جريس الهامس
الحوار المتمدن-العدد: 3218 - 2010 / 12 / 17 - 16:58
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
شذرات على شباك الذاكرة . المناضل الوطني سعيد إسحق من البرلمان إلى قصر المهاجرين لرئاسة الجمهورية السورية – 5
في عهد الوحدة الوطنية الديمقراطية ,,المثحررة من الطائفية والعنصرية :
كانت الخطة الوطنية الأولى في بلدة عامودة بطرد جنود الإحتلال الفرنسي منها وتسليم ثكنتهم العسكرية لرجال الدرك السوري ..في حزيران 1945 . بعد مجزرة البرلمان السوري التي شرحنا فصولها في الحلقة السابقة ...
بعدها إتجه الوطنيون إلى بلدة الدرباسية وفي مقدمتهم المناضل الوطني سعيد إسحق واجتمعوا مع مدير ناحيتها السيد عطا هارون , وكلفوه ألإتصال مع قائد كتيبة الجيش فيها النقيب قاسم الخليل .. ويدعوه للإنضمام إلى القوة الوطنية بطريقة ودية وبتفاهم تام مع الوطنيين ..
إتصل مدير الناحية بالنقيب الخليل .. وبعد جهود مكثفة قبل الإنضمام للقوى الوطنية , وكتب شروطاً تتعلق بمستقبله ومستقبل جنوده وضباطه .. وأترك الكلام للمناضل سعيد إسحق ليقول في الصفحة 48 من كتابه : ( إتفقنا معه الكابتن قاسم الخليل على إنزال العلم الفرنسي عن ثكنة الدرباسية , ورفع العلم السوري .. فتم ذلك فعلاً .. ورأيت العلم السوري يرفرف في اليوم التالي ,,فعمت الفرحة قلوب أهل الدرباسية وعلت الهتافات الوطنية بحياة الجيش الوطني ..
ثم اتفقنا ليتم تجمع القوات الوطنية في عامودة .. فالتحق المقدم إبراهيم الحسيني وعدد من ضباط الحسكة ,, وأتى المقدم سليم الأصيل بكامل كتيبته من أبو كمال .. كما حضر المقدم توفيق نظام الدين والمقدم بشور من دير الزور والتحق الجميع بالقوة الوطنية ,, ,هكذا أصبح الإنسحاب من الجيش الفرنسي والإلتحاق بالقوة الوطنية واجباً وطنياً مقدساً ... ولم يبق سوى ثكنتي الحسكة والقامشلي .مع الفرنسيين .. عندها قرر الفرنسيون الإنسحاب من منطقة الجزيرة كلها والتجمع في حلب ..تحت حراسة الجيش البريطاني التاسع .. ) .
وهكذا تحررت محافظة الجزيرة بكاملها عام 1945 وعادت إلى الحكم الوطني . واستمر الجلاء عن كافة المحافظات السورية فيما بعد .
حاول الفرنسيون والإنكليز توقيع معاهدات عسكرية وإقتصادية وثقافية ثنائية مع الحكومة السورية ,, قصد بقاء نفوذهم في البلاد لكن دون جدوى .. كما حاول تشرشل رئيس الوزراء البريطاني أثناء لقائه الرئيس القوتلي في القاهرة توقيع معاهدة بين سورية وبريطانيا تبقي قاعدة عسكرية فيها باسم الصداقة لكن الرئيس القوتلي رفض كل تلك المحاولات .. لذلك لجأوا إلى مجلس الأمن وقدمو مشروع قرار وقعته معهم الولايات المتحدة يبقي استقلال سوريا ولبنان منقوصاً ويسمح ببقاء قاعدة عسكرية بريطانية وفرنسية على الأراضي السورية لحماية السلم في المنطقة .. تصدى لهم مندوب سورية في الأمم المتحدة برفض المشروع المناقض لسيادة البلدين وبعد طرحه على التصويت إستعمل مندوب الإتحاد السوفياتي اندريه فيشنسكي حق النقض وأسقط القرار .. ثم تقدم بمشروع قرار يقضي بإنسحاب القوات الفرنسية والبريطانية من سورية في 17 نيسان 1946 .. ومن لبنان في الأول من تشرين الثاني من نفس العام ..نال الأكثرية وامتنعت فرانسا وبريطانيا عن التصويت .
كان أول عيد جلاء في دمشق وسائر المدن السورية في 17 نيسان 1946عرساً وطنياً حقيقياً لامثيل له – بدأ تنظيم العرض العسكري والشعبي في شارع بيروت .. بعد إلقاء الرئيس القوتلي كلمته الوطنية . تقدم قائد الجيش السوري اللواء عبدالله عطفة مستأذنا من رئيس الجمهورية البدء بالعرض العسكري حسب الأصول .. كانت سيارة مدرستنا -- ثانوية إبن خلدون - أفضل ماقدمته ثانويات دمشق يومها على ما أذكر حيث زينا شاحنة كبيرة وحولها شباب الكشفية بأعلامهم وفوقها أحد زملائنا مثّل دور سورية كعروس بلباسها الأبيض كانت مكبلة بالقيود في يديها وأرجلها ثم حطمت القيود وأصبحت حرة.. ونحن نحمل السيوف لحمايتها .. ونالت مدرستنا الجائزة الأولى بين مدارس دمشق وكان أستاذ الرياضة أدهم مشنوق ومديرنا كمال الهبراوي ومساعده نسيب سعيد أصحاب فكرة تنظيم اشتراكنا وتنظيم وتزيين الشاحنة .. وسهرت دمشق كلها في الشوارع ترقص وتغنى حتى الصباح .. ولم نعد للنوم في القسم الداخلي كما أذكر حتى الفجر ......
........ مرّت السنوات التالية بهدوء وتطور في جميع الميادين وجرت إنتخابات 1947 البرلمانية بهدوء ونجحت الكتلة الوطنية التي تحولت إلى الحزب الوطني بأغلبية المقاعد وانتخب شيخنا سعيد إسحق نائباً أول لرئيس المجلس النيابي ,, كما كلف السيد فارس الخوري لتشكيل الوزارة ,
.. كان الدستور السوري لايسمح إنتخاب رئيس الجمهورية إلا لدورة واحدة مدتها أربع سنوات .. لأول مرة يعدل الدستور لإنتخاب الرئيس القوتلي لدورة ثانية .. كان البعثيون في هذا العام الذي أسسوا فيه حزبهم في مقهى الهافانا – من مجموعة صغيرة من الطلاب حول أساتذتهم == ميشيل عفلق وصلاح البيطاروغيرهما == فأصدروا بيان استنكار لتمديد مدة الرئاسة للرئيس القوتلي ... – من مهازل التاريخ أن يتحول هؤلاء إلى دعامة الأنظمة الديكتاتورية المؤبدة فيما بعد , وأن يذهب الأستاذ البيطار ضحية غدرها ..مع الاسف ---
ويمر شيخنا سعيد إسحق في كتابه الموجزعلى أحداث علم 1948 وكارثة فلسطين التي تمت بدخول جيوش 8 دول عربية في 15 أيار بقيادة غلوب باشا البريطاني قائد الجيش الأردني .. وتجنب الخوض في شرح ماجرى على الساحة من استهتار وحتى خيانات مارستها الأطراف المرتبطة مع بريطانيا في الأردن والعراق والسعودية وغيرها التي أدت لإقامة الكيان الصهيوني وتوقيع الهدنة معه .. وهذا ما شرحته تفصيليا لامجال لذكرها هنا ..
المهم بلغنا مع شيخنا مرحلة أول إنقلاب عسكري في سورية قام به قائد الجيش حسني الزعيم في 31 اّذار 1949 صنعته المخابرات الأمريكية بالتواطؤ مع السعودية وشركة التابلاين لتمرير أنبوب النفط السعودي الأمريكي من الظهران إلى الزهراني في جنوب لبنان مرورأً بجنوب سورية .. بعد أن رفض البرلمان السوري والحكومة السورية توقيع هذه الإتفاقية تحت ضغط التظاهرات الوطنية والصحافة السورية المعادية لأمريكا .
يومها قام حسني الزعيم بزيارة للسيد فارس الخوري بعد اعتقاله الرئيس القوتلي ورئيس وزرائه السيد خالد العظم في سجن المزة .. وطلب منه التعاون معه وتشكيل الحكومة التي يريدها ,, رفض السيد الخوري التعاون معه .. وأنتشر في الشارع يومها ما قاله للزعيم .. قال له : لا يا حسني لقد فتحت باب في سورية من الصعب إغلاقه بعد اليوم وهذا ماحدث .. توالي الإنقلابات العسكرية واغتصاب المؤسسة العسكرية للسلطة والثروة الوطنية حتى اليوم وبناء دولة الإستبداد والطائفية والتخلف الهمجي ...
كان الصراع على نفط الخليج في قمة عنفوانه بين شركة نفط العراق البريطانية والشركات الأمريكية الوافدة .. فلم يمض سوى أقل من ستة أشهر على إنقلاب الزعيم الأمريكي الصنع بشهادة الملحق العسكري الأمريكي بدمشق - مايلز كوبلاند - في كتابه ( لعبة الأمم ).. حتى نظمت شركة نفط العراق وحكومة نوري السعيد الإنقلاب العسكري الثاني في سورية بقيادة اللواء – سامي الحناوي – وأعدم حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي دون أية محاكمة رمياً بالرصاص بجانب طريق مطار المزة ..اّنذاك .. وأعلن أن الجيش سيتخلى عن السلطة ,, وأجريت إنتخابات برلمانية في تشرين أول من نفس العام وفاز في أكثرية مقاعد المجلس حزب الشعب الموالي للإتحاد مع العراق والذي انشق من الحزب الوطني برئاسة رشدي الكيخيا وناظم القدسي .. وبقي الشيخ سعيد إسحق وفياً لحزبه الوطني ونجح نائباً عن الجزيرة للمرة الرابعة .. وفي إنتخابات المجلس النيابي الجديد أنتخب ناظم القدسي رئيساً للمجلس النيابي وسعيد إسحق نائباً أول له ثم انتخب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية ..
دعت حكومة نوري السعيد علنا حكومة حزب الشعب التي شكلها الشيخ معروف الدواليبي واشترك فيها الأستاذ ميشيل عفلق وزيراً للمعارف لأول واّخر مرة في حياته دعتها لإقامة إتحاد مع العراق الذي كان محتلاً من بريطانيا .. رفضت جميع القوى الوطنية هذا المشروع وأذكر أننا نزلنا إلى الشارع ونظمنا عدة تظاهرات ووزعنا البيانات بإسم الحزب الشيوعي السوري ضد الإتحاد السوري – العراقي, بينما كان البعثيون يومها مع الإتحاد العراقي وبقي السيد عفلق وزيراً حتى سقوط حكومة حزب الشعب في إنقلاب أديب الشيشكلي الذي تم في أواخر شهر كانون الأول من نفس العام – 1949 -- الذي اعتقل فيه اللواء الحناوي وضباطه وفرّ من استطاع منهم إلى العراق . كما اعتقل رئيس مجلس النواب السيد ناظم القدسي ورئيس الوزراء السيد معروف الدواليبي ,, ورئيس حزب الشعب السيد رشدي الكيخيا وعدد من الوزراء في سجن المزة ..
وأترك الكلام لشيخنا سعيد إسحق ليكمل لنا ماجرى في القصر الجمهوري والمجلس النيابي يومها .. قال :
(... في الصباح حضر إلى داري أمين القصر الجمهوري الدكتور خالد شاتيلا .. يدعوني لزيارة رئيس الجمهورية بصفتي رئيساً للمجلس النيابي بعد إعتقال الرئيس ناظم القدسي .... فرافقته إلى القصر الجمهوري ,,وبعد إطلاعي على الأوضاع ,. كلفني بالإتصال بقائد الجيش لمعالجة الموقف , فاتصلت بالعقيد أديب الشيشكلي مستفسرأ عن الأسباب التي دعت للإنقلاب .. فكان جوابه الإصرار على إستقالة حكومة الدواليبي وتكليف شخص غيره بتشكيل الوزارة وعندئذ يطلق سراح السجناء ويعود الجيش إلى ثكناته ..
استدعيت زميلي النائب مصطفى السباعي وذهبنا معاً إلى سجن المزة لإقناع الدواليبي بالإستقالة , وحل الأزمة ,,ولما وصلنا إلى السجن إجتمعنا مع الزملاء المعتقلين وبينا لهم مطالب قائد الجيش , وأن رئيس الجمهورية موافق على استقالة الدواليبي وتكليف شخص اّخر من حزب الأكثرية بتشكيل الوزارة ,, فوافق الجميع على الإقتراح ,, إلا أن الدكتور الدواليبي رفض الحل .وقال إنه سيعطي رأيه بعد إجتماعه بزملائه أولاً . ثم يعطي الجواب .. فعدنا إلى القصر الجمهوري وأخبرنا الرئيس بما جرى ...
في اليوم التالي وضع الدواليبي استقالته شفهياً تحت تصرف رئيس الجمهورية .. لكن الأمور تعقدت أكثر فأكثر ...
بعد يومين زارني الدكتور خالد شاتيلا حاملا إلى كتاب إستفالة الرئيس هاشم الأتاسي .. فاستلمت الكتاب وتوجهت إلى المجلس النيابي وجمعت معي ماأمكن من النواب .. وقررنا زيارة الرئيس الأتاسي لإقناعه العدول عن الإستقالة .. لكنه أصر عليها ورفض الرجوع عنها رفضاً باتاً ---- وهذا ماكان ينتظره الشيشكلي والعسكر مع الأسف --- ) .
وهذا نص الإستقالة التي قدمها الرئيس الأتاسي لشيخنا سعيد إسحق باعتباره رئيساً للمجلس النيابي بالوكالة .. لأن رئيس المجلس في السجن .. وعند خلو منصب رئيس الجمهورية يحل محله رئيس مجلس النواب وبهذا أصبح شيخنا سعيد إسحق رئيساً للجمهورية السورية بالوكالة , حتى إنتخاب رئيس جديد وفق أحكام الدستور السوري الديمقراطي .... وفيما يلي نص استقالة الرئيس هاشم الأتاسي التي قدمها لشيخنا سعيد إسحق حرفياً كما جاءت في الصفحة ( 53 ) من مذكرات الشيخ سعيد إسحق :
- ( حضرة السيد سعيد إسحق – نائب الرئيس الأول لمجلس النواب المحترم :
تحية طيبة وبعد . فقد عهد إلي المجلس النيابي الكريم في الخامس من أيلول 1950 بمهام الرئاسة الأولى , واضعاً ثقته الغالية في شخصي ..لأسير بالوطن في طريق الهناء والرخاء . وقد قبلت في ذلك اليوم حمل أعباء ذلك المنصب وتبعاته ,, وأقسمت أمام نواب الأمة اليمين الدستورية , قاطعاً على نفسي العهد أن أقوم بأمانة وإخلاص بكافة الواجبات التي ألقاها الدستور على عاتقي ,, وقد حرصت طوال المدة التي مارست فيها مهام الرئاسة العليا الحرص على صيانة الدستور ورعاية أحكامه .. وبذلت بمؤازرة نواب الأمة ,, ومعاونة رؤساء الحكومات المتعاقبة ووزرائها قصارى ما أملك من قوى وجهود لأصون للبلاد نظامها الديمقرطي النيابي , ولأكمل لها عيشاً هنيئاً مستقراً ,في جو من الوئام والمحبة , والهدوء والطمأنينة .. غير أن الظروف غير العادية التي تمر بها البلاد في هذه الاّونة هي جد خطيرة ,, ولا تتمشى مع أحكام الدستور , وما رسمه من حدود للسلطات ,, ويبدو لي أن من المتعسر علي جداً أن أستطيع الوفاء في ظل هذه الأوضاع بكل ما قطعت على نفسي من عهود .. لذلك وحرصاً على صالح البلاد وخيرها , أبعث ‘لى المجلس النيابي الكريم باستقالتي من رئاسة الجمهورية ,, راجياً أن تعربوا لحصرات النواب عن وافر شكري وخالص تقديري للثقة الثمينة التي أولوني إياها , وللمعاضدة الصادقة التي لقيتها منهم خلال إضطلاعي بأعباء الرئاسة الأولى .. ضارعاً إلى الله سبحانه أن يصون للبلاد إستقلالها وسيادتها وحرياتها , ويجنبها الأخطار والمهالك ..ويحفظ لها عزتها وكرامتها , والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. – دمشق في 2 كانون الأول 1950 - هاشم الأتاسي )
++++++++++++++++++++
بهذه الروح الوطنية الديمقراطية المسؤولة ,المرتبطة جذرياً بإرادة الشعب ونظامه الجمهوري ا لبرلماني الذي اختاره بملء إرادته دستوراً لحياته ولنظامه السياسي قدم الرئيس هاشم الأتاسي إستقالته رافضاً أن يكون عبداً للعسكر الذين اغتصبوا السلطة منتهكين دستور البلاد وإرادة شعبها ..
والمهم ما نحن بصدده ..أن سلطة رئيس الجمهورية هنا بعد استقالة الرئيس الأتاسي قد اّلت حكماً إلى رئيس المجلس النيابي شيخنا المناضل سعيد إسحق بموجب أحكام الدستورالسوري الأساسي .. وانتقل شيخنا بكل هدوء وسلاسة إلى قصر المهاجرين ليما رس صلاحيات رئيس الجمهورية حتى انتخاب رئيس جديد ..
لم يعترض أحد على ذلك ولم تطرح صحيفة سورية واحدة دين أو مذهب رئيس الجمهورية..
لكن الشيشكلي وأسياده الأمريكان حسموا الأمر بعد يومين ..حيث أصدر الجيش البلاغ ( رقم 1 ) القاضي بتعطيل الدستور وحل المجلس النيابي . وتعيين الزعيم فوزي سلو رئيساً للدولة وشكلت حكومة من أتباع العسكر حتى إلغاء النظام البرلماني وتحويله إلى نظام رئاسي ...وإجراء الإستفتاء على رئا سة الشيشكلي ومسرحية إنتخاباته في خريف 1953 حتى إسقاطه في 25 شباط 1954 ............... يتبع في الحلقة القادمة والأخيرة
جريس الهامس / لاهاي / 17 / 12 / 2010
#جريس_الهامس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟