|
اعترافات جاهل بالشعر العربي الحديث
محمد عبد المجيد
صحفي/كاتب
(Mohammad Abdelmaguid)
الحوار المتمدن-العدد: 965 - 2004 / 9 / 23 - 09:05
المحور:
الادب والفن
تحتاج كل الفنون إلى جواز مرور أو هوية فنية، حتى لو اقتحم الفن من ليس أهلا له. فسيظل هناك نقاد وجمهور وذواقون للفن، ومقاييس عامة للخير والجمال والجودة والإبداع لا يختلف عليها إلا قلة نادرة. إلا الشعر الحديث، الذي يشبه الانفتاح الاستهلاكي تماما فقد اقتحم حرمته العالم والجاهل، والمبدع والمهرج ، والمثقف ونصف الأمي. المرة الأولى التي قرأت فيها ديوانا كاملا كانت عندما بلغت الرابعة عشرة من عمري، أي منذ أكثر ثلاثين عاما، وكنت قد استعرت ديوان ( البحتري) من قصر الثقافة في الإسكندرية، وأحببت الشعر فهو ديوان العرب، وكان المصدر الثاني بعد القرآن الكريم الذي تعلمت منه اللغة العربية. ومرت مراحل القراءة لديّ بأطوار عدة، ولكنني ظللت على صلة جيدة بالشعر، أقترب منه أحيانا، وألتصق به أحايين أخرى، وأبتعد عنه قليلا. كنت على يقين من أن الإبداع الشعري ليس له زمان ومكان، فقد تؤثر في وجداني روائع المتنبي كما تهزني تماما قصائد مصطفى صادق الرافعي. وجاء الشعر الحديث يحمل معه صورا عدة من التمرد والعصيان وهموم الإنسان العربي، والتأثر بحركة الشعر في الغرب. وكانت قد اقتحمت فؤادي قصائد شعرية حديثة هزتني بنفس القدر الذي كانت تقوم به قصائد المتنبي والبحتري وأبي تمام... قرأت لمحمد إبراهيم أبو سنة رائعته: حين تعلمنا أن نتقن أدوارا عدة في فصل واحد، حين أقمنا من أنفسنا آلهة أخرى وعبدنا آلهة شوهاء، حين أجبنا الغرقى بالضحكات حين جلسنا نصخب في أعراس الجن، حين أجاب الواحد منا مادمت بخير فليغرق هذا العالم طوفان كنا نحن الأعداء كنا نحن غزاة مدينتنا وتسللت إلى كل مسامات جسدي رائعة المأمون أبي شوشة عن باتريس لومومبا وهو يقول فيها: أمي أطياف وحشود وخيال جنود خوذات زرق وبنادق وجنود بيض وفيالق وهدير سلاح مسعور ورماد مخنوق خانق لا لا لا أبدا لا يمكن الأفرع عادت عريانة ما عادت تحمل أثمارا وزهورا بيضا ريانة لا هذا وهم يا أمي الأفرع في الغاب مشانق تثمر أشلاء وجماجم لا لا يا أمي أنا واهم كابوس أسود يفزعني أصوات هزيم في سمعي الموت لمن خان الكونجو ثم تسارعت مراحل التغيير في اهتماماتي الثقافية بحكم هجرتي إلى أوروبا التي مضى عليها ثلاثون عاما، واحتلت قراءاتي الجديدة أراض كانت قد استولت عليها من قبل اهتماماتي عندما كنت في بلدي العربي. ولكن ظل البحث بين الفينة والأخرى عن قصيدة جيدة قائما، وغزت العالم العربي بصحفه ومجلاته وفصلياته ودورياته آلاف القصائد الشعرية... الحديثة. ظننت أول الأمر أنني لن أجد صعوبة تذكر في فهم ما في ( بطن الشاعر)، ثم خاب ظني لأن بطون الشعراء كانت خاوية على عروشها.. وتحول جل القراء إلى شعراء، ووجدتني أقف عاجزا بالفعل عن فهم ما يدور حولي، واكتشفت أنني جاهل تماما أمام( إبداعات) القراء والكتاب والشعراء، وأن ما مضى من عمري واستغرقته قراءات جادة لم يزدني إلا ابتعادا عن ( روائع) الشعر الحديث. قرأت قصيدة نشرها الشاعر أحمد طه في مجلة ( الشعر) يقول فيها: لأنك كنت تغسل وجهك وقدميك بقبضة واحدة من المياه وتبول فوق رؤوس الخنافس دون أن يبتل حذاؤك الذي يرقد بين طعامك وكتبك إذن فقد كان لك وطن حقيقي لأنك كنت تملك قطة مليئة بالبراغيث وصديقة يخلو شعرها من القمل ويلمع بحبات الكيروسين ومدرسة تحمل عصاها رائحة أصابعك إذن فقد كان لك وطن حقيقي لأنك كنت تحفظ الفاتحة وقل هو الله أحد وتترك صلاتك وقد بعثرتهما على سجادة الجامع قبل أن يعرف الله أنك لم تتوضأ منذ جمعتين... ليس هذا هو النموذج الوحيد لـ(جهلي)، ولكن في ذاكرتي قصائد كثيرة قرأتها وأكد بها أصحابها جهلي المطبق في معرفة عالمهم المليء بالبراغيث والقمل والخنافس!! حاولت أن أفهم تعبير ( قبل أن يعرف الله أنك لم تتوضأ منذ جمعتين) فوجدت نفسي مضطرا إلى إعادة تعلم أبجديات اللغة العربية وصور التعبير الشعري، فربما أسلك طريقهم هذه المرة وأفهم ما عجزت عن إفهامي إياه ثلاثون سنة من القراءة. إن كتابا صعبا لعالم الاجتماع السويسري جان زيجلر، أو رواية لأم الأدب النرويجي كاميلا كوليت، أو دراسة عن فلسفة شوبنهور، أو شرحا لألفية ابن مالك أسهل على نفسي وفكري من الشعر الحديث. إنني أحسد الذين ينتشون ويسعدون بعشرات القصائد التي تنشرها كل يوم صحافة الوطن العربي، وتعيد نشرها دوريات ( متخصصة!!) في الإبداع.عزائي الوحيد أن الجاهلين مثلي كثر، وعلى رأسهم أستاذنا عباس محمود العقاد ـ رحمه الله ـ الذي لم يفهم الشعر الحديث. هذه الحادثة يجب أن لا تمس من قريب أو من بعيد قمم الإبداع المعاصر من أمثال محمود درويش وأحمد عبد المعطي حجازي والدكتور محيي الدين اللاذقاني ونزار قباني وسعاد الصباح وظبية خميس وغيرهم. إنما عتابنا ينصب أساسا على غياب المقياس الحقيقي للشعر الحديث، والذي ساهم في غيابه الذين فتحوا صفحات صحفهم ومجلاتهم ومطبوعاتهم لهذا الهزل، وذلك السقوط. رحم الله المأمون أبا شوشة الذي أوهمتني روائعه أن بإمكاني الاقتراب من الشعر الحديث، وفك طلاسمه، وحل ألغازه، وفهم لغته، والاقتراب من خنافسه وقمله وبراغيثه!!! من منا لا تدمع عيناه عندما يقرأ قصيدة المأمون أبي شوشة (أغدا أموت) التي يقول فيها: أغدا أموت؟ وتموت في قلبي الحياة وتذوب كل عواطفي بين التراب؟ وتروح كل خواطري ورؤى الشباب؟ وأعود شيئا لا يحس ولا يحس ولا تراه؟ أغدا أموت؟ أغدا سينتظر الطريق وتطول وحشة الانتظار وتجيء وحدك يا رفيق ويروح يسألك الطريق أين الصديق؟ فيجيبه دمع خنيق ويسائل الصفصاف والشجر المنور....والفروع والجدول الرقراق...والزقزاق .. والطير الأنيق أين الصديق؟ تجيب لهفته الدموع ويقول لا لا لا محال سيعود شاعرنا الرقيق سيعود يستوحي الخيال ويصوغ من حلم الظلال ومن الجمال أنشودة الصبح الجديد إننا في حاجة ماسة إلى مقياس حقيقي نتعرف من خلاله على الغث والسمين من الشعر الحديث والقصائد الحرة. وما يحدث الآن من هجوم الجراد الشعري على الذوق الثقافي لشعبنا العربي لا يمكن الصمت تجاهه، أو السكوت على إفساده مشاعر الحب والخير والجمال، وهدمه موسيقى اللغة العربية، واعتدائه الآثم على بيان لغة أهل الجنة. إنني أعترف على الملأ بأميتي وجهلي أمام قصائد القراء والشعراء والموهوبين والمبدعين الذين احتلوا صفحات صحفنا ومجلاتنا ودورياتنا في العالم العربي.
محمد عبد المجيد رئيس تحرير مجلة طائر الشمال أوسلو النرويج http://www.tearalshmal1984.com [email protected] [email protected] Fax: 0047+ 22492563
#محمد_عبد_المجيد (هاشتاغ)
Mohammad_Abdelmaguid#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كل الجزائريين يبكون، فمن القاتل؟
-
من الأكثر ولاء للوطن .. المواطن أم مزدوج الجنسية؟
-
سيدي الرئيس حسني مبارك .. استحلفك بالله أن تهرب
-
صراع الأبناء بعد وفاة الشيخ زايد .. هل يحكم محمد بن راشد آل
...
-
ابتسم فأنت في سلطنة عُمان
-
خذ حذرك فالاستخبارات الأردنية تتعقبك
-
النقاب حرام .. حرام .. حرام
-
نيلسون مانديلا ومنصف المرزوقي انطباعات شخصية
-
انتهاكات حقوق الإنسان في لبنان
-
دعوة لتنازل الملك فهد عن العرش
-
لا شرعية لنظام حكم عربي لا يغلق المعتقلات
-
لماذا أحب الفلسطينيين؟ لماذا يكرهني الفلسطينيون؟
-
لماذا لا يشتري العربُ موريتانيا
-
صديق الغربة .. الصديق المفترس
-
التدين البورنوجرافي
-
رسالة مفتوحة إلى أم الدنيا.. ماذا فعل بك هذا الرجل؟
-
ولكن الرقيب سيظل احمقا .....
-
خالص العزاء لشعبنا التونسي .. ربع قرن جديد تحت حذاء الرئيس
-
لماذا لا يبيع العقيد الليبيين؟
-
انتهاء المهلة المحددة للافراج عن الشعب السوري
المزيد.....
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|