|
فتيات الملح
ناصرقوطي
الحوار المتمدن-العدد: 3217 - 2010 / 12 / 16 - 08:59
المحور:
الادب والفن
دورة الاستلاب في مجموعة ( فتيات الملح) إن قراءة متأنية لنصوص " فتيات الملح " للقاص والمترجم مجيد جاسم العلي تكشف لنا عدة تفاصيل من بؤس الواقع ومراراته ، كما تشير إلى بضعة أبجديات ودلائل دامغة من صور الاستلاب بالرغم من أن قصص المجموعة قد كتبت بداية السبعينيات وتحديدا عام 1973 م . فنلاحظ أن جل هذه الصّور _ الكشوفات _ تنضح من بين ثنياتها إدانة صارخة لتقاليد بالية وتابوات قد دقت إسفينها بين الشخوص وما يتطلعون إليه ، فهذه الصور المضمخة بروائح المرارة والهزيمة وهي إفرازات طبيعية في المجتمعات النامية والتي يقوم الكاتب بتأويلها نتيجة للضغوط العديدة التي تتعرض لها الذات المبدعة الكاشفة ، فهي تتعاطى _ ذات الكاتب _ مع محيطها الممشكل بصدق وتلقائية حتى تلامس الكثير من جراح الناس البسطاء الطيبين وأحلامهم المحبطة ، وما تسفر عنه الاختناقات العديدة من تشوهات في مجتمع لم يسفر حتى اللحظة عن نتائج تهب للإنسان قيمته كفرد فاعل له خياراته وهيبته . فالانسحاق والتهميش والرغبات اللامتحققة والفقر والعوز الدائم هي الملامح المشتركة الرئيسة التي تتغلب على نصوص المجموعة والتي يسلط من خلالها كاتبنا جل أضواءه الكاشفة على تفاصيلها وينضو عن مرحلة من التاريخ ثيابها المهلهلة الملطخة بالوحل وسباخ الأرض ، وماتحمل تلك المرحلة من نكوصات بكل إرهاصات شخوصها الواقعيين ، وهم يدافعون عن حلمهم المستلب وأمنياتهم الصغيرة المضاعة التي لاتعدو أن تكون أحلام عصافير في فضاءات غائمة مشحونة ومزدحمة بالكواسر . هذه القصص التي تنحوا منحى واقعيا صرفا وتتخذ من التفاصيل الواقعية المعيشة ديدنا لها ، فهي لاتتخلى عن عنصر الدهشة والإيحاء وتنامي فعلها الدرامي كما لاتنسى _ النصوص _ تأطير نسيج بناها السردية بومضات شعرية ، تزيد من إيقاع نبضها الإنساني ديناميكية وتحيطه بغلالة شفيفة ، وتجعل القارئ يبحر في يمها وينساب بين سطورها بما تحمله من انتقالات وجدانية صادقة لتحولات مصائر الشخوص وحواراتهم التي تتداعى بين أحلام مستعادة وأخرى تسعى لاستشراف آتيها الذي تخنقه الأحلام اللامتحققة . فلو أخذنا قصة ( حردو وفراش الملك ) وهي العاشرة والأخيرة من بين قصص المجموعة ، سنرى أن تحقيق حلم ما أو نزوة عابرة يتحول إلى موضوعة شبه خرافية تشغل الناس عن كل مايدور حولهم من أمور وتنسيهم مرارة واقعهم ووطأة الظروف العصيبة التي يحيون في كنفها . تبتدئ القصة بـ ( نام حردو على فراش الملك ) ص1.7 وتنتهي بنفس الجملة السالفة فالراوي هنا ينحو منحى دائريا في سرد الأحداث فهو يبتدئ بالنتيجة ثم يعرج على الأحداث ليسرد لنا الأسباب التي دعت الشخصية المحورية على القيام بفعلها المفارق ليقفل الأحداث بالرجوع إلى الاستهلال . وشخصية حردو شخصية فكهة أقرب ماتكون إلى البلاهة المبطنة بالفطنة ، فهو يعمل أجيرا في سوق شعبي يقوم عندما تصل سفينة الملك بأن ينام على سريره ويظل يحلم متمرغا على الفراش الوثير ، وهو بذلك يحقق أمنية لم يجرؤ الآخرون حتى على التفكير بها ، وهم يتجمهرون ويتطلعون إلى صدق الخبر الذي أذهلهم ، وتظل الأفواه تتناقله في كل مكان وهو أن حردو المعتوه طرح تحديه و كسر حاجز الخوف ولو للحظة عابرة ، لتنتهي القصة وهو يقفز من السرير يرقص ويصفق ويصرخ بنشوة وجنون ( حردو نام على فراش الملك ) و.. ( رقص الحشد معه ، امتزجوا في رقصة واحدة . ) ص 113 في قصة ( في انتظار الطير ) نرى فتاة تبكي وهي تقتعد تحت فيء نخلة عند تخوم القرية وتنظر لسرب من اللقالق وهو ينأى ، كما تسترجع ذكرى اعتقال زوجها الذي جلبها من المدينة وما فعلتاه أم زوجها وأخته معها حين طردتاها من البيت ، فالسرد في هذه القصة ينحو منحى دائريا أيضا ويعتمد الوصف ركنا مهما في بنائها ، يكسره الحوار الذي يشكل بؤرة توتر الحدث وذروة تناميه ، ليعود السرد إلى بدايته بوتيرة هادئة وتظل الفتاة تنتظر عودة الغائب و تحملق بقرص الشمس الماثل للمغيب .. وتهمس وهي تتحسس الجروح الكثيرة في رقبتها ( احتجب ... لكنك ستظهر في الغد لامحال !!). ص72 ( من أجل الرغيف ) في هذه القصة يكشف لنا الراوي عوز عائلة فقيرة وصمود معيلها الوحيد ( أبو خضير ) على مواجهة أعباء الحياة على دراجة هوائية ، ثم يصف لنا الراوي ابنه الصغير وهو يستدين أرغفة الخبز حتى يفشل في مسعاه ليعود خائبا . ثم ينتقل بلقطة ثانية إلى قبر صغير فنرى ( أبو خضير ) وهو ينحني على القبر الذي وارى فيه أحد أبناءه لعدم امتلاكه ثمن علاجه وحين ينهض عن القبر بعد مناجاة طويلة ثم ( امتدت يده إلى جسد الدراجة . سحبها بقوة كأنه يريد ان يوقظها من غفوتها ../ لاتيأس أيها الجواد الهرم . ... هيا انهض فالزمن لم يمت بعد . ) ص62 قصة ( الحواجز) تتكلم عن صياد سمك بسيط يجبره ثلاثة مخبرون على الاعتراف بخطأ لم يقترفه وسرعان ماتتحول أحداث القصة إلى عرض مسرحي فيقوم الثلاثة باستجواب الصياد وما الذي جاء به إلى هذا المكان فيغدو النهر حكرا على شخص من السلطة بعد ان كان ملكا مشاعا أما قصة ( جامع أسماء الموتى ) فتحكي عن رجل كرس جل وقته على تسجيل المتوفين في (( كشكول )) يحمله معه أنى ذهب وهو يعتاش من هذه المهنة الغريبة كما يتابع كل من يموت أو يدفن في المقبرة ، ويحدث في سياق الروي أن الراوي يستفزه بسؤال عن أحد الموتى فيحاول (( زعلان )) وهو أسم الشخصية المحورية في القصة أن يناوره وفي خضم التساؤلات التي يطرحها الراوي كيقظة حلم ينتهي إلى نتيجة مفادها ان زعلان قد فارق الحياة ليقوم الراوي بإغماض عينيه ويصبح هو الشاهد الوحيد على جميع الموتى وهو بذلك يصادر مهيمنة على المدينة طالما حلم بها . ( فتيات الملح ) وهي أول قصة تبتدئ بها المجموعة وبطلها فتاة تدعى ( فطومة ) وهي فتاة جميلة تهوى الغناء وتعمل مع زميلات لها في جمع الملح الذي يخلفه نهر الخور أيام المد ويحصل أن تبيع ماتمتلكه إلى شاب يهوى الغناء ليستدرجها على أن تطلق صوتها مع المذياع الذي يصدح بأغنية في حجرته ( غني .. لم نسمع صوتك وأنت تغنين ! ( وبدأت الصحراء تركض نحوها .. تزحف من تحت قدميها .. شاسعة ، ليس لها حدود . وأتاها ماء الخور فغمر قدميها .. صعد ماؤه إلى قدميها .. ألفت نفسها كسفينة وحيدة تشق عباب البحر .. / من قال لكن تركضن إلى هناك .. قلت في نفسي سيبتلعهن ماء الخور ..!) ص 22 وهكذا نتلمس في أغلب القصص أن ثمة إصبعا خفية تشير إلى منظومة علاقات إنسانية مورست ضدها ضغوط خفية ولكن الراوي هنا يمد أصابعه العديدة ليدين هذه السطوة ويفقأ عين الاستبداد من خلال تعريته لهذه الضغوط والتابوات التي تصطدم بها شخوص قصصه وبالنتيجة يعري الوجه القبيح للسلطة . وهو الذي عانى _ الكاتب _ في سجون النظام أكثر من ستة أعوام وخرج من التجربة أكثر صلابة ولازال ينشر نصوصه القصصية وترجماته العديدة عن الأدب العالمي ولديه العديد من المخطوطات القصصية والروائية . وهو أحد قصاصي مجموعة ( 12 قصة ) في البصرة والتي نشرت بداية السبعينيات مع قصص محمد خضير وودود حميد ومحمد سعدون السباهي وكاظم الصبر وعبد الحسين العامر وطاهر ظاهر حبيب وريسان جاسم وعبد الجبار الحلفي وعبد الصمد حسن وسلمان كاصد .
#ناصرقوطي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خضرقد
-
غرباء
-
أعماق
-
الحائك
-
ايقاع الأمكنة
-
قصة
-
المحنة
-
عين النخلة
-
وهم الطائر
-
قصة قصيرة
-
قراءة في مجموعة - خمار دزديمونة - للقاص فاروق السامر
-
رواية شلومو الكردي (وأنا والزمن)دراسة نقدية
المزيد.....
-
-بندقية أبي-.. نضال وهوية عبر أجيال
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|