 119، ت، طرابيشي)

وهيگل لا يتستر بتاتاً على أحد المصادر الرئيسية لفلسفته... وهو الدين المسيحي بنموذجه اللوثري.
"فبحسب هذا الدين وفي مبدئه، الله موجود في البدء ككائن روحي محض ثم قام بخلق العالم بما فيه الإنسان، ثم أخيرا أرسل ابنه إلى هذا العالم ككائن طبيعي في البدء لكي يجعله روحانياً ولافتداء المخلوق البشري الذي كان في غضون ذلك قد ضل عن خالقه. على هذا المخطط المعدل قليلا والمعلمن ظاهرياً يشيد النظام الهيگلي نفسه ف"الله" فيه يصبح "الفكرة المطلقة والكلية، إنما غير الواعية بذاتها في البداية". وعليه من الممكن دراسة الفكرة في نشاطها المحض، وهي حينذاك "كفكر الله قبل الخلق"إذا جاز القول، وهذا موضوع علم المنطق" ثم تأتي إمكانية متابعة النتائج المترتبة عن "القرار"الذي تأخذه الفكرة لتتحول إلى طبيعة "أي لتغدو ما هو أكثر خارجيا وغريبا عليها. وهي عند ذلك وبشكل ما:كالعالم بعد الخلق الإلهي"، وهذا موضوع "فلسفة الطبيعة" وأخيرا نستطيع تحليل تاريخ استعادة وإعادة استبطان هذا العالم الخارجي الطبيعي. فالمفهوم، المتجسد في الإنسان، يسترجع الطبيعة ويردها إلى الفكرة التي بفضل هذه الصيرورة تصبح موضوعاً وتتحقق كعقل، وعندئذ نحن بشأن المصير العقلي للعالم، وهذا موضوع "فلسفة الروح" (جاك دونت.هيگل والفلسفة الهيگلية، ترجمة، حسين هنداوي )

يمكن تحديد بداية ظهور "اليسار الهيگلي" بعد صدور كتاب دافيد شتراوس عام 1834، (حياة المسيح) إلى ظهور كتاب كارل ماركس (مساهمة في نقد فلسفة الحق الهيگلية) أو ما يعرف بمخطوطات 43و44، ورغم قصر تلك الفترة (عشر سنوات) سيطرت أطروحات (اليسار الهيگلي) على مجمل النشاطات الثقافية في تلك الفترة، في منطقة بروسيا ومنطقة الريناني.

كما سنتطرق إلى مفهوم هيگل عن الدولة وبصورة خاصة الدولة البروسية البروتستانتية، الذي فهم خطأ، بأن هيگل مجد الدولة الألمانية وأعتبرها نهاية المطاف والدولة الكاملة وأوقف حركة التاريخ. في حين أن موقف هيگل من الدولة( في لحظة وجودها دولة ﮔيوم الثالث) يقوم على أساس أنها تجسد روح الشعب ( الشعب الحيوي)، وتجسد روح البروتستانتية التي تعانق الحرية. والدولة لا توجد إلا بوجود القوانين واحترامها، فبدون احترام القوانين لا توجد دولة، ( كان هيگل يرى أن الدولة( وهي تجسيد للفكرة المطلقة) تنشى نظاماً عقلانياً في المجتمع وفي الحياة السياسية، وهي تحافظ على النظام. والمجتمع _في نظر هيگل_ تنبع أصوله من "الدولة" والدولة السياسية- في رأيه- هي أسمى من الناس الخاضعين لها)، وكان يعتبر شرفاً رفيعاً انتماء فرد وعيشة داخل دولة.
" أن الدولة الواقعية، المكونة تاريخياً، هي الدولة بكونها روح شعب ما. وهذا المفهوم لروح شعب ما (Volksgeist) هو مركزي في الفلسفة الهيگلية للتاريخ والذي بموجبه تأخذ الروح، تاريخياً، بصورة عبر الوجود التاريخي للشعوب التي تضفي عليها الروح بذلك الروح الخاصة بالشعوب وهي ليست الروح الذاتية لإفراد ولا الروح الشمولية كما تتم في مجموع العالم وتاريخه"
(جان بيار لوفيفر ،بيارماشيري، هيگل والمجتمع، ت، منصور القاضي)
" لا يمكن لحق الإرادة الفردية أن يجعل نفسه معترفاً به إلا بالخضوع إلى قضاء الروح الشمولية " (المصدر السابق) (مع العلم بأن هيگل صرح قبل ذلك أثناء تشتت ألمانيا إلى دويلات، بأن ألمانيا لست دولة) وأن الأسرة تؤلف الوحدة الأولى في تكوين الدولة. فالدولة البروسة في زمن هيگل تمثل تجسيداً لروح الشعب الألماني الذي اعتنق المسيحية بنموذجها اللوثري ذا الطابع التحرري، وهنا يكمن سر تأيد
( اليسار الهيگلي ) للدولة البروسية في ذلك الزمن. وهذا المفهوم للدولة ينطبق على كل الأنظمة السياسية التي تفتخر بنماذجها، وتعتبرها الأفضل حتى في هذا الزمن. وهيگل بمفهومه هذا حول الدولة لم يوقف حركة التاريخ كما تصور بعض الباحثين، لأنه تحدث عن دولة في لحظة محددة، لقد وجد هيڴل بالدولة البروسية الواقع المادي لمفهومه الفلسفي ، ولقد وجدت الدولة البروسية بالفكر الهيڴلي واقعها الفكري ، كما وجد ماركس بالطبقة العاملة سندة المادي ، وجدت الطبقة العاملة بالفكر الماركسي سندها النظري ، وهنا تكمن روعة الديالكتيك المادي، أو المثالي.
لقد عارض هيگل روسو بناءاً على مفهوم العقد الاجتماعي، الذي يخص بنظر هيگل (المجتمع المدني) وليس الدولة. حيث إن الدولة هي روح شعب، وليس تجميع مكونات مختلفة الأثينيات فأن مثل هذا التجمع لا يعبر عن دولة (روح شعب معين) بل أنه خليط من الأرواح، وبالتالي لا يمكن أن تنسجم الإرادات والمصالح ويفتقد مفهوم التضامن، حيث تسعى كل قومية إلى تأمين مصالحها، ولو على حساب الآخرين، ويؤدي ذلك إلى فشل مشروع الدولة الحقيقي وربما يؤدي إلى صراعات دموية.

سوف ننظر عن كثب درجة قرب (اليسار الهگيلي ) عن فكر فيخته حول مفهوم واجب الوجود، الذي يتلاءم بما سيطرحه( اليسار الهيگلي )، في موضوع فلسفة المستقبل –فلسفة العمل- التي جاهد (الهيگليون الشباب) للتبشير بها والعمل على تطويرها، والتي تتعارض جوهرياً مع المفهوم الفلسفي الهيگلي الذي اقتصر بدراسته للتاريخ باكتشاف القوانين التي تكشف الماضي والحاضر، دون الخوض في المستقبل، لان الفلسفة لايمكن أن تقفز فوق عصرها و لا يمكن للفيلسوف أن يتخطى زمانه. ويقودنا هذا المفهوم إلى تقييم المادية التاريخية، بصواب نظريتها حول مفهوم الصراع الطبقي في الماضي والحاضر، وصعوبة وخطأ حتمية ما يطرحه(الماركسيون الدگماتيون) للمستقبل، للوصول إلى الشيوعية مرورا بالاشتراكية.أن الموضوعة المركزية في المادية التاريخية هي :
:" إن البشر يصنعون تاريخهم الخاص ، ولكنهم لا يصنعونه على نحو تعسفي ، وفي شروط يختارونها بأنفسهم ، ولكن في شروط معطاة مباشرة وموروثة عن الماضي" ماركس ، "18 برومير لويس بونابرت " المنشورات الاجتماعية – ص 13.
"أن التاريخ الإنساني مختلف نوعياً عن التطور البيولوجي ، لكنه يمد فيه جذوره. فالإنسان، كالحيوان، له حاجات توحده مع الطبيعة وتفصله عنها في آن واحد. ولكن الإنسان، بخلاف الحيوان، يحول الطبيعة بواسطة العمل، بدلا من إن يكتفي بالتكيف معها." ( كارودي . كارل ماركس – ص 93)
ولقد نبها ماركس وأنجلس من خطر تطبيق مخطط ، أو هيكلية الصراع الطبقي بصورة حتمية ونهائية، فلقد كتب أنجلس بعد أربعين عاماً ، إن ذلك المخطط إنما " يثبت فقط كم كانت معارفنا في التاريخ الاقتصادي ناقصة" ويلحض ماركس أن "نمط الإنتاج الآسيوي" الذي هو أحد أشكال الانتقال من المجتمع الاطبقي إلى المجتمع الطبقي، يتميز بطابع مزدوج: فبالرغم من أن الملكية تظل مشاعية ، تتجلى فيه أشكال نوعية من استغلال الإنسان للإنسان ودولة مستبدة .
الشيوعية بالنسبة لماركس هي تخطي الضياع الإنساني عن طريق إلغاء الملكية الخاصة وبامكان ماركس أن يقول :
" الشيوعية هي الشكل الضروري ومبدأ الطاقة للمستقبل القريب ، ولكن الشيوعية ليست كشيوعية هدف النمو الإنساني – شكل المجتمع الإنساني " كارل ماركس ، مخطوطات 1844 ، دمشق 1970- ص 74.
أن هيگل، لكي يعطي التطور التاريخي طابع تطور منطقي (ديالكتيكي) يحصر صيرورة التاريخ الإنساني بصيرورة الروح(التي لاتنفك عن الواقع بالمفهوم الهيگلي). ولتحقيق ذلك يضع هيگل بمثابة مبدأ أساسي لتطور العالم فكرة الحرية متصورة في شكل تحرر تدريجي(أن تاريخ العالم يشكله التقدم في وعي الحرية)، الأمر الذي يتيح له أن يقيم نوعاً من التوازن بين عملية تطور تحرر الروح، وعملية تطور تحرر البشرية، التي تصل تدريجياً إلى وعي ذاتها لتحقيقها جوهرياً وهو الحرية.

" أن حركة التاريخ هذه هي حركة تحرر الماهية الروحية، وهي العمل الذي تتحقق به نهاية العالم المطلقة، والذي ترفع به الروح، التي لأتكون فيه موجودة في البدء إلا في ذاتها، إلى الوعي ثم إلى وعي ألذات، وتصبح بكشفها عن جوهره وتحقيقه لهذا الجوهر ولهذه الروح الملموسة، روح العالم.(الوعي بذاته، الوعي لذاته، وعي المطلق ) ونظرا لان هذا التطور يحدث في الزمن وفي العالم، وفي التاريخ بسبب ذلك، فأن مختلف لحظاته ودرجاته تتشكل بروح الشعوب الكبيرة التي كُتب على كل شعب منها بسبب طبيعته النوعية أن لا ينجز سوى جزء من هذا العمل الكلي"
. هيگل "فلسفة التاريخ"ج 7 ص.421 ( كورنو، كارل ماركس)

لقد جهد هيگل في كتابه"فلسفة الدين" لرد الأيمان إلى العقل، ورد الدين إلى الفلسفة مع تبرير الدين من وجهة نظر عقلانية، هذا الدين العقلي الذي كان يرى فيه تعبير عن المسيحية واتجاهها البروتستانتي وطابعها اللوثري التحرري.

ولابد من التطرق إلى موقف هيگل من الدين وعلاقة بالفلسفة، فلقد فهم وفسر خطأ موقف هيگل ذلك على أساس إن هيگل يماثل بين الدين الدوگماتيكي والفلسفة عندما قال:

لذا فالفلسفة والدين محتوى وهدف و اهتمام مشتركة... وعلى هذا الأساس، فالدين والفلسفة لا يشكلان سوى شيء واحد، إذ إن الفلسفة هي بحد ذاتها خدمة إلهية... لذا فالفلسفة متماثلة مع الدين، والفارق الوحيد هو أن الفلسفة تخدم الله بطريقة خاصة... وإنما يكمن الفارق بين الفلسفة والدين في طريقة خدمة الله".
« La philosophie et la religion ont un contenu ، un but et un Intérêt commun، la vérité éternelles considérait dans son objectivité، c’est-à-dire Dieu، Dieu Seul est son explication. En expliquant, la religion et en développant le contenu، la Philosophie s’explique elle-même، de même qu’en s’expliquant-quant، elle explique la religion….De ce fait la religion et la philosophie ne font qu’un، la philosophie étant elle-même un service divin. La philosophie aussi ainsi identique la religion، la seule différence est qu’elle sert Dieu d’une manière particulière.C’est dans leur manière particulière de servir Dieu que reside leur difference, »


أن هيگل يتحدث عن دين عقلي، هو البروتستانتيه، بنموذجها اللوثري أو بالضبط يتحدث عن
( روح البروتستانتية المجردة من كل عقيدة دينية والمجسدة في فكرة الحرية).
وليس عن البروتستانتية الدوگماتيكية. وهذا ما وضحه أنجلس عندما قال :
" ومما له دلالته أن البروتستانت تفوقوا الكاثوليك في قمع حرية دراسة الطبيعة. فقد احرق كلفين سرفيت عندما أوشك هذا الأخير أن يكشف الدورة الدموية، ناهيك بأنه اجبر على حرقه حيا طيلة ساعتين، أما محاكم التفتيش فقد اكتفت على الأقل بمجرد إحراق جوردانو برونو". (أنجلس، جدليات الطبيعة).
وهو لا يتحدث كذلك عن دين دوگماتيكي كاثوليكي، مشبع بالمعتقدات والطقوس و العبادات، كما تدعي الديانة المسيحية الكاثوليكية. لكن هيگل لا ينفي الوحي، وهو لديه وحي تصاعدي و وحي تنازلي. فالإنسان يستطيع عن طريق الوحي الوصول إلى معرفة الله، بدون الحاجة إلى واسطة تقوم بها (الكنيسة). وهو بهذا المفهوم ربط بين الدين العقلي والفلسفة ربطاً موثوقا حيث يمكن الحديث عن تماثل عقلي بين الاثنين أو تفسير الدين فلسفياً. وهو لا يكذب الأنبياء باعتبار الوحي الذي يتحدثون عنه له مصدر الهي، وهم توصلوا إلى هذه الدرجة من الوعي وأدراك حقيقة الله، باعتبارهم صنف من البشر يختلف عن الآخرين. وما حقيقة أصحاب النظريات الاجتماعية والسياسية( المنظرون أو الشعراء ) إلا أصحاب وحي من نوع خاص. ومع ذلك فأن هيگل لا ينكر الدين المتعارف علية لدي الجمهور، الدين الرمزي (دين السواد الأعظم ) لإشاعة الأخلاق، لكن يفرق بينه وبين الدين الفلسفي الذي هو من اختصاص الفلاسفة، أو ( الراسخون بالعلم). هذا الفهم العقلي ألتأملي للعلاقة بين الدين العقلي الذي يتحدث عنه هيگل، والفلسفة ينم عن إدراك عميق لقدرة وفعالية العقل لإدراك المطلق وهو الله أو الروح، التي تجلت تاريخيا في المظاهر المتعددة للفعاليات الإنسانية، بدرجات مختلفة من الوعي الفردي والجماعي.والروح الإنسانية التي تعبر عن نفسها عن طريق الدين بمختلف أشكاله وانواعة والفلسفة التأملية، إنما يلتقيان في النهاية ضمن هدف محدد هو خدمة الله، بأشكال مختلفة بواسطة تطوير محتوى الدين وتفسيره فلسفيا أي تفسيرا عقلياً. إن تطوير الدين الذي يتكلم عنه هيگل يعني هو ارتقاء العقل البشري من الدرجات السفلى إلى القمة عن طريق الفلسفة التأملية، " (هيگل، دروس حول فلسفة الدين" (جاك دونت).هذا المفهوم العقلي للدين لدي هيگل لم يفهم سابقاً ولا لاحقاً، حيث اعتبر هيگل مدافعاً عن الدين التقليدي كما جاء بالكتاب المقدس والمكمل بالطقوس الدينية المتعددة. كان هيگل يدافع عن دين عقلي، إي أن الإنسان (الحر والمالك لإرادة) يستطيع عن طريق العقل والتأمل بالوصول وأدراك حقيقة الله دون الاستعانة بواسطة مثل الكنيسة أو البابا.
" وقد أعلن عن عدائه للكثلكة بكثير من الشدة.وفي يوم من الأيام شاهد هيڴل امام كاتدرائية كولون Cologne معرضاً لبيع اقونات فخاطب كوزان (فيكتور) بغيظ قائلاً: ها هي عقيدتكم الكاثوليكية، وما تعرضه امامنا من مشاهد، أأموت قبل أن أرى انهيار ذلك كله؟" ( أندريه كريسون – أميل بريه . هيڴل)
هذه الحادثة تظهر جلياً بأن هيڴل كان ضد التشبه والتجسد، وهذا هو موقف البروتستانت عموماً، فلا تحتوي دور عبادتهم (الكنائس) عن أي صورة.
أن هيگل لم يماثل بين الفلسفة والدين الدوڴماتيكي ،ولكن بين الفلسفة والدين العقلي، وعليه فأن كافة الانتقادات التي وجهت إليه بهذا الصدد من قبل (اليسار أو اليمين الهيڴليين) ، هي اتهامات باطلة ، وتنم عن عدم فهم لفكر هيگل العقلي التأملي.
"يميز هيگل بين نوعين من الخطاب متوافقين مع مستويين في إدراك المطلق: مستوى التعريف أو التقديم (Vorstellung) المتاح لعامة الناس ومستوى الفهم Begriff)) الذي يعلو إليه الفلاسفة وحدهم.وهكذا فالفلاسفة كما يقول هيگل، يشكلون صنفاً من «الكليروس"، فيما يرفض الفيلسوف على وجه التحديد في ما يدعوه بالدين، تميز أية فئة اكليروس، موضوعة فوق عامة البشر، مابينهم وبين الله"( جاك دونت ، الهيگلية ... ت، حسين هنداوي).
لقد جهد هيگل في كتابه"فلسفة الدين" لرد الأيمان إلى العقل، ورد الدين إلى الفلسفة مع تبرير الدين من وجهة نظر عقلانية، هذا الدين العقلي الذي كان يرى فيه تعبير عن المسيحية واتجاهها البروتستانتي وطابعها اللوثري التحرري.
ولا ننسى إظهار التقارب بين هيگل والإسماعيلية والسهروردي المقتول، في موضوع الفهم والإدراك العقليين والتدرج في الفهم والوصول إلى المطلق. يمكن مقارنة هذا الفهم الفلسفي للدين لدي هيگل ومفهوم الإسماعيلية للدين فهم يقولون:
وما الدين الحقيقي في نظرهم إلا
" إن يتوصل الإنسان بالتمرين المستمر والترقي من درجة إلى درجة إلى معرفة منازل الكون التي قطعتها العوالم (المسكونة)بعد إن انفصلت عن الله". أي أن الفكر الواحد المطلق"(الغير المجسم) أو العقل الأول" أو النور الأعلى" المشع من نفسه في المنزلة الثانية العقل العام والنفس العلمية وهما اللذان يحدثان-بعد أن يتغيرا-العقول الإنسانية وعقول الأنبياء والأئمة وخيرة الناس ". آما سائر الناس فليس لهم عقول بل "أشباه العدم"إلا إذا انتقلوا إلى المنزلة الثانية بواسطة التنوير والتعليم"انظر الانسكلوبيديا الإسلامية. وعن التعليمية يراجع الشهرستاني والغزالي، بندلي جوزي، من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام.
تعرض هيگل بناءاً لما ذكر أعلاه (للفلسفة والدين محتوى وهدف واهتمام مشتركة) لهجمات من ألاهوتيين الاورثوذكس.ففي عام 1822 قام (هنريش1791-1861) أستاذ ألاهوت من وجهة نظر مسيحية ارثوذكية بنقدهيگل بكتابه(الدين من لله. علاقة بلله.) فقد أكد بأن الدين هو التعبير عن حقيقة أسمى من الحقيقة العقلانية، ذلك لان الدين يشكل التجلي الوحيد لله . أما شتراوس فقد ناهض عملية المماثلة بين الدين والفلسفة، مؤكداً على أنه لا يمكن رد المعتقدات الدينية إلى تصورات أو مفاهيم فلسفية دون إفساد عميق لطابع الدين ومحتواه. أعلن هيگل " أن القصص التوراتية يجب أن ينظر إليها بالطريقة ذاتها التي ينظر بها إلى القصص الدنيوية، ذلك أنه ليست هناك علاقة بين الأيمان ومعرفة الأمور الحقيقة والعامة". وكان هيگل يعتبر الأناجيل الأربعة أعمالا أدبية.التقط دافيد شتراوس «كلمة المعلم على هوانها وبنشاط واسع.فطالب بأن يخضع التاريخ ألتوراتي للنقد التاريخي المعتاد. ونفذ طلبه هذا في كتاب (حياة يسوع) الذي ظهر عام 1935 وأحدث ضجة بالغة. وفي هذا الكتاب التقط شتراوس خيوط حركة الاستنارة البرجوازية في القرن الثامن عشر، بينما كان هيگل قد تحدث عن(الاستنارة الزائفة) باحتقار بالغ. وقد مكنت شتراوس طريقته الجدلية من أن يخوض في المسألة ابعد مما فعل{ رايماروس}من قبله.ولم يعتبر شتراوس الدين المسيحي خدعة، كما لم يعتبر الحواريين مجموعة من الأوغاد، ولكنه فسر المكونات الخرافية لقصة الإنجيل بالمنتجات الواعية للمجتمعات المسيحية الأولى. واعتبر الكثير من (العهد الجديد) تقريرا تاريخياً بصدد حياة يسوع. كما اعتبر يسوع ذاته شخصية تاريخية، بينما افترض أساسا تاريخياً لكل الحوادث الأكثر أهمية التي يرد ذكرها في الكتاب المقدس(كورنو.كارل ماركس).
وبعكس هيگل، الذي يرى إمكانية إهمال الواقع التاريخي والقصص التوراتية والانجيلية والاحتفاظ بالمحتوى الرمزي فقط. عكس شتراوس الذي كان يعتبر إن هذه القصص تشكل جوهر الدين المسيحي ذاته، وكان يرى في الأناجيل لا رموزا فلسفة، بل أساطير كانت تعبر عن رغبات والمطامح العميقة للشعب اليهودي. ( كورنو عن روك، المؤلفات الكاملة)
أما الخلاف الأخر (المشكلة) بين هيگل و(اليسار الهيگلي) التي كانت تواجه الشباب (الهيگليين) هو تكييف الهيگلية مع الليبرالية، إي إزالة التناقض المتضمن في فلسفةهيگل بين التطور الديالكتيكي الذي يستلزم تقدماً متواصلاً وبين المذهب السياسي(المحافظ)، بفصل الطريقة الدياكتيكية عن المذهب ومدّ حركة الفكرة الديلكتيكية في المستقبل، هذه الحركة التي أوقفهاهيگل عند الحاضر كما تصوروا!!!.
أن هيگل في رغبته المزدوجة في تبرير الحاضر ومكافحة الدوغمائية والطوبائية قد قصر تطبيق الديالكتيك على تفسير الماضي والحاضر، وحظر على الفلسفة التأمل في المستقبل. وقد قال في مقدمته لكتاب "فلسفة الحقوق": " أن طائر مينرفا لا ينهض إلا عند هبوط الليل" وهو يقصد بذلك أن على الفلسفة إن تقتصر على فهم ماهو كائن، وعلى تسجيل عمل العقل كما يتجسد في التاريخ، وانه ليس على الفلسفة إن تستبق سير الفكرة بإخضاعها تطور التاريخ إلى مثل أعلى متخيل.
" نظراً لأن الفلسفة هي دراسة العقلاني فأن عليها أن تلتقط ما هو حاضر و حقيقي، وليس إن تطرح مثلا اعلي لا يدري سوى الله أين هو... أن مهمة الفيلسوف هي فهم ما هو كائن، إذ إن هذا هو الذي يشكل العقل. من العبث أيضا إن نتصور إن فلسفة ما تستطيع إن تتجاوز عصرها وان نعتقد إن شخصا ما يستطيع إن يقفز فوق زمنه... فإذا ما تجاوزت نظريته هذا الزمن وإذا ما بنى عالما كما ينبغي إن يكون، فهذا العالم يكون موجوداً حقاً، ولكن في فكر هذا الرجل، إي في عنصر مرن قابل للتغيير والتبديل بل قابل لجميع أهواء وتصورات الخيال" (هيگل:" فلسفة الحق ". المؤلفات الكاملة، شتوتغارت 1828 )
أن تجزئة الفكر الهيگلي من قبل (اليسار الهيگلي) إلى نوعين مختلفين (نظام رجعي وديالكتيك تقدمي) هو الذي أدى بهم إلى عدم فهم هيگل وبالتالي إلى اقتصار اقتباساتهم الهيگلية على الديلكتيك، وبالضبط الديالكتيك التقدمي، معتقدين انه نظراً لكون تطور الأفكار يحدد تطور الواقع، فأنه يكفي أن تستبعد من النظرية العناصر ألاعقلانية المدرجة في الواقع حتى يمكن إعطاء مسيرة التاريخ طابعاً عقلانياً. وكانوا يستخلصون من ذلك فلسفة جديدة، هي فلسفة العمل الثوري.
هذا التحول الثوري أو الفهم الجديد لديلكتيك هيگل وجد أول تعبير له في كتاب " مقدمات التاريخ" (1838) بقلم. فون سيازكوفسكي. وقد دعا إلى تبديل فلسفةهيگل التأملية بفلسفة (العمل) الثورية. كان يؤكد بعكس هيگل أن الفلسفة لا ينبغي لها أن تقتصر على استخلاص قوانين التاريخ من الماضي بل عليها أن تستند إلى هذه القوانين لأجل تطوير العالم.
ولقد جاء في كتابه:" أن تاريخ العالم، حسب تفكيرهيگل الأساسي، يعبر عن تطور الفكرة والروح. وحتى الآن لم يفعل التاريخ ذلك بصورة غير كاملة، ذلك لأنه لم يكن من عمل البشر الواعي ولا من إرادتهم العقلانية" ويقول " لكننا على عتبة مرحلة جديدة انفتحت مع هيگل حيث يحدد الإنسان مسيرة التاريخ العقلانية"
لقد كان فضل هيگل هو انه استخلص من الماضي قوانين التطور التاريخي، ولكن نقصه هو إلنظر الى النشاط البشري في شكل فكر وليس إرادة، كما انه قصر تطبيق هذه القوانين على تفسير الماضي.(الفكرة لدى هيڴل لا تنفك أبدا عن الواقع، وهي باتحادها مع الواقع تولد فكرة جديدة)
لا جل تحويل العالم يجب الاستناد إلى هذه القوانين، وأن تستخلص من الماضي والحاضر خطوط عامة للمستقبل لضبط النشاط البشري بصورة عقلانية، وضبط سير التاريخ على أساس ذلك. وكان أ. فون سيازكوفسكي يريد أن يحل محل الفلسفة الهيگلية عديمة التأثير على المصائر البشرية فلسفي للعمل، فلسفة للنشاط الإنساني، للبراكسيس ( وهنا يظهر لأول مرة هذا المفهوم الذي استعاده كارل ماركس فيما بعد) فلسفة من شأنها إن تتيح لإنسان توجيه مصيره.
" أن هيگل لم يذكر أبدا المستقبل في مؤلفاته، معتبراً إن الفلسفة لا يمكن أن تطبق إلا على دراسة الماضي وأن عليها أن تترك المستقبل كلياً خارج التأمل. أما نحن فنؤكد على العكس بأنه، بدون معرفة المستقبل بصفته لحظة من لحظات التاريخ تشكل تحقيق غايات الإنسان النهائية، لا يمكن التوصل إلى معرفة تاريخ العالم منظوراً إليه في كليته الروحية وفي تطوره العضوي العقلي.وعلى هذا الأساس فأن القول بإمكانية التوصل إلى معرفة المستقبل هو شيء لا غنى عنه إذا أريد إعطاء تطور التاريخ طابعاً عضوياً"
أن تصبح فلسفة عملية أو بتعبير أفضل فلسفة للنشاط العملي، ل :براكسيس: تمارس تأثيراً مباشراً على الحياة الاجتماعية ، وتطوير الحقيقة في مدان النشاط الحسي، ذلك هو الدور الذي سوف ينبغي أن تلعبه الفلسفة في المستقبل، ( نحن نقول بأن اضعف نقطة في فكر أي فيلسوف ، هي أن يحاول هذا الفيلسوف إقامة نظام فلسفي ، أو يدعي بأن نظامه الفلسفي نظاماً كاملاً)

سنظهر الخلاف بين هيگل واليسار الهيگلي في موضوعة الجدل (الديالكتيك)، الذي يصور هيگل على أساس ترابط العلاقة بين الواقع والفكرة، التي تنتج منها فكرة جديدة، لأكنها لا تنفك عن الواقع. أما ماركس فينظر إلى الجدل باعتباره العلاقة المتبادلة بين الواقع والفكرة، وهذه العلاقة هي علاقة تأثر وتأثير مستمرة. أما اليسار الهيگلي، فأنه ينظر إلى الديالكتيك على أساس الفكرة الجديدة التي تنتج من العلاقة بين الواقع والفكر، والتي يعول عليها في عملية تغير المجتمع (فلسفة الوعي الذاتي، أو فلسفة النقد). أما أنجلس فينظر إلى الجدل باعتباره حركة التغير والتناقض المستمرتين في الطبيعة والمجتمع.

" ومن المهم الإشارة إلى أن ماركس قد أنفصل عن سائر الشباب الهيڴليين، في نقطة رئيسية من البدء، وكان بذلك أميناً لفكر هيڴل الأساسي. والواقع إن ماركس إذا كان يشاركهم إيمانهم في ضرورة تحديد سير التاريخ بواسطة الفلسفة الأنتقادية، بغية إعطائها طابعاً ومحتوى عقليين، إلا أنه كان يرفض منذ ذلك الحين أن يفصل الفكرة عن الواقع والتفكير عن الوجود، والوعي عن الماهية، وكان ينبذ تصورهم ألمفهومي حول القدرة المطلقة للروح في تحويل العالم وفق مشيئتها" « كان هذا التناقض في الرأي يتمثل في أن ماركس، بعكس الشباب الهيڴلي الذين لم يكونوا يتوصلون، في جهدهم للتوجه نحو العمل، إلى تحقيق وحدة حقيقية بين النظرية والنشاط العملي، فاكتفوا على هذا الأساس بانتقاد نظري بحت، كان يريد، مدفوعاً بمشاعره لا اللبريالية فحسب، بل الديمقراطية العميقة، أن يعمل ويناضل حقاً وصدقاً، ويؤثر بصورة فعالة على العالم بغية تطويره، مما كان من شأنه أن يدفعه إلى تغيير طابع الفلسفة الانتقادية تغيراً عميقاً، هذه الفلسفة التي كانت تتخذ كأساس لنشاط اليسار الهيڴلي" ( كورنو. كارل ماركس)

سنعالج لاحقاً الخلافات بين هيكل وكل من فيورباخ وماركس حول موضوع الاغتراب، فالاغتراب لدي هيكل هو تموضع الروح في الطبيعة أو أن الطبيعة عبارة عن اغتراب الروح، أما الاغتراب لدي فيورباخ فأن يقتصر على اغتراب الفرد المسيحي الكاثوليكي في النظام الرأسمالي الأوربي.

" إن الإنسان إذ لا يجد رضي وراحة في الطبيعة ، يروح يبحث خارجها ،خارج الواقع الحسي ،عن واقع مافوق الطبيعي ... ومن جهة أخرى فأن الإنسان إذ يستلب (يُفرغ) في الله واقعه بالذات وجوهره الذي يصبح غريباً عنه ، إنما ينفصل عن النوع ويدخل في تعارض معه ,,, هذا الاستلاب للجوهر الإنساني وهذا القلب للعلاقات بين الله والإنسان ، الذي يتحول من ذات نشطة فاعلة إلى شيء أو موضوع منفصل ، تكن نتيجتها تصغير وتحقير الإنسان ، هذا الإنسان الذي حُرم من مزاياه الأساسية.. إن الإنسان إذ يُفصل عن الجنس البشري، الذي لم يبق له سوى وجود وهمي وبسبب تجسده في الله، إنما يعزل نفسه عن الجماعة البشرية فيصبح فرداً معزولا وأنانياً. ... إن عيب الدين الأساسي، والمسيحية بخاصة، هو انه يفصل على هذا النحو الإنسان عن الجنس البشري، كما أن تأليهه لهذا الفصل يحوله إلى انفصال أبلدي ومطلق...ولكي يعاد الإنسان إلى كينونته الحقيقية ، وهي الكينونة الجماعية ، ولكي يتاح للإنسان أن يعيش الحياة المطابقة لطبيعته الحقيقية ، التي هي حياة النوع البشري ، يجب تدمير الوهم الديني وأن تعاد إلى الإنسان الصفات والمزايا المستلبة منه في الله واحلال حب البشرية محل حب الله" (أنظر، لودفغ فيورباخ ، جوهر المسيحية) :وكورنو، مصدر سابق ص 253-254 . إما الاغتراب الماركسي فهو بصورة عامة اغتراب الفرد بالبضاعة، عن طريق العمل المأجور ، فالإنسان يُستلب بالعمل المأجور ، لأنه يجبر على الاستمرار بعمل يُكره علية ، ولايجد لذة فيه ، وناتج هذا العمل الإجباري ، هو بضاعة بعيدة عن مناله، ولايستطيع الأحتفاض بها باعتبارها نتيجة جهده الخاص ، بل أنها وللحضة التي يٌكمل بها شكلها ومحتواها ، تعود إلى شخص أخر وهو الرأسمالي . من أجل الخروج من هذه المعادلة الغير عادلة يجب حسب ماركس القضاء على الملكية الخاصة، ويصبح العمل ملك للفرد وللجماعة.
أن الاغتراب الديني ولد مع ولادة الديني الروحي، والدين الروحي الذي يقف بالضد من الدين الحسي ولد من فشل الإنسان من إقامة مملكة الأرض فعوض عنا بمملكة السماء ، ويمكن إن نرد بداية الدين الروحي من تبني اليهود ديانة الواحد (يهوه ) اله اليهود الوطني ، فبعد إن اخفق اليهود بتكوين وإدامة مملكة يهودا في فلسطين نتيجة الغزوات الآشورية أو البابلية أو المصرية ، توصلوا إلى مفهوم جديد للدين الروحي يعتمد على فكرة الله الواحد الخاص( بالشعب اليهودي )، وبهذه الصفة لايمكن إن نعتبر الدين اليهودي دين توحيد ، لأنه وبكل بساطة دين مجموعة معينة( الشعب اليهودي) . نتيجة لذلك تم تزيف كافة الآلهة الآخرين وإجبار أتباع هذه الديانة الجديدة بإتباع عقائد صارمة، ودليل على رفضهم الديانات الأخرى موقفهم من المسيح والديانة المسيحية وكذلك موقفهم الرافض لنبوة محمد صلى الله علية وسلم. يعتبر الدين الإسلامي الدين الوحيد الذي تنطبق علية صفة التوحيد ، لأنه قام بتوحيد القبائل العربية لعبادة رب واحد هو الله ، عكس الديانة اليهودية التي تقر بأن الرب هو اله اليهود وحدهم ، أما المسيحية فتقر بأن المسيح هو ابن الله وكلمته ، وهذا ما نفاه القران الكريم بسورة الإخلاص .
بسم الله الرحمن الرحيم (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد )
وكرد فعل ضد الديانات الحسية المترفة ، فلقد تم تحقير المادة، والحذر من التمتع بنعم الحياة( إذا فرحوا جنوا، كما يقول العهد القديم) وهذا إشارة إلى حياة الترف الذي كانت تعيشه الإمبراطورية الآشورية والبابلية الحديثة ، وردت الطبيعة إلى كونها مادة حقيرة ، عكس ما كانت لها من قدسية، وتم توجيه الأنظار إلى قدسية مملكة السما ء ، مملكة الروح والنقاء ، وهذا بدوره يظهر فشل وهروب من الواقع الغير نتحقق إلى واقع غير منظور و متخيل. أن إنسان الدين الحسي لم يكن يشعر بالاغتراب مع ألهه الحسي ، فهو وذلك الإله يشكلون وحدة منسجمة ، فالإنسان الذي أتخذ من الشمس إلها كان يجد في ذلك الإله المنافع المحققة للتو مثل الضوء والحرارة الضرورية لنضج مزروعاته ، وكذلك لتحقيق مفاهيم فكرية مختلفة مثل أن الشمس تكشف كل شيء ، فهي التي تكشف سوراق المواشي .
تدرج الإشارة بأننا بصدد إتمام دراسة تتناول تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة حول فكر العراق القديم ، مثل الأستبداد الشرقي ، حيث لم نعثر على أي وثيقة تثبت وجود معارضة شعبية للنظام الملكي، ولا توجد سجون لمعارضين سياسيين، بل أن الشعب السومري أو البابلي أو الآشوري كان يعتبر الطاعة للملك من الواجبات الدينية والمدنية ، وكان الملك والشعب يمثلون وحدة متماسكة ، وكذلك (اعتبار الثور المجنح ذو الخمسة قوائم) يمثل عملا فنياً كإبداع جديد بالفن الآشوري يعتمد على قدرة النحات بإظهار موهبة الفنية المتعددة الأبعاد ، بل أن هذا الصرح الكبير يمثل مفهوما دينياً سياسيًا هو رمز للأله أشور، وأن الضخامة جاءت من خشية الآشوريين من أن يقع ألههم أسيرا بيد الأعداد ، حيث كانت عادة آسر الآلهة معروفة وشائعة ، وأن القوائم الخمسة تمثل المدن المهمة التي تقف عليها الإمبراطورية الآشورية ، فبالإضافة إلى أربع مدن آشورية العواصم (لبلاد أشور أربع عواصم: أشور وهي الأقدم ونينوى وهي أخرها وأكبرها وخورسابد ونمرود- كالح القديمة- وهي أشهرها ) ( المصدر، نيكولا بوستغيت، حضارة العراق وآثاره، ت سمير عبد الرحيم الجلبي ) أضيفت بابل كمدينة مهمة لما لها من تاريخ حضاري وديني ، ولغاية سياسية هي محاولة لكسب رضا البابليين ومصالحتهم بعد كل الذي جرى لهم من تدمير لمدينتهم بابل وبصورة خاصة على يد سنحاريب أضيف القائم الخامس إشارة إلى مكانة بابل لدى ملوك آشور ، وكذلك لما ترمز إليه بداخل الإمبراطورية الآشورية . عندما قرر اسرحدون ان يتولى آشوربانيبال الخلافة من بعده وهو الآبن الأصغر ، كان هذا الأختيار موفقاً لما تمتع به آشور بانيبال من خصال قلما وجدت في السابق أو تكررت لاحقا، من الجدير بالذكر بأن أشوربانيبال هو الذي أشرف على وضع (قصيدة الخلق البابلية، النسخة الآشورية أي النسخة المعتمدة عالميا، كما إننا نؤكد في هذه العجالة بأن جورج سميث الذي اعتقد عام 1868 ، بأنه عثر على أوجة التشابه الكثيرة بين قصة الخلق البابلية وما جاء بالعهد القديم في سفر التكوين كان خطأ من عدة أوجه كثيرة منها بأن العهد القديم يؤكد بأن خلق العالم تم بإرادة الخالق الأوحد ، في حين أن قصة الخليقة البابلية تؤكد على ثنائية فعل الخلق. من جهة أخرى يؤكد العهد القديم على أن الخلق تم خلال ستة أيام ، في حين تؤكد قصة الخلق البابلية على أن خلق العالم أستغرق وقتاً كبيراً...الخ سنشرح هذه الأمور لاحقاً ) . تخطى سنحاريب بهذا الأختيار الأبن البكر شمش –شوم- اوكن ،لكن عينه ملكاً على بابل وبنفس اليوم.
إما الاغتراب العملي ، فهو اغتراب الفرد بالعمل المأجور ، وعكس ذلك لم يكن الإنسان في ظل الدين الحسي يخضع للاغتراب ، لأن ما كان ينتجة يلبي حاجاته المباشرة له ولعائلة وإفراد مجموعته ( هذا لاينطبق على عمل العبيد في تلك العصور ، لأن عملهم كان من باب الإجبار – الصخرة ) .
أن تشكيل الأحزاب أو الحركات التي تدافع عن الطبيعة(Ėcologistes) بالوقت الحاضر ، وبصورة خاصة في أوربا ، ماهي إلا عودة لاحترام الطبيعية،وإعادة الاعتبار لها ، لكن ليس بشكل دين ، بل بشكل دعوة تقول بأن الطبيعة والإنسان لهما مستقبل واحد وأنهما متحدين ، وبدون الحفاظ على جوهر الطبيعة ، فأن الإنسان هالك على المدى البعيد .

الخلاصة بأن ما عرف بصورة عامة وغامضة ومتناقضة بعض الشيء( باليسار الهيڴلي) ، بأنهم مجموعة من المثقفين الليبراليين المتنورين والذين لم يزد عددهم عن ثلاثة مائة سبارتاك مشترك في( حوليات هال) .

[email protected]



"اليسار الهيگلي " لا يسارا ولاهيگلياً


الدكتور شاكر الساعدي أكاديمي عراقي فلسفة

المقدمة
تهدف هذه الدراسة إلى تصحيح خطأ شائع استمر طويلا باعتبار تجمع (نادي الدكاترة في برلين) "الشباب الهيگلي" في بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ( شتراوس، باور، روك، سيازفسكي، كوبن، فيورباخ، ماركس، أنجلس، موسى هيس وأخرين.) بأنهم من إتباع الاتجاه اليساري في ذلك الوقت، ومن ورثة وأنصار الفكر الهيگلي، الذي انتشر حينئذ بعد تسنم هيگل كرسي الفلسفة عام 1818 في برلين، الذي ظل شاغرا بعد وفاة (فيخته).كما أنها ستلقي الضوء، وتصحح بعض المفاهيم الخاطئة حول الفكر الهيگلي، باعتباره يمثل نوعين من المفاهيم (اليمين واليسار)، أحداهما خارجية وهي رجعية تبريرية (النظام الفلسفي )، والأخرى داخلية وهي تقدمية، على ضوء المنهج الديالكتيكي، (لكنه مقلوب )، الذي صور خطأ وهو يسير على رأسه بدلا من قدميه. والحقيقة بان الديالتيك الهيگلي له قاعدته المثالية المنسجمة مع الفلسفة التأملية الهيگلية، وهو يسير على رجليه.
"الفلسفة التأملية هي وعي الفكرة، وهي وعي إلى درجة أن كل شي يفهم كفكرة"
" أن موضوع العمل الفلسفي لا يمكنه أن يكون إلا الفكرة " " فالنظام الهيگلي ينطلق من الفكرة ويعود إلى الفكرة، دون الكف أبدا عن المرابطة في الفكرة" هذه الفكرة لدى هيگل تبقى مرتبطة بالواقع، وعلية ففلسفة هيگل هي فلسفة تأملية موضوعية، فديالكتيك هيگل يقول ( الكل يتفسخ). "
وهيگل كان يعي جيداً الأسباب الحقيقية التي تقف وراء صعوبة وغموض بعض أعماله. ففي 1812 كتب إلى أحد تلاميذه بصدد كتابه (المنطق).
" يؤسفني أن يشتكي من صعوبة العرض. ذلك لأن طبيعة هذه المسائل المجردة ذاتها تجعل من غير المستطاع عند تناولها الكتابة بذات السهولة الممكنة في كتاب عادي. فالفلسفة التأملية الحقة لا تستطيع أن ترتدي رداء جان لوك أو الفلسفة الفرنسية العادية. وبالنسبة للمبتدئين ينبغي أن تظهر من جهة محتواها أشبه بعالم مقلوب كما لو أنها في تناقض مع كافة المفاهيم التي اعتادوا عليها ومع ما يبدو لهم موافقاً وما نسميه بالمعنى المقبول " ( هيگل، المراسلات, عن، دونت، هيگل والهيگلية. ت . ح. هنداوي)
( لقد طور ماركس وانجلس فلسفة مختلفة جداً عن فلسفة هيگل. لكنهما لم يعتقدا بأنهما أقاماها انطلاقاً من لا شيء إجمالا. وهما يجعلانها في تعارض مع الهيگلية بالنسبة لعدد من الجوانب، لكنهما لا يترددان بالمقابل أخذ ما يعتبرانه أفكاراً أساسية فيها. فالمنهج الديالكتيكي بالنسبة لهما ينطبق على قاعدة فلسفية مادية مثلما ينطبق على قاعدة فلسفية معاكسة أي المثالية " ( المصدر السابق ). وماركس يحدد بوضوح الاختلاف أو التعارض بقوله.
" منهجي في التطور ليس المنهج الهيگلي. لأنني مادي وهو مثالي. فالديالكتيك الهيگلي هو الشكل الأساسي لكل ديالكتيك، لكن فقط بعد تجريده من طابعه الصوفي، ( لم يكن هيگل صوفياً، الدليل على ذلك، نقده الموجه إلى الرواقية والأبيقورية اللتان أكدتا على ضرورة الانعزال عن الواقع للحصول على اللذة )، وهذا على وجه الدقة ما يميز منهجي " وهكذا فالتمايز والتعديل لا يعنيان الإلغاء. ( مصدر سابق ).
وماركس عاش في عصر غير عصر هيگل. وأعطى لهذا الأخير دور فيلسوف البرجوازية، بينما كان هو يتطلع، في عالم اقتصادي واجتماعي آخر إلى أن يكون فيلسوف البروليتاريا التي لم تكن قد عبرت عن نفسها بعد بصورة مستقلة، عندما كان هيگل يتابع الحياة الاقتصادية والاجتماعية " ( المصدر السابق). (هذا لا يعني رجاحة النقد الموجه إلى جدل الطبيعة "خرافة الجدل في الطبيعة" والاقتصار على جدل الإنسان كما تصوره لوكاش بأن الماركسية احتفظت بما هو حق في الهيگلية ورفضت المفاهيم التي تعارضها، وهو يحتفظ بمقولة (الشمول العيني) و( الحقيقي هو الكل)، وهذا التصور لا يستقيم إلا في جدل التاريخ وحده، لكنه ينسى بأن ماركس كان اقرب (اليساريين الهيگلين) إلى هيگل، لكنه لم يكن هيگلياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأنه يعتبر الصيرورة التاريخية هي عبارة عن علاقة متبادلة ومترابطة بين الواقع والفكر. أن هيگل الذي شجب الدوغمائية والطوبائية، قد جهد باستمرار للاحتفاظ بوحدة وثيقة بيت الفكر والوجود، بين الروح والعالم بربطهما ربطاً لا فكاك فيه (كورنو) أما سارتر فيؤكد "بان الجدل الماركسي للطبيعة اختراع طبيعة بلا إنسان، أما كوجيف فيقول، "لا يمكن أن يكون ثمة جدل بدون إنسان وبغير أنشطة الإنسان" (جدل الإنسان أو الفكر)، أو عقل يجُدّل مبادئه Dialectiser كما يلاحظ جاستون باشلار وهذا خطأ ( إلا إذا كان يقصد، أن يتبع العقل الطريقة الديالكتيكية كمنهج) لأن العقل لا يمكن أن يجُدّل مبادئه، لأن الجدل موجود خارج العقل، لأنه قانون، مثل قانون الجاذبية. وعلى العقل أن يكتشفه، وهم بذلك ينفون أن يكون الإنسان جزء من الطبيعة.
" كان مفهوم هيگل للتطور الجدلي للتاريخ يستلزم، في الواقع، صيرورة لا انقطاع فيها، وتغيراً مستمراً لا يمكن أن يعيّن له شكل معين بمثابة حد أو نهاية. إن كل واقع ذي صفة اقتصادية وسياسية واجتماعية أو حقوقية ينزع في الحقيقة، على أساس التقدم الديالكتيكي، إلى فقدان ما يتلبس به من طابع الضرورة التاريخية والمنطقية معاً في لحظة معينة، وهو يصبح غير عقلاني بسبب هذا الواقع، ويجب أن يفسح المجال، عوضاً عنه، لواقع جديد محكوم عليه أن يتلاشى يوماً ما. والحال، فبعكس هذا التصور ألمفهومي الجدلي، فان هيگل، الذي كان يميل أكثر فلأكثر نحو النزعة (المحافظة )، كان محمولا على أن يمنح مؤسسات زمنه، وبخاصة الدين المسيحي والدولة البروسية، قيمة مطلقة ويوقف بذلك عندهما سير التاريخ "( أنجلس، فيورباخ ونهاية). الحقيقة بأن أنجلس يتجنى على هيگل في موضوعي القيمة المطلقة للدين المسيحي والدولة البروسية، لأنه لم يرد في مؤلفات هيگل ما يثبت ذلك، يضاف إلى ذلك بأن هيگل فيلسوف ديالكتيكي فلا يمكن أن يضفي أي قيمة مطلقة لأي واقع ويوقف سير التاريخ!!!!!
كما سنصحح المفهوم الخاطئ حول مقولة هيگل الشهيرة التي نقلت بصيغة خاطئة، حيث وردت كالتالي: بمقالة أنجلس ( فيور باخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية)
( كل ما هو واقع هو معقول، وكل ماهر معقول هو واقع )
”Tout Ce qui est réel est rationnel et tout ce qui rationnel est réel” ، وهذه الصيغة الخاطئة تذهب عكس ما ذهب إليه هيگل، وهي تتعارض مع فكر هيگل الذي قال:
Ce qui est rationnel est réel ; et ce qui est réel est rationnel »
« (ماهو عقلاني، فهو واقعي، وما هو واقعي، فهو عقلاني)
(Was vernünftig ist،das IST wirklich، und was wirklich ist، das IST vernünftig
إني استغرب اشد الأسنغراب، بأن يقع أنجلس بهذا الخطأ الفادح. الظاهر بأنه لم يطلع على مقولة هيگل بصورة مباشرة, لكن عن طريق النقل الشفهي، أو الاقتباس من مصدر غير دقيق. مع ذلك فأن أنجلس في سياق الشرح ذهب إلى ما ذهب إليه هيگل حول الترابط بين الواقع والضرورة.
وهيگل يربط الواقع بالضرورة، ولكن الضروري في لحظة معينة يصبح غير ضروري، وعليه أن يفسح المجال لواقع ضروري جديد.
لقد استقبل هيگل الثورة الفرنسية بترحاب عميق 1789، يوم كان تلميذ بمهد ألاهوت، وكان عمره تسعة عشر عاما, وغرس مع صديقه شيلنج شجرة الحرية في أطراف مدينة توبنگن احتفاً بتلك الثورة، وكان يعتبر الثورة الفرنسية بأنها وليد الفلسفة وأول محاولة لإقامة دولة قائمة على العقل.
" لم يحدث قط أن رأينا الإنسان... يؤسس نفسه على الفكرة ويبني الواقع تبعاً لها... كان أذن شروقاً رائعاً للشمس " (هيگل: دروس في تاريخ الفلسفة". وذهب أكثر من ذلك عندما برر الإرهاب الروبسبيري، باعتباره محاولة لإعادة النظام إلى الدولة الفتية. كان هيگل معجباً بنابليون ولقد حياة عندما دخل "أينا" وسحق الجيش البروسي، ومقولة المشهورة، في خريف 1807 ( رسالة إلى صديقه نيتماير).
" لقد رأيت الإمبراطور روح العالم، على صهوة جواده، يرنو في الأفق ويهيمن على العالم".
( الحقيقة بأن هيگل، لم يصف نابليون بروح العالم ، Geist التي تقابل Esprit بالفرنسية، بل قال أنه Seele التي تقابل بالفرنسية âme, souffle التي تعني بالعربية نفس أو نسمة، لأن مفهوم الروح بالنسبة إلى هيگل مفهوم فلسفي يعني ( المطلق، الفكرة، الله، العقل ). وهذا لاينطبق على نابليون أوعلى أي شخص آخر.
لقد تعاون هيگل مع الاحتلال الفرنسي لبلده، وقام بتحرير صحيفة (بامبرج Gazette de Bamberg ) بالاتفاق التام مع الإدارة الفرنسية، وهو بهذا الموقف ينظر إلى نابليون باعتباره ضرورة واقعية، ويمثل بنفس الوقت شكل من إشكال تموضع (الروح التاريخي). لكن بمرور الزمن غير هيگل موقفه من الجمهورية الفرنسية ومن نابليون بناءاً على استمرار الإرهاب الغير ضروري، واعتبر ما قامت به فرنسا في ألمانيا هو( طغيان أجنبي بربري) ولم يعد ضروري.( خطاب هيگل عندما تسنم مركزه كأستاذ لقسم الفلسفة جامعة برلين خريف 1818. يرى بعض الباحثين بأن هذا الموقف لا ينم عن انتهازية، بل هو من صلب النظام الهيگلي. لايمكن مقارنة الأمس باليوم .
لا تهدف هذه الدراسة( الأكاديمية البحتة التي هي جزء من أطروحة ) إلى أي مقارنة (سياسية- فلسفية) بين الماضي والحاضر.. أي مقارنة فلسفة وعي ألذات، وفلسفة النقد الديني لجماعة "اليسار الهيگلي" التي كانت تهدف عن طريق النقد إلى عقلنة الواقع بإزالة العناصر اللاعقلانية عن الفلسفة، وبصورة خاصة فلسفة النقد، وفلسفة النقد الديني بصورة اشمل واعم.. المقارنة غير موضوعية بين أفكار واتجاهات تعود إلى ما يقارب قرنيين من الزمن، فكل عصر له فلسفة الخاصة واهتماماته الموسومة والمحددة بطابع الإنتاج البشري وعلاقاته الاجتماعية. علاوة على ذلك فان (اليسار الهيگلي) لم يكن منسجما بأغلب أطروحاته الفلسفية وتوجهاته (السياسية) اللاحقة، وظهرت خلافات عميقة بين (أعضائه) أدت إلى قطيعة واتهامات متعددة –سنشرحها لاحقا-
ومن ضمنها ما قاله روگ (روغه أو روج) اتجاه ماركس.
" كان يغلي غضباً على ماركس الذي أشار إليه بأنه (رجل حقير تماماً) و"يهودياً وقح".كما أن أحدا لاينكر إن روگ عمد بعد ذلك بسنوات إلى إرسال استرحام توبة إلى وزير الداخلية البروسي يخون فيها رفاقه في المنفى في باريس ويحمل هؤلاء (الشباب) مسؤولية الخطايا التي اقترفها في صحيفة (فورواتز)"
(فرانس مهرينج، كارل ماركس).
بعكس كارل ماركس وزوجته جيني، الذي كان أخوها غير الشقيق وزير داخلية لمقاطعة غرب ألمانيا ، فأنهنا لم يطلبا منه أي مساعدة، رغم الفقر المدقع الذي عاشاه مع أطفالهم في لندن، وفقدا اثنين 1852-1855 منهم نتيجة سوء التغذية والعناية الصحية.ومن المعروف فأن خلافاً قويا ظهر بين ماركس وروگ ادا بينهما إلى قطيعة كاملة وهو دفاع ماركس حول ضرورة بناء الحزب الشيوعي الذي اعتبره روگ نوعا من الديڴماوية التي تشبه إلى حد كبير ديڴماوية الأديان.
كان شتراوس ابعد الهيگليين للعمل بالسياسة، وكذلك روڴ بعد إطلاق سراحه، أهتم بالآداب والثقافة بصورة عامة بعيدا عن النشاط السياسي، لاسيما وان زيجة موفقة ساعدته على العمل بجامعة (هال)، وكان يعتبر نفسه تاجر أفكار بالجملة. ( أدت به زيجة موفقة إلى أن يصبح محاضرا في جامعة هال.فعاش حياة مريحة رغم مصائبه السابقة(قضى ست سنوات بالسجن)وسمح له ذلك أن يعلن أن نظام الدولة البروسية حر وعادل. وكان بالفعل يود أن يجعل من شخصه مصداقاً لقول الموظفين البروسيين الكبار من أن أحداً لا يستطيع النجاح أكثر من ديماغوغي مرتد) (كورنو)
والحقيقة إن صحيفة (حوليات هال) لم تكن في البدء ذات طابع سياسي وكانت تعني فقط بالفن والآداب، ويحث السلطات الرسمية على منحه مركزا مهما جزاء خدماته التي يقدمها باعتباره مدافعا عن الدولة البروسية.
(كان روگ يعتقد حينئذ أن ثمة توافقا بين فكرة الحرية ومبادئ "الإصلاح الديني"، ومباديْ الدولة البروسية) وكذلك (إن روگ بدعمه الحكومة البروسية ضد الكنيسة الكاثوليكية كان يأمل كسب تلك الحكومة إلى حد ما على الأقل إلى جانب النضال الذي كان يخوضه ضد الرجعية السياسية) ( كورنو، أوكست. ماركس وانجلس ).


قبل البدء بمعالجة موضوعنا، لابد من الإشارة إلى مراحل تكوين ماعرف لاحقا(المدرسة الهيگلية)، وهو خطأ تاريخي آخر، لان هيگل لم يسعى مطلقا إلى إنشاء مدرسة وتكوين إتباع، ولم يعرف عنه نقاش أو حوار خارج قاعات الجامعة. ولم يعرف كذلك بأن إتباع هيگل بصورة عامة شكلوا هيكلاً يعرفون به أنفسهم، عدا بعض الحوليات والمجلات التي تحتوي على مقالات تفسر هيگل على هواها وبما ينسجم مع توجهاتها (اليمينية أو اليسارية) وهو خطأ آخر، ارتكب بحق ذلك الرجل، لأن هيگل لم يتبنى في يوم من الأيام أي شكل من الأشكال السياسية، لأنه وببساطة كان فيلسوف الواقع، وكان يردد دائما بان مهمة الفيلسوف هو محاولة فهم وإدراك الواقع وليس وضع نماذج للمستقبل.

يمكن أن نطلق على تلك الفترة الأولى:

--- فترة الحماس الهيگلي، حيث شمل من يؤمنون بالفكر الهيگلي، عدة اتجاهات مختلفة ومتناقضة، ستفجرها التحولات الاجتماعية الألمانية المتلاحقة (الثورات العمالية).

" انتشرت الهيگلية في هذه الفترة حتى أوشكت إن تصبح العقيدة الرسمية للدولة البروتستانتية، وبعد إن كان عدد طلابه محدودا ًتوافد عليه المئات من الطلاب من جميع أنحاء البلاد.بل أصبح الأيمان بالهيگلية من الوسائل التي تمكن الفرد من الحصول على الوظائف الحكومية ومن الترقي في هذه الوظائف، حتى إن أستاذا لعلم النفس التجريبي فصل من الجامعة لأنه هاجم الجانب المثالي في الفلسفة الهيگلية. وبتداءاً من عام 1823 بدا الأساتذة في تدريسها وبدأت تتكون العصبة الأولى من الهيگليين المتحمسين، ومن تلامذته المشهورين في هذه الفترة (غانس-مانسز) و(ماهرنيكه) و باور... ولقد جرت عليه هذه الشهرة الكثير من العداء خاصة وان بعض تلاميذه اندفع في حماس إلى الزعم بأن (كل من ليس هيگلياً فهو أحمق) ومن هنا وقعت العداوة بينه وبين بقية الفلاسفة في عصره. فبعد إن كانت العلاقة قوية بينه وبين(شليرماخير)رئيس الأكاديمية في برلين، فترت ثم انقلبت إلى عداء وهجوم صريح"

--- فترة التكوين أو العصر الذهبي للشباب الهيگلي و ( لليسار الهيگلي)، بدأ بظهور كتاب شتراوس (حياة المسيح) إلى وفاة گيوم الثالث1840.

--- فترة الراديكالية السياسية مع بداية حكم گيوم الرابع.

رغم إطلاق صفة اليسار بالمفهوم السياسي على (اليسار الهيگلي) فان اهتمامات تلك المجموعة بالسياسة خلال فترة حكم گيوم الثالث كانت متراجعة إلى الخلف. كان الاهتمام الأهم هو (فلسفة النقد الديني) أو الدين المسيحي الكاثوليكي وكنيسة البابا في روما مقابل البروتستانتية واتجاهها اللوثري أو بما يعرف بالإصلاح الديني.
كان لذلك التراجع ظروف موضوعية فرضتها سياسة فردريك گيوم الثالث بعد دحر حملة نابليون 1814 وسيطرة (الحلف المقدس) 1815، وعودة الملكية في عموم أوربا، فتم قمع الحركات السياسية التي شاركت في دحر الاحتلال الفرنسي. لقد أدت حملة ملاحقة (الديماغوغيين) إلى اعتقال كثير من الذين شاركوا في حرب التحرير والى تشريد قسم منهم خارج ألمانيا واعتقال وسجن البعض الأخر، تكللت تلك الحملة بمنع إصدارات (ألمانيا الفتاة) التي كانت تعبر عن روح التحرر من السيطرة الأجنبية والاضطهاد القومي.
كانت السياسة كما يقول انجلس أرض شائكة.
(وحوالي نهاية الثلاثينيات، كان الانقسام في المدرسة الهيگلية يغدو ظاهريا أكثر فأكثر. فالجناح اليساري، أي أولئك الذين يسمون "اليسار الهيگلي، تخلى، في نضاله ضد التزمت التقوى والرجعية القطاعية، عن هذا التحفظ الفلسفي المتميز، الذي كان قد ضمن حتى ذلك الحين للمذهب الهيگلي تسامح الدولة وحتى حمايتها... كان الصراع ما يزال يخاض بأسلحة فلسفية، ولكن ليس لأغراض فلسفية مجردة، ذلك لأن موضوع الصراع كان تدمير الدين التقليدي والدولة... كانت السياسة ما تزال أرضا شائكة لذا جرى توجيه المعركة الرئيسية ضد الدين ).( أنجلس، لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الامانية) .
" أن اهتمام ألمانيا المعاصرة الرئيسي ينصب على الدين وفي المكان الثاني فحسب على السياسة، سواء رضي المرء عن ذلك أم لم يرض" ( فرانس مهرينڴ – كارل ماركس)
" أما الهيگليون الشباب فكانوا ما يزالون مثاليين، وكانوا يؤمنون بنوع من تجديد يصيب الإنسان والمجتمع، أكثر من إيمانهم بالثورة، وكانوا يرون أن الفكر، والنقد الحر، يكفيان للقيام بهذا التجديد. وكان أقصى ما يمكن أن يذهبوا إليه"ثورة في الضمائر... لا ثورة سياسية". ( هنري لوفيفر. كارل ماركس)
" فالهيگليون الشباب، الهدامون في مجال الدين، ظلوا أحياناً محافظين في مجال السياسة – كشتراوس- "
( جاك دونت. ت.ل والهيگلية. ت . حسين هنداوي)

(ونظرا لأن انتقاد الكنيسة وطقوسها كان أقل خطرا من انتقاد الدولة ومؤسساتها، فان الشباب الهيگليين وانسيكلوبدي القرن الثامن عشر الفرنسيين وجهوا هجماتهم الأولى ضد الدين قبل خوض النضال على الصعيد السياسي. وكانوا يواصلون بذلك، على كل حال، ولكن بكيفية مختلفة، الكفاح المضاد للدين، الذي كان خاضه قبلهم كتاب "ألمانيا الفتاة"الذين كانوا يستوحون السان سيمونية). ( كورنو)

يضاف إلى ذلك فأن مصطلح اليسار هو مصطلح فرنسي بامتياز، وتم بعد الثورة الفرنسية في 14 تموز 1789 حيث انقسم السياسيون في الجمعية الوطنية إلى يساريين.. يسار رئيس الجمعية( القاعة) والذين يؤمنون بالتقدم والإصلاحات ويطالبون بالاقتراع العام والمساواة، وبين يمين القاعة الذين يمثلون النظام الإقطاعي السابق، فاليمين واليسار كان مجرد اختلاف في كراسي القاعة.كما إن مصطلح الشيوخ والشباب الهيگليين غير موفق، فان غانس العجوز كان الأب الروحي للشباب الهيگلين، وان برنو باور-الشاب- داينمو الشباب الهيگلي لاحقاً، بدأ كأحد أفراد الشيوخ الهيگليين مع أستاذه العجوز ماهر نكه بالرد على كتاب شتراوس (حياة يسوع) ،
وفرنسا باعتبارها المثال الحقيقي لصراع الطبقات كما يقول كارل ماركس،( ساعدت الثورة الفرنسية ماركس إلى فهم طبيعة الصراع في المجتمع ، كما ساعد الاقتصاد الانكليزي أنجلس إلى فهم طبيعة الرأسمالية) فان اتجاهات اليسار الفرنسي وقتئذ تختلف جذريا عن اتجاهات اليسار الألماني، ومن المعروف فأن الاتجاهات التقدمية الألمانية ظهرت بتأثير فرنسي، فلسفة الأنوار وأطروحات (سان سيموت –فوريه- أوين) وتعززت بعد الثورة الفرنسية وبعد حملة نابليون والتي كان مرحب بها في المناطق المحتلة، حيث أدى احتلال نابليون لأجزاء من ألمانيا إلى تغير مهم في عقلية وأرضية المجتمع الألماني، وكان إدخال المكننة الحديثة إلى ألمانيا وفتح المشاريع الاقتصادية الصناعية بصورة أوسع أدى إلى خلق (بروليتاريا مصطنعة) في الجزء الغربي من ألمانيا وست فالي.. وكذلك أدى إلى خلق (برجوازية مصطنعة) فمصادرة أملاك الكنيسة وأراضي النبلاء من قبل نابليون استفاد منها الفلاحين المتوسطين والأغنياء من البرجوازية الصغيرة، وكان إنشاء المعامل والمصانع الحديثة التي جلبت من فرنسا أدي إلى ترك الفلاحين الفقراء مهنة الزراعة والالتحاق بالمدن للعمل بالمصانع الجديدة، ولقد حافظ البروليتاري الجديد على عاداته وتقاليده السابقة والاحتفاظ بدينة ومعتقداته الموروثة، وهذا مانسميه (البروليتاريا المصطنعة) أي إن البوليتاريا هذه لم تجتاز المراحل الطبقية التي تكلم عنا ماركس، وأدت هذه الحالة إلى إيجاد شكل جديد ومختلف حول( خصوصية الطبقة العاملة الألمانية، الخلافات العميقة بين لاسال وماركس، حيث كان لاسال ضحية خداع بسمارك، وكان الشعور القومي الوطني هو الغالب بصفوف الحركة العمالية الألمانية، على الشعور ألأممي) عندما يقرر العمال الألمان احتلال محطة قطار فأنهم يشترون تذاكر الدخول إلى المحطة. لكن بمرور الزمن تغيرت تلك الطبيعة وأظهرت الطبقة العاملة في ألمانيا وجه جديد تمثل بثورات 1830 و1848.وبالمقابل فان البرجوازية الألمانية لم تقف بمثل ما وقفت به البرجوازية الصغيرة الفرنسية بإسناد الحركة التقدمية.

"ولان حركة اليسار الهيگلي لم تجد لدى البرجوازية الألمانية، بسبب ضعف هذه البرجوازية ونزعتها شبه المحافظة، الدعم الثوري الذي وجده الموسوعيون الفرنسيون في القرن الثامن عشر لدي البرجوازية الفرنسية، فقد كان عليها أن تظل حركة أيدلوجية بصورة أساسية" كورنو، أوگست.كارل ماركس وفرد ريك أنجلس"

شكل (اليسار الهيگلي ) وهو اتجاه لدى البرجوازية الصغيرة الألمانية ذات الاتجاه الخاص كما اشرنا سابقا (أساتذة جامعة ) حلقة من ذلك الاتجاه الفكري النظري الذي يعُول على إن مجرد إدراك ونقد الواقع يؤدي حتما إلى تغيره بمجرد نضوج العامل الذاتي (الوعي) والعامل الموضوعي (الاستغلال الرأسمالي) حتى تنضج التفاحة ويسهل قطفها، ولقد أدى هذا الاتجاه إلى انهيار (اليسار الهيگلي) لأنه لم ينظر إلى العلاقة بين الفكر والواقع وضرورة التأثر والتأثير المقابل كعامل مهم في الصيرورة التاريخية، كما انه لم يدرك وقتئذ بان القوة المادية لا يمكن تغيرها إلا بالقوة المادية، وهذه ستكون مهمة كارل ماركس بعد إن ينفصل نهائيا عن أطريحات (اليسار الهيگلي) ويتوصل إلى فهم جديد للصيرورة التاريخية وهي المادية الديالكتيكية. ولهذا السبب لم يدافع كارل ماركس عن أطروحة للدكتوراه مباشرة أمام الأساتذة ، لأنه توصل إلى مفهوم جديد للعلاقات الاجتماعية تتعارض مع أطروحته الهيگلية.
نشر ماركس في " دويتشه –فرانزوسيش ياربشر " مساهمتين: "مقدمة لنقد فلسفة الحق عند هيڴل"، وملاحظات عن كتابين في المسألة اليهودية اصدرهما برونو باور. وعلى الرغم من اختلاف المساهمتين اختلافا بيناً في موضوعيهما، إلا أنهما كانتا مرتبطتين ارتباطا وثيقاَ في محتواهما الأيدلوجي. وفيما بعد لخص ماركس نقده لفلسفة الحق لدي هيڴل بالقول، أن مفتاح فهم التطور التاريخي يكمن في دراسة المجتمع، الذي يحتقره هيڴل، وليس في دراسة الدولة التي يمجدها. وفي المساهمة الثانية يعالج ماركس وجهة النظر هذه بقدر اكبر من التفصيل الذي عالجها به في المساهمة الأولى" ( فرانس مهرينڴ، كارل ماركس)

: ملاحظة مهمة ، أن المجتمع الذي يحتقره هيڴل هو المجتمع المدني – تجمع اثنيات وطوائف- والخالي من الوحدة الروحية المتماسكة ، روح الشعب ، اما الدولة التي يمجدها هيڴل فهي دولة الشعب الحيوي الواحد الموحد ولست دولة التجمعات الاثنية والدينية والطائفية الممزقة عملياً بحروبها المتسترة تارة أو العلنية تارة أخرى. أن الدولة الحقيقية لدى هيڴل هي التعبير الحقيقي عن المجتمع الحقيقي.

لقد ساعد ابتعاد ماركس من ألمانيا 1843 ولجوؤه إلى فرنسا الاتصال بالحركات الثورية الفرنسية والتي ساعدته إضافة إلى الواقع الفرنسي وقتئذ إلى فهم جديد للصيرورة التاريخية، فكان ذلك الابتعاد بمثابة هدية لا تقدر بثمن، ونحن نعتقد بأنه لو تسنى لماركس المكوث كلياً في ألمانيا وبجوها الثقافي حينذاك لانتهى إلى فيلسوف ليبرالي تقدمي.

كما إن حركة( اليسار الهيگلي) كانت مصونة ومحمية ومرحب بها من قبل الدولة البروسية وكان إتباع هيگل (اليسار الهيگلي) يتبؤون أهم المناصب في الجامعات الألمانية وكان هناك نوع من التحالف بين الدولة و(اليسار الهيگلي).

" هذه الفلسفة كانت تتمتع حينئذ يرضى الحكومة البروسية، وقد أصبحت الفلسفة الرسمية للدولة، وكان التنشتاين Altenstein (وهو موظف هيگلي )وزير التعليم العام وشؤون العبادة، يشجع وصول الهيگلين إلى كراسي التعليم في الجامعات ،كان جميع هؤلاء الدكاترة في الفلسفة أو التاريخ أو اللاهوت أنصارا متحمسين للفلسفة الهيگلية، التي كانت تبدو لهم أنها أعطت حلا نهائيا للقضايا الأساسية "
(«روك، روغه، روج." صراع الدولة البروسية مع الكنيسة الكاثوليكية، كورنو، أوكست كونت. حياة كارل ماركس وفريدريك أنجلس"
لابد من الإشارة إلى إن سياسة التسامح التي كان يتمتع بها (اليسار الهيگلي ) إلى أواخر حكم گيوم الثالث، كانت تعبيرا عن دهاء ملكي ضمن صراع الملك گيوم الثالث مع البابا وممثلي الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا حول مسألة (الزواج المختلط) يعني زواج البروتستانتي مع الكاثوليكية.. ولقد شغلت تلك القضية التي عرفت بقضية كولونيا الرأي العام الألماني ردحا من الزمن، فكان الملك يصر على إن أبناء الزواج المختلط هم بروتستانت بالضرورة، ولقد استخدم الملك (اليسار الهيگلي) لتقوية موقفه اتجاه الكاثوليك وتهديد البابا بحملات (اليسار الهيگلي) ضد الدين المسيحي الكاثوليكي.
" وبدأ الهجوم ضد (حوليات هال) بصدد نزاع نشب بين رئيس أساقفة كولونيا والحكومة البروسية بصدد حالات الزواج المختلط. ونظراً لأن الكاتب المونتاني المتطرف من أنصار البابا غٌورس قد اتخذ جانب الدفاع عن الكاثوليك الرينانيين، فقد تعرض لرد عنيف من ه. ليو الأستاذ الجامعي في هال الذي اتهمه باستأناف السياسة القديمة المناصرة للبابا بشكل مطلق(guelf) ودعم مصالح البابا ضد مصالح ألمانيا" ( كورنو. كارل ماركس) _ حوليات هال _ جريدة( اليسار الهيڴلي ) كان يحررها روڴ.

كما لعب برونو باور دوراً مهما في إبعاد ماركس عن نشر إي نقد للدولة البروسية ،أملاً بأن تعطف علية الحكومة بتثبيت مركزه كأستاذ للفلسفة في بون.( عندما انتقل إلى بون استمر يراسل ماركس في برلين، واتفقا على إصدار مجلة تم الاتفاق على اسمها وهو:أرشيف الإلحاد: لكن باور تراجع بعد ذلك، وعندما شرع ماركس بنقد المحاولات التي كان يقوم بها الكاثوليك والبروتستانت للتوفيق بي الأيمان والعقل، كان ماركس يعتزم بادىء بدء مهاجمة( الهيڴليين الشيوخ )وبخاصة مارهينكة أستاذ الاهوت في برلين الذي كان معلم باور. لكن باور عارض ذلك واستجاب ماركس لنداءات باور في مراعاة اليمين الهيكلي وبجانب هذا جهد باور لتجنب نشر أي مطبوع لماركس ضد الدولة البروسية. ) "لا تتأخر كثيرا بعملك حول فلسفة الدين وحذاري أن تتركها.... وقبل كل شيء عليك محاباة مهرنكه ( أستاذ بوير) لأن ذلك سيحرجني كثيراً" رسالة بوير إلى ماركس 30 آذار 1840

لقد حيا برنو باور احد أهم رموز( اليسار الهيگلي) ارتقاء گيوم (غليوم) الرابع عرش الدولة البروسية التي كان (اليسار الهيگلي ) يعول عليها كثيرا بصراعهم ضد الكنيسة الكاثوليكية بعبارات تقريظية حيث قال.
" ساد الظلام الوعي البشري أكثر فأكثر، فاقدا الأيمان في ذاته، وبروح الأزمنة الحديثة وفي مصيره، ولقد تخلى الناس عن الأمل في الحرية وسعادة جديرة بالبشر... ولكن هاهو الربيع يخضوضر مجددا في القلوب، والرغبات المخنوقة منذ زمن طويل، والآمال شبه المنطفئة تستيقظ. والناس وهم يرفعون رؤوسهم، ينظر بعضهم إلى البعض بصراحة أكثر وبوضوح اكبر، ويستعيدون الاتصال فيما بينهم. كل شيء يبدو قد تحول، لم يعودوا هؤلاء الناس الذين كنا نلتقي بهم فها هو كل منهم يسير بمزيد من الاندفاع والبهجة، وينعكس فجر من الأمل على وجوه الجميع، ويشع التألق في العيون، وكأنما جميع القلوب تريد إن تتدفق في لحظة بجذل وسرور" برونو باور، صعود وسقوط الراديكالية الألمانية، 1842»الطبعة الثانية برلين 1850، ص، 5
إن الدولة البروسية البروتستانتية كانت تدعي استيعاب (الروح البروتستانتية) لتفسير الدين المسيحي الذي يعني بالضرورة فصل الدين عن العقائد واستلهام الحرية، وضمن هذا التوجه (التحرري) انخرط (اليسار الهيگلي) بالدفاع عن الدولة البروسية البروتستانتية باعتبارها تجسيدا للحرية، مقابل الدوكماتيكية الكاثوليكية وكان هذا التوجه التحرري نتيجة للإصلاح اللوثري البروتستانتي الذي عرف باسم Aufklaerung عصر التنوير الألماني الذي يختلف جذريا عن عصر الأنوار في أوربا الغربية الذي كان هيگل يصفه بعصر الأنوار البائس( الذي كان يدعو للتوفيق بين الدين والعقل ويؤكد احترام الحرية الفردية)، فعصر الأنوار الألماني يعني (الإيمان بالله عن طريق العقل لا عن طريق الوحي والإلهام )، أو روح البروتستانتية المجردة من كل عقيدة دينية والمجسدة في فكرة الحرية. لقد كتب كوبين وهو احد أقطاب (اليسار الهيگلي) يقول:
" لقد آن الأوان تماماً لكي تتوقف الخطب التافهة ضد فلاسفة القرن الثامن عشر، وان يعترف حتى باستحقاقات فلسفة الأنوار الألمانية رغم طابعها الممل. والحقيقة أننا مدينون لها بالكثير، بنفس مقدار ما ندين به للوثر ولرجال الإصلاح الديني..... إن فلسفة الأنوار كانت بروميثيوس الذي حمل إلى الأرض القبس السماوي لكي ينير الطريق للعمى، للشعب، لتحريرهم من أفكارهم المسبقة وأخطائهم."
(كوبين:"فردريك الكبير) عن كورنو، ماركس وأنجلس).

كان هيگل من أكثر الفلاسفة الألمان الذين يدافعون عن قيمة العقل الإنساني وقابليته بادراك المطلق(الله ) وان العقل الإنساني لا يحتاج إلى واسطة لمعرفة الله، وهو بهذا الاتجاه أنكر النبوة والأنبياء ، حسب المفهوم البابوي، كمرسلين من قبل الله وكان يعتبر المسيح احد الحكماء، واعتبر القصص التوراتية إعمال أدبية، كما انه شكك بكثير من رواياتها، ورفض المعجزات. لكن هيگل يؤمن بالوحي الشخصي الذي يتعرف على حقيقة (المطلق –الله)بصورة فردية عن طريق التأمل الفلسفي الذي ينقل الإنسان من درجة إلى أخرى، حتى يصل إلى إدراك المطلق، عن طريق العقل. وهذه الطريقة تتعارض مع التصوف، لأن هيگل يعارض تماماً الانعزال عن الواقع، وهو ضد طلب السعادة والراحة النفسية برفض المجتمع. وعلى هذا الأساس فلقد انتقد الرواقية والأبيقورية واعتبراهما فلسفة للبؤس، التي تعبر عن حالة الإمبراطورية الرومانية التي قتلت كل ما هو جميل في الحضارة اليونانية.
" أن كل ماكان في الشخصية الروحية من جميل ونبيل ، قد دمر بلا رحمة في شقاء الإمبراطورية الرومانية. ففي هذا العالم حيث كان يسيطر الطغيان اضطر الفرد أن يبحث في ذاته وبصورة مجردة عن المتع التي كان الواقع يمنعها عنه. وقد اضطر بصفته احد الرعايا للجوء إلى التجريد في شكل تفكير وان يجد ملجأ في حرية الذات الداخلية" ( هيگل، المؤلفات الكاملة، شتوتغارت، 1928 تاريخ الفلسفة ، الجزء الثاني ص 434)
وهو في كتابه (حياة المسيح) يعتبر السيد المسيح حكيماً. ويقارن بين الديانة الشعبية اليونانية المرحة والديانة المسيحية الحزينة التي أنهكتها الطقوس المملة والقرابين المقدسة، والثياب السوداء. واعتبر هيگل كافة الأناجيل أنتاجات أدبية.
في عام 1793 تخرج هيگل من معهد ألاهوت البروتستانتي في توبنگن، وكان من المفروض أن يصبح راعيًا رسولياً، لكنه عدل عن ذلك لأسباب فلسفية، وليس كما قيل انه أتبع نصيحة مرؤوسيه بعدم قدرته على الخطابة والوعظ. أن السبب الرئيسي لعزوف هيگل عن متابعة دراسة ألاهوت، هو توصله إلى مفهوم جديد للواقع ومن ضمنه الدين، وهم المفهوم العقلي الذي سيشيد عليه هيگل كامل نظامه الفلسفي.
أن مهنة (مُؤدب) التي مارسها هيگل في ببرن وفرانكفورت بين أعوام 1893-1800) تدل على مقدرته على التعليم والإقناع، عكس ما ذهب إليه أساتذة ألاهوت، وفي تلك الفترة انتقل من ألاهوت إلى العلوم ومحولا اهتماماته للتاريخ والسياسة.
في برن وقع هيگل أسيرا لكانت وللعقليين من فلاسفة القرن الثامن عشر، وكتب وهو تحت تأثيرهم مقالات لم تعرف حتى نشرها (نول Nohl ) عام 1907 منها "وضعية الديانة المسيحية" و"حياة يسوع". وقد هاجم في هذه المقالات الكنيسة بعنف مفسراً الأسباب التي حولت الديانة المسيحية إلى ديانة تثقل ظهرها بالسنن والشرائع حتى غدت ديانة حزينة معتمة إذا ما قورنت بديانة اليونانيين القدماء.
" فالأعياد الشعبية عند اليونان كانت كلها أعياد ًدينية... أما معظم أعيادنا العامة، فأن الفرد يتقدم للمشاركة في القربان المقدس في ثياب الحداد ليلاً مكسور الخاطر.... بينما الإغريق بما هبتهم الطبيعة من مواهب يضعون أكاليل الزهور ويرتدون ملابس زاهية، وهو يقارن بين سقراط والسيد المسيح فيقول مفظلاً الفيلسوف الأثيني:
"بالطبع لم يسمع إنسان قط إن سقراط ألقى عظاته من منصة الخطابة أو من فوق جبل، وكيف كان يمكن لسقراط إن يلقي عظات في بلاد اليونان...( وهل يمكن لإنسان عاقل في العراق أن يقول أنا شاعر) انه لم يستهدف إلا تنوير الأذهان فحسب، ولهذا لم يكن عدد أصدقائه محدداً! ربما كانوا ثلاثة عشر صديقاً أو أربعة عشر لكنه كان يرحب ببقية الناس كأصدقاء سواء بسواء، فلم يكن رئيساً عليهم يستمدون منه الحكمة كما يستمد أعضاء الجسد من الرأس عصارة الحياة، ولم يفكر إن ينظم جماعة تكون له حرس شرف! بزي واحد وتدريب واحد، وشعار واحد، جماعة ذات روح واحدة تحمل اسمه إلى الأبد، بل كان لكل تلميذ من تلامذته هو نفسه أستاذا... وكثيرون منهم انشأوا مدارس خاصة ينشرون فيها تعاليمهم، كثيرون غيرهم كانوا قواداً عظاماً وساسة وإبطالا من كل حزب... ولم يدع لواحد منهم مبرراً إن يسأل، كيف... أليس هذا ابن (سفروفيسكس ) أنى له كل هذه الحكمة التي يتجرأ ويعلمنا إياها)... ولم يحاول قط إن يضايق أحدا أو أن يفاخر بما له من أهمية أو أن يستخدم عبارات رنانة غامضة من ذلك النوع الذي لا يؤثر إلا في الجهلاء والسذج( إمام عبد الفتاح إمام ). وهيگل في نقده الدين (الدوگماتي)لا يرى في المسيح إلها تأنس بقدر ما يرى فيه إنسانا تأله. وما الدين في نظره إلا "الإنسان المرتفع عن الحياة المتناهية إلى الحياة الامتناهية" (گارودي..كارل ماركس. ص 119، ت، طرابيشي)

وهيگل لا يتستر بتاتاً على أحد المصادر الرئيسية لفلسفته... وهو الدين المسيحي بنموذجه اللوثري.
"فبحسب هذا الدين وفي مبدئه، الله موجود في البدء ككائن روحي محض ثم قام بخلق العالم بما فيه الإنسان، ثم أخيرا أرسل ابنه إلى هذا العالم ككائن طبيعي في البدء لكي يجعله روحانياً ولافتداء المخلوق البشري الذي كان في غضون ذلك قد ضل عن خالقه. على هذا المخطط المعدل قليلا والمعلمن ظاهرياً يشيد النظام الهيگلي نفسه ف"الله" فيه يصبح "الفكرة المطلقة والكلية، إنما غير الواعية بذاتها في البداية". وعليه من الممكن دراسة الفكرة في نشاطها المحض، وهي حينذاك "كفكر الله قبل الخلق"إذا جاز القول، وهذا موضوع علم المنطق" ثم تأتي إمكانية متابعة النتائج المترتبة عن "القرار"الذي تأخذه الفكرة لتتحول إلى طبيعة "أي لتغدو ما هو أكثر خارجيا وغريبا عليها. وهي عند ذلك وبشكل ما:كالعالم بعد الخلق الإلهي"، وهذا موضوع "فلسفة الطبيعة" وأخيرا نستطيع تحليل تاريخ استعادة وإعادة استبطان هذا العالم الخارجي الطبيعي. فالمفهوم، المتجسد في الإنسان، يسترجع الطبيعة ويردها إلى الفكرة التي بفضل هذه الصيرورة تصبح موضوعاً وتتحقق كعقل، وعندئذ نحن بشأن المصير العقلي للعالم، وهذا موضوع "فلسفة الروح" (جاك دونت.هيگل والفلسفة الهيگلية، ترجمة، حسين هنداوي )

يمكن تحديد بداية ظهور "اليسار الهيگلي" بعد صدور كتاب دافيد شتراوس عام 1834، (حياة المسيح) إلى ظهور كتاب كارل ماركس (مساهمة في نقد فلسفة الحق الهيگلية) أو ما يعرف بمخطوطات 43و44، ورغم قصر تلك الفترة (عشر سنوات) سيطرت أطروحات (اليسار الهيگلي) على مجمل النشاطات الثقافية في تلك الفترة، في منطقة بروسيا ومنطقة الريناني.

كما سنتطرق إلى مفهوم هيگل عن الدولة وبصورة خاصة الدولة البروسية البروتستانتية، الذي فهم خطأ، بأن هيگل مجد الدولة الألمانية وأعتبرها نهاية المطاف والدولة الكاملة وأوقف حركة التاريخ. في حين أن موقف هيگل من الدولة( في لحظة وجودها دولة ﮔيوم الثالث) يقوم على أساس أنها تجسد روح الشعب ( الشعب الحيوي)، وتجسد روح البروتستانتية التي تعانق الحرية. والدولة لا توجد إلا بوجود القوانين واحترامها، فبدون احترام القوانين لا توجد دولة، ( كان هيگل يرى أن الدولة( وهي تجسيد للفكرة المطلقة) تنشى نظاماً عقلانياً في المجتمع وفي الحياة السياسية، وهي تحافظ على النظام. والمجتمع _في نظر هيگل_ تنبع أصوله من "الدولة" والدولة السياسية- في رأيه- هي أسمى من الناس الخاضعين لها)، وكان يعتبر شرفاً رفيعاً انتماء فرد وعيشة داخل دولة.
" أن الدولة الواقعية، المكونة تاريخياً، هي الدولة بكونها روح شعب ما. وهذا المفهوم لروح شعب ما (Volksgeist) هو مركزي في الفلسفة الهيگلية للتاريخ والذي بموجبه تأخذ الروح، تاريخياً، بصورة عبر الوجود التاريخي للشعوب التي تضفي عليها الروح بذلك الروح الخاصة بالشعوب وهي ليست الروح الذاتية لإفراد ولا الروح الشمولية كما تتم في مجموع العالم وتاريخه"
(جان بيار لوفيفر ،بيارماشيري، هيگل والمجتمع، ت، منصور القاضي)
" لا يمكن لحق الإرادة الفردية أن يجعل نفسه معترفاً به إلا بالخضوع إلى قضاء الروح الشمولية " (المصدر السابق) (مع العلم بأن هيگل صرح قبل ذلك أثناء تشتت ألمانيا إلى دويلات، بأن ألمانيا لست دولة) وأن الأسرة تؤلف الوحدة الأولى في تكوين الدولة. فالدولة البروسة في زمن هيگل تمثل تجسيداً لروح الشعب الألماني الذي اعتنق المسيحية بنموذجها اللوثري ذا الطابع التحرري، وهنا يكمن سر تأيد
( اليسار الهيگلي ) للدولة البروسية في ذلك الزمن. وهذا المفهوم للدولة ينطبق على كل الأنظمة السياسية التي تفتخر بنماذجها، وتعتبرها الأفضل حتى في هذا الزمن. وهيگل بمفهومه هذا حول الدولة لم يوقف حركة التاريخ كما تصور بعض الباحثين، لأنه تحدث عن دولة في لحظة محددة، لقد وجد هيڴل بالدولة البروسية الواقع المادي لمفهومه الفلسفي ، ولقد وجدت الدولة البروسية بالفكر الهيڴلي واقعها الفكري ، كما وجد ماركس بالطبقة العاملة سندة المادي ، وجدت الطبقة العاملة بالفكر الماركسي سندها النظري ، وهنا تكمن روعة الديالكتيك المادي، أو المثالي.
لقد عارض هيگل روسو بناءاً على مفهوم العقد الاجتماعي، الذي يخص بنظر هيگل (المجتمع المدني) وليس الدولة. حيث إن الدولة هي روح شعب، وليس تجميع مكونات مختلفة الأثينيات فأن مثل هذا التجمع لا يعبر عن دولة (روح شعب معين) بل أنه خليط من الأرواح، وبالتالي لا يمكن أن تنسجم الإرادات والمصالح ويفتقد مفهوم التضامن، حيث تسعى كل قومية إلى تأمين مصالحها، ولو على حساب الآخرين، ويؤدي ذلك إلى فشل مشروع الدولة الحقيقي وربما يؤدي إلى صراعات دموية.

سوف ننظر عن كثب درجة قرب (اليسار الهگيلي ) عن فكر فيخته حول مفهوم واجب الوجود، الذي يتلاءم بما سيطرحه( اليسار الهيگلي )، في موضوع فلسفة المستقبل –فلسفة العمل- التي جاهد (الهيگليون الشباب) للتبشير بها والعمل على تطويرها، والتي تتعارض جوهرياً مع المفهوم الفلسفي الهيگلي الذي اقتصر بدراسته للتاريخ باكتشاف القوانين التي تكشف الماضي والحاضر، دون الخوض في المستقبل، لان الفلسفة لايمكن أن تقفز فوق عصرها و لا يمكن للفيلسوف أن يتخطى زمانه. ويقودنا هذا المفهوم إلى تقييم المادية التاريخية، بصواب نظريتها حول مفهوم الصراع الطبقي في الماضي والحاضر، وصعوبة وخطأ حتمية ما يطرحه(الماركسيون الدگماتيون) للمستقبل، للوصول إلى الشيوعية مرورا بالاشتراكية.أن الموضوعة المركزية في المادية التاريخية هي :
:" إن البشر يصنعون تاريخهم الخاص ، ولكنهم لا يصنعونه على نحو تعسفي ، وفي شروط يختارونها بأنفسهم ، ولكن في شروط معطاة مباشرة وموروثة عن الماضي" ماركس ، "18 برومير لويس بونابرت " المنشورات الاجتماعية – ص 13.
"أن التاريخ الإنساني مختلف نوعياً عن التطور البيولوجي ، لكنه يمد فيه جذوره. فالإنسان، كالحيوان، له حاجات توحده مع الطبيعة وتفصله عنها في آن واحد. ولكن الإنسان، بخلاف الحيوان، يحول الطبيعة بواسطة العمل، بدلا من إن يكتفي بالتكيف معها." ( كارودي . كارل ماركس – ص 93)
ولقد نبها ماركس وأنجلس من خطر تطبيق مخطط ، أو هيكلية الصراع الطبقي بصورة حتمية ونهائية، فلقد كتب أنجلس بعد أربعين عاماً ، إن ذلك المخطط إنما " يثبت فقط كم كانت معارفنا في التاريخ الاقتصادي ناقصة" ويلحض ماركس أن "نمط الإنتاج الآسيوي" الذي هو أحد أشكال الانتقال من المجتمع الاطبقي إلى المجتمع الطبقي، يتميز بطابع مزدوج: فبالرغم من أن الملكية تظل مشاعية ، تتجلى فيه أشكال نوعية من استغلال الإنسان للإنسان ودولة مستبدة .
الشيوعية بالنسبة لماركس هي تخطي الضياع الإنساني عن طريق إلغاء الملكية الخاصة وبامكان ماركس أن يقول :
" الشيوعية هي الشكل الضروري ومبدأ الطاقة للمستقبل القريب ، ولكن الشيوعية ليست كشيوعية هدف النمو الإنساني – شكل المجتمع الإنساني " كارل ماركس ، مخطوطات 1844 ، دمشق 1970- ص 74.
أن هيگل، لكي يعطي التطور التاريخي طابع تطور منطقي (ديالكتيكي) يحصر صيرورة التاريخ الإنساني بصيرورة الروح(التي لاتنفك عن الواقع بالمفهوم الهيگلي). ولتحقيق ذلك يضع هيگل بمثابة مبدأ أساسي لتطور العالم فكرة الحرية متصورة في شكل تحرر تدريجي(أن تاريخ العالم يشكله التقدم في وعي الحرية)، الأمر الذي يتيح له أن يقيم نوعاً من التوازن بين عملية تطور تحرر الروح، وعملية تطور تحرر البشرية، التي تصل تدريجياً إلى وعي ذاتها لتحقيقها جوهرياً وهو الحرية.

" أن حركة التاريخ هذه هي حركة تحرر الماهية الروحية، وهي العمل الذي تتحقق به نهاية العالم المطلقة، والذي ترفع به الروح، التي لأتكون فيه موجودة في البدء إلا في ذاتها، إلى الوعي ثم إلى وعي ألذات، وتصبح بكشفها عن جوهره وتحقيقه لهذا الجوهر ولهذه الروح الملموسة، روح العالم.(الوعي بذاته، الوعي لذاته، وعي المطلق ) ونظرا لان هذا التطور يحدث في الزمن وفي العالم، وفي التاريخ بسبب ذلك، فأن مختلف لحظاته ودرجاته تتشكل بروح الشعوب الكبيرة التي كُتب على كل شعب منها بسبب طبيعته النوعية أن لا ينجز سوى جزء من هذا العمل الكلي"
. هيگل "فلسفة التاريخ"ج 7 ص.421 ( كورنو، كارل ماركس)

لقد جهد هيگل في كتابه"فلسفة الدين" لرد الأيمان إلى العقل، ورد الدين إلى الفلسفة مع تبرير الدين من وجهة نظر عقلانية، هذا الدين العقلي الذي كان يرى فيه تعبير عن المسيحية واتجاهها البروتستانتي وطابعها اللوثري التحرري.

ولابد من التطرق إلى موقف هيگل من الدين وعلاقة بالفلسفة، فلقد فهم وفسر خطأ موقف هيگل ذلك على أساس إن هيگل يماثل بين الدين الدوگماتيكي والفلسفة عندما قال:

لذا فالفلسفة والدين محتوى وهدف و اهتمام مشتركة... وعلى هذا الأساس، فالدين والفلسفة لا يشكلان سوى شيء واحد، إذ إن الفلسفة هي بحد ذاتها خدمة إلهية... لذا فالفلسفة متماثلة مع الدين، والفارق الوحيد هو أن الفلسفة تخدم الله بطريقة خاصة... وإنما يكمن الفارق بين الفلسفة والدين في طريقة خدمة الله".
« La philosophie et la religion ont un contenu ، un but et un Intérêt commun، la vérité éternelles considérait dans son objectivité، c’est-à-dire Dieu، Dieu Seul est son explication. En expliquant, la religion et en développant le contenu، la Philosophie s’explique elle-même، de même qu’en s’expliquant-quant، elle explique la religion….De ce fait la religion et la philosophie ne font qu’un، la philosophie étant elle-même un service divin. La philosophie aussi ainsi identique la religion، la seule différence est qu’elle sert Dieu d’une manière particulière.C’est dans leur manière particulière de servir Dieu que reside leur difference, »


أن هيگل يتحدث عن دين عقلي، هو البروتستانتيه، بنموذجها اللوثري أو بالضبط يتحدث عن
( روح البروتستانتية المجردة من كل عقيدة دينية والمجسدة في فكرة الحرية).
وليس عن البروتستانتية الدوگماتيكية. وهذا ما وضحه أنجلس عندما قال :
" ومما له دلالته أن البروتستانت تفوقوا الكاثوليك في قمع حرية دراسة الطبيعة. فقد احرق كلفين سرفيت عندما أوشك هذا الأخير أن يكشف الدورة الدموية، ناهيك بأنه اجبر على حرقه حيا طيلة ساعتين، أما محاكم التفتيش فقد اكتفت على الأقل بمجرد إحراق جوردانو برونو". (أنجلس، جدليات الطبيعة).
وهو لا يتحدث كذلك عن دين دوگماتيكي كاثوليكي، مشبع بالمعتقدات والطقوس و العبادات، كما تدعي الديانة المسيحية الكاثوليكية. لكن هيگل لا ينفي الوحي، وهو لديه وحي تصاعدي و وحي تنازلي. فالإنسان يستطيع عن طريق الوحي الوصول إلى معرفة الله، بدون الحاجة إلى واسطة تقوم بها (الكنيسة). وهو بهذا المفهوم ربط بين الدين العقلي والفلسفة ربطاً موثوقا حيث يمكن الحديث عن تماثل عقلي بين الاثنين أو تفسير الدين فلسفياً. وهو لا يكذب الأنبياء باعتبار الوحي الذي يتحدثون عنه له مصدر الهي، وهم توصلوا إلى هذه الدرجة من الوعي وأدراك حقيقة الله، باعتبارهم صنف من البشر يختلف عن الآخرين. وما حقيقة أصحاب النظريات الاجتماعية والسياسية( المنظرون أو الشعراء ) إلا أصحاب وحي من نوع خاص. ومع ذلك فأن هيگل لا ينكر الدين المتعارف علية لدي الجمهور، الدين الرمزي (دين السواد الأعظم ) لإشاعة الأخلاق، لكن يفرق بينه وبين الدين الفلسفي الذي هو من اختصاص الفلاسفة، أو ( الراسخون بالعلم). هذا الفهم العقلي ألتأملي للعلاقة بين الدين العقلي الذي يتحدث عنه هيگل، والفلسفة ينم عن إدراك عميق لقدرة وفعالية العقل لإدراك المطلق وهو الله أو الروح، التي تجلت تاريخيا في المظاهر المتعددة للفعاليات الإنسانية، بدرجات مختلفة من الوعي الفردي والجماعي.والروح الإنسانية التي تعبر عن نفسها عن طريق الدين بمختلف أشكاله وانواعة والفلسفة التأملية، إنما يلتقيان في النهاية ضمن هدف محدد هو خدمة الله، بأشكال مختلفة بواسطة تطوير محتوى الدين وتفسيره فلسفيا أي تفسيرا عقلياً. إن تطوير الدين الذي يتكلم عنه هيگل يعني هو ارتقاء العقل البشري من الدرجات السفلى إلى القمة عن طريق الفلسفة التأملية، " (هيگل، دروس حول فلسفة الدين" (جاك دونت).هذا المفهوم العقلي للدين لدي هيگل لم يفهم سابقاً ولا لاحقاً، حيث اعتبر هيگل مدافعاً عن الدين التقليدي كما جاء بالكتاب المقدس والمكمل بالطقوس الدينية المتعددة. كان هيگل يدافع عن دين عقلي، إي أن الإنسان (الحر والمالك لإرادة) يستطيع عن طريق العقل والتأمل بالوصول وأدراك حقيقة الله دون الاستعانة بواسطة مثل الكنيسة أو البابا.
" وقد أعلن عن عدائه للكثلكة بكثير من الشدة.وفي يوم من الأيام شاهد هيڴل امام كاتدرائية كولون Cologne معرضاً لبيع اقونات فخاطب كوزان (فيكتور) بغيظ قائلاً: ها هي عقيدتكم الكاثوليكية، وما تعرضه امامنا من مشاهد، أأموت قبل أن أرى انهيار ذلك كله؟" ( أندريه كريسون – أميل بريه . هيڴل)
هذه الحادثة تظهر جلياً بأن هيڴل كان ضد التشبه والتجسد، وهذا هو موقف البروتستانت عموماً، فلا تحتوي دور عبادتهم (الكنائس) عن أي صورة.
أن هيگل لم يماثل بين الفلسفة والدين الدوڴماتيكي ،ولكن بين الفلسفة والدين العقلي، وعليه فأن كافة الانتقادات التي وجهت إليه بهذا الصدد من قبل (اليسار أو اليمين الهيڴليين) ، هي اتهامات باطلة ، وتنم عن عدم فهم لفكر هيگل العقلي التأملي.
"يميز هيگل بين نوعين من الخطاب متوافقين مع مستويين في إدراك المطلق: مستوى التعريف أو التقديم (Vorstellung) المتاح لعامة الناس ومستوى الفهم Begriff)) الذي يعلو إليه الفلاسفة وحدهم.وهكذا فالفلاسفة كما يقول هيگل، يشكلون صنفاً من «الكليروس"، فيما يرفض الفيلسوف على وجه التحديد في ما يدعوه بالدين، تميز أية فئة اكليروس، موضوعة فوق عامة البشر، مابينهم وبين الله"( جاك دونت ، الهيگلية ... ت، حسين هنداوي).
لقد جهد هيگل في كتابه"فلسفة الدين" لرد الأيمان إلى العقل، ورد الدين إلى الفلسفة مع تبرير الدين من وجهة نظر عقلانية، هذا الدين العقلي الذي كان يرى فيه تعبير عن المسيحية واتجاهها البروتستانتي وطابعها اللوثري التحرري.
ولا ننسى إظهار التقارب بين هيگل والإسماعيلية والسهروردي المقتول، في موضوع الفهم والإدراك العقليين والتدرج في الفهم والوصول إلى المطلق. يمكن مقارنة هذا الفهم الفلسفي للدين لدي هيگل ومفهوم الإسماعيلية للدين فهم يقولون:
وما الدين الحقيقي في نظرهم إلا
" إن يتوصل الإنسان بالتمرين المستمر والترقي من درجة إلى درجة إلى معرفة منازل الكون التي قطعتها العوالم (المسكونة)بعد إن انفصلت عن الله". أي أن الفكر الواحد المطلق"(الغير المجسم) أو العقل الأول" أو النور الأعلى" المشع من نفسه في المنزلة الثانية العقل العام والنفس العلمية وهما اللذان يحدثان-بعد أن يتغيرا-العقول الإنسانية وعقول الأنبياء والأئمة وخيرة الناس ". آما سائر الناس فليس لهم عقول بل "أشباه العدم"إلا إذا انتقلوا إلى المنزلة الثانية بواسطة التنوير والتعليم"انظر الانسكلوبيديا الإسلامية. وعن التعليمية يراجع الشهرستاني والغزالي، بندلي جوزي، من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام.
تعرض هيگل بناءاً لما ذكر أعلاه (للفلسفة والدين محتوى وهدف واهتمام مشتركة) لهجمات من ألاهوتيين الاورثوذكس.ففي عام 1822 قام (هنريش1791-1861) أستاذ ألاهوت من وجهة نظر مسيحية ارثوذكية بنقدهيگل بكتابه(الدين من لله. علاقة بلله.) فقد أكد بأن الدين هو التعبير عن حقيقة أسمى من الحقيقة العقلانية، ذلك لان الدين يشكل التجلي الوحيد لله . أما شتراوس فقد ناهض عملية المماثلة بين الدين والفلسفة، مؤكداً على أنه لا يمكن رد المعتقدات الدينية إلى تصورات أو مفاهيم فلسفية دون إفساد عميق لطابع الدين ومحتواه. أعلن هيگل " أن القصص التوراتية يجب أن ينظر إليها بالطريقة ذاتها التي ينظر بها إلى القصص الدنيوية، ذلك أنه ليست هناك علاقة بين الأيمان ومعرفة الأمور الحقيقة والعامة". وكان هيگل يعتبر الأناجيل الأربعة أعمالا أدبية.التقط دافيد شتراوس «كلمة المعلم على هوانها وبنشاط واسع.فطالب بأن يخضع التاريخ ألتوراتي للنقد التاريخي المعتاد. ونفذ طلبه هذا في كتاب (حياة يسوع) الذي ظهر عام 1935 وأحدث ضجة بالغة. وفي هذا الكتاب التقط شتراوس خيوط حركة الاستنارة البرجوازية في القرن الثامن عشر، بينما كان هيگل قد تحدث عن(الاستنارة الزائفة) باحتقار بالغ. وقد مكنت شتراوس طريقته الجدلية من أن يخوض في المسألة ابعد مما فعل{ رايماروس}من قبله.ولم يعتبر شتراوس الدين المسيحي خدعة، كما لم يعتبر الحواريين مجموعة من الأوغاد، ولكنه فسر المكونات الخرافية لقصة الإنجيل بالمنتجات الواعية للمجتمعات المسيحية الأولى. واعتبر الكثير من (العهد الجديد) تقريرا تاريخياً بصدد حياة يسوع. كما اعتبر يسوع ذاته شخصية تاريخية، بينما افترض أساسا تاريخياً لكل الحوادث الأكثر أهمية التي يرد ذكرها في الكتاب المقدس(كورنو.كارل ماركس).
وبعكس هيگل، الذي يرى إمكانية إهمال الواقع التاريخي والقصص التوراتية والانجيلية والاحتفاظ بالمحتوى الرمزي فقط. عكس شتراوس الذي كان يعتبر إن هذه القصص تشكل جوهر الدين المسيحي ذاته، وكان يرى في الأناجيل لا رموزا فلسفة، بل أساطير كانت تعبر عن رغبات والمطامح العميقة للشعب اليهودي. ( كورنو عن روك، المؤلفات الكاملة)
أما الخلاف الأخر (المشكلة) بين هيگل و(اليسار الهيگلي) التي كانت تواجه الشباب (الهيگليين) هو تكييف الهيگلية مع الليبرالية، إي إزالة التناقض المتضمن في فلسفةهيگل بين التطور الديالكتيكي الذي يستلزم تقدماً متواصلاً وبين المذهب السياسي(المحافظ)، بفصل الطريقة الدياكتيكية عن المذهب ومدّ حركة الفكرة الديلكتيكية في المستقبل، هذه الحركة التي أوقفهاهيگل عند الحاضر كما تصوروا!!!.
أن هيگل في رغبته المزدوجة في تبرير الحاضر ومكافحة الدوغمائية والطوبائية قد قصر تطبيق الديالكتيك على تفسير الماضي والحاضر، وحظر على الفلسفة التأمل في المستقبل. وقد قال في مقدمته لكتاب "فلسفة الحقوق": " أن طائر مينرفا لا ينهض إلا عند هبوط الليل" وهو يقصد بذلك أن على الفلسفة إن تقتصر على فهم ماهو كائن، وعلى تسجيل عمل العقل كما يتجسد في التاريخ، وانه ليس على الفلسفة إن تستبق سير الفكرة بإخضاعها تطور التاريخ إلى مثل أعلى متخيل.
" نظراً لأن الفلسفة هي دراسة العقلاني فأن عليها أن تلتقط ما هو حاضر و حقيقي، وليس إن تطرح مثلا اعلي لا يدري سوى الله أين هو... أن مهمة الفيلسوف هي فهم ما هو كائن، إذ إن هذا هو الذي يشكل العقل. من العبث أيضا إن نتصور إن فلسفة ما تستطيع إن تتجاوز عصرها وان نعتقد إن شخصا ما يستطيع إن يقفز فوق زمنه... فإذا ما تجاوزت نظريته هذا الزمن وإذا ما بنى عالما كما ينبغي إن يكون، فهذا العالم يكون موجوداً حقاً، ولكن في فكر هذا الرجل، إي في عنصر مرن قابل للتغيير والتبديل بل قابل لجميع أهواء وتصورات الخيال" (هيگل:" فلسفة الحق ". المؤلفات الكاملة، شتوتغارت 1828 )
أن تجزئة الفكر الهيگلي من قبل (اليسار الهيگلي) إلى نوعين مختلفين (نظام رجعي وديالكتيك تقدمي) هو الذي أدى بهم إلى عدم فهم هيگل وبالتالي إلى اقتصار اقتباساتهم الهيگلية على الديلكتيك، وبالضبط الديالكتيك التقدمي، معتقدين انه نظراً لكون تطور الأفكار يحدد تطور الواقع، فأنه يكفي أن تستبعد من النظرية العناصر ألاعقلانية المدرجة في الواقع حتى يمكن إعطاء مسيرة التاريخ طابعاً عقلانياً. وكانوا يستخلصون من ذلك فلسفة جديدة، هي فلسفة العمل الثوري.
هذا التحول الثوري أو الفهم الجديد لديلكتيك هيگل وجد أول تعبير له في كتاب " مقدمات التاريخ" (1838) بقلم. فون سيازكوفسكي. وقد دعا إلى تبديل فلسفةهيگل التأملية بفلسفة (العمل) الثورية. كان يؤكد بعكس هيگل أن الفلسفة لا ينبغي لها أن تقتصر على استخلاص قوانين التاريخ من الماضي بل عليها أن تستند إلى هذه القوانين لأجل تطوير العالم.
ولقد جاء في كتابه:" أن تاريخ العالم، حسب تفكيرهيگل الأساسي، يعبر عن تطور الفكرة والروح. وحتى الآن لم يفعل التاريخ ذلك بصورة غير كاملة، ذلك لأنه لم يكن من عمل البشر الواعي ولا من إرادتهم العقلانية" ويقول " لكننا على عتبة مرحلة جديدة انفتحت مع هيگل حيث يحدد الإنسان مسيرة التاريخ العقلانية"
لقد كان فضل هيگل هو انه استخلص من الماضي قوانين التطور التاريخي، ولكن نقصه هو إلنظر الى النشاط البشري في شكل فكر وليس إرادة، كما انه قصر تطبيق هذه القوانين على تفسير الماضي.(الفكرة لدى هيڴل لا تنفك أبدا عن الواقع، وهي باتحادها مع الواقع تولد فكرة جديدة)
لا جل تحويل العالم يجب الاستناد إلى هذه القوانين، وأن تستخلص من الماضي والحاضر خطوط عامة للمستقبل لضبط النشاط البشري بصورة عقلانية، وضبط سير التاريخ على أساس ذلك. وكان أ. فون سيازكوفسكي يريد أن يحل محل الفلسفة الهيگلية عديمة التأثير على المصائر البشرية فلسفي للعمل، فلسفة للنشاط الإنساني، للبراكسيس ( وهنا يظهر لأول مرة هذا المفهوم الذي استعاده كارل ماركس فيما بعد) فلسفة من شأنها إن تتيح لإنسان توجيه مصيره.
" أن هيگل لم يذكر أبدا المستقبل في مؤلفاته، معتبراً إن الفلسفة لا يمكن أن تطبق إلا على دراسة الماضي وأن عليها أن تترك المستقبل كلياً خارج التأمل. أما نحن فنؤكد على العكس بأنه، بدون معرفة المستقبل بصفته لحظة من لحظات التاريخ تشكل تحقيق غايات الإنسان النهائية، لا يمكن التوصل إلى معرفة تاريخ العالم منظوراً إليه في كليته الروحية وفي تطوره العضوي العقلي.وعلى هذا الأساس فأن القول بإمكانية التوصل إلى معرفة المستقبل هو شيء لا غنى عنه إذا أريد إعطاء تطور التاريخ طابعاً عضوياً"
أن تصبح فلسفة عملية أو بتعبير أفضل فلسفة للنشاط العملي، ل :براكسيس: تمارس تأثيراً مباشراً على الحياة الاجتماعية ، وتطوير الحقيقة في مدان النشاط الحسي، ذلك هو الدور الذي سوف ينبغي أن تلعبه الفلسفة في المستقبل، ( نحن نقول بأن اضعف نقطة في فكر أي فيلسوف ، هي أن يحاول هذا الفيلسوف إقامة نظام فلسفي ، أو يدعي بأن نظامه الفلسفي نظاماً كاملاً)

سنظهر الخلاف بين هيگل واليسار الهيگلي في موضوعة الجدل (الديالكتيك)، الذي يصور هيگل على أساس ترابط العلاقة بين الواقع والفكرة، التي تنتج منها فكرة جديدة، لأكنها لا تنفك عن الواقع. أما ماركس فينظر إلى الجدل باعتباره العلاقة المتبادلة بين الواقع والفكرة، وهذه العلاقة هي علاقة تأثر وتأثير مستمرة. أما اليسار الهيگلي، فأنه ينظر إلى الديالكتيك على أساس الفكرة الجديدة التي تنتج من العلاقة بين الواقع والفكر، والتي يعول عليها في عملية تغير المجتمع (فلسفة الوعي الذاتي، أو فلسفة النقد). أما أنجلس فينظر إلى الجدل باعتباره حركة التغير والتناقض المستمرتين في الطبيعة والمجتمع.

" ومن المهم الإشارة إلى أن ماركس قد أنفصل عن سائر الشباب الهيڴليين، في نقطة رئيسية من البدء، وكان بذلك أميناً لفكر هيڴل الأساسي. والواقع إن ماركس إذا كان يشاركهم إيمانهم في ضرورة تحديد سير التاريخ بواسطة الفلسفة الأنتقادية، بغية إعطائها طابعاً ومحتوى عقليين، إلا أنه كان يرفض منذ ذلك الحين أن يفصل الفكرة عن الواقع والتفكير عن الوجود، والوعي عن الماهية، وكان ينبذ تصورهم ألمفهومي حول القدرة المطلقة للروح في تحويل العالم وفق مشيئتها" « كان هذا التناقض في الرأي يتمثل في أن ماركس، بعكس الشباب الهيڴلي الذين لم يكونوا يتوصلون، في جهدهم للتوجه نحو العمل، إلى تحقيق وحدة حقيقية بين النظرية والنشاط العملي، فاكتفوا على هذا الأساس بانتقاد نظري بحت، كان يريد، مدفوعاً بمشاعره لا اللبريالية فحسب، بل الديمقراطية العميقة، أن يعمل ويناضل حقاً وصدقاً، ويؤثر بصورة فعالة على العالم بغية تطويره، مما كان من شأنه أن يدفعه إلى تغيير طابع الفلسفة الانتقادية تغيراً عميقاً، هذه الفلسفة التي كانت تتخذ كأساس لنشاط اليسار الهيڴلي" ( كورنو. كارل ماركس)

سنعالج لاحقاً الخلافات بين هيكل وكل من فيورباخ وماركس حول موضوع الاغتراب، فالاغتراب لدي هيكل هو تموضع الروح في الطبيعة أو أن الطبيعة عبارة عن اغتراب الروح، أما الاغتراب لدي فيورباخ فأن يقتصر على اغتراب الفرد المسيحي الكاثوليكي في النظام الرأسمالي الأوربي.

" إن الإنسان إذ لا يجد رضي وراحة في الطبيعة ، يروح يبحث خارجها ،خارج الواقع الحسي ،عن واقع مافوق الطبيعي ... ومن جهة أخرى فأن الإنسان إذ يستلب (يُفرغ) في الله واقعه بالذات وجوهره الذي يصبح غريباً عنه ، إنما ينفصل عن النوع ويدخل في تعارض معه ,,, هذا الاستلاب للجوهر الإنساني وهذا القلب للعلاقات بين الله والإنسان ، الذي يتحول من ذات نشطة فاعلة إلى شيء أو موضوع منفصل ، تكن نتيجتها تصغير وتحقير الإنسان ، هذا الإنسان الذي حُرم من مزاياه الأساسية.. إن الإنسان إذ يُفصل عن الجنس البشري، الذي لم يبق له سوى وجود وهمي وبسبب تجسده في الله، إنما يعزل نفسه عن الجماعة البشرية فيصبح فرداً معزولا وأنانياً. ... إن عيب الدين الأساسي، والمسيحية بخاصة، هو انه يفصل على هذا النحو الإنسان عن الجنس البشري، كما أن تأليهه لهذا الفصل يحوله إلى انفصال أبلدي ومطلق...ولكي يعاد الإنسان إلى كينونته الحقيقية ، وهي الكينونة الجماعية ، ولكي يتاح للإنسان أن يعيش الحياة المطابقة لطبيعته الحقيقية ، التي هي حياة النوع البشري ، يجب تدمير الوهم الديني وأن تعاد إلى الإنسان الصفات والمزايا المستلبة منه في الله واحلال حب البشرية محل حب الله" (أنظر، لودفغ فيورباخ ، جوهر المسيحية) :وكورنو، مصدر سابق ص 253-254 . إما الاغتراب الماركسي فهو بصورة عامة اغتراب الفرد بالبضاعة، عن طريق العمل المأجور ، فالإنسان يُستلب بالعمل المأجور ، لأنه يجبر على الاستمرار بعمل يُكره علية ، ولايجد لذة فيه ، وناتج هذا العمل الإجباري ، هو بضاعة بعيدة عن مناله، ولايستطيع الأحتفاض بها باعتبارها نتيجة جهده الخاص ، بل أنها وللحضة التي يٌكمل بها شكلها ومحتواها ، تعود إلى شخص أخر وهو الرأسمالي . من أجل الخروج من هذه المعادلة الغير عادلة يجب حسب ماركس القضاء على الملكية الخاصة، ويصبح العمل ملك للفرد وللجماعة.
أن الاغتراب الديني ولد مع ولادة الديني الروحي، والدين الروحي الذي يقف بالضد من الدين الحسي ولد من فشل الإنسان من إقامة مملكة الأرض فعوض عنا بمملكة السماء ، ويمكن إن نرد بداية الدين الروحي من تبني اليهود ديانة الواحد (يهوه ) اله اليهود الوطني ، فبعد إن اخفق اليهود بتكوين وإدامة مملكة يهودا في فلسطين نتيجة الغزوات الآشورية أو البابلية أو المصرية ، توصلوا إلى مفهوم جديد للدين الروحي يعتمد على فكرة الله الواحد الخاص( بالشعب اليهودي )، وبهذه الصفة لايمكن إن نعتبر الدين اليهودي دين توحيد ، لأنه وبكل بساطة دين مجموعة معينة( الشعب اليهودي) . نتيجة لذلك تم تزيف كافة الآلهة الآخرين وإجبار أتباع هذه الديانة الجديدة بإتباع عقائد صارمة، ودليل على رفضهم الديانات الأخرى موقفهم من المسيح والديانة المسيحية وكذلك موقفهم الرافض لنبوة محمد صلى الله علية وسلم. يعتبر الدين الإسلامي الدين الوحيد الذي تنطبق علية صفة التوحيد ، لأنه قام بتوحيد القبائل العربية لعبادة رب واحد هو الله ، عكس الديانة اليهودية التي تقر بأن الرب هو اله اليهود وحدهم ، أما المسيحية فتقر بأن المسيح هو ابن الله وكلمته ، وهذا ما نفاه القران الكريم بسورة الإخلاص .
بسم الله الرحمن الرحيم (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد )
وكرد فعل ضد الديانات الحسية المترفة ، فلقد تم تحقير المادة، والحذر من التمتع بنعم الحياة( إذا فرحوا جنوا، كما يقول العهد القديم) وهذا إشارة إلى حياة الترف الذي كانت تعيشه الإمبراطورية الآشورية والبابلية الحديثة ، وردت الطبيعة إلى كونها مادة حقيرة ، عكس ما كانت لها من قدسية، وتم توجيه الأنظار إلى قدسية مملكة السما ء ، مملكة الروح والنقاء ، وهذا بدوره يظهر فشل وهروب من الواقع الغير نتحقق إلى واقع غير منظور و متخيل. أن إنسان الدين الحسي لم يكن يشعر بالاغتراب مع ألهه الحسي ، فهو وذلك الإله يشكلون وحدة منسجمة ، فالإنسان الذي أتخذ من الشمس إلها كان يجد في ذلك الإله المنافع المحققة للتو مثل الضوء والحرارة الضرورية لنضج مزروعاته ، وكذلك لتحقيق مفاهيم فكرية مختلفة مثل أن الشمس تكشف كل شيء ، فهي التي تكشف سوراق المواشي .
تدرج الإشارة بأننا بصدد إتمام دراسة تتناول تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة حول فكر العراق القديم ، مثل الأستبداد الشرقي ، حيث لم نعثر على أي وثيقة تثبت وجود معارضة شعبية للنظام الملكي، ولا توجد سجون لمعارضين سياسيين، بل أن الشعب السومري أو البابلي أو الآشوري كان يعتبر الطاعة للملك من الواجبات الدينية والمدنية ، وكان الملك والشعب يمثلون وحدة متماسكة ، وكذلك (اعتبار الثور المجنح ذو الخمسة قوائم) يمثل عملا فنياً كإبداع جديد بالفن الآشوري يعتمد على قدرة النحات بإظهار موهبة الفنية المتعددة الأبعاد ، بل أن هذا الصرح الكبير يمثل مفهوما دينياً سياسيًا هو رمز للأله أشور، وأن الضخامة جاءت من خشية الآشوريين من أن يقع ألههم أسيرا بيد الأعداد ، حيث كانت عادة آسر الآلهة معروفة وشائعة ، وأن القوائم الخمسة تمثل المدن المهمة التي تقف عليها الإمبراطورية الآشورية ، فبالإضافة إلى أربع مدن آشورية العواصم (لبلاد أشور أربع عواصم: أشور وهي الأقدم ونينوى وهي أخرها وأكبرها وخورسابد ونمرود- كالح القديمة- وهي أشهرها ) ( المصدر، نيكولا بوستغيت، حضارة العراق وآثاره، ت سمير عبد الرحيم الجلبي ) أضيفت بابل كمدينة مهمة لما لها من تاريخ حضاري وديني ، ولغاية سياسية هي محاولة لكسب رضا البابليين ومصالحتهم بعد كل الذي جرى لهم من تدمير لمدينتهم بابل وبصورة خاصة على يد سنحاريب أضيف القائم الخامس إشارة إلى مكانة بابل لدى ملوك آشور ، وكذلك لما ترمز إليه بداخل الإمبراطورية الآشورية . عندما قرر اسرحدون ان يتولى آشوربانيبال الخلافة من بعده وهو الآبن الأصغر ، كان هذا الأختيار موفقاً لما تمتع به آشور بانيبال من خصال قلما وجدت في السابق أو تكررت لاحقا، من الجدير بالذكر بأن أشوربانيبال هو الذي أشرف على وضع (قصيدة الخلق البابلية، النسخة الآشورية أي النسخة المعتمدة عالميا، كما إننا نؤكد في هذه العجالة بأن جورج سميث الذي اعتقد عام 1868 ، بأنه عثر على أوجة التشابه الكثيرة بين قصة الخلق البابلية وما جاء بالعهد القديم في سفر التكوين كان خطأ من عدة أوجه كثيرة منها بأن العهد القديم يؤكد بأن خلق العالم تم بإرادة الخالق الأوحد ، في حين أن قصة الخليقة البابلية تؤكد على ثنائية فعل الخلق. من جهة أخرى يؤكد العهد القديم على أن الخلق تم خلال ستة أيام ، في حين تؤكد قصة الخلق البابلية على أن خلق العالم أستغرق وقتاً كبيراً...الخ سنشرح هذه الأمور لاحقاً ) . تخطى سنحاريب بهذا الأختيار الأبن البكر شمش –شوم- اوكن ،لكن عينه ملكاً على بابل وبنفس اليوم.
إما الاغتراب العملي ، فهو اغتراب الفرد بالعمل المأجور ، وعكس ذلك لم يكن الإنسان في ظل الدين الحسي يخضع للاغتراب ، لأن ما كان ينتجة يلبي حاجاته المباشرة له ولعائلة وإفراد مجموعته ( هذا لاينطبق على عمل العبيد في تلك العصور ، لأن عملهم كان من باب الإجبار – الصخرة ) .
أن تشكيل الأحزاب أو الحركات التي تدافع عن الطبيعة(Ėcologistes) بالوقت الحاضر ، وبصورة خاصة في أوربا ، ماهي إلا عودة لاحترام الطبيعية،وإعادة الاعتبار لها ، لكن ليس بشكل دين ، بل بشكل دعوة تقول بأن الطبيعة والإنسان لهما مستقبل واحد وأنهما متحدين ، وبدون الحفاظ على جوهر الطبيعة ، فأن الإنسان هالك على المدى البعيد .

الخلاصة بأن ما عرف بصورة عامة وغامضة ومتناقضة بعض الشيء( باليسار الهيڴلي) ، بأنهم مجموعة من المثقفين الليبراليين المتنورين والذين لم يزد عددهم عن ثلاثة مائة سبارتاك مشترك في( حوليات هال) .

[email protected]









"اليسار الهيگلي " لا يسارا ولاهيگلياً


الدكتور شاكر الساعدي أكاديمي عراقي فلسفة

المقدمة
تهدف هذه الدراسة إلى تصحيح خطأ شائع استمر طويلا باعتبار تجمع (نادي الدكاترة في برلين) "الشباب الهيگلي" في بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ( شتراوس، باور، روك، سيازفسكي، كوبن، فيورباخ، ماركس، أنجلس، موسى هيس وأخرين.) بأنهم من إتباع الاتجاه اليساري في ذلك الوقت، ومن ورثة وأنصار الفكر الهيگلي، الذي انتشر حينئذ بعد تسنم هيگل كرسي الفلسفة عام 1818 في برلين، الذي ظل شاغرا بعد وفاة (فيخته).كما أنها ستلقي الضوء، وتصحح بعض المفاهيم الخاطئة حول الفكر الهيگلي، باعتباره يمثل نوعين من المفاهيم (اليمين واليسار)، أحداهما خارجية وهي رجعية تبريرية (النظام الفلسفي )، والأخرى داخلية وهي تقدمية، على ضوء المنهج الديالكتيكي، (لكنه مقلوب )، الذي صور خطأ وهو يسير على رأسه بدلا من قدميه. والحقيقة بان الديالتيك الهيگلي له قاعدته المثالية المنسجمة مع الفلسفة التأملية الهيگلية، وهو يسير على رجليه.
"الفلسفة التأملية هي وعي الفكرة، وهي وعي إلى درجة أن كل شي يفهم كفكرة"
" أن موضوع العمل الفلسفي لا يمكنه أن يكون إلا الفكرة " " فالنظام الهيگلي ينطلق من الفكرة ويعود إلى الفكرة، دون الكف أبدا عن المرابطة في الفكرة" هذه الفكرة لدى هيگل تبقى مرتبطة بالواقع، وعلية ففلسفة هيگل هي فلسفة تأملية موضوعية، فديالكتيك هيگل يقول ( الكل يتفسخ). "
وهيگل كان يعي جيداً الأسباب الحقيقية التي تقف وراء صعوبة وغموض بعض أعماله. ففي 1812 كتب إلى أحد تلاميذه بصدد كتابه (المنطق).
" يؤسفني أن يشتكي من صعوبة العرض. ذلك لأن طبيعة هذه المسائل المجردة ذاتها تجعل من غير المستطاع عند تناولها الكتابة بذات السهولة الممكنة في كتاب عادي. فالفلسفة التأملية الحقة لا تستطيع أن ترتدي رداء جان لوك أو الفلسفة الفرنسية العادية. وبالنسبة للمبتدئين ينبغي أن تظهر من جهة محتواها أشبه بعالم مقلوب كما لو أنها في تناقض مع كافة المفاهيم التي اعتادوا عليها ومع ما يبدو لهم موافقاً وما نسميه بالمعنى المقبول " ( هيگل، المراسلات, عن، دونت، هيگل والهيگلية. ت . ح. هنداوي)
( لقد طور ماركس وانجلس فلسفة مختلفة جداً عن فلسفة هيگل. لكنهما لم يعتقدا بأنهما أقاماها انطلاقاً من لا شيء إجمالا. وهما يجعلانها في تعارض مع الهيگلية بالنسبة لعدد من الجوانب، لكنهما لا يترددان بالمقابل أخذ ما يعتبرانه أفكاراً أساسية فيها. فالمنهج الديالكتيكي بالنسبة لهما ينطبق على قاعدة فلسفية مادية مثلما ينطبق على قاعدة فلسفية معاكسة أي المثالية " ( المصدر السابق ). وماركس يحدد بوضوح الاختلاف أو التعارض بقوله.
" منهجي في التطور ليس المنهج الهيگلي. لأنني مادي وهو مثالي. فالديالكتيك الهيگلي هو الشكل الأساسي لكل ديالكتيك، لكن فقط بعد تجريده من طابعه الصوفي، ( لم يكن هيگل صوفياً، الدليل على ذلك، نقده الموجه إلى الرواقية والأبيقورية اللتان أكدتا على ضرورة الانعزال عن الواقع للحصول على اللذة )، وهذا على وجه الدقة ما يميز منهجي " وهكذا فالتمايز والتعديل لا يعنيان الإلغاء. ( مصدر سابق ).
وماركس عاش في عصر غير عصر هيگل. وأعطى لهذا الأخير دور فيلسوف البرجوازية، بينما كان هو يتطلع، في عالم اقتصادي واجتماعي آخر إلى أن يكون فيلسوف البروليتاريا التي لم تكن قد عبرت عن نفسها بعد بصورة مستقلة، عندما كان هيگل يتابع الحياة الاقتصادية والاجتماعية " ( المصدر السابق). (هذا لا يعني رجاحة النقد الموجه إلى جدل الطبيعة "خرافة الجدل في الطبيعة" والاقتصار على جدل الإنسان كما تصوره لوكاش بأن الماركسية احتفظت بما هو حق في الهيگلية ورفضت المفاهيم التي تعارضها، وهو يحتفظ بمقولة (الشمول العيني) و( الحقيقي هو الكل)، وهذا التصور لا يستقيم إلا في جدل التاريخ وحده، لكنه ينسى بأن ماركس كان اقرب (اليساريين الهيگلين) إلى هيگل، لكنه لم يكن هيگلياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأنه يعتبر الصيرورة التاريخية هي عبارة عن علاقة متبادلة ومترابطة بين الواقع والفكر. أن هيگل الذي شجب الدوغمائية والطوبائية، قد جهد باستمرار للاحتفاظ بوحدة وثيقة بيت الفكر والوجود، بين الروح والعالم بربطهما ربطاً لا فكاك فيه (كورنو) أما سارتر فيؤكد "بان الجدل الماركسي للطبيعة اختراع طبيعة بلا إنسان، أما كوجيف فيقول، "لا يمكن أن يكون ثمة جدل بدون إنسان وبغير أنشطة الإنسان" (جدل الإنسان أو الفكر)، أو عقل يجُدّل مبادئه Dialectiser كما يلاحظ جاستون باشلار وهذا خطأ ( إلا إذا كان يقصد، أن يتبع العقل الطريقة الديالكتيكية كمنهج) لأن العقل لا يمكن أن يجُدّل مبادئه، لأن الجدل موجود خارج العقل، لأنه قانون، مثل قانون الجاذبية. وعلى العقل أن يكتشفه، وهم بذلك ينفون أن يكون الإنسان جزء من الطبيعة.
" كان مفهوم هيگل للتطور الجدلي للتاريخ يستلزم، في الواقع، صيرورة لا انقطاع فيها، وتغيراً مستمراً لا يمكن أن يعيّن له شكل معين بمثابة حد أو نهاية. إن كل واقع ذي صفة اقتصادية وسياسية واجتماعية أو حقوقية ينزع في الحقيقة، على أساس التقدم الديالكتيكي، إلى فقدان ما يتلبس به من طابع الضرورة التاريخية والمنطقية معاً في لحظة معينة، وهو يصبح غير عقلاني بسبب هذا الواقع، ويجب أن يفسح المجال، عوضاً عنه، لواقع جديد محكوم عليه أن يتلاشى يوماً ما. والحال، فبعكس هذا التصور ألمفهومي الجدلي، فان هيگل، الذي كان يميل أكثر فلأكثر نحو النزعة (المحافظة )، كان محمولا على أن يمنح مؤسسات زمنه، وبخاصة الدين المسيحي والدولة البروسية، قيمة مطلقة ويوقف بذلك عندهما سير التاريخ "( أنجلس، فيورباخ ونهاية). الحقيقة بأن أنجلس يتجنى على هيگل في موضوعي القيمة المطلقة للدين المسيحي والدولة البروسية، لأنه لم يرد في مؤلفات هيگل ما يثبت ذلك، يضاف إلى ذلك بأن هيگل فيلسوف ديالكتيكي فلا يمكن أن يضفي أي قيمة مطلقة لأي واقع ويوقف سير التاريخ!!!!!
كما سنصحح المفهوم الخاطئ حول مقولة هيگل الشهيرة التي نقلت بصيغة خاطئة، حيث وردت كالتالي: بمقالة أنجلس ( فيور باخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية)
( كل ما هو واقع هو معقول، وكل ماهر معقول هو واقع )
”Tout Ce qui est réel est rationnel et tout ce qui rationnel est réel” ، وهذه الصيغة الخاطئة تذهب عكس ما ذهب إليه هيگل، وهي تتعارض مع فكر هيگل الذي قال:
Ce qui est rationnel est réel ; et ce qui est réel est rationnel »
« (ماهو عقلاني، فهو واقعي، وما هو واقعي، فهو عقلاني)
(Was vernünftig ist،das IST wirklich، und was wirklich ist، das IST vernünftig
إني استغرب اشد الأسنغراب، بأن يقع أنجلس بهذا الخطأ الفادح. الظاهر بأنه لم يطلع على مقولة هيگل بصورة مباشرة, لكن عن طريق النقل الشفهي، أو الاقتباس من مصدر غير دقيق. مع ذلك فأن أنجلس في سياق الشرح ذهب إلى ما ذهب إليه هيگل حول الترابط بين الواقع والضرورة.
وهيگل يربط الواقع بالضرورة، ولكن الضروري في لحظة معينة يصبح غير ضروري، وعليه أن يفسح المجال لواقع ضروري جديد.
لقد استقبل هيگل الثورة الفرنسية بترحاب عميق 1789، يوم كان تلميذ بمهد ألاهوت، وكان عمره تسعة عشر عاما, وغرس مع صديقه شيلنج شجرة الحرية في أطراف مدينة توبنگن احتفاً بتلك الثورة، وكان يعتبر الثورة الفرنسية بأنها وليد الفلسفة وأول محاولة لإقامة دولة قائمة على العقل.
" لم يحدث قط أن رأينا الإنسان... يؤسس نفسه على الفكرة ويبني الواقع تبعاً لها... كان أذن شروقاً رائعاً للشمس " (هيگل: دروس في تاريخ الفلسفة". وذهب أكثر من ذلك عندما برر الإرهاب الروبسبيري، باعتباره محاولة لإعادة النظام إلى الدولة الفتية. كان هيگل معجباً بنابليون ولقد حياة عندما دخل "أينا" وسحق الجيش البروسي، ومقولة المشهورة، في خريف 1807 ( رسالة إلى صديقه نيتماير).
" لقد رأيت الإمبراطور روح العالم، على صهوة جواده، يرنو في الأفق ويهيمن على العالم".
( الحقيقة بأن هيگل، لم يصف نابليون بروح العالم ، Geist التي تقابل Esprit بالفرنسية، بل قال أنه Seele التي تقابل بالفرنسية âme, souffle التي تعني بالعربية نفس أو نسمة، لأن مفهوم الروح بالنسبة إلى هيگل مفهوم فلسفي يعني ( المطلق، الفكرة، الله، العقل ). وهذا لاينطبق على نابليون أوعلى أي شخص آخر.
لقد تعاون هيگل مع الاحتلال الفرنسي لبلده، وقام بتحرير صحيفة (بامبرج Gazette de Bamberg ) بالاتفاق التام مع الإدارة الفرنسية، وهو بهذا الموقف ينظر إلى نابليون باعتباره ضرورة واقعية، ويمثل بنفس الوقت شكل من إشكال تموضع (الروح التاريخي). لكن بمرور الزمن غير هيگل موقفه من الجمهورية الفرنسية ومن نابليون بناءاً على استمرار الإرهاب الغير ضروري، واعتبر ما قامت به فرنسا في ألمانيا هو( طغيان أجنبي بربري) ولم يعد ضروري.( خطاب هيگل عندما تسنم مركزه كأستاذ لقسم الفلسفة جامعة برلين خريف 1818. يرى بعض الباحثين بأن هذا الموقف لا ينم عن انتهازية، بل هو من صلب النظام الهيگلي. لايمكن مقارنة الأمس باليوم .
لا تهدف هذه الدراسة( الأكاديمية البحتة التي هي جزء من أطروحة ) إلى أي مقارنة (سياسية- فلسفية) بين الماضي والحاضر.. أي مقارنة فلسفة وعي ألذات، وفلسفة النقد الديني لجماعة "اليسار الهيگلي" التي كانت تهدف عن طريق النقد إلى عقلنة الواقع بإزالة العناصر اللاعقلانية عن الفلسفة، وبصورة خاصة فلسفة النقد، وفلسفة النقد الديني بصورة اشمل واعم.. المقارنة غير موضوعية بين أفكار واتجاهات تعود إلى ما يقارب قرنيين من الزمن، فكل عصر له فلسفة الخاصة واهتماماته الموسومة والمحددة بطابع الإنتاج البشري وعلاقاته الاجتماعية. علاوة على ذلك فان (اليسار الهيگلي) لم يكن منسجما بأغلب أطروحاته الفلسفية وتوجهاته (السياسية) اللاحقة، وظهرت خلافات عميقة بين (أعضائه) أدت إلى قطيعة واتهامات متعددة –سنشرحها لاحقا-
ومن ضمنها ما قاله روگ (روغه أو روج) اتجاه ماركس.
" كان يغلي غضباً على ماركس الذي أشار إليه بأنه (رجل حقير تماماً) و"يهودياً وقح".كما أن أحدا لاينكر إن روگ عمد بعد ذلك بسنوات إلى إرسال استرحام توبة إلى وزير الداخلية البروسي يخون فيها رفاقه في المنفى في باريس ويحمل هؤلاء (الشباب) مسؤولية الخطايا التي اقترفها في صحيفة (فورواتز)"
(فرانس مهرينج، كارل ماركس).
بعكس كارل ماركس وزوجته جيني، الذي كان أخوها غير الشقيق وزير داخلية لمقاطعة غرب ألمانيا ، فأنهنا لم يطلبا منه أي مساعدة، رغم الفقر المدقع الذي عاشاه مع أطفالهم في لندن، وفقدا اثنين 1852-1855 منهم نتيجة سوء التغذية والعناية الصحية.ومن المعروف فأن خلافاً قويا ظهر بين ماركس وروگ ادا بينهما إلى قطيعة كاملة وهو دفاع ماركس حول ضرورة بناء الحزب الشيوعي الذي اعتبره روگ نوعا من الديڴماوية التي تشبه إلى حد كبير ديڴماوية الأديان.
كان شتراوس ابعد الهيگليين للعمل بالسياسة، وكذلك روڴ بعد إطلاق سراحه، أهتم بالآداب والثقافة بصورة عامة بعيدا عن النشاط السياسي، لاسيما وان زيجة موفقة ساعدته على العمل بجامعة (هال)، وكان يعتبر نفسه تاجر أفكار بالجملة. ( أدت به زيجة موفقة إلى أن يصبح محاضرا في جامعة هال.فعاش حياة مريحة رغم مصائبه السابقة(قضى ست سنوات بالسجن)وسمح له ذلك أن يعلن أن نظام الدولة البروسية حر وعادل. وكان بالفعل يود أن يجعل من شخصه مصداقاً لقول الموظفين البروسيين الكبار من أن أحداً لا يستطيع النجاح أكثر من ديماغوغي مرتد) (كورنو)
والحقيقة إن صحيفة (حوليات هال) لم تكن في البدء ذات طابع سياسي وكانت تعني فقط بالفن والآداب، ويحث السلطات الرسمية على منحه مركزا مهما جزاء خدماته التي يقدمها باعتباره مدافعا عن الدولة البروسية.
(كان روگ يعتقد حينئذ أن ثمة توافقا بين فكرة الحرية ومبادئ "الإصلاح الديني"، ومباديْ الدولة البروسية) وكذلك (إن روگ بدعمه الحكومة البروسية ضد الكنيسة الكاثوليكية كان يأمل كسب تلك الحكومة إلى حد ما على الأقل إلى جانب النضال الذي كان يخوضه ضد الرجعية السياسية) ( كورنو، أوكست. ماركس وانجلس ).


قبل البدء بمعالجة موضوعنا، لابد من الإشارة إلى مراحل تكوين ماعرف لاحقا(المدرسة الهيگلية)، وهو خطأ تاريخي آخر، لان هيگل لم يسعى مطلقا إلى إنشاء مدرسة وتكوين إتباع، ولم يعرف عنه نقاش أو حوار خارج قاعات الجامعة. ولم يعرف كذلك بأن إتباع هيگل بصورة عامة شكلوا هيكلاً يعرفون به أنفسهم، عدا بعض الحوليات والمجلات التي تحتوي على مقالات تفسر هيگل على هواها وبما ينسجم مع توجهاتها (اليمينية أو اليسارية) وهو خطأ آخر، ارتكب بحق ذلك الرجل، لأن هيگل لم يتبنى في يوم من الأيام أي شكل من الأشكال السياسية، لأنه وببساطة كان فيلسوف الواقع، وكان يردد دائما بان مهمة الفيلسوف هو محاولة فهم وإدراك الواقع وليس وضع نماذج للمستقبل.

يمكن أن نطلق على تلك الفترة الأولى:

--- فترة الحماس الهيگلي، حيث شمل من يؤمنون بالفكر الهيگلي، عدة اتجاهات مختلفة ومتناقضة، ستفجرها التحولات الاجتماعية الألمانية المتلاحقة (الثورات العمالية).

" انتشرت الهيگلية في هذه الفترة حتى أوشكت إن تصبح العقيدة الرسمية للدولة البروتستانتية، وبعد إن كان عدد طلابه محدودا ًتوافد عليه المئات من الطلاب من جميع أنحاء البلاد.بل أصبح الأيمان بالهيگلية من الوسائل التي تمكن الفرد من الحصول على الوظائف الحكومية ومن الترقي في هذه الوظائف، حتى إن أستاذا لعلم النفس التجريبي فصل من الجامعة لأنه هاجم الجانب المثالي في الفلسفة الهيگلية. وبتداءاً من عام 1823 بدا الأساتذة في تدريسها وبدأت تتكون العصبة الأولى من الهيگليين المتحمسين، ومن تلامذته المشهورين في هذه الفترة (غانس-مانسز) و(ماهرنيكه) و باور... ولقد جرت عليه هذه الشهرة الكثير من العداء خاصة وان بعض تلاميذه اندفع في حماس إلى الزعم بأن (كل من ليس هيگلياً فهو أحمق) ومن هنا وقعت العداوة بينه وبين بقية الفلاسفة في عصره. فبعد إن كانت العلاقة قوية بينه وبين(شليرماخير)رئيس الأكاديمية في برلين، فترت ثم انقلبت إلى عداء وهجوم صريح"

--- فترة التكوين أو العصر الذهبي للشباب الهيگلي و ( لليسار الهيگلي)، بدأ بظهور كتاب شتراوس (حياة المسيح) إلى وفاة گيوم الثالث1840.

--- فترة الراديكالية السياسية مع بداية حكم گيوم الرابع.

رغم إطلاق صفة اليسار بالمفهوم السياسي على (اليسار الهيگلي) فان اهتمامات تلك المجموعة بالسياسة خلال فترة حكم گيوم الثالث كانت متراجعة إلى الخلف. كان الاهتمام الأهم هو (فلسفة النقد الديني) أو الدين المسيحي الكاثوليكي وكنيسة البابا في روما مقابل البروتستانتية واتجاهها اللوثري أو بما يعرف بالإصلاح الديني.
كان لذلك التراجع ظروف موضوعية فرضتها سياسة فردريك گيوم الثالث بعد دحر حملة نابليون 1814 وسيطرة (الحلف المقدس) 1815، وعودة الملكية في عموم أوربا، فتم قمع الحركات السياسية التي شاركت في دحر الاحتلال الفرنسي. لقد أدت حملة ملاحقة (الديماغوغيين) إلى اعتقال كثير من الذين شاركوا في حرب التحرير والى تشريد قسم منهم خارج ألمانيا واعتقال وسجن البعض الأخر، تكللت تلك الحملة بمنع إصدارات (ألمانيا الفتاة) التي كانت تعبر عن روح التحرر من السيطرة الأجنبية والاضطهاد القومي.
كانت السياسة كما يقول انجلس أرض شائكة.
(وحوالي نهاية الثلاثينيات، كان الانقسام في المدرسة الهيگلية يغدو ظاهريا أكثر فأكثر. فالجناح اليساري، أي أولئك الذين يسمون "اليسار الهيگلي، تخلى، في نضاله ضد التزمت التقوى والرجعية القطاعية، عن هذا التحفظ الفلسفي المتميز، الذي كان قد ضمن حتى ذلك الحين للمذهب الهيگلي تسامح الدولة وحتى حمايتها... كان الصراع ما يزال يخاض بأسلحة فلسفية، ولكن ليس لأغراض فلسفية مجردة، ذلك لأن موضوع الصراع كان تدمير الدين التقليدي والدولة... كانت السياسة ما تزال أرضا شائكة لذا جرى توجيه المعركة الرئيسية ضد الدين ).( أنجلس، لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الامانية) .
" أن اهتمام ألمانيا المعاصرة الرئيسي ينصب على الدين وفي المكان الثاني فحسب على السياسة، سواء رضي المرء عن ذلك أم لم يرض" ( فرانس مهرينڴ – كارل ماركس)
" أما الهيگليون الشباب فكانوا ما يزالون مثاليين، وكانوا يؤمنون بنوع من تجديد يصيب الإنسان والمجتمع، أكثر من إيمانهم بالثورة، وكانوا يرون أن الفكر، والنقد الحر، يكفيان للقيام بهذا التجديد. وكان أقصى ما يمكن أن يذهبوا إليه"ثورة في الضمائر... لا ثورة سياسية". ( هنري لوفيفر. كارل ماركس)
" فالهيگليون الشباب، الهدامون في مجال الدين، ظلوا أحياناً محافظين في مجال السياسة – كشتراوس- "
( جاك دونت. ت.ل والهيگلية. ت . حسين هنداوي)

(ونظرا لأن انتقاد الكنيسة وطقوسها كان أقل خطرا من انتقاد الدولة ومؤسساتها، فان الشباب الهيگليين وانسيكلوبدي القرن الثامن عشر الفرنسيين وجهوا هجماتهم الأولى ضد الدين قبل خوض النضال على الصعيد السياسي. وكانوا يواصلون بذلك، على كل حال، ولكن بكيفية مختلفة، الكفاح المضاد للدين، الذي كان خاضه قبلهم كتاب "ألمانيا الفتاة"الذين كانوا يستوحون السان سيمونية). ( كورنو)

يضاف إلى ذلك فأن مصطلح اليسار هو مصطلح فرنسي بامتياز، وتم بعد الثورة الفرنسية في 14 تموز 1789 حيث انقسم السياسيون في الجمعية الوطنية إلى يساريين.. يسار رئيس الجمعية( القاعة) والذين يؤمنون بالتقدم والإصلاحات ويطالبون بالاقتراع العام والمساواة، وبين يمين القاعة الذين يمثلون النظام الإقطاعي السابق، فاليمين واليسار كان مجرد اختلاف في كراسي القاعة.كما إن مصطلح الشيوخ والشباب الهيگليين غير موفق، فان غانس العجوز كان الأب الروحي للشباب الهيگلين، وان برنو باور-الشاب- داينمو الشباب الهيگلي لاحقاً، بدأ كأحد أفراد الشيوخ الهيگليين مع أستاذه العجوز ماهر نكه بالرد على كتاب شتراوس (حياة يسوع) ،
وفرنسا باعتبارها المثال الحقيقي لصراع الطبقات كما يقول كارل ماركس،( ساعدت الثورة الفرنسية ماركس إلى فهم طبيعة الصراع في المجتمع ، كما ساعد الاقتصاد الانكليزي أنجلس إلى فهم طبيعة الرأسمالية) فان اتجاهات اليسار الفرنسي وقتئذ تختلف جذريا عن اتجاهات اليسار الألماني، ومن المعروف فأن الاتجاهات التقدمية الألمانية ظهرت بتأثير فرنسي، فلسفة الأنوار وأطروحات (سان سيموت –فوريه- أوين) وتعززت بعد الثورة الفرنسية وبعد حملة نابليون والتي كان مرحب بها في المناطق المحتلة، حيث أدى احتلال نابليون لأجزاء من ألمانيا إلى تغير مهم في عقلية وأرضية المجتمع الألماني، وكان إدخال المكننة الحديثة إلى ألمانيا وفتح المشاريع الاقتصادية الصناعية بصورة أوسع أدى إلى خلق (بروليتاريا مصطنعة) في الجزء الغربي من ألمانيا وست فالي.. وكذلك أدى إلى خلق (برجوازية مصطنعة) فمصادرة أملاك الكنيسة وأراضي النبلاء من قبل نابليون استفاد منها الفلاحين المتوسطين والأغنياء من البرجوازية الصغيرة، وكان إنشاء المعامل والمصانع الحديثة التي جلبت من فرنسا أدي إلى ترك الفلاحين الفقراء مهنة الزراعة والالتحاق بالمدن للعمل بالمصانع الجديدة، ولقد حافظ البروليتاري الجديد على عاداته وتقاليده السابقة والاحتفاظ بدينة ومعتقداته الموروثة، وهذا مانسميه (البروليتاريا المصطنعة) أي إن البوليتاريا هذه لم تجتاز المراحل الطبقية التي تكلم عنا ماركس، وأدت هذه الحالة إلى إيجاد شكل جديد ومختلف حول( خصوصية الطبقة العاملة الألمانية، الخلافات العميقة بين لاسال وماركس، حيث كان لاسال ضحية خداع بسمارك، وكان الشعور القومي الوطني هو الغالب بصفوف الحركة العمالية الألمانية، على الشعور ألأممي) عندما يقرر العمال الألمان احتلال محطة قطار فأنهم يشترون تذاكر الدخول إلى المحطة. لكن بمرور الزمن تغيرت تلك الطبيعة وأظهرت الطبقة العاملة في ألمانيا وجه جديد تمثل بثورات 1830 و1848.وبالمقابل فان البرجوازية الألمانية لم تقف بمثل ما وقفت به البرجوازية الصغيرة الفرنسية بإسناد الحركة التقدمية.

"ولان حركة اليسار الهيگلي لم تجد لدى البرجوازية الألمانية، بسبب ضعف هذه البرجوازية ونزعتها شبه المحافظة، الدعم الثوري الذي وجده الموسوعيون الفرنسيون في القرن الثامن عشر لدي البرجوازية الفرنسية، فقد كان عليها أن تظل حركة أيدلوجية بصورة أساسية" كورنو، أوگست.كارل ماركس وفرد ريك أنجلس"

شكل (اليسار الهيگلي ) وهو اتجاه لدى البرجوازية الصغيرة الألمانية ذات الاتجاه الخاص كما اشرنا سابقا (أساتذة جامعة ) حلقة من ذلك الاتجاه الفكري النظري الذي يعُول على إن مجرد إدراك ونقد الواقع يؤدي حتما إلى تغيره بمجرد نضوج العامل الذاتي (الوعي) والعامل الموضوعي (الاستغلال الرأسمالي) حتى تنضج التفاحة ويسهل قطفها، ولقد أدى هذا الاتجاه إلى انهيار (اليسار الهيگلي) لأنه لم ينظر إلى العلاقة بين الفكر والواقع وضرورة التأثر والتأثير المقابل كعامل مهم في الصيرورة التاريخية، كما انه لم يدرك وقتئذ بان القوة المادية لا يمكن تغيرها إلا بالقوة المادية، وهذه ستكون مهمة كارل ماركس بعد إن ينفصل نهائيا عن أطريحات (اليسار الهيگلي) ويتوصل إلى فهم جديد للصيرورة التاريخية وهي المادية الديالكتيكية. ولهذا السبب لم يدافع كارل ماركس عن أطروحة للدكتوراه مباشرة أمام الأساتذة ، لأنه توصل إلى مفهوم جديد للعلاقات الاجتماعية تتعارض مع أطروحته الهيگلية.
نشر ماركس في " دويتشه –فرانزوسيش ياربشر " مساهمتين: "مقدمة لنقد فلسفة الحق عند هيڴل"، وملاحظات عن كتابين في المسألة اليهودية اصدرهما برونو باور. وعلى الرغم من اختلاف المساهمتين اختلافا بيناً في موضوعيهما، إلا أنهما كانتا مرتبطتين ارتباطا وثيقاَ في محتواهما الأيدلوجي. وفيما بعد لخص ماركس نقده لفلسفة الحق لدي هيڴل بالقول، أن مفتاح فهم التطور التاريخي يكمن في دراسة المجتمع، الذي يحتقره هيڴل، وليس في دراسة الدولة التي يمجدها. وفي المساهمة الثانية يعالج ماركس وجهة النظر هذه بقدر اكبر من التفصيل الذي عالجها به في المساهمة الأولى" ( فرانس مهرينڴ، كارل ماركس)

: ملاحظة مهمة ، أن المجتمع الذي يحتقره هيڴل هو المجتمع المدني – تجمع اثنيات وطوائف- والخالي من الوحدة الروحية المتماسكة ، روح الشعب ، اما الدولة التي يمجدها هيڴل فهي دولة الشعب الحيوي الواحد الموحد ولست دولة التجمعات الاثنية والدينية والطائفية الممزقة عملياً بحروبها المتسترة تارة أو العلنية تارة أخرى. أن الدولة الحقيقية لدى هيڴل هي التعبير الحقيقي عن المجتمع الحقيقي.

لقد ساعد ابتعاد ماركس من ألمانيا 1843 ولجوؤه إلى فرنسا الاتصال بالحركات الثورية الفرنسية والتي ساعدته إضافة إلى الواقع الفرنسي وقتئذ إلى فهم جديد للصيرورة التاريخية، فكان ذلك الابتعاد بمثابة هدية لا تقدر بثمن، ونحن نعتقد بأنه لو تسنى لماركس المكوث كلياً في ألمانيا وبجوها الثقافي حينذاك لانتهى إلى فيلسوف ليبرالي تقدمي.

كما إن حركة( اليسار الهيگلي) كانت مصونة ومحمية ومرحب بها من قبل الدولة البروسية وكان إتباع هيگل (اليسار الهيگلي) يتبؤون أهم المناصب في الجامعات الألمانية وكان هناك نوع من التحالف بين الدولة و(اليسار الهيگلي).

" هذه الفلسفة كانت تتمتع حينئذ يرضى الحكومة البروسية، وقد أصبحت الفلسفة الرسمية للدولة، وكان التنشتاين Altenstein (وهو موظف هيگلي )وزير التعليم العام وشؤون العبادة، يشجع وصول الهيگلين إلى كراسي التعليم في الجامعات ،كان جميع هؤلاء الدكاترة في الفلسفة أو التاريخ أو اللاهوت أنصارا متحمسين للفلسفة الهيگلية، التي كانت تبدو لهم أنها أعطت حلا نهائيا للقضايا الأساسية "
(«روك، روغه، روج." صراع الدولة البروسية مع الكنيسة الكاثوليكية، كورنو، أوكست كونت. حياة كارل ماركس وفريدريك أنجلس"
لابد من الإشارة إلى إن سياسة التسامح التي كان يتمتع بها (اليسار الهيگلي ) إلى أواخر حكم گيوم الثالث، كانت تعبيرا عن دهاء ملكي ضمن صراع الملك گيوم الثالث مع البابا وممثلي الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا حول مسألة (الزواج المختلط) يعني زواج البروتستانتي مع الكاثوليكية.. ولقد شغلت تلك القضية التي عرفت بقضية كولونيا الرأي العام الألماني ردحا من الزمن، فكان الملك يصر على إن أبناء الزواج المختلط هم بروتستانت بالضرورة، ولقد استخدم الملك (اليسار الهيگلي) لتقوية موقفه اتجاه الكاثوليك وتهديد البابا بحملات (اليسار الهيگلي) ضد الدين المسيحي الكاثوليكي.
" وبدأ الهجوم ضد (حوليات هال) بصدد نزاع نشب بين رئيس أساقفة كولونيا والحكومة البروسية بصدد حالات الزواج المختلط. ونظراً لأن الكاتب المونتاني المتطرف من أنصار البابا غٌورس قد اتخذ جانب الدفاع عن الكاثوليك الرينانيين، فقد تعرض لرد عنيف من ه. ليو الأستاذ الجامعي في هال الذي اتهمه باستأناف السياسة القديمة المناصرة للبابا بشكل مطلق(guelf) ودعم مصالح البابا ضد مصالح ألمانيا" ( كورنو. كارل ماركس) _ حوليات هال _ جريدة( اليسار الهيڴلي ) كان يحررها روڴ.

كما لعب برونو باور دوراً مهما في إبعاد ماركس عن نشر إي نقد للدولة البروسية ،أملاً بأن تعطف علية الحكومة بتثبيت مركزه كأستاذ للفلسفة في بون.( عندما انتقل إلى بون استمر يراسل ماركس في برلين، واتفقا على إصدار مجلة تم الاتفاق على اسمها وهو:أرشيف الإلحاد: لكن باور تراجع بعد ذلك، وعندما شرع ماركس بنقد المحاولات التي كان يقوم بها الكاثوليك والبروتستانت للتوفيق بي الأيمان والعقل، كان ماركس يعتزم بادىء بدء مهاجمة( الهيڴليين الشيوخ )وبخاصة مارهينكة أستاذ الاهوت في برلين الذي كان معلم باور. لكن باور عارض ذلك واستجاب ماركس لنداءات باور في مراعاة اليمين الهيكلي وبجانب هذا جهد باور لتجنب نشر أي مطبوع لماركس ضد الدولة البروسية. ) "لا تتأخر كثيرا بعملك حول فلسفة الدين وحذاري أن تتركها.... وقبل كل شيء عليك محاباة مهرنكه ( أستاذ بوير) لأن ذلك سيحرجني كثيراً" رسالة بوير إلى ماركس 30 آذار 1840

لقد حيا برنو باور احد أهم رموز( اليسار الهيگلي) ارتقاء گيوم (غليوم) الرابع عرش الدولة البروسية التي كان (اليسار الهيگلي ) يعول عليها كثيرا بصراعهم ضد الكنيسة الكاثوليكية بعبارات تقريظية حيث قال.
" ساد الظلام الوعي البشري أكثر فأكثر، فاقدا الأيمان في ذاته، وبروح الأزمنة الحديثة وفي مصيره، ولقد تخلى الناس عن الأمل في الحرية وسعادة جديرة بالبشر... ولكن هاهو الربيع يخضوضر مجددا في القلوب، والرغبات المخنوقة منذ زمن طويل، والآمال شبه المنطفئة تستيقظ. والناس وهم يرفعون رؤوسهم، ينظر بعضهم إلى البعض بصراحة أكثر وبوضوح اكبر، ويستعيدون الاتصال فيما بينهم. كل شيء يبدو قد تحول، لم يعودوا هؤلاء الناس الذين كنا نلتقي بهم فها هو كل منهم يسير بمزيد من الاندفاع والبهجة، وينعكس فجر من الأمل على وجوه الجميع، ويشع التألق في العيون، وكأنما جميع القلوب تريد إن تتدفق في لحظة بجذل وسرور" برونو باور، صعود وسقوط الراديكالية الألمانية، 1842»الطبعة الثانية برلين 1850، ص، 5
إن الدولة البروسية البروتستانتية كانت تدعي استيعاب (الروح البروتستانتية) لتفسير الدين المسيحي الذي يعني بالضرورة فصل الدين عن العقائد واستلهام الحرية، وضمن هذا التوجه (التحرري) انخرط (اليسار الهيگلي) بالدفاع عن الدولة البروسية البروتستانتية باعتبارها تجسيدا للحرية، مقابل الدوكماتيكية الكاثوليكية وكان هذا التوجه التحرري نتيجة للإصلاح اللوثري البروتستانتي الذي عرف باسم Aufklaerung عصر التنوير الألماني الذي يختلف جذريا عن عصر الأنوار في أوربا الغربية الذي كان هيگل يصفه بعصر الأنوار البائس( الذي كان يدعو للتوفيق بين الدين والعقل ويؤكد احترام الحرية الفردية)، فعصر الأنوار الألماني يعني (الإيمان بالله عن طريق العقل لا عن طريق الوحي والإلهام )، أو روح البروتستانتية المجردة من كل عقيدة دينية والمجسدة في فكرة الحرية. لقد كتب كوبين وهو احد أقطاب (اليسار الهيگلي) يقول:
" لقد آن الأوان تماماً لكي تتوقف الخطب التافهة ضد فلاسفة القرن الثامن عشر، وان يعترف حتى باستحقاقات فلسفة الأنوار الألمانية رغم طابعها الممل. والحقيقة أننا مدينون لها بالكثير، بنفس مقدار ما ندين به للوثر ولرجال الإصلاح الديني..... إن فلسفة الأنوار كانت بروميثيوس الذي حمل إلى الأرض القبس السماوي لكي ينير الطريق للعمى، للشعب، لتحريرهم من أفكارهم المسبقة وأخطائهم."
(كوبين:"فردريك الكبير) عن كورنو، ماركس وأنجلس).

كان هيگل من أكثر الفلاسفة الألمان الذين يدافعون عن قيمة العقل الإنساني وقابليته بادراك المطلق(الله ) وان العقل الإنساني لا يحتاج إلى واسطة لمعرفة الله، وهو بهذا الاتجاه أنكر النبوة والأنبياء ، حسب المفهوم البابوي، كمرسلين من قبل الله وكان يعتبر المسيح احد الحكماء، واعتبر القصص التوراتية إعمال أدبية، كما انه شكك بكثير من رواياتها، ورفض المعجزات. لكن هيگل يؤمن بالوحي الشخصي الذي يتعرف على حقيقة (المطلق –الله)بصورة فردية عن طريق التأمل الفلسفي الذي ينقل الإنسان من درجة إلى أخرى، حتى يصل إلى إدراك المطلق، عن طريق العقل. وهذه الطريقة تتعارض مع التصوف، لأن هيگل يعارض تماماً الانعزال عن الواقع، وهو ضد طلب السعادة والراحة النفسية برفض المجتمع. وعلى هذا الأساس فلقد انتقد الرواقية والأبيقورية واعتبراهما فلسفة للبؤس، التي تعبر عن حالة الإمبراطورية الرومانية التي قتلت كل ما هو جميل في الحضارة اليونانية.
" أن كل ماكان في الشخصية الروحية من جميل ونبيل ، قد دمر بلا رحمة في شقاء الإمبراطورية الرومانية. ففي هذا العالم حيث كان يسيطر الطغيان اضطر الفرد أن يبحث في ذاته وبصورة مجردة عن المتع التي كان الواقع يمنعها عنه. وقد اضطر بصفته احد الرعايا للجوء إلى التجريد في شكل تفكير وان يجد ملجأ في حرية الذات الداخلية" ( هيگل، المؤلفات الكاملة، شتوتغارت، 1928 تاريخ الفلسفة ، الجزء الثاني ص 434)
وهو في كتابه (حياة المسيح) يعتبر السيد المسيح حكيماً. ويقارن بين الديانة الشعبية اليونانية المرحة والديانة المسيحية الحزينة التي أنهكتها الطقوس المملة والقرابين المقدسة، والثياب السوداء. واعتبر هيگل كافة الأناجيل أنتاجات أدبية.
في عام 1793 تخرج هيگل من معهد ألاهوت البروتستانتي في توبنگن، وكان من المفروض أن يصبح راعيًا رسولياً، لكنه عدل عن ذلك لأسباب فلسفية، وليس كما قيل انه أتبع نصيحة مرؤوسيه بعدم قدرته على الخطابة والوعظ. أن السبب الرئيسي لعزوف هيگل عن متابعة دراسة ألاهوت، هو توصله إلى مفهوم جديد للواقع ومن ضمنه الدين، وهم المفهوم العقلي الذي سيشيد عليه هيگل كامل نظامه الفلسفي.
أن مهنة (مُؤدب) التي مارسها هيگل في ببرن وفرانكفورت بين أعوام 1893-1800) تدل على مقدرته على التعليم والإقناع، عكس ما ذهب إليه أساتذة ألاهوت، وفي تلك الفترة انتقل من ألاهوت إلى العلوم ومحولا اهتماماته للتاريخ والسياسة.
في برن وقع هيگل أسيرا لكانت وللعقليين من فلاسفة القرن الثامن عشر، وكتب وهو تحت تأثيرهم مقالات لم تعرف حتى نشرها (نول Nohl ) عام 1907 منها "وضعية الديانة المسيحية" و"حياة يسوع". وقد هاجم في هذه المقالات الكنيسة بعنف مفسراً الأسباب التي حولت الديانة المسيحية إلى ديانة تثقل ظهرها بالسنن والشرائع حتى غدت ديانة حزينة معتمة إذا ما قورنت بديانة اليونانيين القدماء.
" فالأعياد الشعبية عند اليونان كانت كلها أعياد ًدينية... أما معظم أعيادنا العامة، فأن الفرد يتقدم للمشاركة في القربان المقدس في ثياب الحداد ليلاً مكسور الخاطر.... بينما الإغريق بما هبتهم الطبيعة من مواهب يضعون أكاليل الزهور ويرتدون ملابس زاهية، وهو يقارن بين سقراط والسيد المسيح فيقول مفظلاً الفيلسوف الأثيني:
"بالطبع لم يسمع إنسان قط إن سقراط ألقى عظاته من منصة الخطابة أو من فوق جبل، وكيف كان يمكن لسقراط إن يلقي عظات في بلاد اليونان...( وهل يمكن لإنسان عاقل في العراق أن يقول أنا شاعر) انه لم يستهدف إلا تنوير الأذهان فحسب، ولهذا لم يكن عدد أصدقائه محدداً! ربما كانوا ثلاثة عشر صديقاً أو أربعة عشر لكنه كان يرحب ببقية الناس كأصدقاء سواء بسواء، فلم يكن رئيساً عليهم يستمدون منه الحكمة كما يستمد أعضاء الجسد من الرأس عصارة الحياة، ولم يفكر إن ينظم جماعة تكون له حرس شرف! بزي واحد وتدريب واحد، وشعار واحد، جماعة ذات روح واحدة تحمل اسمه إلى الأبد، بل كان لكل تلميذ من تلامذته هو نفسه أستاذا... وكثيرون منهم انشأوا مدارس خاصة ينشرون فيها تعاليمهم، كثيرون غيرهم كانوا قواداً عظاماً وساسة وإبطالا من كل حزب... ولم يدع لواحد منهم مبرراً إن يسأل، كيف... أليس هذا ابن (سفروفيسكس ) أنى له كل هذه الحكمة التي يتجرأ ويعلمنا إياها)... ولم يحاول قط إن يضايق أحدا أو أن يفاخر بما له من أهمية أو أن يستخدم عبارات رنانة غامضة من ذلك النوع الذي لا يؤثر إلا في الجهلاء والسذج( إمام عبد الفتاح إمام ). وهيگل في نقده الدين (الدوگماتي)لا يرى في المسيح إلها تأنس بقدر ما يرى فيه إنسانا تأله. وما الدين في نظره إلا "الإنسان المرتفع عن الحياة المتناهية إلى الحياة الامتناهية" (گارودي..كارل ماركس. ص 119، ت، طرابيشي)

وهيگل لا يتستر بتاتاً على أحد المصادر الرئيسية لفلسفته... وهو الدين المسيحي بنموذجه اللوثري.
"فبحسب هذا الدين وفي مبدئه، الله موجود في البدء ككائن روحي محض ثم قام بخلق العالم بما فيه الإنسان، ثم أخيرا أرسل ابنه إلى هذا العالم ككائن طبيعي في البدء لكي يجعله روحانياً ولافتداء المخلوق البشري الذي كان في غضون ذلك قد ضل عن خالقه. على هذا المخطط المعدل قليلا والمعلمن ظاهرياً يشيد النظام الهيگلي نفسه ف"الله" فيه يصبح "الفكرة المطلقة والكلية، إنما غير الواعية بذاتها في البداية". وعليه من الممكن دراسة الفكرة في نشاطها المحض، وهي حينذاك "كفكر الله قبل الخلق"إذا جاز القول، وهذا موضوع علم المنطق" ثم تأتي إمكانية متابعة النتائج المترتبة عن "القرار"الذي تأخذه الفكرة لتتحول إلى طبيعة "أي لتغدو ما هو أكثر خارجيا وغريبا عليها. وهي عند ذلك وبشكل ما:كالعالم بعد الخلق الإلهي"، وهذا موضوع "فلسفة الطبيعة" وأخيرا نستطيع تحليل تاريخ استعادة وإعادة استبطان هذا العالم الخارجي الطبيعي. فالمفهوم، المتجسد في الإنسان، يسترجع الطبيعة ويردها إلى الفكرة التي بفضل هذه الصيرورة تصبح موضوعاً وتتحقق كعقل، وعندئذ نحن بشأن المصير العقلي للعالم، وهذا موضوع "فلسفة الروح" (جاك دونت.هيگل والفلسفة الهيگلية، ترجمة، حسين هنداوي )

يمكن تحديد بداية ظهور "اليسار الهيگلي" بعد صدور كتاب دافيد شتراوس عام 1834، (حياة المسيح) إلى ظهور كتاب كارل ماركس (مساهمة في نقد فلسفة الحق الهيگلية) أو ما يعرف بمخطوطات 43و44، ورغم قصر تلك الفترة (عشر سنوات) سيطرت أطروحات (اليسار الهيگلي) على مجمل النشاطات الثقافية في تلك الفترة، في منطقة بروسيا ومنطقة الريناني.

كما سنتطرق إلى مفهوم هيگل عن الدولة وبصورة خاصة الدولة البروسية البروتستانتية، الذي فهم خطأ، بأن هيگل مجد الدولة الألمانية وأعتبرها نهاية المطاف والدولة الكاملة وأوقف حركة التاريخ. في حين أن موقف هيگل من الدولة( في لحظة وجودها دولة ﮔيوم الثالث) يقوم على أساس أنها تجسد روح الشعب ( الشعب الحيوي)، وتجسد روح البروتستانتية التي تعانق الحرية. والدولة لا توجد إلا بوجود القوانين واحترامها، فبدون احترام القوانين لا توجد دولة، ( كان هيگل يرى أن الدولة( وهي تجسيد للفكرة المطلقة) تنشى نظاماً عقلانياً في المجتمع وفي الحياة السياسية، وهي تحافظ على النظام. والمجتمع _في نظر هيگل_ تنبع أصوله من "الدولة" والدولة السياسية- في رأيه- هي أسمى من الناس الخاضعين لها)، وكان يعتبر شرفاً رفيعاً انتماء فرد وعيشة داخل دولة.
" أن الدولة الواقعية، المكونة تاريخياً، هي الدولة بكونها روح شعب ما. وهذا المفهوم لروح شعب ما (Volksgeist) هو مركزي في الفلسفة الهيگلية للتاريخ والذي بموجبه تأخذ الروح، تاريخياً، بصورة عبر الوجود التاريخي للشعوب التي تضفي عليها الروح بذلك الروح الخاصة بالشعوب وهي ليست الروح الذاتية لإفراد ولا الروح الشمولية كما تتم في مجموع العالم وتاريخه"
(جان بيار لوفيفر ،بيارماشيري، هيگل والمجتمع، ت، منصور القاضي)
" لا يمكن لحق الإرادة الفردية أن يجعل نفسه معترفاً به إلا بالخضوع إلى قضاء الروح الشمولية " (المصدر السابق) (مع العلم بأن هيگل صرح قبل ذلك أثناء تشتت ألمانيا إلى دويلات، بأن ألمانيا لست دولة) وأن الأسرة تؤلف الوحدة الأولى في تكوين الدولة. فالدولة البروسة في زمن هيگل تمثل تجسيداً لروح الشعب الألماني الذي اعتنق المسيحية بنموذجها اللوثري ذا الطابع التحرري، وهنا يكمن سر تأيد
( اليسار الهيگلي ) للدولة البروسية في ذلك الزمن. وهذا المفهوم للدولة ينطبق على كل الأنظمة السياسية التي تفتخر بنماذجها، وتعتبرها الأفضل حتى في هذا الزمن. وهيگل بمفهومه هذا حول الدولة لم يوقف حركة التاريخ كما تصور بعض الباحثين، لأنه تحدث عن دولة في لحظة محددة، لقد وجد هيڴل بالدولة البروسية الواقع المادي لمفهومه الفلسفي ، ولقد وجدت الدولة البروسية بالفكر الهيڴلي واقعها الفكري ، كما وجد ماركس بالطبقة العاملة سندة المادي ، وجدت الطبقة العاملة بالفكر الماركسي سندها النظري ، وهنا تكمن روعة الديالكتيك المادي، أو المثالي.
لقد عارض هيگل روسو بناءاً على مفهوم العقد الاجتماعي، الذي يخص بنظر هيگل (المجتمع المدني) وليس الدولة. حيث إن الدولة هي روح شعب، وليس تجميع مكونات مختلفة الأثينيات فأن مثل هذا التجمع لا يعبر عن دولة (روح شعب معين) بل أنه خليط من الأرواح، وبالتالي لا يمكن أن تنسجم الإرادات والمصالح ويفتقد مفهوم التضامن، حيث تسعى كل قومية إلى تأمين مصالحها، ولو على حساب الآخرين، ويؤدي ذلك إلى فشل مشروع الدولة الحقيقي وربما يؤدي إلى صراعات دموية.

سوف ننظر عن كثب درجة قرب (اليسار الهگيلي ) عن فكر فيخته حول مفهوم واجب الوجود، الذي يتلاءم بما سيطرحه( اليسار الهيگلي )، في موضوع فلسفة المستقبل –فلسفة العمل- التي جاهد (الهيگليون الشباب) للتبشير بها والعمل على تطويرها، والتي تتعارض جوهرياً مع المفهوم الفلسفي الهيگلي الذي اقتصر بدراسته للتاريخ باكتشاف القوانين التي تكشف الماضي والحاضر، دون الخوض في المستقبل، لان الفلسفة لايمكن أن تقفز فوق عصرها و لا يمكن للفيلسوف أن يتخطى زمانه. ويقودنا هذا المفهوم إلى تقييم المادية التاريخية، بصواب نظريتها حول مفهوم الصراع الطبقي في الماضي والحاضر، وصعوبة وخطأ حتمية ما يطرحه(الماركسيون الدگماتيون) للمستقبل، للوصول إلى الشيوعية مرورا بالاشتراكية.أن الموضوعة المركزية في المادية التاريخية هي :
:" إن البشر يصنعون تاريخهم الخاص ، ولكنهم لا يصنعونه على نحو تعسفي ، وفي شروط يختارونها بأنفسهم ، ولكن في شروط معطاة مباشرة وموروثة عن الماضي" ماركس ، "18 برومير لويس بونابرت " المنشورات الاجتماعية – ص 13.
"أن التاريخ الإنساني مختلف نوعياً عن التطور البيولوجي ، لكنه يمد فيه جذوره. فالإنسان، كالحيوان، له حاجات توحده مع الطبيعة وتفصله عنها في آن واحد. ولكن الإنسان، بخلاف الحيوان، يحول الطبيعة بواسطة العمل، بدلا من إن يكتفي بالتكيف معها." ( كارودي . كارل ماركس – ص 93)
ولقد نبها ماركس وأنجلس من خطر تطبيق مخطط ، أو هيكلية الصراع الطبقي بصورة حتمية ونهائية، فلقد كتب أنجلس بعد أربعين عاماً ، إن ذلك المخطط إنما " يثبت فقط كم كانت معارفنا في التاريخ الاقتصادي ناقصة" ويلحض ماركس أن "نمط الإنتاج الآسيوي" الذي هو أحد أشكال الانتقال من المجتمع الاطبقي إلى المجتمع الطبقي، يتميز بطابع مزدوج: فبالرغم من أن الملكية تظل مشاعية ، تتجلى فيه أشكال نوعية من استغلال الإنسان للإنسان ودولة مستبدة .
الشيوعية بالنسبة لماركس هي تخطي الضياع الإنساني عن طريق إلغاء الملكية الخاصة وبامكان ماركس أن يقول :
" الشيوعية هي الشكل الضروري ومبدأ الطاقة للمستقبل القريب ، ولكن الشيوعية ليست كشيوعية هدف النمو الإنساني – شكل المجتمع الإنساني " كارل ماركس ، مخطوطات 1844 ، دمشق 1970- ص 74.
أن هيگل، لكي يعطي التطور التاريخي طابع تطور منطقي (ديالكتيكي) يحصر صيرورة التاريخ الإنساني بصيرورة الروح(التي لاتنفك عن الواقع بالمفهوم الهيگلي). ولتحقيق ذلك يضع هيگل بمثابة مبدأ أساسي لتطور العالم فكرة الحرية متصورة في شكل تحرر تدريجي(أن تاريخ العالم يشكله التقدم في وعي الحرية)، الأمر الذي يتيح له أن يقيم نوعاً من التوازن بين عملية تطور تحرر الروح، وعملية تطور تحرر البشرية، التي تصل تدريجياً إلى وعي ذاتها لتحقيقها جوهرياً وهو الحرية.

" أن حركة التاريخ هذه هي حركة تحرر الماهية الروحية، وهي العمل الذي تتحقق به نهاية العالم المطلقة، والذي ترفع به الروح، التي لأتكون فيه موجودة في البدء إلا في ذاتها، إلى الوعي ثم إلى وعي ألذات، وتصبح بكشفها عن جوهره وتحقيقه لهذا الجوهر ولهذه الروح الملموسة، روح العالم.(الوعي بذاته، الوعي لذاته، وعي المطلق ) ونظرا لان هذا التطور يحدث في الزمن وفي العالم، وفي التاريخ بسبب ذلك، فأن مختلف لحظاته ودرجاته تتشكل بروح الشعوب الكبيرة التي كُتب على كل شعب منها بسبب طبيعته النوعية أن لا ينجز سوى جزء من هذا العمل الكلي"
. هيگل "فلسفة التاريخ"ج 7 ص.421 ( كورنو، كارل ماركس)

لقد جهد هيگل في كتابه"فلسفة الدين" لرد الأيمان إلى العقل، ورد الدين إلى الفلسفة مع تبرير الدين من وجهة نظر عقلانية، هذا الدين العقلي الذي كان يرى فيه تعبير عن المسيحية واتجاهها البروتستانتي وطابعها اللوثري التحرري.

ولابد من التطرق إلى موقف هيگل من الدين وعلاقة بالفلسفة، فلقد فهم وفسر خطأ موقف هيگل ذلك على أساس إن هيگل يماثل بين الدين الدوگماتيكي والفلسفة عندما قال:

لذا فالفلسفة والدين محتوى وهدف و اهتمام مشتركة... وعلى هذا الأساس، فالدين والفلسفة لا يشكلان سوى شيء واحد، إذ إن الفلسفة هي بحد ذاتها خدمة إلهية... لذا فالفلسفة متماثلة مع الدين، والفارق الوحيد هو أن الفلسفة تخدم الله بطريقة خاصة... وإنما يكمن الفارق بين الفلسفة والدين في طريقة خدمة الله".
« La philosophie et la religion ont un contenu ، un but et un Intérêt commun، la vérité éternelles considérait dans son objectivité، c’est-à-dire Dieu، Dieu Seul est son explication. En expliquant, la religion et en développant le contenu، la Philosophie s’explique elle-même، de même qu’en s’expliquant-quant، elle explique la religion….De ce fait la religion et la philosophie ne font qu’un، la philosophie étant elle-même un service divin. La philosophie aussi ainsi identique la religion، la seule différence est qu’elle sert Dieu d’une manière particulière.C’est dans leur manière particulière de servir Dieu que reside leur difference, »


أن هيگل يتحدث عن دين عقلي، هو البروتستانتيه، بنموذجها اللوثري أو بالضبط يتحدث عن
( روح البروتستانتية المجردة من كل عقيدة دينية والمجسدة في فكرة الحرية).
وليس عن البروتستانتية الدوگماتيكية. وهذا ما وضحه أنجلس عندما قال :
" ومما له دلالته أن البروتستانت تفوقوا الكاثوليك في قمع حرية دراسة الطبيعة. فقد احرق كلفين سرفيت عندما أوشك هذا الأخير أن يكشف الدورة الدموية، ناهيك بأنه اجبر على حرقه حيا طيلة ساعتين، أما محاكم التفتيش فقد اكتفت على الأقل بمجرد إحراق جوردانو برونو". (أنجلس، جدليات الطبيعة).
وهو لا يتحدث كذلك عن دين دوگماتيكي كاثوليكي، مشبع بالمعتقدات والطقوس و العبادات، كما تدعي الديانة المسيحية الكاثوليكية. لكن هيگل لا ينفي الوحي، وهو لديه وحي تصاعدي و وحي تنازلي. فالإنسان يستطيع عن طريق الوحي الوصول إلى معرفة الله، بدون الحاجة إلى واسطة تقوم بها (الكنيسة). وهو بهذا المفهوم ربط بين الدين العقلي والفلسفة ربطاً موثوقا حيث يمكن الحديث عن تماثل عقلي بين الاثنين أو تفسير الدين فلسفياً. وهو لا يكذب الأنبياء باعتبار الوحي الذي يتحدثون عنه له مصدر الهي، وهم توصلوا إلى هذه الدرجة من الوعي وأدراك حقيقة الله، باعتبارهم صنف من البشر يختلف عن الآخرين. وما حقيقة أصحاب النظريات الاجتماعية والسياسية( المنظرون أو الشعراء ) إلا أصحاب وحي من نوع خاص. ومع ذلك فأن هيگل لا ينكر الدين المتعارف علية لدي الجمهور، الدين الرمزي (دين السواد الأعظم ) لإشاعة الأخلاق، لكن يفرق بينه وبين الدين الفلسفي الذي هو من اختصاص الفلاسفة، أو ( الراسخون بالعلم). هذا الفهم العقلي ألتأملي للعلاقة بين الدين العقلي الذي يتحدث عنه هيگل، والفلسفة ينم عن إدراك عميق لقدرة وفعالية العقل لإدراك المطلق وهو الله أو الروح، التي تجلت تاريخيا في المظاهر المتعددة للفعاليات الإنسانية، بدرجات مختلفة من الوعي الفردي والجماعي.والروح الإنسانية التي تعبر عن نفسها عن طريق الدين بمختلف أشكاله وانواعة والفلسفة التأملية، إنما يلتقيان في النهاية ضمن هدف محدد هو خدمة الله، بأشكال مختلفة بواسطة تطوير محتوى الدين وتفسيره فلسفيا أي تفسيرا عقلياً. إن تطوير الدين الذي يتكلم عنه هيگل يعني هو ارتقاء العقل البشري من الدرجات السفلى إلى القمة عن طريق الفلسفة التأملية، " (هيگل، دروس حول فلسفة الدين" (جاك دونت).هذا المفهوم العقلي للدين لدي هيگل لم يفهم سابقاً ولا لاحقاً، حيث اعتبر هيگل مدافعاً عن الدين التقليدي كما جاء بالكتاب المقدس والمكمل بالطقوس الدينية المتعددة. كان هيگل يدافع عن دين عقلي، إي أن الإنسان (الحر والمالك لإرادة) يستطيع عن طريق العقل والتأمل بالوصول وأدراك حقيقة الله دون الاستعانة بواسطة مثل الكنيسة أو البابا.
" وقد أعلن عن عدائه للكثلكة بكثير من الشدة.وفي يوم من الأيام شاهد هيڴل امام كاتدرائية كولون Cologne معرضاً لبيع اقونات فخاطب كوزان (فيكتور) بغيظ قائلاً: ها هي عقيدتكم الكاثوليكية، وما تعرضه امامنا من مشاهد، أأموت قبل أن أرى انهيار ذلك كله؟" ( أندريه كريسون – أميل بريه . هيڴل)
هذه الحادثة تظهر جلياً بأن هيڴل كان ضد التشبه والتجسد، وهذا هو موقف البروتستانت عموماً، فلا تحتوي دور عبادتهم (الكنائس) عن أي صورة.
أن هيگل لم يماثل بين الفلسفة والدين الدوڴماتيكي ،ولكن بين الفلسفة والدين العقلي، وعليه فأن كافة الانتقادات التي وجهت إليه بهذا الصدد من قبل (اليسار أو اليمين الهيڴليين) ، هي اتهامات باطلة ، وتنم عن عدم فهم لفكر هيگل العقلي التأملي.
"يميز هيگل بين نوعين من الخطاب متوافقين مع مستويين في إدراك المطلق: مستوى التعريف أو التقديم (Vorstellung) المتاح لعامة الناس ومستوى الفهم Begriff)) الذي يعلو إليه الفلاسفة وحدهم.وهكذا فالفلاسفة كما يقول هيگل، يشكلون صنفاً من «الكليروس"، فيما يرفض الفيلسوف على وجه التحديد في ما يدعوه بالدين، تميز أية فئة اكليروس، موضوعة فوق عامة البشر، مابينهم وبين الله"( جاك دونت ، الهيگلية ... ت، حسين هنداوي).
لقد جهد هيگل في كتابه"فلسفة الدين" لرد الأيمان إلى العقل، ورد الدين إلى الفلسفة مع تبرير الدين من وجهة نظر عقلانية، هذا الدين العقلي الذي كان يرى فيه تعبير عن المسيحية واتجاهها البروتستانتي وطابعها اللوثري التحرري.
ولا ننسى إظهار التقارب بين هيگل والإسماعيلية والسهروردي المقتول، في موضوع الفهم والإدراك العقليين والتدرج في الفهم والوصول إلى المطلق. يمكن مقارنة هذا الفهم الفلسفي للدين لدي هيگل ومفهوم الإسماعيلية للدين فهم يقولون:
وما الدين الحقيقي في نظرهم إلا
" إن يتوصل الإنسان بالتمرين المستمر والترقي من درجة إلى درجة إلى معرفة منازل الكون التي قطعتها العوالم (المسكونة)بعد إن انفصلت عن الله". أي أن الفكر الواحد المطلق"(الغير المجسم) أو العقل الأول" أو النور الأعلى" المشع من نفسه في المنزلة الثانية العقل العام والنفس العلمية وهما اللذان يحدثان-بعد أن يتغيرا-العقول الإنسانية وعقول الأنبياء والأئمة وخيرة الناس ". آما سائر الناس فليس لهم عقول بل "أشباه العدم"إلا إذا انتقلوا إلى المنزلة الثانية بواسطة التنوير والتعليم"انظر الانسكلوبيديا الإسلامية. وعن التعليمية يراجع الشهرستاني والغزالي، بندلي جوزي، من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام.
تعرض هيگل بناءاً لما ذكر أعلاه (للفلسفة والدين محتوى وهدف واهتمام مشتركة) لهجمات من ألاهوتيين الاورثوذكس.ففي عام 1822 قام (هنريش1791-1861) أستاذ ألاهوت من وجهة نظر مسيحية ارثوذكية بنقدهيگل بكتابه(الدين من لله. علاقة بلله.) فقد أكد بأن الدين هو التعبير عن حقيقة أسمى من الحقيقة العقلانية، ذلك لان الدين يشكل التجلي الوحيد لله . أما شتراوس فقد ناهض عملية المماثلة بين الدين والفلسفة، مؤكداً على أنه لا يمكن رد المعتقدات الدينية إلى تصورات أو مفاهيم فلسفية دون إفساد عميق لطابع الدين ومحتواه. أعلن هيگل " أن القصص التوراتية يجب أن ينظر إليها بالطريقة ذاتها التي ينظر بها إلى القصص الدنيوية، ذلك أنه ليست هناك علاقة بين الأيمان ومعرفة الأمور الحقيقة والعامة". وكان هيگل يعتبر الأناجيل الأربعة أعمالا أدبية.التقط دافيد شتراوس «كلمة المعلم على هوانها وبنشاط واسع.فطالب بأن يخضع التاريخ ألتوراتي للنقد التاريخي المعتاد. ونفذ طلبه هذا في كتاب (حياة يسوع) الذي ظهر عام 1935 وأحدث ضجة بالغة. وفي هذا الكتاب التقط شتراوس خيوط حركة الاستنارة البرجوازية في القرن الثامن عشر، بينما كان هيگل قد تحدث عن(الاستنارة الزائفة) باحتقار بالغ. وقد مكنت شتراوس طريقته الجدلية من أن يخوض في المسألة ابعد مما فعل{ رايماروس}من قبله.ولم يعتبر شتراوس الدين المسيحي خدعة، كما لم يعتبر الحواريين مجموعة من الأوغاد، ولكنه فسر المكونات الخرافية لقصة الإنجيل بالمنتجات الواعية للمجتمعات المسيحية الأولى. واعتبر الكثير من (العهد الجديد) تقريرا تاريخياً بصدد حياة يسوع. كما اعتبر يسوع ذاته شخصية تاريخية، بينما افترض أساسا تاريخياً لكل الحوادث الأكثر أهمية التي يرد ذكرها في الكتاب المقدس(كورنو.كارل ماركس).
وبعكس هيگل، الذي يرى إمكانية إهمال الواقع التاريخي والقصص التوراتية والانجيلية والاحتفاظ بالمحتوى الرمزي فقط. عكس شتراوس الذي كان يعتبر إن هذه القصص تشكل جوهر الدين المسيحي ذاته، وكان يرى في الأناجيل لا رموزا فلسفة، بل أساطير كانت تعبر عن رغبات والمطامح العميقة للشعب اليهودي. ( كورنو عن روك، المؤلفات الكاملة)
أما الخلاف الأخر (المشكلة) بين هيگل و(اليسار الهيگلي) التي كانت تواجه الشباب (الهيگليين) هو تكييف الهيگلية مع الليبرالية، إي إزالة التناقض المتضمن في فلسفةهيگل بين التطور الديالكتيكي الذي يستلزم تقدماً متواصلاً وبين المذهب السياسي(المحافظ)، بفصل الطريقة الدياكتيكية عن المذهب ومدّ حركة الفكرة الديلكتيكية في المستقبل، هذه الحركة التي أوقفهاهيگل عند الحاضر كما تصوروا!!!.
أن هيگل في رغبته المزدوجة في تبرير الحاضر ومكافحة الدوغمائية والطوبائية قد قصر تطبيق الديالكتيك على تفسير الماضي والحاضر، وحظر على الفلسفة التأمل في المستقبل. وقد قال في مقدمته لكتاب "فلسفة الحقوق": " أن طائر مينرفا لا ينهض إلا عند هبوط الليل" وهو يقصد بذلك أن على الفلسفة إن تقتصر على فهم ماهو كائن، وعلى تسجيل عمل العقل كما يتجسد في التاريخ، وانه ليس على الفلسفة إن تستبق سير الفكرة بإخضاعها تطور التاريخ إلى مثل أعلى متخيل.
" نظراً لأن الفلسفة هي دراسة العقلاني فأن عليها أن تلتقط ما هو حاضر و حقيقي، وليس إن تطرح مثلا اعلي لا يدري سوى الله أين هو... أن مهمة الفيلسوف هي فهم ما هو كائن، إذ إن هذا هو الذي يشكل العقل. من العبث أيضا إن نتصور إن فلسفة ما تستطيع إن تتجاوز عصرها وان نعتقد إن شخصا ما يستطيع إن يقفز فوق زمنه... فإذا ما تجاوزت نظريته هذا الزمن وإذا ما بنى عالما كما ينبغي إن يكون، فهذا العالم يكون موجوداً حقاً، ولكن في فكر هذا الرجل، إي في عنصر مرن قابل للتغيير والتبديل بل قابل لجميع أهواء وتصورات الخيال" (هيگل:" فلسفة الحق ". المؤلفات الكاملة، شتوتغارت 1828 )
أن تجزئة الفكر الهيگلي من قبل (اليسار الهيگلي) إلى نوعين مختلفين (نظام رجعي وديالكتيك تقدمي) هو الذي أدى بهم إلى عدم فهم هيگل وبالتالي إلى اقتصار اقتباساتهم الهيگلية على الديلكتيك، وبالضبط الديالكتيك التقدمي، معتقدين انه نظراً لكون تطور الأفكار يحدد تطور الواقع، فأنه يكفي أن تستبعد من النظرية العناصر ألاعقلانية المدرجة في الواقع حتى يمكن إعطاء مسيرة التاريخ طابعاً عقلانياً. وكانوا يستخلصون من ذلك فلسفة جديدة، هي فلسفة العمل الثوري.
هذا التحول الثوري أو الفهم الجديد لديلكتيك هيگل وجد أول تعبير له في كتاب " مقدمات التاريخ" (1838) بقلم. فون سيازكوفسكي. وقد دعا إلى تبديل فلسفةهيگل التأملية بفلسفة (العمل) الثورية. كان يؤكد بعكس هيگل أن الفلسفة لا ينبغي لها أن تقتصر على استخلاص قوانين التاريخ من الماضي بل عليها أن تستند إلى هذه القوانين لأجل تطوير العالم.
ولقد جاء في كتابه:" أن تاريخ العالم، حسب تفكيرهيگل الأساسي، يعبر عن تطور الفكرة والروح. وحتى الآن لم يفعل التاريخ ذلك بصورة غير كاملة، ذلك لأنه لم يكن من عمل البشر الواعي ولا من إرادتهم العقلانية" ويقول " لكننا على عتبة مرحلة جديدة انفتحت مع هيگل حيث يحدد الإنسان مسيرة التاريخ العقلانية"
لقد كان فضل هيگل هو انه استخلص من الماضي قوانين التطور التاريخي، ولكن نقصه هو إلنظر الى النشاط البشري في شكل فكر وليس إرادة، كما انه قصر تطبيق هذه القوانين على تفسير الماضي.(الفكرة لدى هيڴل لا تنفك أبدا عن الواقع، وهي باتحادها مع الواقع تولد فكرة جديدة)
لا جل تحويل العالم يجب الاستناد إلى هذه القوانين، وأن تستخلص من الماضي والحاضر خطوط عامة للمستقبل لضبط النشاط البشري بصورة عقلانية، وضبط سير التاريخ على أساس ذلك. وكان أ. فون سيازكوفسكي يريد أن يحل محل الفلسفة الهيگلية عديمة التأثير على المصائر البشرية فلسفي للعمل، فلسفة للنشاط الإنساني، للبراكسيس ( وهنا يظهر لأول مرة هذا المفهوم الذي استعاده كارل ماركس فيما بعد) فلسفة من شأنها إن تتيح لإنسان توجيه مصيره.
" أن هيگل لم يذكر أبدا المستقبل في مؤلفاته، معتبراً إن الفلسفة لا يمكن أن تطبق إلا على دراسة الماضي وأن عليها أن تترك المستقبل كلياً خارج التأمل. أما نحن فنؤكد على العكس بأنه، بدون معرفة المستقبل بصفته لحظة من لحظات التاريخ تشكل تحقيق غايات الإنسان النهائية، لا يمكن التوصل إلى معرفة تاريخ العالم منظوراً إليه في كليته الروحية وفي تطوره العضوي العقلي.وعلى هذا الأساس فأن القول بإمكانية التوصل إلى معرفة المستقبل هو شيء لا غنى عنه إذا أريد إعطاء تطور التاريخ طابعاً عضوياً"
أن تصبح فلسفة عملية أو بتعبير أفضل فلسفة للنشاط العملي، ل :براكسيس: تمارس تأثيراً مباشراً على الحياة الاجتماعية ، وتطوير الحقيقة في مدان النشاط الحسي، ذلك هو الدور الذي سوف ينبغي أن تلعبه الفلسفة في المستقبل، ( نحن نقول بأن اضعف نقطة في فكر أي فيلسوف ، هي أن يحاول هذا الفيلسوف إقامة نظام فلسفي ، أو يدعي بأن نظامه الفلسفي نظاماً كاملاً)

سنظهر الخلاف بين هيگل واليسار الهيگلي في موضوعة الجدل (الديالكتيك)، الذي يصور هيگل على أساس ترابط العلاقة بين الواقع والفكرة، التي تنتج منها فكرة جديدة، لأكنها لا تنفك عن الواقع. أما ماركس فينظر إلى الجدل باعتباره العلاقة المتبادلة بين الواقع والفكرة، وهذه العلاقة هي علاقة تأثر وتأثير مستمرة. أما اليسار الهيگلي، فأنه ينظر إلى الديالكتيك على أساس الفكرة الجديدة التي تنتج من العلاقة بين الواقع والفكر، والتي يعول عليها في عملية تغير المجتمع (فلسفة الوعي الذاتي، أو فلسفة النقد). أما أنجلس فينظر إلى الجدل باعتباره حركة التغير والتناقض المستمرتين في الطبيعة والمجتمع.

" ومن المهم الإشارة إلى أن ماركس قد أنفصل عن سائر الشباب الهيڴليين، في نقطة رئيسية من البدء، وكان بذلك أميناً لفكر هيڴل الأساسي. والواقع إن ماركس إذا كان يشاركهم إيمانهم في ضرورة تحديد سير التاريخ بواسطة الفلسفة الأنتقادية، بغية إعطائها طابعاً ومحتوى عقليين، إلا أنه كان يرفض منذ ذلك الحين أن يفصل الفكرة عن الواقع والتفكير عن الوجود، والوعي عن الماهية، وكان ينبذ تصورهم ألمفهومي حول القدرة المطلقة للروح في تحويل العالم وفق مشيئتها" « كان هذا التناقض في الرأي يتمثل في أن ماركس، بعكس الشباب الهيڴلي الذين لم يكونوا يتوصلون، في جهدهم للتوجه نحو العمل، إلى تحقيق وحدة حقيقية بين النظرية والنشاط العملي، فاكتفوا على هذا الأساس بانتقاد نظري بحت، كان يريد، مدفوعاً بمشاعره لا اللبريالية فحسب، بل الديمقراطية العميقة، أن يعمل ويناضل حقاً وصدقاً، ويؤثر بصورة فعالة على العالم بغية تطويره، مما كان من شأنه أن يدفعه إلى تغيير طابع الفلسفة الانتقادية تغيراً عميقاً، هذه الفلسفة التي كانت تتخذ كأساس لنشاط اليسار الهيڴلي" ( كورنو. كارل ماركس)

سنعالج لاحقاً الخلافات بين هيكل وكل من فيورباخ وماركس حول موضوع الاغتراب، فالاغتراب لدي هيكل هو تموضع الروح في الطبيعة أو أن الطبيعة عبارة عن اغتراب الروح، أما الاغتراب لدي فيورباخ فأن يقتصر على اغتراب الفرد المسيحي الكاثوليكي في النظام الرأسمالي الأوربي.

" إن الإنسان إذ لا يجد رضي وراحة في الطبيعة ، يروح يبحث خارجها ،خارج الواقع الحسي ،عن واقع مافوق الطبيعي ... ومن جهة أخرى فأن الإنسان إذ يستلب (يُفرغ) في الله واقعه بالذات وجوهره الذي يصبح غريباً عنه ، إنما ينفصل عن النوع ويدخل في تعارض معه ,,, هذا الاستلاب للجوهر الإنساني وهذا القلب للعلاقات بين الله والإنسان ، الذي يتحول من ذات نشطة فاعلة إلى شيء أو موضوع منفصل ، تكن نتيجتها تصغير وتحقير الإنسان ، هذا الإنسان الذي حُرم من مزاياه الأساسية.. إن الإنسان إذ يُفصل عن الجنس البشري، الذي لم يبق له سوى وجود وهمي وبسبب تجسده في الله، إنما يعزل نفسه عن الجماعة البشرية فيصبح فرداً معزولا وأنانياً. ... إن عيب الدين الأساسي، والمسيحية بخاصة، هو انه يفصل على هذا النحو الإنسان عن الجنس البشري، كما أن تأليهه لهذا الفصل يحوله إلى انفصال أبلدي ومطلق...ولكي يعاد الإنسان إلى كينونته الحقيقية ، وهي الكينونة الجماعية ، ولكي يتاح للإنسان أن يعيش الحياة المطابقة لطبيعته الحقيقية ، التي هي حياة النوع البشري ، يجب تدمير الوهم الديني وأن تعاد إلى الإنسان الصفات والمزايا المستلبة منه في الله واحلال حب البشرية محل حب الله" (أنظر، لودفغ فيورباخ ، جوهر المسيحية) :وكورنو، مصدر سابق ص 253-254 . إما الاغتراب الماركسي فهو بصورة عامة اغتراب الفرد بالبضاعة، عن طريق العمل المأجور ، فالإنسان يُستلب بالعمل المأجور ، لأنه يجبر على الاستمرار بعمل يُكره علية ، ولايجد لذة فيه ، وناتج هذا العمل الإجباري ، هو بضاعة بعيدة عن مناله، ولايستطيع الأحتفاض بها باعتبارها نتيجة جهده الخاص ، بل أنها وللحضة التي يٌكمل بها شكلها ومحتواها ، تعود إلى شخص أخر وهو الرأسمالي . من أجل الخروج من هذه المعادلة الغير عادلة يجب حسب ماركس القضاء على الملكية الخاصة، ويصبح العمل ملك للفرد وللجماعة.
أن الاغتراب الديني ولد مع ولادة الديني الروحي، والدين الروحي الذي يقف بالضد من الدين الحسي ولد من فشل الإنسان من إقامة مملكة الأرض فعوض عنا بمملكة السماء ، ويمكن إن نرد بداية الدين الروحي من تبني اليهود ديانة الواحد (يهوه ) اله اليهود الوطني ، فبعد إن اخفق اليهود بتكوين وإدامة مملكة يهودا في فلسطين نتيجة الغزوات الآشورية أو البابلية أو المصرية ، توصلوا إلى مفهوم جديد للدين الروحي يعتمد على فكرة الله الواحد الخاص( بالشعب اليهودي )، وبهذه الصفة لايمكن إن نعتبر الدين اليهودي دين توحيد ، لأنه وبكل بساطة دين مجموعة معينة( الشعب اليهودي) . نتيجة لذلك تم تزيف كافة الآلهة الآخرين وإجبار أتباع هذه الديانة الجديدة بإتباع عقائد صارمة، ودليل على رفضهم الديانات الأخرى موقفهم من المسيح والديانة المسيحية وكذلك موقفهم الرافض لنبوة محمد صلى الله علية وسلم. يعتبر الدين الإسلامي الدين الوحيد الذي تنطبق علية صفة التوحيد ، لأنه قام بتوحيد القبائل العربية لعبادة رب واحد هو الله ، عكس الديانة اليهودية التي تقر بأن الرب هو اله اليهود وحدهم ، أما المسيحية فتقر بأن المسيح هو ابن الله وكلمته ، وهذا ما نفاه القران الكريم بسورة الإخلاص .
بسم الله الرحمن الرحيم (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد )
وكرد فعل ضد الديانات الحسية المترفة ، فلقد تم تحقير المادة، والحذر من التمتع بنعم الحياة( إذا فرحوا جنوا، كما يقول العهد القديم) وهذا إشارة إلى حياة الترف الذي كانت تعيشه الإمبراطورية الآشورية والبابلية الحديثة ، وردت الطبيعة إلى كونها مادة حقيرة ، عكس ما كانت لها من قدسية، وتم توجيه الأنظار إلى قدسية مملكة السما ء ، مملكة الروح والنقاء ، وهذا بدوره يظهر فشل وهروب من الواقع الغير نتحقق إلى واقع غير منظور و متخيل. أن إنسان الدين الحسي لم يكن يشعر بالاغتراب مع ألهه الحسي ، فهو وذلك الإله يشكلون وحدة منسجمة ، فالإنسان الذي أتخذ من الشمس إلها كان يجد في ذلك الإله المنافع المحققة للتو مثل الضوء والحرارة الضرورية لنضج مزروعاته ، وكذلك لتحقيق مفاهيم فكرية مختلفة مثل أن الشمس تكشف كل شيء ، فهي التي تكشف سوراق المواشي .
تدرج الإشارة بأننا بصدد إتمام دراسة تتناول تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة حول فكر العراق القديم ، مثل الأستبداد الشرقي ، حيث لم نعثر على أي وثيقة تثبت وجود معارضة شعبية للنظام الملكي، ولا توجد سجون لمعارضين سياسيين، بل أن الشعب السومري أو البابلي أو الآشوري كان يعتبر الطاعة للملك من الواجبات الدينية والمدنية ، وكان الملك والشعب يمثلون وحدة متماسكة ، وكذلك (اعتبار الثور المجنح ذو الخمسة قوائم) يمثل عملا فنياً كإبداع جديد بالفن الآشوري يعتمد على قدرة النحات بإظهار موهبة الفنية المتعددة الأبعاد ، بل أن هذا الصرح الكبير يمثل مفهوما دينياً سياسيًا هو رمز للأله أشور، وأن الضخامة جاءت من خشية الآشوريين من أن يقع ألههم أسيرا بيد الأعداد ، حيث كانت عادة آسر الآلهة معروفة وشائعة ، وأن القوائم الخمسة تمثل المدن المهمة التي تقف عليها الإمبراطورية الآشورية ، فبالإضافة إلى أربع مدن آشورية العواصم (لبلاد أشور أربع عواصم: أشور وهي الأقدم ونينوى وهي أخرها وأكبرها وخورسابد ونمرود- كالح القديمة- وهي أشهرها ) ( المصدر، نيكولا بوستغيت، حضارة العراق وآثاره، ت سمير عبد الرحيم الجلبي ) أضيفت بابل كمدينة مهمة لما لها من تاريخ حضاري وديني ، ولغاية سياسية هي محاولة لكسب رضا البابليين ومصالحتهم بعد كل الذي جرى لهم من تدمير لمدينتهم بابل وبصورة خاصة على يد سنحاريب أضيف القائم الخامس إشارة إلى مكانة بابل لدى ملوك آشور ، وكذلك لما ترمز إليه بداخل الإمبراطورية الآشورية . عندما قرر اسرحدون ان يتولى آشوربانيبال الخلافة من بعده وهو الآبن الأصغر ، كان هذا الأختيار موفقاً لما تمتع به آشور بانيبال من خصال قلما وجدت في السابق أو تكررت لاحقا، من الجدير بالذكر بأن أشوربانيبال هو الذي أشرف على وضع (قصيدة الخلق البابلية، النسخة الآشورية أي النسخة المعتمدة عالميا، كما إننا نؤكد في هذه العجالة بأن جورج سميث الذي اعتقد عام 1868 ، بأنه عثر على أوجة التشابه الكثيرة بين قصة الخلق البابلية وما جاء بالعهد القديم في سفر التكوين كان خطأ من عدة أوجه كثيرة منها بأن العهد القديم يؤكد بأن خلق العالم تم بإرادة الخالق الأوحد ، في حين أن قصة الخليقة البابلية تؤكد على ثنائية فعل الخلق. من جهة أخرى يؤكد العهد القديم على أن الخلق تم خلال ستة أيام ، في حين تؤكد قصة الخلق البابلية على أن خلق العالم أستغرق وقتاً كبيراً...الخ سنشرح هذه الأمور لاحقاً ) . تخطى سنحاريب بهذا الأختيار الأبن البكر شمش –شوم- اوكن ،لكن عينه ملكاً على بابل وبنفس اليوم.
إما الاغتراب العملي ، فهو اغتراب الفرد بالعمل المأجور ، وعكس ذلك لم يكن الإنسان في ظل الدين الحسي يخضع للاغتراب ، لأن ما كان ينتجة يلبي حاجاته المباشرة له ولعائلة وإفراد مجموعته ( هذا لاينطبق على عمل العبيد في تلك العصور ، لأن عملهم كان من باب الإجبار – الصخرة ) .
أن تشكيل الأحزاب أو الحركات التي تدافع عن الطبيعة(Ėcologistes) بالوقت الحاضر ، وبصورة خاصة في أوربا ، ماهي إلا عودة لاحترام الطبيعية،وإعادة الاعتبار لها ، لكن ليس بشكل دين ، بل بشكل دعوة تقول بأن الطبيعة والإنسان لهما مستقبل واحد وأنهما متحدين ، وبدون الحفاظ على جوهر الطبيعة ، فأن الإنسان هالك على المدى البعيد .

الخلاصة بأن ما عرف بصورة عامة وغامضة ومتناقضة بعض الشيء( باليسار الهيڴلي) ، بأنهم مجموعة من المثقفين الليبراليين المتنورين والذين لم يزد عددهم عن ثلاثة مائة سبارتاك مشترك في( حوليات هال) .



#شاكر_الساعدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
- تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل ...
- في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو ...
- التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل ...
- السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي ...
- الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو ...
- بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
- محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان ...
- المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
- القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟ ...


المزيد.....

- الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل / آدم بوث
- الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها ... / غازي الصوراني
- الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟ / محمد حسام
- طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و ... / شادي الشماوي
- النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا ... / حسام عامر
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ... / أزيكي عمر
- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - شاكر الساعدي - اليسار الهيكلي