|
طائر الليل الحزين
قاسم فنجان
الحوار المتمدن-العدد: 3219 - 2010 / 12 / 18 - 00:03
المحور:
الادب والفن
رفعت سماعة الهاتف واستمعت للصوت الذي كان قادما من سماوات قصية ،كان للصوت رجع مؤلم وحشرجات آسية ، أردت أن اغلق الهاتف لكن الصوت سألني بانكسار : -لا تفعل هذا أنا. -انت ؟أين أنت؟ -في الطب العدلي. -ماذا تفعل هناك؟ -أنني في براد الموتى؟ -قي البراد تتشابه الأشكال، دلني على دلالةٍِ أخرى غير الشكل لاستدل عليك ؟ -أنني الوحيد المسجى في البراد تحت عنوان مجهول الهوية.. أعدت السماعة فزعا من ذلك الصوت ،الذي دوى في رأسي كالصاعقة وتساءلت في سرى ،هل كان ما سمعت يقينا أم هل كان ما سمعته كابوسا نسجتهُ كعادتها مخيلتي المولعة بالأحلام ألسيئة ، قررت أن أضع حداً لمخاوفي فتوجهت للهاتف ثم رفعت السماعة و أصغيت من جديد ، كان للصوت رجع مازال عالقاً في سلك الكلام ، تتبعتهُ بهدوء و أستمعت لنشيج يتعالى بالتدريج فأدركت أن الأشارة تطلب حضوري بالحال . في الطريق إلى الطبّ العدلي خالجني الخوف بشدة فترددت بالذهاب،حاولت أن أعدل عن قراري فرن الصوت ثانية في رأسي ،كان رجعُةُ المؤلُم يردّدُ بوضوحٍ .. في ..براد ..الموتى .. ؟ وصلت وكان على مقربة مني حارس الموتى تحرك فتبعتةُ يسبقني المجهولُ ويتعقبني الخوفُ، توقف الحارسُ أمام البراد المغلق على الموتى فتوقفتُ أتابع كفه الصفراء و هي تمتد لمقبض أحد الأدراج الفضية للبراد ، تسحبه فيتسلل الضوء البارد ليملأ فضاء الدرج بجثة أفرغها النزف تماماً. قال الحارس أدن منه لتتعرف عليه، اعتدلت على رأسهِ مبهوراًَ من هول الحال الذي لفني به وبكيت ، فقال الحارسُ تعرفه ؟ قلت لا.. ثم أضفت في سري ،كيف يمكنُ لميتٍ أن يُبلغ عن موتهِ من مكانٍ بلا حياة ؟ قطعت كف الحارس إنثيالاتي بالحال الجديد ، حين أمتدت من خلفي بثباتٍ ،لترفع رأس الجثةِ وتقول : -إنه مجهولُ الهوية ُ تمعن به، قد تعرفُهُ ؟ لم تنبس شفتاي بنأمة وراحت عيناي تتأملانِ الوجه الذي كان يتأملُني أيضاً .شاهدت عينيه المفتوحتين على أشدهما ،تحملان في نظراتهما الأسى ,رأيت في فمهِ المفغور صرخات موجعة ,تمعنت بوجهه الاصفر وراقبت ملامحه التي تتماوج بالحياة .انتابني الشك في موته المزيف وتيقنت أني أمام مزحة ثقيلة كالموت . ألتفتُ للحارس الذي كان متلهفاً للجواب وقلتُ لهُ ببرود: سينهض هذا في الليل ويغادر الموتى حتماً . أستاء الحارس ُمن جملتي فطرح الراس باهمال ثم دفع الدرج بغضبٍ الى الداخل وهو يرددُ: غادر في الحال ولاتعد الا بكتاب يُثبتُ هوية المجهول . انصرفتُ تلهبني سياط الشك والظهيرة القائظة نحو مأواه الوحيد . كان المأوى موقفاً للحافلات في باب المعظم .وصلتهُ فوجدتُ من لا اعرف منهمكاً في مسح بقع دمٍ تناثرت على بدن المصطبةِ الرخامي للموقف ..اقتربتُ منه وسألته ُعنه فاجاب : لقد تركته بالامس بعد أن أخذه النزيف تماماً . قاطعتهُ وقلت: الدم .. أنثار كالمجنون صارخاً بي بل الشعر وهذه اللطخات مما تراكم منه . جثوت وحيداً أمامهُ واصغيت لهذاءهِ الذي استرسل فيه من دون أن يكترث بوجودي قائلاً" هنا كان يشرب ويأكل ُوينام ,على هذه المصطبة الباردة, كان يمدد جسده المستعر ويحلم بملكوت اخر, كانت هذه الدكةُ الساكنة مهدهُ ولحده ,فيها يعيدُ ترتيب الأمكنة ومنها يوجه الجهات .كان يكتب ليحول هذه البقعة البائسة من الكون , الى جنائن تدخلها ولا يدخلها ، يرمي بوجه أبوابها الموصدة كلماته السحرية فتتفتح المغاليق وتتهتك الأسرار وتتفتق القصائد ، ألتمس منهُ الدخول فيأذنُ ليَّ .. أأدخل أقول ؟ أدخلْ يقول! أدخل الى جنائنه لأرى ما كان يسمع ثم أخرج منها لأسمع ما كان يرى " تهادى الذي لااعرفه على البلاط ولم يُسعِفُني بالجواب لذلك عزمتُ على مواصلة البحث والاستقصاء عنهُ ، تحركت فأستوقفني صوتهُ : لن تجدهُ في هذهِ المدينة البائسة ، لقد رحل الى ..هناك .. هناك ...وأشار بالخرقة الملطخة بالدمِ الى الجنوب. ساقتني أشارة الدم الى الجنوب ، حيثُ بلدتهُ الصغيرة الظامئة ، وصلتها وأنتصبتُ على الضفة الأولى لنهرها المالح أراقب المويجات وهي تستعر بنار الترقب حيث كانت خطى المشيئة تخطُّ الولادة والموت معاً . فتشتُ في أروقة المدينة المقهورة عن زمانهِ المنصرم ، وجدتهُ يتمطى بي ويعود الى حيثُ المصير ، كان يرسم على لوحِ رحم البلدة الظامئة سِفْر حياةٍ بائسة ، سِفْرٌ تمخضت من أجلهِ البلدة بأسرها حين رأت أكفَّ قابلتها تستلُّ من رحمها قمراً معجوناً بالدم ، أمرت النسوة أن يتلاقفنهُ بأكفهن الناعمات لئلا يخدشن بدنهُ الرقيق ، هوى من الدم فأحتضنتهُ الأم بالتراتيل والتمائم ، شقَّ المولود قلبهُ الصغير للترانيم الغريبة وامرها أن تحطّ في الركن المعتم من روحه ، حطّت فتوهجت أعضاءه بالنور ، إنتبهت أمه الحانية عليه لمعنى النور وادركت بغريزتها مغزى المصير السيء ، بكت وراحت تولول وهي تهدهده في حضنها الناعم ، ما أن شاهدها تبكي حتى قرر أن يرتشف من ضرعها كل الدمع . شرّع يمتص بألم جرعات الوجع القاسية ويتابع بنظرات آسية ملامح أمه التي بدأ يدب فيها السرور ، واظب حتى افرغ ما في جوف أمه الشاسع من حزن ، واظب حتى ضحكت ، ضحكت لكنه بكى ، بكى فقادته كالمجنونة الى كل مكان ، قادته ولم تكن تعلم أن الوليد الجديد كان يسرق الحزن من جميع الوجوه ليشع بنور الألم ، دارت به على البيوت والمحال مسرورة بنوره الذي ينضوي تحته وجع الجميع ، دارت على النسوة الحالكات فاندهشن لمـّا رأينه يتوهج في حضنها المعتم ، كنّ يتأملنه ببلاهة وهو يتلوى من وجع مكتوم ، وجع لم تطله قلوب النسوة ولم تمسه أكف العرافين ، وجع نما ونما و نما حتى إستحال في النهاية لطائر ليل حزين ! عبرت الى ضفة النهر الثانية ، أطالع بحزن نهايات البلدة المالحة ، كانت الأمكنة مغلقة على بؤسها ، سابتة في ظلام دفع بصيرتي للإختراق ، إخترقت مكتبتها المركونة في مكان مهمل ثم اصغيت لرجع موظفها القديم وهو يقول : من هنا شعّ هذاءه السحري ، محلقاً بكلمات لها أجنحة ملونة ، طارت على مرأى مني في هذا العراء الفسيح . كنت معه – قال – عندما دخلها لأول مرة ، شاهدت بعينيَّ التي اكلها الدود متون كتبها تطير بحواشيها وتتجه نحوه مسربلة رأسه بالكثير , راعه ما رأى من خراب في أغوارها ، غادرها ممسوساً بالشعر ، سعى راكضاً كالمجنون فصرخت به : - الى اين ؟ - الى مثابة الأمان ..! كانت المثابة حانة وقصيدة وما بينهما كان عمره يتلاشى كالدخان . تابعته – قال- رأيته عن كثب ينزف الدم والشعر معاً ، كلمته " أيها الشاب إنك تتساقط ولا تعترف "* لم يكترث بكلماتي التي لم يسمعها ، فقد كانت بصيرته مشغولة كالحريق ، إشتعل بالنور فلاذ بالخمرة معتصماً بترنحها ليتفادى السهام ، كان يسرج خيول الوهم ليبلغ مكامن تحنو عليه ، مكامن يقوّض فيها حياته بالشعر ويرتجلها بالغياب،مكامن واظب عليها حتى تزنّـر بخاصرة القصيدة وتوهج بالنور وبالنار أحرق قلب المدينة . غاب رجع الموظف مع الضفة الثاني للنهر ووجدت نفسي في نفسي أبحث عمن يرشدها إليه ، لم أجد سوى البيت الذي كان موحشاً إلا من نوره الذي تجلى في رسومات تناثرت هنا وهناك ، كانت أشباح الذكريات تدغدغ أرتجة ذاكرتي الموصدة وتأمرني أن أرفع رأسي ، أرفعه واقرأ لافتة منقوشة بخطه الجميل الجميل " هذا مفتاح كلامي " كانت اللافتة معلقة فوق باب موارب يطلّ من الظلام ، دفعته بإتئاد فصرّ بوجع في قلبي ، دخلت فاستبقتني الأحزان راكضة نحو ركن مظلم في الغرفة ، أصغيت في الظلام لتأوهاتٍ راحت تتعالى بالتدريج ثم إستمعت لنشيج يصدر من الركن الحزين ، دنوت وإذا امرأة متلفعة بالسواد تتضرع وتقول : ها أنذا أحترق بالشوق عليه ، أتسربل بالظلام من أجله ، أُحصي غيابه بالحسرات وأقول يا أصدقاءه إنني أتهادى من الانتظار المرير ، يوجعني ترقبه القاسي ، إنني أخاف عليه من الشعر ، إدعوه ليفك عني أغلال الشوق ، إدعوه ليرفع عن قلبي أحجبة الود ، إدعوه إن العمر يحاصره والموت مخيف. زلزلني الحال الحزين فانفلت مما حاصرني في غرفة الوجع القديم نحو باحة الدار الفسيحة ، داهمني الرعب عندما رأيت نساء يتسللنَ من كل مكان الى الدار ، رأيتهنّ ينصبن الفخاخ له ويترقبن رجوعه من النهايات ، ينتظرنَ عودته مع الريح ليعصف بأقفال مسراتهن الموصدة ، أصغيت لهنّ وهنّ يستنهضن قامات السأم من أجسادهن البضة ويتطاولن متساوقات مع ألمه الذي شعّ ليفضح المدينة بالنور ، يسيح النور ويغمر كل شيء ويظهر لي أخيراً من غرفة في الدار منتتصباً بمعطفه الطويل الأسود كالنخلة الباسقة منهمكاً في نسج قصيدة من دمه الحالم بالمطر ، أدنو منه فينفرط كالسحاب ، مربكاً فضاء البلدة بالدموع ، تمسني اللعنة فابكي واعدو خلفه كالمجنون ، أعدو واراه يستحيل لطائر محلق في السماء ، أصيح به " عُدْ " فيرن رجع صوته في رأسي آمراً ،" عُدْ ! " أعود ورجع النداء الموحش يتردد بيَ " عُدْ "! أعود بعد أن محت الأوجاع رحلتي اليه بالأوجاع ، أعود فاراه ممدداً على مصطبة الرخام ، وحيداً يتجرع اوجاعه في موقف الباص ، تتناهى رفرفة يمس حفيفها وجهي ، فادرك أنها لملائكة وشياطين ، أغوص في ألم المشهد ، فتتجلى لي أكف ووجوه ، تنهمك في معالجة روحه الرقيقة ، اشمُّ شواط الوداع قوياً فادرك انني في مجمرة الإحتضار ، أتهادى من هول اللحظة وأجثو يائساً عند رأسه فاراه يبتسم لما آل اليه المصير ، اُكلمه "" عـقـيـل "" (1) يبكي ويلوي عنقه صوب حافلة لا أراها ،ينكفيء حاضناً وجعه بشدة ، يحنو عليه ويهدهده ، ثم بلطف يطفيء قناديل جسده المشتعل وينام . كركوك نهاية 5/2005 *عقيل علي :- شاعر عراقي من مواليد مدينة الناصرية عام 1949 .... عاش متشرداً في بغداد ومات فيها في 15/5/2005 ، له مجمموعتان شعريتان هما (جنائن آدم ) الدار البيضاء -1990 ، (طائر آخر يتوارى) –باريس – كولونيا 1992 * من قصيدة للشاعر الراحل .
#قاسم_فنجان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مرثية سلة مخلوقات
-
ضفة النهر الثالثة
-
سوأى بنت آرو
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|