أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - أَنُوصِدُ الأَبْوَابَ أَمْ نُوَارِبُهَا؟!















المزيد.....



أَنُوصِدُ الأَبْوَابَ أَمْ نُوَارِبُهَا؟!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 3215 - 2010 / 12 / 14 - 12:00
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


(1)
رغم تناقضات الشريكين الواضحة بشأن أبيي، الأمر الذي يكاد يجعل منها معضلة مستعصية على مشارف نهايات الفترة الانتقاليَّة، وعقبة كئوداً أمام (الخواتيم السَّعيدة) لآخر عمليَّات السَّلام الشَّامل، ومطلوبات الدُّستور الانتقالي، بل وقانون استفتاء أبيي نفسه، إلا أنه، مع ذلك، وبالنظر إلى المعضلات والعوائق الأخرى، بخلاف أبيي، والتي تعترض السَّلاسة والسَّلامة اللتين يؤمَّل أن تنتهي بهما هذه العمليَّات، فليس صعباً رؤية سهم الاتجاه الغالب الذي يشير، بأكثر من إصبع، ليس، فقط، إلى احتمال تأجيل هذا الاستفتاء الجُّزئي، وإنما إلى تأجيل استفتاء جنوب السودان كله، وذلك بحسب ما رَشَحَ، ولا زال يرشح، من لقاءات الطرفين الماراثونيَّة، وإفصاحاتهما المتواترة، ما بين نيويورك والخرطوم وأديس أبابا وجوبا، فضلاً عمَّا انتثر، وما انفكَّ ينتثر، هنا وهناك، من إيماءات مفوَّضيَّة الاستفتاء، من جهة، وتعبيرات الدَّول الرَّاعية والميسِّرة للاتفاقيَّة، من جهة أخرى، بالإضافة إلى جملة العوامل الموضوعيَّة التي تجعل من الوفاء بشرط قيام هذا الاستفتاء في موعده المحدَّد، وغيره من الشُّروط الواردة ضمن الاتفاقيَّة والدُّستور، ضرباً من المستحيل!
لقد أكد د. نافع علي نافع، مساعد رئيس الجمهوريَّة، ونائب رئيس المؤتمر الوطني لشئون الحزب، على أن "الاستفتاء حول منطقة أبيي لن يجري في 9 يناير كما هو مقرَّر سلفاً"؛ إلا أنه أحال السَّبب، في حواره مع (قناة الجزيرة)، مؤخَّراً، إلى "تعنت الحركة الشعبيَّة" (برنامج "بلا حدود"، 8/12/10).
غير أن الحركة الشعبيَّة رفضت هذا الاتهام، وربطت التأخير بالمماطلة التي قالت إن الوطني مارسها في إجازة قانون استفتاء أبيي لسنة 2009م، مثلما ماطل في تشكيل مفوضيَّة استفتاء جنوب السودان، ثمَّ عاد وماطل، مرَّة ثالثة، في إجراءات تعيين الأمين العام لها، مع إصرارها، رغم ذلك، على أن الوقت كافٍ تماماً لإجراء الاستفتاء، في إشارة إلى تمسكها بيوم التاسع من يناير كتاريخ لا جدال عليه، لإجراء هذا الاستفتاء، ولا فصال فيه، قبل أن تعود لتعدِّل من موقفها هذا، وتوافق على مقترح تابومبيكي، رئيس لجنة الاتحاد الأفريقي المكلفة بهذا الأمر، ".. بضمُّ أبيي إلى الجنوب بقرار رئاسي"، كبديل عن إجراء الاستفتاء فيها، سائقة في تبرير موافقتها هذه، بلسان دينق ألور، كون المقترح ذا طابع عملي "بجانب ضيق الوقت .. لإجراء الاستفتاء!" (أجراس الحُرِّيَّة، 12/12/10).
لذا، وبرغم ما قد يلوح، مظهريَّاً، من اتفاق، في موقفي الشََّريكين حول عدم إجراء استفتاء أبيي في موعده، إلا أنه يصعب الحكم بأن هذا يعني أنهما يقتربان، بأيِّ قدر، من أيِّ فهم مشترك للمشكلة، دَعْ من أيِّ إطار مناسب لحلها، بل ربَّما كان العكس هو الصَّحيح تماما، حتى لقد لجأت المفوَّضيَّة إلى مناشدة الجَّامعة العربيَّة كي تتوسَّط ليتجاوز الشريكان تبادل الإتهامات (الأهرام اليوم، 25/11/10).
مهما يكن من أمر، فإن مقترح المعارضة بترك أمر أبيي إلى قبيلتي المسيريَّة ودينكا نقوك تقرِّران بشأنه، في معنى أن يقبل الآخرون ما تقبله القبيلتان، لهو مقترح حكيم بحق (أجراس الحُرِّيَّة، 12/12/10).

(2)
خطورة المناخ السِّياسي، قبل أقلِّ من شهر على موعد استفتاء جنوب السودان لسنة 2009م، مِمَّا لا يحتاج، يقيناً، إلى تأكيد، فبرغم صدور قانون هذا الاستفتاء، وتكوين مفوَّضيَّته، والإعلان عن انتهاء عمليَّة تسجيل الناخبين في الدَّاخل، ومشارفتها على الانتهاء في الخارج، وتحديد تواريخ الطعون، وخلافه، إلا أن كلَّ ما يحيط بهذه العمليَّات، وما سيعقبها من تصويت، واعتراف مفترض بالنتيجة، ما يزال، مع ذلك، ضبابيَّاً، غامضاً، ومفتوحاً على أكثر الاحتمالات خطورة. فالمفارقة جهيرة بين المواعيد كما نصَّ عليها القانون، والمواعيد كما أعلن عنها عمليَّاً. وهي ليست مِمَّا يمكن التوفيق بشأنه، أو غضُّ الطرف عنه. ذلك أن المادة/7/ح، ضمن الفصل الثالث من قانون استفتاء جنوب السودان، تنصُّ على أن من مهام المفوضيَّة "تأجيل إجراءات الاستفتاء لأيِّ (ظرف قاهر) بموافقة الحكومة وحكومة جنوب السودان". والمواعيد التي أعلنت عنها المفوَّضيَّة تصادم القانون، بالفعل، وبإقرار المفوَّضيَّة نفسها التي لم تجد بُدَّاً من رفع الأمر إلى رئاسة الجمهوريَّة، دون أن تقترح التأجيل! وربَّما كان ذلك بسبب الجدل الذي يثيره عرض هذه الحالة المحدَّدة على النصِّ المشار إليه، وما إن كان يجوز تفسير التقاعس عن اتخاذ بعض الإجراءات القانونيَّة اللازمة بأنه من دواعي (الظرف القاهر Force Majeure)!
على أن المؤتمر الوطني اعتبره، بالفعل، كذلك، ليستنتج أن المتبقي من الوقت غير كافٍ لإجراء استفتاء "حُرٍّ ونزيه"! ويجدر التنبيه إلى أن هذه، بالضبط، هي العبارة التي أصبحت تجري، مؤخَّراً، بتواتر ملحوظ، على ألسنة قادة الإنقاذ في أعلى المستويات! ففي 25/11/2010م، فقط، رصدت الصحف للأستاذ علي عثمان طه، نائب رئيس الجمهوريَّة، تعبيره عن هذا المعنى بأكثر من صيغة، حيث قال مثلاً: "سنعترف بإستفتاء بلا تأثيرات" (آخر لحظة)؛ و"سنعترف بنتيجة الإستفتاء إذا لم يحدث تشويش أوتأثيرات جانبية" (الوفاق)؛ و"سنعترف بنتائج الإستفتاء إن لم تمارس فيه إملاءات" (الحرة)؛ و"لن نقبل بنتيجة الإستفتاء إذا لم يكن حراً ونزيهاً وشفافاً" (الأهرام اليوم)؛ و"ملتزمون بإجراء الإستفتاء وقبول نتائجه شريطة أن يتم وفق نيفاشا" (الرائد)؛ في ما أوردت (الأحداث) عنه أنه "حدَّد حزمة شروط لقبول نتيجة الاستفتاء"! ولعلَّ في ذلك ما يكفي لاستنتاج دلالة خاصَّة لهذا التشديد في ظلِّ الظرف المعيَّن!
من جانب آخر ينصُّ القانون، في ما يتصل بسجل الاستفتاء النهائي، على أن تقوم المفوَّضيَّة، بعد إجراء المراجعات النهائيَّة، والحصول على نتائج الاعتراضات، بإعداد سجل الاستفتاء النهائي، وإعلانه قبل ثلاثة أشهر من تاريخ بداية موعد الاقتراع، ولا يجوز النظر في أي اعتراض بعد إعلان هذا السجل النهائي. مشكلة هذا النص أن فترة الثلاثة أشهر هذه قد تقلصت، الآن، عمليَّاً إلى خمسة أيَّام، مِمَّا اقتضى رفع الأمر، أيضاً، لرئاسة الجمهورية!
في الأثناء لم تساعد في إيصال الشَّريكين إلى المستوى المطلوب من التفاهمات مشاركتهما في اجتماعات مجلس السِّلم والأمن الأفريقي، بأديس أبابا، خلال أغسطس 2009م، بغرض النظر في الدور المطلوب من الاتحاد الأفريقي لإكمال إنفاذ الاتفاقيَّة؛ ولم تنجح في ذلك، أيضاً، مباحثات نيويورك، على هامش الجمعيَّة العامَّة للأمم المتحدة، في سبتمبر ـ أكتوبر 2010م؛ ولم تعِن على ذلك مشاركة الشَّريكين في جولة محادثات أديس أبابا خلال النصف الثاني من نوفمبر 2010م؛ ولم تفِد في ذلك، كذلك، قمة مجلس السلم والأمن الأفريقي الاستثنائية التي عقدت بطرابلس، يومي 29 ـ 30 نوفمبر الماضي، على هامش قمة (أفريقيا وأوروبا)، لمواصلة مجهودات الاتحاد الأفريقي الرامية لحسم القضايا الخلافيَّة بين الشَّريكين. ولم تجدِ، من ناحيتها، مجهودات تابومبيكي، رئيس اللجنة الأفريقيَّة المكلفة بحلِّ الخلافات حول ملف أبيي، ولا جولاته الماكوكيَّة بين أديس أبابا والخرطوم للتباحث مع الشَّريكين، وفقاً لتكليف قمة الإيقاد، حول أحقيَة التصويت في المنطقة. كما ولم تتمخَّض اجتماعات رئاسة الجُّمهوريَّة، على تعدُّدها، عن حلول ناجعة للأمور على هذا الصَّعيد؛ ولا استطاعت زيارة مجلس الأمن إلى السودان، خلال النصف الأوَّل من أكتوبر 2010م، أن ترينا ضوءاً في نهاية النفق المعتم؛
ولا الأوضاع داخل المفوضية نفسها استقرت على حال يطمئن!

(3)
في الأثناء راح يزداد، يوماً عن يوم، تلاطم موج التصريحات المتصالبة للشَّريكين، ثمَّ التراجع عنها بلا مقدِّمات، وكذا تصريحات ومواقف قوى إقليميَّة ودَّوليَّة مختلفة، كحديث د. مصطفى عثمان اسماعيل، مستشار رئيس الجُّمهوريَّة، مستنفراً الشباب والطلاب للاستعداد للحرب؛ وحديث رئيس الجُّمهوريَّة عن مسئوليته تجاه الجَّنوبيين في الشمال؛ ثمَّ حديث د. نافع المناقض، صراحة، لحديث رئيس الجمهوريَّة، وفحواه أن الجَّنوبيين في الشمال "خاضعون لتوفيق أوضاعهم"، ما يعني فقدانهم للجِّنسيَّة، لدى الانفصال، واحتياجهم لترتيبات جديدة؛ ثمَّ الحديث الآخر لرئيس الجُّمهوريَّة المناقض لحديثه الأوَّل، هو نفسه، وذلك بالتحذير من احتمال نشوب الحرب مجدداً في حال عدم التوصُّل إلى تسوية بشأن القضايا المختلف عليها قبل إجراء الاستفتاء، وأن الفشل في معالجة هذه الاستحقاقات قبل الاستفتاء سيجعل من العمليَّة مشروعاً لصراع جديد بين الشمال والجنوب قد يكون أخطر من الصراع الذي كان دائراً قبل اتفاقية السلام!
حديث البشير هذا يستدعي إلى الذاكرة (نبوءة الشؤم) بالإبادة الجَّماعيَّة التي شطح خيال الكاتب الصَّحفي الأمريكي نيكولا كريستوف إلى حدِّ التكهُّن، ليس، فقط، بسيناريوهاتها المتوقعة في جنوب السودان وجبال النوبا ودارفور، كما قال، بل حتى بالتواريخ الدقيقة لتسلسل أحداثها وفق جدول زمني ما بين 10/12/2010م و15/2/2011م، بحيث يصبح السودان أكثر بلدان العالم دمويَّة عام 2011م (النيويورك تايمز، 29/9/2010م). وبصرف النظر عن القدر من (الشعوذة!) الذي تنضح به (نبوءة نيكولا)، فإنها تندرج ضمن حملة الضغوط التي تتعرَّض لها إدارة أوباما من جهات عدَّة لإيلاء اهتمام أكبر لاستخدام (العصا)، في التعامل مع حكومة السودان، وذلك، حسب الهدف المعلن، لأجل حملها على تأمين استفتاء سلمي في 9/1/2011م! ولممارسة المزيد من الضغط على إدارة أوباما يذكر نيكولا بـ "الخطة المحكمة!" التي سبق أن وضعتها إدارة بوش إزاء ما ينبغي أن يحدث للسودان في ما لو لم يزودها بالمعلومات الاستخباريَّة عن أسامة بن لادن. فقد أشار نيكولا، بالاستناد إلى كتاب صدر حديثا عن دار نشر جامعة ييل بعنوان (السودان)، إلى لقاء بعض ضباط السي آي أيه، على أيام بوش الإبن، مع "زعيمين سودانيين كبيرين" في فندق بلندن، حيث أوضحوا لهما أن الولايات المتحدة سوف تستخدم صواريخ كروز لتدمير مصفاة البترول في بورتسودان، وخطوط الأنابيب، والميناء نفسه، مِمَّا حمل السودان على التعاون! وبالطريقة نفسها، اقترح المبعوث الأمريكي الخاص السابق للسودان، السفير ريتشارد وليامسون، في مذكرة للبيت الأبيض، مجموعة من العصي الغليظة لإجبار السودان على الانصياع. ولكن إدارة أوباما لم تلوِّح بها بعد! وفي الختام يتساءل نيكولا، بأسلوب يشي بعدم الإلمام الكافي بجوانب القضيَّة كافة، علماً بأن أخطر السِّياسات الأمريكيَّة تجاه بلداننا تنبني، في الغالب، على معلومات مغلوطة، أو منقوصة في أفضل الأحوال، فيقول: لماذا لا نوضِّح للبشير أنه إذا ما أقدم على ارتكاب إبادة جماعيَّة فإن (أنابيب بتروله) سوف تدمَّر، ولن يكون بوسعه تصدير أيَّة كميَّة من البترول؟! ويعلق قائلاً: صحيح أن تلك لعبة محفوفة بالمخاطر، ولكن الاستراتيجيَّة الحاليَّة أثبتت فشلها، وربما تكون نتيجتها إبادة جماعيَّة كان يمكن تداركها لو اننا عملنا على الحيلولة دون وقوعها!
تشاؤم نيكولا يتماهى تقريباً مع رأي القائلين، وشخصي منهم، بأن الأمور لو تركت على هذا الحال، فإما ألا يتمَّ الاستفتاء في 9/1، كما ينبغي، لانعدام الميزانيَّات، أو لضيق الزمن، أو لأيِّ سبب آخر، مِمَّا سيثير شكوك الحركة الشَّعبيَّة، ومن ثمَّ الشَّارع الجَّنوبي المشبَّع بالشَّحن، أصلاً، بالأخصِّ في أبيي، والعاصمة، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق، فيحدث الاحتكاك الذي يولد الشَّرر الذي تندلع منه نيران الحرب! أو أن يؤدي التعانف اللفظي المتصاعد حالياً من كلا الجانبين إلى دفع الأمور دفعاً نحو هاوية الحرب، كحديث كمال عبيد عن حرمان المواطن الجَّنوبي في الشمال، حال الانفصال، من الخدمات الصِّحِّيَّة، والشَّحن المتبادل بين المسيريَّة ودينكا نقوك في ما يتصل بأبيي؛ ونماذج التصريحات المتناقضة لقادة المؤتمر الوطني، في ما بينهم، حول مصير جنسيَّة الجَّنوبيين في الشمال بعد الانفصال، والتصريحات العدائيَّة المتشككة، من كلا الطرفين، في نوايا الطرف الآخر بشأن عمليَّات التسجيل، والتصويت، إلى حدِّ الاتهام الصَّريح، منذ الآن، بالإعداد لتزوير الاستفتاء، وما إلى ذلك من مواقف وتصريحات.
وينبغي التذكير بأنه، وفي سياق هذا التعانف اللفظي، جاء طلب سلفا إلى مجلس الأمن بإدخال قوات دوليَّة لترابط على الحدود بين الشمال والجنوب، علماً بأن هذه الحدود لم ترسَّم بعد؛ وعدم ترسيمها مشكلة باتجاهين: فإما أن يحول دون قيام الاستفتاء، أو إذا قام ونتج عنه الانفصال تنفتح الأبواب على مصاريعها للصِّدام الدَّموي على حدود يُراد فصلها بينما هي غير محدَّدة! وحتى لو رُسِّمت فإن مجلس الأمن لا يستطيع إدخال قوَّات دوليَّة، حسب طلب سلفا، دون موافقة الشَّريك الآخر ـ الحكومة، إلا إذا وُضع السودان تحت الفصل السَّابع، وهو أمر عالي الكلفة بالنسبة للمجتمع الدَّولي، وفي مقدمته أمريكا الغارقة حالياً، حتى أذنيها، في العراق وأفغانستان، فضلاً عن أن تبعات الفصل السَّابع سوف تقع بأكملها على أمِّ رأس الشعب، قبل أن تضير الحكومة في شئ!
من ناحية أخرى يجدر التذكير بأن هذا الاستفتاء يُراد له أن يقوم في ظلِّ مخاطر جيوبوليتيكية جمَّة، أبرزها الارتباكات الليبيَّة والمصريَّة إزاء قضيَّة الانفصال. فمن جهة ليبيا هناك تشجيع القذافي للجنوبيين، العام الماضي، على الانفصال، وتحذيره لهم، هذا العام، من مغبَّته على القارة! ومن جهة مصر هناك الكثير من المواقف المرتبكة في تصريحات قادتها التي تنمُّ، من جهة، عن محاولة استرضاء الانفصاليين، ومن جهة أخرى عن الرغبة في إنقاذ أي شكل لـ (الوحدة)، حتى لو كانت الكونفيدراليَّة!
خلاصة الأمر أنه ليست لدى الشَّريكين أيَّة استراتيجيَّة واضحة تنأى بالاستفتاء عن مخاطر المواجهات المسلحة، كما وأنه، لا القوى الأجنبيَّة، ولا حتى دول الجوار الجيوبوليتيكي، يمكن أن تشكل عاصماً من هذا المآل: فإذا لم يقم الاستفتاء في موعده انفتحت أبواب الحرب؛ وإذا قام، وجاءت نتيجته لصالح الانفصال، انفتحت أبواب الحرب؛ وإذا قام، وجاءت نتيجته لصالح الوحدة، انفتحت، أيضاً، أبواب الحرب!

(4)
مهما يكن من شئ، وبما أن الموعد المعلن لهذا الاستفتاء هو، وإلى حين إشعار آخر، التاسع من يناير 2011م، فينبغي أن نتعامل معه وفق المعلوم منه بالضَّرورة، وما بات في حكم المؤكد من أن نتيجته ستكون لصالح (الانفصال)، علاوة على حزمة المحاذير السِّياسيَّة والقانونيَّة التي تحيط، في الوقت الراهن، مثلما يُتوقع أن تقترن، في المديين القريب والمتوسِّط، بالتبعات التي ستترتب على خيار (الانفصال) هذا. وإذن، فالسُّؤال المطروح، بإزاء هذا الواقع السِّياسي المعتم، هو: ما عساه يكون العمل؟!
للإجابة على هذا السؤال ننظر في قانون استفتاء شعب جنوب السودان لسنة 2009م، لنجد أن المادة/67 منه تفترض دخول الأطراف في حوار جادٍّ حول ترتيبات ما بعد الاستفتاء. ولا ريب أن مثل هذا الحوار يمكّن هذه الأطراف من أن تتبصَّر مخاطر الانفصال النهائي، القطعي، البات، وعواقبه الوخيمة. وهذا، دون شكَّ، باب واسع يسمح بدخول الجَّهد الشَّعبي، الحزبي والمدني؛ كون الأطراف، مِمَّا تراكم من خبرات حتى الآن، لن تقدم، من تلقاء نفسها، على هذا الحوار الجَّاد، كما ولن تحملها عليه، بل وليس من المرغوب فيه أن تحملها عليه، أيُّ قوى خارجيَّة، لا أمريكا، ولا الاتحاد الأوربي، ولا مصر، ولا ليبيا، ولا الاتحاد الأفريقي، ولا غيره، فيلزم حملها عليه بمجهود شعبي في شكل جماعات ضغط مجتمعيَّة، متعددة ومتنوِّعة ونشطة.
لقد سبق أن طرحنا، ضمن جهات مختلفة، مقترح (الكونفيدراليَّة) كشكل مخفف من (الوحدة)، يتجاوز محنة (الانفصال) النهائي، لكنه استعصى على القبول، ربَّما بسبب سوء الظن بالمصطلح نفسه، والشُّكوك غير المبرَّرة بماورائيَّاته! وبما أن أهمَّ ما ينبغي التركيز عليه في أيِّ مجهود قادم هو ما يمثل أخطر قضيَّة ضمن ترتيبات ما بعد الانفصال: (قضية المواطنة/الجِّنسيَّة)؛ علماً بأننا نستخدم هذين المصطلحين، في كلمتنا هذه، كمترادفين بدلالة متطابقة، فإننا نعود، اليوم، لنطرح مقترح (اتحاد الدَّولتين المستقلتين)، كشكل آخر مخفف حتى من صيغة (الكونفيدراليَّة) نفسها. ويهدف المقترح إلى تعبئة حملات ضغط شعبي سلمي يقنع الشَّريكين، في ما تبقى من زمن شحيح، بجدوى المطلوبات السَّبع الآتية:
(1) أن يتوافقا، وهذا ممكن طالما أن الاتفاقيَّة نفسها هي نتاج تلاقي إرادتيهما، على الاستغناء عن الاستفتاء نهائياً، كونه، تحت الظرف المحدد، يشكل باباً مشرعاً للحرب والخراب في كلِّ الأحوال، والاحتمالات، والمئالات؛
(2) وأن يُقرَّا، بدلاً من الاستفتاء، بقيام دولتين مستقلتين استقلالاً تاماً في الشمال والجنوب، تفصل بينهما الحدود الإداريَّة القديمة المتعارف عليها منذ 1956م؛
(3) وأن يُقرَّا شكل رابطة بين هذين الكيانين تسمَّى (اتحاد الدَّولتين السُّودانيَّتين المستقلتين)؛ بحيث يكون في أساس هذه الرَّابطة سوق مشتركة، وعملة موحَّدة، وجنسية مزدوجة، فتضيق قمَّة هرم هذا الاتحاد في مستوى السُّلطتين وعلاقات الحكومتين، بينما تتسع قاعدته في مستوى العلاقات الشَّعبيَّة؛
(4) وأن تكون لهذا الاتحاد أجهزة مشتركة محدَّدة، لخدمة قضايا مشتركة محدَّدة، سياسيَّة واقتصاديَّة، وخلافه، يُتفق عليها بين الدَّولتين؛
(5) وأن تشرف على عمل هذه الأجهزة مفوَّضيَّة يُتفق على تعيينها بين الدَّولتين؛
(6) وأن تكون لهذه المفوَّضيَّة رئاسة وأمانة عامَّة تداوليَّتان بنظام محدَّد متفق عليه بين الدَّولتين؛
(7) وأن تكون (أبيي) هي العاصمة الإداريَّة لهذا الاتحاد.

(5)
لكن، ولأنه من غير المستبعد، بطبيعة الحال، أن تؤدي شدَّة حساسيَّة وتعقيدات العلاقات بين الطرفين، واختلال ميزان القوَّة بين الوحدويين والانفصاليين داخل كلِّ طرف على حدة، إلى إعاقة تطبيق هذا المشروع الوطني بـ (صيغة الحدِّ الأقصى) هذه، فينبغي ألا تغفل الحملات الشعبيَّة عن أن تولي جلَّ اهتمامها لضمان صون العلاقات العابرة لقاعدة هرمي الدَّولتين المستقلتين، كحُرِّيَّات التنقل، والإقامة، والتملك، والعمل، باعتبارها (صيغة الحدِّ الأدنى) التي يتوجَّب، على الأقل، أن ينتهي إليها المشروع، إذا استعصى بلوغ (حدِّه الأقصى) المذكور لسبب أو لآخر. وهو أمر ما زال، وسيظلُّ، ممكناً، بدلاً من إضاعة الجهد في إنقاذ قمَّة الهرم الرسميَّة الآيلة، كما هو واضح، إلى سقوط مدوٍّ، قام الاستفتاء أم لم يقم، ناهيك عن مخاطر المواجهات الحربيَّة التي يستتبعها ذلك.
في هذا الاتجاه لا بُدَّ لنا من أن نضع نصب أعيننا أنه، وسواء جرى تطبيق هذا المقترح بـ (الحدِّ الأقصى) في حالة (إتحاد الدَّولتين المستقلتين)، أو بـ (الحدِّ الأدنى)، أي ضمان (الحُرِّيَّات الأربع)، على الأقل، في حالة (غياب الاتحاد)، فإن الشفرة الأساسيَّة لهذا المشروع هي (ذاكرة المواطنة) و(الجنسيَّة المزدوجة) التي من شأنها جعل الأبواب بين الإقليمين (مواربة) يتقوَّى، من خلالها، الإحساس بضرورة استعادة ما قد يتبدَّد من الأواصر الشعبيَّة المشتركة، والحفاظ على ما قد يتعرَّض للإهدار من علاقات التاريخ والجُّغرافيا الحميمة، بدلاً من (إغلاق) هذه الأبواب تماماً، لتنفتح، فقط، احتمالات القطيعة النهائيَّة، وربَّما العداوة النكـد، مرَّة، وللأبد!
و(المواطنة/الجنسيَّة) رابطة قانونيَّة بين فرد ما، رجلاً أو إمرأة، وبين دولة ما، قائمة على أرض ما، بحيث تبسط هذه الدَّولة حمايتها الدِّبلوماسيَّة على هذا الفرد كحامل لجنسيَّتها. ومع كون (المواطنة/الجنسيَّة) تخضع أساساً للدُّستور والقانون الدَّاخلي، النابعين من ممارسة الدَّولة المعيَّنة لسيادتها، إلا أن ذلك ينبغي أن يكون متسقاً مع ما يضعه القانون الدولي من شروط وقيود وضوابط.
وفي مبحثه القيِّم حول (بعض الجَّوانب القانونيَّة لانفصال جنوب السودان، الجُّزء الأوَّل، صحيفة "سودانايل" الإليكترونيَّة، 11/10/10)، أبرز الأستاذ العالم فيصل عبد الرحمن علي طه ما يُعرف في القانون الدَّولي بمفهوم (خلافة الدولة State Succession)، كفرع من فروع القانون الدَّولي، كما أضاء مختلف حالات انطباقه، ومن بينها (انفصال) إقليم ما من دولة ليكوِّن دولة جديدة، كما في حالة الجنوب باعتبار ما سيكون. وثمَّة نماذج عديدة لذلك، على صعيد التاريخ العالمي المعاصر، كانفصال باكستان عن الهند عام 1947م، وسنغافورة عن ماليزيا عام 1965م، وبنغلاديش عن باكستان عام 1971م، وتيمور الشَّرقيَّة عن اندونيسيا عام 2002م. في كلِّ تلك الحالات شكل مفهوم (خلافة الدَّولة) أولى تبعات (الانفصال). أما في أفريقيا، فإن حالة (انفصال) الجنوب ستكون غير مسبوقة، حيث أن حالة إرتيريا وإثيوبيا عام 1993 كانت، على الأرجح، (إستقلالاً)، وليست (انفصالاً)، إذ أن إرتيريا لم تكن، قط، جزءاً من إثيوبيا.
ويصنف الأستاذ فيصل المسائل التي لا مناص من ترتبها على (خلافة الدَّولة) في مثل هذه الحالة، كمسائل الجنسيَّة، والمعاهدات، والممتلكات، والمحفوظات، والدِّيون، وعضويَّة المنظمات الدوليَّة، والحقوق الخاصَّة والمكتسبة .. الخ. لكن أبرز وأعمَّ هذه المسائل هي انتقال السَّيادة على الإقليم المنفصل، الجنوب، إلى الدَّولة الجَّديدة التي ستؤسَّس فيه، وتعرف بـ (الدَّولة الخلف Successor State)؛ أما الدولة القائمة في الشمال فستعرف بـ (الدولة السَّلف Predecessor State) التي ستنتهي مسؤوليتها، من تلك اللحظة، عن الحقوق والالتزامات الدوليَّة لإقليم الجنوب المنفصل، كما ستتحول حدود 1956م من حدود داخليَّة إلى دوليَّة، إعمالاً لمبدأ (احترام الوضع الإقليمي الرَّاهن Territorial Status Quo)، ومبدأ (لكلٍّ ما في حوزته Uti Possidetis)، وذلك بالاستناد إلى (الرأي رقم/3) من (فتوى مفوَّضيَّة التحكيم الخاصَّة بيوغسلافيا) بأن "الحدود الداخليَّة بين كرواتيا وصربيا، وبين البوسنة والهرسك وصربيا، قد أصبحت حدوداً يحميها القانون الدولي على أساس المبدأين المذكورين".
غير أن ثمَّة معضلة قانونيَّة دوليَّة تهمُّنا، هنا، على نحو مخصوص، وقد تطرَّق إليها الأستاذ فيصل، أيضاً، وهي عدم الاستقرار في حقل القانون الدَّولي، حتى الآن، على قواعد عرفيَّة عامَّة، واجبة التطبيق على كلِّ المسائل التي تثيرها (خلافة الدول) في مختلف الحالات، ومن بينها الانفصال. ويعزى ذلك لتنوُّع ظروف نشأة الخلافة، أو تنوُّع ممارسات الدُّول في تسوية المسائل المترتبة عليها، أو ما إلى ذلك. ونضيف أن الأمر قد احتاج، مثلاً، في حالة الاتحاد السُّوفيتي السَّابق، وتشيكوسلوفاكيا، وبعض الجُّمهوريَّات الاشتراكيَّة السَّابقة في شرق أوربا، إلى حصد الاعتراف بالدُّول (الخلف) الجَّديدة عن طريق ما يُعرف بالـ PADINTER COMMISION، فضلاً عن عدم نجاح محاولات تدوين أو تطوير قواعد دوليَّة عامَّة في هذا المجال.
وعليه، فالمبدأ الأوَّل واجب التطبيق بشأن (المواطنة/الجنسيَّة)، في حالة خلافة الدَّولة بسبب انفصال جنوب السودان، والذي ينبغي على حملات الضَّغط الشَّعبي أن تحمل عليه الطرفين حملاً، هو أن يتفقا على أن تتفاوض الدَّولتان، السَّلف والخلف، بشأن كلِّ المسائل المتصلة بهذه الخلافة. ففي (الرأي رقم/9) دعت مفوضيَّة التحكيم الدول الخلف ليوغسلافيا لتسوية كل جوانب الخلافة بالاتفاق، وأن تسعى للوصول لتحقيق حلٍّ منصف، بالاستهداء بالمبادئ الواردة في اتفاقيتي 1978م و1983م، وبالقانون الدَّولي العرفي حيثما كان ذلك ملائماً. وما يهمُّنا التشديد عليه، في هذا الإطار، هو القواعد التي تربط (المواطنة/الجنسيَّة)، وثيقاً، بحقوق الإنسان، فتنبغي مراعاتها، كالمادة/15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنصُّ على حقِّ كل فرد في التمتع بجنسيَّة ما؛ والمادة/24/3 من العهد الدَّولي الخاص بالحقوق المدنيَّة والسِّياسيَّة لعام 1966م، والمادة/7 من اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989م، وتنصَّان على حقِّ كلِّ طفل في اكتساب جنسيَّة.

(6)
لكن، وخلافاً للمسائل المتعلقة بالمعاهدات والديون والممتلكات والمحفوظات، في ما يشير الأستاذ فيصل، فإن مسألة الخلافة بالنسبة لجنسيَّة الأشخاص الطبيعيين لم تدوَّن أو تقنن، بعد، في شكل اتفاقيَّة. غير أنه يمكن الاسترشاد، في هذا الصَّدد، بوثيقتين دوليَّتين مهمَّتين، هما: المعاهدة الأوربيَّة بشأن الجِّنسيَّة لعام 1997م، والإعلان الصَّادر عن الجَّمعية العامَّة للأمم المتحدة في 12/12/2000م بشأن جنسيَّة الأشخاص الطبيعيين في حالة خلافة الدُّول.
(1) فأما بالنسبة للمعاهدة الأوربيَّة، فقد دعت المادة/4 منها الدُّول الأطراف لتأسيس قواعد الجِّنسيَّة على عدَّة مبادئ، كحقِّ كلِّ فرد في التمتع بجنسيَّة، وتجنب خلق حالة إنعدام الجِّنسيَّة (البدون Statelessness)، وحظر الحرمان الاعتباطي من الجِّنسيَّة أو الإسقاط الاعتباطي للجِّنسيَّة. وتناولت المادة/18/2 الاعتبارات التي تتعيَّن مراعاتها عند منح أو الإبقاء على الجِّنسيَّة في حالات خلافة الدول، ومنها: الرابطة الحقيقيَّة الفعَّالة بين الفرد والدَّولة؛ ومكان الإقامة الإعتياديَّة وقت خلافة الدَّولة؛ وإرادة الشَّخص المعني؛ والأصل الإقليمي. واكتفت المعاهدة بالنصِّ، في المادة/19، على إلزام الدُّول المعنية بأن تسعى، في حالات خلافة الدُّول، لتنظيم المسائل المتعلقة بالجِّنسيَّة بالاتفاق في ما بينها، مع مراعاة المبادئ والقواعد الواردة في الفصل المخصَّص لخلافة الدُّول والجِّنسيَّة.
(2) أما بالنسبة لإعلان الجَّمعية العامَّة للأمم المتحدة بشأن جنسيَّة الأشخاص الطبيعيين، فهو مشروع مواد أعدتها لجنة القانون الدَّولي، المعنيَّة بتطويره، والتي أنشأتها الجَّمعيَّة العامَّة لهذا الغرض، عام 1947م، وقد توزَّعت على بابين:
الباب الأوَّل: تناول أحكاماً عامَّة، كحقُّ الفرد الذي كان في تاريخ الخلافة يتمتع بجنسيَّة الدَّولة السلف، بصرف النظر عن طريق اكتسابها، في أن يحصل على جنسيَّة دولة واحدة على الأقل من الدُّول المعنيَّة (م/1)؛ والحيلولة دون أن يصبح الأشخاص الذين كانوا في تاريخ خلافة الدَّولة يتمتعون بجنسيَّة الدَّولة السَّلف عديمي الجِّنسيَّة أو (بدون Stateless) بسبب هذه الخلافة (م/4)؛ وافتراض اكتساب الأشخاص الذين يقيمون بصفة اعتياديَّة في الإقليم المتأثر بخلافة الدَّولة جنسيَّة الدَّولة الخلف في تاريخ الخلافة (م/5)؛ وحظر تجريد الأشخاص المعنيين، اعتباطيَّاً، من جنسيَّة الدَّولة السَّلف، أو من حقِّ اكتساب جنسيَّة الدَّولة الخلف، أو من حقِّ الخيار، إذا كانت هذه الحقوق مكفولة وقت خلافة الدَّولة.
الباب الثاني: ألزم الدَّولة الخلف بأن تمنح جنسيَّتها إلى الأشخاص المعنيين الذين يقيمون فيها بصفة اعتياديَّة مالم يتبيَّن غير ذلك عند ممارسة حق الاختيار (المادة/24/أ). كما أجاز للدَّولة السَّلف أن تسحب جنسيَّتها من الأشخاص المعنيين الذين يكونون أهلاً لاكتساب جنسيَّة الدَّولة الخلف، لكن بعد حدوث هذا الاكتساب وليس قبله (المادة/25/1). ولذا فالتهديد الذي يطلقه بعض رسميي الإنقاذ، وقادة حزبها الحاكم، بإسقاط الجنسيَّة عن جنوبيي الشمال، فور إعلان (الانفصال) كنتيجة للاستفتاء، فإنه إطلاق للقول على عواهنه، كيفما اتفق، ودونما أدنى سند من قانون أو عرف دولي! كذلك تقضي المادة 25/2 بأنه لا يجوز للدَّولة السَّلف أن تسحب جنسيَّتها من الأشخاص المشار إليهم في الفقرة 25/1، والذين يقيمون بصفة اعتيادَّة في إقليمها، ما لم يتبيَّن خلاف ذلك عند ممارسة حقِّ الخيار. أما المادة/26 فتلزم كلتا الدَّولين، السلف والخلف، بمنح حق الخيار للأشخاص الذين يكونون مؤهلين لاكتساب جنسيَّة كلٍّ منهما.

(7)
وتطبيقاً على حالة (انفصال) الجنوب الشَّاخصة، فثمَّة ثلاث مجموعات ينبغي منحها أولويَّة الاعتبار عند التفكير في درء مخاطر تبعات هذا (الانفصال):
(1) الشَّماليون الذين وُلدت أجيالهم، وارتبطت مصالحهم، بصورة عميقة، بالجنوب، سواء تزاوجوا أو لم يتزاوجوا. وبالمقابل الجنوبيون الذين وُلدت أجيالهم، وارتبطت مصالحهم، بصورة عميقة، بالشمال، سواء تزاوجوا أو لم يتزاوجوا. هؤلاء لا بُدَّ من الاتفاق على منحهم الجنسيَّة المزدوجة، فوراً، في كلتا الدَّولتين. وبالنظر إلى كون قانون الجنسيَّة السوداني الاتحادي لسنة 1994م يسهِّل الحصول على الجنسيَّة المزدوجة، بينما العكس صحيح بالنسبة لـ (قانون السودان الجديد للجِّنسيَّة لسنة 2003م) الذي أصدرته الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السودان في سياق تشريعاتها التي كانت تطبِّقها في المناطق التي كانت تعرف، على أيَّام الحرب الأهليَّة في الجنوب وجبال النوبا وجنوب النيل الأزرق، بـ (المناطق المحرَّرة)، وستعود لتطبيقها، في الغالب، بعد قيام الدَّولة الجَّديدة، ولذا لا بُدَّ من التنبيه إلى أهميَّة إجراء إصلاح قانوني عاجل يسمح بازدواجيَّة الجِّنسيَّة، في دولة الجنوب الجَّديدة، دون تعقيد لا مبرِّر له.
(2) القبائل الحدوديَّة على طول حزام السافنا، من الغرب إلى الشَّرق، وتقدر بـ 9 ملايين شمالي، و4 ملايين جنوبي، أي قرابة ثلث إجمالي السُّكان. فإذا علمنا، مثلاً، أن للمسيريَّة وحدهم 10 ملايين رأس من الأبقار ترتبط حياتها بالنزوح وراء الماء والمرعى، في موسم الجَّفاف، إلى الجنوب من بحر العرب، وصولاً إلى بانتيو، ولمدة 6 أشهر في السَّنة، لاستطعنا أن ندرك حجم الخطر الذي يمكن أن ينجم، غداً، من مجابهة هؤلاء الرُّعاة لحقيقة عدم استطاعتهم ممارسة هذه الرِّحلة بسبب حظرها، فجأة، من جانب دولة مستقلة جديدة في الجنوب! صحيح أن القاعدة المرعيَّة في القانون الدَّولي، والتي نبَّه إليها قرار تحكيم أبيي في لاهاي، أن القبائل الحدوديَّة ينبغي ألا تضار من أيِّ ترتيبات تؤدي، مثلاً، إلى فصل إقليم في أيَّة دولة لتنشأ عليه دولة جديدة! لكن هذه القاعدة التي يمكن النطق بها في عبارة قصيرة، قد يحتاج تطبيقها إلى سنوات، وربَّما عقود، من التفسير، والتقاضي، والجهود الدِّبلوماسيَّة، واللجوء إلى منظمات إقليميَّة ودوليَّة، الأمر الذي لا يُتصوَّر أن يتحمَّل الرُّعاة انتظاره، وهم ينظرون إلى الآثار الكارثيَّة المدمِّرة لحرمان قطعانهم من الماء والكلأ! لذا فإن هؤلاء، أيضاً، ينبغي منحهم الجِّنسيَّة المزدوجة، فوراً، في كلتا الدَّولتين.
(3) يتبقى عموم أهل السودان في كلتا الدَّولتين، السَّلف والخلف، وهؤلاء يُعاملون وفق الدَّرجة التي تبلغها رابطة كلتا هتين الدَّولتين في قمَّة الهرم أو في قاعدته، والمستوى الذي يطبَّق به مشروع (اتحاد الدَّولتين المستقلتين)، سواء في حدِّه الأقصى أو الأدنى.

***



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حَالَةُ الجَّوْرَبِ المَقْلُوب!
- الثُّقْبُ فِي سَقْفِ البَيْت!
- يَا فَنْدُمْ أعْدَمْناهُ .. يَشْهَدُ الله!
- أَمَامَ كُلِّ جَنُوبٍ .. جَنُوب!
- فَصَلَ يَفْصِلُ فَصْلاً!
- الأَيْدِيُولوجِي المُضَاد!
- أَبْنَرْكَبْ الكَرْكَابَة!
- سِرِّي!
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (الحلقة الأخيرة)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (6)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (5)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (4)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (3)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (2)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (1)
- الأَمَازُونِيَّات!
- إِنْزِلاقَاتُ الصُّدُوع!
- عَوْلَمَةُ الشَّعْرِ الهِنْدِي!
- سَنَةُ مَوْتِ سَارَامَاغُو!
- رَطْلُ لَحْمٍ آخَر لِشَيْلُوك!


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - أَنُوصِدُ الأَبْوَابَ أَمْ نُوَارِبُهَا؟!