سرحان الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 3211 - 2010 / 12 / 10 - 14:42
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الجزء الثاني
في الحيقية لابد لي من الاعتراف اولا , ان تعليقات الاخوة القراء حول الجزء الاول , قد افادتني كثيرا , ومن دواعي سروري ان يشاركني الاخوة القراء , الذين اغلبهم كتاب ايضا , ولهم اطلاع واسع ومعرفة ودراية بهذا الموضوع الشائك , القديم , الحديث , ومن الواجب ان اعتذر عن بعض الاخطاء التي وقعت في الجزء الاول , ومن ذلك مثلا , البداية التي كانت , بسؤال حول الكفر , وكان الاجدى ان تكون البداية بسؤال ما هو الكفر ؟ كما اشار بذلك الزميل مازن البلداوي , والخطاْ الاخر الذي وقعت فيه هو العنوان الثالث , علاقة الكفر بالدين , والصحيح , علاقة التكفير بالدين , لان الكفر مصدر من فعل كفر ( الكاف والفار والراء مفتوحة ) , بينما التكفير على وزن تفعيل وهو ايضا مصدر ولكن من الفعل كفر ( بتشديد الفاء ) الذي يعني القاء الكفر على الاخر , الامر الذي يتناسب وطبيعة هذه الدراسة التي تبحث عن مصادر ومنابع التكفير وليس طبيعة وشكل التكفير , ولا يجب ان يفوتني ان التعريف الاشمل والاقرب الى الاصطلاح الفقهي المتعارف عليه اليوم للكافر , هو ما اشار اليه الزميل رعد الحافظ بكونه يعني الجاحد والمنكر
, ومن الضروري التنويه ايضا , ان موضوع التكفير في الاديان وفي الايدلوجيات السياسية والفكرية المتصارعة في الوقت الراهن , ليس موضوعا ماضويا , او ان صلته بالحاضر ضعيفة , كما يحاول البعض ان يدعي ويرسخ في الاذهان , وان نقد السطة والاستغلال والفساد الاداري والمالي والسياسي المستشري في عالمنا العربي اليوم , هو من اولويات الثقافة , ومن واجيات العمل الاعلامي الملتزم ,
, ورغم اننا لا ننكر ما للثقافة والاعلام من دور واضح في رصد السلبيات والاخطاء التي ترافق عمل السطات التنفيذية في معظم البلدان العربية , لكن ذلك لا ينفي ان الماضي مازال فاعلا وحاضرا في ثقافتنا ووعينا , وربما نسي هذا البعض , ان الحاضر هو غرس الماضي , والمستقبل جني الحاضر , واسمحوا لي ان استعير هذه العبارة التي كانت ترد دائما , كمقدمة لبرنامج نافذة على التاريخ من اذاعة الكويت ,
فمن الواضح ان قضايا الدين والتكفير لم تعد تخص الماضي وحده , بل هي تتصل اتصالا مباشرا بالحاضر , بل ان هذا الموضوع بحاجة الى بحوث ودراسات اخرى , لما له من اتصال مباشر , بحياة المجتمعات والدول , وما يفرزه من اثار سلبية مدمرة على السلم الاهلي , والتعايش السلمي بين الاديان والمذاهب والمعتقدات الدينية المختلفة , التي تعج بها منطقتنا , فضلا عن ان اثاره السلبية , قد تتعدى الاديان والمذاهب والفرق لتلقي بظلالها على التيارات والاحزاب والافكار والايدلوجيات السياسية المتصارعة في عالمنا اليوم , وخاصة عالمنا العربي الذي مازال يعيش على هامش الحضارة العالمية , الاخذة في التطور والنمو و التي بلغت حدا من النضج والوئام والتعايش بين الاديان والقوميات والثقافت المتباينة , ما جعلها تهضم الاختلاف وتترجمه على انه ضرورة للتقدم من خلال الاحتكاك بين الثقافت المختلفة والاستفادة من تجارب الاخر , وليس للاقصاء او التناحر والتصارع , كما هو حاصل عندنا
نعود الى موضوعنا الرئيسي , حيث قلنا في الجزء الاول من هذه الدراسة , ان ظاهرة التطرف الديني والتكفير تبدو على اشدها وهي اكثر وضوحا وجلاءا في الاديان السماوية , على العكس منها في الاديان الوثنية التي تبدو اكثر هدوءا وتعقلا واقل نفيا للاخر المختلف , وانه من العسير على الاذهان ان تدرك لماذا وقف الملايين من اتباع بوذا ينظرون مع العالم ويتفرجون على شاشات التلفاز الى نبيهم وحكيمهم بوذا , الذي كانت دبابات طالبان تدكه , وتدمر معالم وجهه وتفقاْ عيونه التي طالما نظر بهما بعطف وتسامح الى كل مخلوقات الله , نافيا كل رغبة وشهوة للحياة للخلاص من الالم والانسجام مع الطبيعة , من الغريب اننا لم نشهد ولو ردة فعل بسيطة ولا مظاهرة ولا اعمال انتقامية من اتباع بوذا ضد المسلمين المقيمين بينهم , بينما على العكس من ذلك كانت ريشة فنان دنماركي مغمور , بمثابة صواريخ عابرة للقارات ,. وقد هزت وهيجت مايزيد عن المليار مسلم , وكانت ردة فعل اتباع الدين السماوي التوحيدي عنيفة , الى درجة ان الفنان اصبحت حياته مهددة , وانبرى الجميع للدفاع عن العقيدة , وهب المدافعون وحماة العقيدة في تصرف غريزي متوتر للرد على الفنان واعادة الاعتبار لسمعة ومكانة الرسول المهدورة , وهكذا فعلت ريشة الفنان المغمور وحركت الملايين من اتباع الديانة التوحيدية , بينما لم تفعل ذلك دبابات طالبان الحديثة وهي تطلق نيرانها لتدمير تمثال حكيم او نبي مسالم , كانت كل وصاياه , التاكيد على كرامة الانسان , والدعوة الى التسامح , والميل الى التامل والعزلة , والتاكيد على روح الشفقة واللاعنف ,
وهذا بحد ذاته امر يدعو الى الدهشة والاستغراب والتساؤل والدراسة ايضا , فمن المعروف , وكقاعدة عامة عند علماء الاجتماع ,( الانثربولوجيين ), ان الانسان كلما تقدم به الزمن , كلما كان اكثر وعيا واكثر تسامحا وانفتاحا على الاخر , لكن هنا تبدو هذه القاعدة وكاْنها معكوسة , لان الديانات الوثنية سبقت الديانات التوحيدية في الزمن , وبالتالي يفترض بالديانات التوحيدية ان تكون اكثر انفتاحا واكثر هدوءا وتقبلا للاخر المختلف , لانها الاحدث زمنا , حيث شهد فيها الانسان بعض التطور وازداد وعيه وازداد الاختلاط والتلاقح بين الشعوب والثقافت المختلفة والدول واتسعت التجارة وعرفت المدن الكبيرة والامبراطوريات الواسعة ذات الشعوب المتعددة , ومن هنا لابد وان يكون للعامل الديني دور في هذا الاختلاف او النكوص اذا جاز لنا التعبير , اذ يبدو ان الدين قد خلق نوعا من التمركز حول الذات , ومارس نوعا من العزل بين الانسان او الجماعات الدينية ومحيطها ’ سواء كان هذا المحيط عبارة عن الطبيعة التي تعيش فيها او عبارة عن المجموعات البشرية التي هو على تماس مباشر معها , ذلك ان القلق الانطولوجي الذي رافق مسيرة الانسان منذ بواكير وجوده على هذه الارض , يبدو وكاْنه قد حل , بمجرد ان عرف الانسان ربه الذي خلقه , ذلك الرب المتعالي القوي الجبار القادر على ان يمنحه العون والمساندة , ويشعره بالطمانينة , امام عوامل الموت والافناء والتلاشي التي تقلق الانسان وتقض مضجعه , اضافة الى الاخطار الطبيعية والكوارث والامراض التي تهدد حياته
, يقول عالم النفس المشهور سجموند فرويد , ان الافكار الدينية , تنبع من نفس الحاجة التي تنبع منها سائر انجازات الحضارة , ضرورة الدفاع عن النفس ضد تفوق الطبيعة الساحق , أي انسنة الطبيعة , التي تشتق من الحاجة التي تحاصر الانسان , الى ان يضع حدا لحيرته وضياعه وضائقته امام قوى الطبيعة المخيفة , الامر الذي يتيح له ان يقيم علاقة معها وان يؤثر فيها , والانسان البدائي لا خيار له , فهو لا يملك طريقة اخرى في التفكير , ومن الطبيعي عنده , ان يسقط ماهيته الخاصة على العالم الخارجي , وان ينظر الى جميع الاحداث التي لاحظها وكاْنها من صنع كائنات مشابهة , وذلك هو منهجه الاوحد في الفهم , ويضيف فرويد ايضا , ان الافكار الدينية ليست خلاصة التجربة او النتيجة النهائية للتامل او التفكير , وانما هي توهمات تحقيق لاقدم رغبات البشرية واشدها الحاحا ,. وسر قوتها هو سرقوة هذه الرغبات , انتهى
ان الدين بقدر ما يقدم حلولا للانسان الضعيف , الذي كان يجهل كل ما يدور حوله في الطبيعة , وبقدر ما يخلق نوعا من التجانس الثقافي والمعرفي بين مكونات الدول والشعوب , فانه غالبا ما يخلق بؤرة للتمركز , تتمحور حولها هوية الجماعة التي تؤمن بنفس الديانة او المعتقد , فيتحول الدين الى رابطة وثيقة تشد المجموع وترطهم الى بعضهم البعض في رابطة نرجسية , تنفي الاخر وتقصيه من الوجود , ويعبر عنها علماء الاجتماع بنرجسية الفروق الصغيرة بين الجماعات والاقوام والامم , وهذه الرابطة تشمل الديانات الوثنية والتوحيدية والجماعات العرقية وحتى الاحزاب والتيارات العلمانية , قد لا تخلو من هذه العقدة , ومن الجدير ان الفروقات بين الجماعات الوثنية والتوحيدية , تعد فروقا في الكم وليس في النوع , فكلما زادت تجريدية الاله كلما زاد شعور الجماعة بالتميز والتوحد والشعور بالاغتراب والشقاء , أي كلما زاد الاله علوا كلما زاد الانسان توحدا وشقاءا لان الاله يكون بعيد المنال ولا يمكن الالمام بصفاته او مكان وجوده , وبهذا الصدد يقول الفيلسوف المعروف هيجل واصفا النبي ابراهيم , على انه شخص متوحد ويشعر بالغربة والخوف , لذلك كان مضطرا الى مسايرة الله في كل ما يطلب ويريد , حتى انه كان مستعدا ليضحي بولده من اجل الشعور بالامان والطمانينة
, وفي مقابل ذلك تزداد الروابط الروحية والشعور بالمصلحة الجماعية ويزداد التمسك بالنص الذي يكتسب قوة وقدرة على الهيمنة على كل النصوص , لانه محمي اصلا من البرهنة او التحقق , بفعل قوة الالزام السماوية
, ان الاله الذي يزداد علوا وتجريدا بحيث . تتنزه صفاته عن التجسيم وشكلة عن التجسيد والتشييْ , عادة ما يكون اله بعيد المنال ويكون غامضا في صفاته ولا يمكن التكهن بطبيعته ورغباته او معرفة الكيفية التي يدير بها الكون , لذلك فان اتباع الديانات التوحيدية مهما حاولوا الادعاء بالصفات التجريدية للاله , فانهم غالبا ما يبتكرون وسيلة ما للوصول الى الله او تجسيده بشكل حسي ملموس , من خلال الاضرحة والمقامات والمعابد والقديسين والايقوانت وغيرها , فالذهن البشري غالبا ما ينفر من اللامحدد , لانه حسي بطبعه , وميال الى استيعاب محيطة عن طريق الحواس , التي ترصد الظواهر الطبيعية وتتعامل معها بشكل مباشر
ومن المفيد ان هذا الخالق السماوي ذو الابعاد التجريدية الخالصة , تختلف صورته وماهيته وطبيعته من دين الى دين , يل ومن انسان الى انسان , , ففي الديانة اليهودية كان الله متعاليا وبعيدا عن اتباعه , لكن مع ذلك يبو الله او يهوة , وكاْنه لا شغل له ولا عمل سوى رعاية مصالح اليهود والسهر على راحتهم , بينما في المسيحية نزل الله بنفسه الى الارض ليقدم نفسه , قربانا من اجل خلاص البشرية , ومنهيا بذلك حالة الشقاء والغربة التي كان يعاني منها البشر وبعدهم عن الله , لكن عندما جاء الاسلام ازداد الله بعدا وعلوا ابعد مما كان عليه في اليهودية والمسيحية , فعاد الشقاء والشعور بالغربة من جديد , بل واصبح من المستحيل التعامل معه او التواصل عن أي طريق , سوى الطقوس والعبادات التي قد لا تنفع العبد في شيْ , ما دام الله هو المتصرف الاوحد في مصائر البشر ولا يمكن الاعتراض على حكمه او توجيه السؤال له , ( ويسالون عما يفعلون ولا يسال ) ومن هنا مثلا تكتسب النصوص الدينية شرعيتها ومجال تطبيقها دون الحاجة الى البرهنة او التحقق , فالمصلحة والمفسدة لا تحددها طبيعة النص , وانما الذي يحددها هو قوة الزامها الشرعية المتاتية من لدن العليم الخبير
اما في الاديان الوثنية , فان الاله يبدو بسيطا ويشبه الانسان في كثير من صفاته , ذلك ان اغلب الديانات الوثنية تصور الله على هيئة البشر الذين يتزاوجون , ويتصارعون ويحزنون ويفرحون , وبل ويموتون , كما ورد على سبيل المثال في اسطورة الخلق البابلية , حيث قتل الاله ابسو , وبقرت بطن زوجته تيامات , من قبل الاله مردوخ كبير الالهه البابلية , وكذلك اسطورة الاله تموز ونزوله الى العالم السفلي , أي عالم الاموات , وعدم قدرته على الرجوع الى عالم الاحياء , ان الاله الوثني كان بسيطا ويمكن لاسطورة بسيطة ان تبرر وجوده وعمله وتاريخ ميلاده , وهو قريب جدا من الانسان , صحيح ان جميع الالهه كانت في السماء لكنها جميعا كانت ممثلة ومجسدة في تماثيل تشير اليها , ويمكن الاتصال بها عن طريق الطقوس الدينية وتقديم القرابين والنذور , وكما يبدو ان بساطة الالهه وطقوسها يعود الى بساطة الافكار البشرية في تلك المرحلة ,
والتكلمة في الجزء الثالث
#سرحان_الركابي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟