|
الزط : قصيدة لم تنشر من ديوان د. عبد الرزاق محيي الدين
محمد حسن محيي الدين
الحوار المتمدن-العدد: 3211 - 2010 / 12 / 10 - 12:26
المحور:
الادب والفن
الزط قصيدة لم تنشر من ديوان الدكتور عبد الرزاق محيي الدين
تحقيق وشرح وتحليل الدكتور محمد حسن محيي الدين
ِِِِِِِمقدمة : يظل الشاعر الملتزم بموقفه عنواناً مشرقاً من عنوانات الأدب الذي لا يمكن تجاهل دوره . وهذه القصيدة وثيقة أدبية مهمة من وثائق الحقبة التي تسلط فيها نظام العسف والقوة والتخلف على مقاليد الأمة والوطن. و برغم ان القصيدة لم تجد سبيلها إلى النشر في حينها – لأسباب وعوامل خارجة عن قدرةِِِِِِِِِِ الشاعر – ان نشرها الآن يصبح ضرورة وواجباً خلقياً تجاه الأدب الملتزم ، لا يقل أهمية عن نشر أية وثيقة سياسية سرية تكشف عن حال الأمة في حقبة من أشد الحقب سواداً وظلماً ، زيادة على انها تكشف عن ان الأديب الملتزم لا يمكن ان يبقى صامتاً ، وهو يواجه استلاباً ثقافياً وسياسياً ، وموجة طاغية من الأدب المنحرف والمتهالك على السحت والمنافع الأنانية الفردية ، وأنها تكشف – أيضاً عن قدرة الشاعر الأصيل على استشراف المستقبل وكأنه يقرأ في كتاب مفتوح ، برؤية واعية هي من صميم موقفه طليعة" لامته ، يقف أمامها هادياً ومشيراً إلى الطريق اللاحب الذي لا بد لها من سلوكه للخلاص من المحنة . وحينئذ تتحد وتتفتح أمامها آفاق المستقبل ، والقصيدة – بعد كل هذا – دعوة للشعراء لأن يكونوا في صف أمتهم وجبهتها ، بعيداً عن أوساط الحاكمين وجبهتهم التي لا تزرع الاّ الدمار والخراب والموت.
الشاعر : هو الدكتور عبد الرزاق محيي الدين ، ولد في النجف الأشرف عام 1904 أو 1906 من أسرة علمية أدبية عريقة ذات أصول لبنانية من جبل عامل ، أبرز مواطن الشيعة الإمامية في بلاد الشام ، وقد تألق نجم الأسرة في النجف الأشرف أوائل القرن العاشر الهجري أو قبله. بدأ دراسته العلمية والأدبية في النجف الأشرف ، وحضر الحلقات الدراسية العليا للبحث الخارج عند الحجة السيد حسين الحمامي ، وتلقى علوم الأدب على ابن عمه الشيخ قاسم محيي الدين ( ) ونظم الشعر في بواكير حياته ، فشدا أولى قصائده في محافل النجف الأدبية ، وأسهم في تأسيس جمعية الرابطة الأدبية في النجف الأشرف وفي عام 1932 م ، زار الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ومعه عدد من الوجوه الفلسطينية ، النجف الأشرف فاحتفلت جمعية الرابطة الأدبية بالوفد وحياه الشاعر بقصيدته التي مطلعها: أيها الداعي إلى الوحدة فينا فتح الله بك الفتح المبينا وكان بين الحضور المرحوم السيد عبد المهدي المنتفكي وزير المعارف آنذاك فأعجب بالقصيدة والشاعر وسعى إلى إيفاده إلى جامعة القاهرة – كلية العلوم ـ عام 1933 فحاز على الدبلوم فيها ، وعيّن مدرساً في دار المعلمين الابتدائية عام 1937 . وعاد إلى القاهرة مرة أخرى للدراسة وحاز درجة الماجستير عام 1947، برسالته ( أبو حيان التوحيدي ) . وحصل بعدها على الدكتوراه بأطروحته ( أدب المرتضى ). نال لقب الأستاذية عام 1960 وعين أستاذاً لكرسي البلاغة إلى عام 1963 إذ عين عميداً للكلية ، وفي العام نفسه نائباً لرئاسة جامعة بغداد. انتخب عام 1963 عضواً في المجمع العلمي العراقي وفي عام 1966 انتخب رئيساً للمجمع وأعيد انتخابه ثلاث مرات ، إلى ان حل المجمع في زمن الطاغية وأعيد تشكيله باستثنائه. وكان حينها عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة ( العام 1966 ) ومجمع اللغة العربية في دمشق ( العام 1973 ) وعضو شرف في مجمع اللغة العربية الأردني ( العام 1978 ) وعضواً في مؤسسة آل البيت لبحوث الحضارة الإسلامية في عمان ( العام 1980 ). توفي الدكتور عبد الرزاق محيي الدين بعد ظهر يوم الخميس 26/4 / 1983 بعد صراع دام أياماً مع غيبوبة مفاجئة لأسباب غامضة مع قرائن تدل على ان الوفاة لم تكن طبيعية ، ستكشف الأيام أسرارها. القصيدة : بعد وفاة الشاعر ببضعة أشهر عهدت إليّ أسرته بمهمة جمع ديوانه ، وكان رحمه الله قد هيأ غالب قصائده مع مقدمة شائقة تقف إلى جانب بعض المقدمات اللافتة في تراثنا الأدبي تحدث فيها على الشاعر والشعر وتصوره لهما ، والواضح ان المقدمة لم تكتمل ، وقد أنجزتُ مهمة جمع الديوان ونسخت منه عدة نسخ ، ولم يكن من الممكن – في ذلك الظرف العصيب الذي كان العراق يمر به – ان توضع هذه القصيدة مع قصائد الديوان ، وطُبع الديوان في دار أسامة في الأردن عام 2000 ، وأعتمد ( المحققان ) في إعداده للطبع على النسخة التي جمعناها وحققناها من الديوان المطبوع ، ونقلت حرفياً( )، من دون ان يشيرا إلى ذلك الأصل كما انهما لم يبذلا أي جهد في تقصّي قصائد أخرى. والقصيدة تتناول موضوعاً يتمثل فيه جزء من تاريخ العراق المعاصر وهو الحرب العراقية الإيرانية ، وهي تكشف بعمق وفي وقت مبكر عن أحاسيس الشاعر الذي يرى وطنه يحترق ، وأمته تتقاتل بلا هدفٍ سامٍ ودماء أبناء الوطن تسفك لا لشيء ، بل استجابة لرغبة ونزعة في شخص لا يقيم أي اعتبار للقيم الإنسانية. ولعل معاناة الشاعر تبدو أشد لأنه يواجه أمراً لا يستطيع ان يصرح برأيه فيه ، فان سيف الطغيان مصلت على كل الرقاب ، وعيونه ترقب كل حركة وترصد كل نأمة ، وهذا ما حدا بالشاعر إلى ان يخفي قصيدته وبثه خشية سيف الرقيب وليس قلمه. وسأترك القصيدة تتحدث عن نفسها :
النص : هنيئاً لكم هذي الضراعةُ يا سقْــــطُ فهل أنتم جيلٌ من العُــــــــــــرْبِ أم زِطُّّّ( ) يخالكم الرائي رجالاً وفتيـــــــــــــةً ولم ندر ما تبدون لو سقط المــــــــرطُ( ) تتيهون بالعز المذل ومن يهـــــــنْ يرى نفسَِه في رِفعة حين ينحــــــــــــــــــطُّ * * * * * فيا ساكني أرض الغريّ كرمتـــــم وفي النفس عتبٌ بعضُه الغيظُ والسخـــــطُ لآل أبي سفيان فيكم عمائـــــــــــمٌ ومن قاتلي السبط الحسين بكم رهـــط( ) تعادَوا عليهم بالنعال فانهـــــــــــا لأكرمُ منهم إذ تجوس وإذ تسطـــــــــــــــــو وذاك الذي يبدو وفيه قسامـــــــــةٌ كثيرٌ عليه القدعُ والجدعُ والثلــــــــــطُ( ) * * * * * ويا ساكني تلك الضرائح أَسْلَمــوا مفاتيحها للرجسِ يسطو ويشتـــــــــــــــطُّ ستسألكم ما دفعكم ما بلاؤكـــــــم وقد دنّسَتْ منها الستائـــــــر والبُســــــــطُ كفرتم بنعماكم وخنتم أصولكــــــم فلن تدركوا نعمى ولن تؤمــنــــوا قَــــــــطُّ * * * * * ويا شعراءٌ في العراق تهافتــــــوا على السحتِ واستهواهم البَلْعُ والســـــرْطُ لَهذا الذي تحسون بعضُ دمائكــم وما تُلحِفون العرقَ من زندكم قطّــــوا( ) قليلٌ من الخلق الرفيع ووقفـــــــةٌ مع النفس تنهى ان تضِّلوا وتشتـــــــــطّوا وليس غريباً ان تعيشوا أذلـــــــةًًًًً كرامتكم هدرٌ وأمـركـمُ فَـــــــــــــــــــــــرْطُ لعهدي بكم جبن ولؤمٌ وخسّــــــةٌ وباعةُ سوقٍ ما أذاعوا ومـــا خطــــــــــوا إذا الله أخزاكم بما قال عنكـــــــــم فما بالغٌ من غيره الرفعُ والحَــــــــــــــــطُّ ** * * *
رقصنا بعهد الهاشميين حقبــــــةً فما انجزعت ساقٌ ولا انخلعتْ إبـــــطُ( ) وكنا نجيد الرقص والعزف والغِنا وشتّى فنون بينها الوثبُ والنّــــــــــــــــطُّ وكان لنا في كلّ عيد ومولـــــــــــد قصائدُ من كلّ البحورِ لهــــــا شـــــــــــطُّ * * * * * ولما نزا عبد الكريم بسحــــــــــرةٍ على أيّمٍ فأستنمر الذئبُ والقــــــــــطُّ( ) غَدَوْنا نزف الشعر والرقصَ والغنا لأذئبة سُحْمٍ براثنـــها شـــمـــــــــــطُ( ) مشى الضرّ في أحشائها وتداولت عليها سنونٌ قاتها البؤسُ والقحْــــطُ ولم تدر ما تطهو الحضارة والحجى ولا ما يسيغُ الفنَّ أو ينبط النـبــــــــطّ( ) فنحن وهم والشعرُ والرقصُ والغنا رفاقٌ متى ساروا لصاق متى حـطّـــــــــوا ومادام حكام العراق هجائنـــــــــــاً فما ضرّنا أن نسرجَ الهجن أو نـمطــوا( ) * * * * * صليبيةٌ لاقت يهوداً فأسلمــــــــــــا وباتت [ على أمر] فباكرها سِقـــــــطُ( ) وقيل انعموا ان الخؤولة تغلـــــــبٌ وان الفتى فرخ ليعقوب أو سبــــــــطُ( ) وان له من ( عفلقٍ ) وصليبــــــــهِ ملائكُ حفظٍ لا تريمُ ولا تخطــــــــــــو( ) وان له يوماً أعدَّ وفتنــــــــــــــــــةً تحلُّ عُرى الإسلام فيها وتـنـــــــــــــــــأطُّ يساق لها جيشُ النفاقِ وشعبـــــه بنخوة غرٍّ دأبه القتلُ والشَحْـــــــــــــــــطُ وترمى الحدودُ الآمنات بهجمــــــةٍ أعد لها الجيشُ المجّهزُ والخـــــــــرط( ) تمثل كيد الغرب فيه وبطشــــــــــه وسمَّ الأفاعي [ بينها الملس والرقط] ( )
تحِزُّ بها كفُّ الكمّي وريـــــــــــــدَه وتبرأُ من كفٍّ وساعدِها سِنْـــــــــــطُ( ) وتهتك أعراضٌ وتزهق أنفــــــــسٌ وتصلى بمن فيها المخادع والقمــــــــــــطُ ويقتسم البيضُ المخانيث فيأهـــــا فهذا له حجلٌ وذاك له قِـــــــــــــــــرطُ( ) خسئتم ولّما تبلغوا الفتح إنكــــــــم لصوصٌ وان أزهى صدوركم شـــــرط( ) فلا عمرت مما هدمتم دياركـــــــــم ولا ازّينت يوماً نساؤكم العُبْــــــــــــطُ( ) لقد برئت منكم قريش ومكـــــــــــة وعمرٌ وتيم اللات أو بكــــر يــــــا زِطُّ( ) كتبتم لتاريخ العروبة صفحـــــــــةً تقاذر منها الحرف واستبرأ النقــــــــــــــطُ لتنعم صهيونٌ بأمنٍ وصحـــــــــــةٍ ويكسرَ عنها الطوقُ أو يحسرَ الضَّغْـــــــطُ وتحكمنا رجعيةٌ جاهليــــــــــــــــةٌ يناط على جهلٍ بها القبضُ والبَسْـــــــــــطُ تباع وتشرى أو تبيع وتشتــــــري سواء عليها الطف بالوزن والقســـــــــــط ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلاً بجرعائكِ النِّفْــــــــــــطُ( )
تحليل النص: 1- تبدأ القصيدة بداية هادئة في البيت الأول ، بل في الكلمة الأولى منه التي تتسلل مستعينة بالامتداد الذي يتيحه حرف المد ( الياء ) في كلمة ( هنيئاً ) وهي كلمة تحمل من معاني التشفي والسخرية ما يعطيها قدرة على التأثير في المتلقي من الأصوات الأولى التي يبدأ بها النص ، ولا شك في ان مطلع القصيدة دائماً هو منبع تواردات النص وباب التأثير الأول ، ولا سيما حين يشفعه الشاعر بكلمة ( الضراعة ) التي تكشف عن حال الذل والخضوع التي بدأ يحس بها قادة الحكم بعد مرور سنتين على بدء الحرب العراقية الإيرانية التي بدا وكأنها تسير في طريق لم يكن يتوقعها أولئك الذين فجروها ، ولم تعد تجدي الخطط والوسائل التي زودهم بها أسيادهم ، ومعروف عند من عاصر الحرب وعاش في أحداثها – آنذاك – ان نذر هزيمة النظام البعثي المتسلط على العراقيين قد ظهرت، بعد ان استطاعت إيران ان تَحُدّ من آثار الضربة الأولى وانحسرت الموجة العاتية الأولى على صخرة صمود الشعب الإيراني ، فتحولت الأمور لمصلحته. وبدأ دعاة الحرب والمخططين لها يفقدون صوابهم أمام قدرة الدولة الفتية على الوقوف بوجه ذلك الهجوم الكاسح الذي خططت له دوائر كثيرة من دول المنطقة والدول الأخرى البعيدة التي تهدف إلى الهيمنة وبسط السيطرة والنفوذ يقول الشاعر: هنيئاً لكم هذي الضراعةُ يا سقْطُ فهل أنتم جيلٌ من العُرْبِ أم زِطُّ( ) وأخال ان عجز البيت قد وقع على لب القضية حين شكك بعروبة ادعيائها هؤلاء ، وأثار السؤال الكبير على صحة دعوى هؤلاء بالعروبة والإسلام ، فلم يكتف النص بوصفهم بالسقط وانما تعّدى ذلك إلى التشكيك في أصل عروبتهم ، ونسبهم إلى قوم ليست أصولهم موضع فخر ( الزط ). 2- وفي البيت الثاني يقول الشاعر: يخالكم الرائي رجالاً وفتيةً ولم ندر ما تبدون لو سقط المرطُ تتكشف براعة الشاعر وقدرته في اختيار الألفاظ بدقة ، حين نجد ان البيت قد طعن برجولة هؤلاء ، ثم تبلور المعنى في قافية البيت باستعمال لفظة ( المرط ) وهي تختص بلباس النساء عادةً. 3- ويتصاعد هجاء الشاعر بفنية عالية حين يستعمل ألفاظاً تفيد من الطباق الذي يشع بالمناظرة في وصف العز بانه ( مذل ) إذ يقول: تتيهون بالعز المذل ومن يهنْ يرى نفسَِه في رِفعة حين ينحطُّ ومن الجدير بالإشارة إليه هنا ان الشاعر ( في مسودة القصيدة ) كان قد استعمل ( وهو) ثم بدّلها بـ ( حين ) لكي يظهر المعنى أكثر استقراراً ورسوخاً. 4- وفي المقطع الثاني من القصيدة يكشف الشاعر عن عتب مقرون بالغيظ والسخط على ( ساكني ارض الغري ) وهم أهله وأبناء مدينته التي نشأ فيها ، وهو يرى بعضهم يتهافت على المكاسب المادية الرخيصة ، ولا ينسى ان يقرن هذه الصورة بصورة تاريخية لواقعة ما تزال راسخة في أذهان المسلمين عامة ، ولاسيماالشيعة ، وهي آثار حكم آل أبي سفيان على الإسلام ، وذلك الرهط الذي شرك بقتل السبط الإمام الحسين عليه السلام ، وهو يهون من قدرهم ويدعو إلى ان يُتعادى عليهم بالنعال التي يرى انها أكرم منهم ، ثم يتصاعد التنبيه عليهم حين يخص منهم من تبدو عليه القسامة وأحسب ان في قوله: وذاك الذي يبدو وفيه قسامةٌ كثيرٌ عليه القدعُ والجدعُ والثلطُ تعبيراً دقيقاً أقرؤه في أول كلمة بدأ بها البيت ( وذاك ) التي تحمل من الاستهانة والتجهيل شيئاً كبيراً ، ما يلبث ان يتصاعد فيجد الشاعر ان ( ذاك ) لا يستحق ان تقطع أذنه أو انفه بل الثلط عليه . وبقدر ما تظهر الكلمة سهلة يسيرة فهي تحمل أقسى ما يمكن للإنسان ان يواجه به من يحتقره ، وقد أشرت في حاشية البيت اني لا استبعد ان الشاعر يشير إلى شخص بنفسه كان له دور في مرحلة من مراحل الحرب ، ليكون عضواً في المجموعة التي تروج لها ، باء بعده بالخسران والفشل ، مجللاً بخزي ذلك الدور وعاره. 5- أما في المقطع الثالث فنجد الشاعر يؤكد المعنى السابق حين يتجه بعتبه ولومه إلى فئة من الناس هم سدنة الضرائح المقدسة الذين لم يقفوا في وجه الموجة الحاقدة فأسلموا مفاتيح تلك الضرائح للرجس يسطو عليها ويشتط في عبثه بها وبمحتوياتها من آثار ظلت موضع تقدير المسلمين واحترامهم لقرون. وأحسب ان قراءة ( اسلموا ) على انها فعل ماضٍ ابلغ من قراءتها فعل أمر، لانها تحكي حال هؤلاء السدنة الذين سيسألون غداً عما فعلوه في وجه التدنيس المتعمد لستائرها وبسطها وانهم كفروا بتلك النعمة التي أسبغها الله عليهم ، وذلك المركز الموقر الذي خصوا به بفضل السدانة ، وانهم خانوا أصولهم بالركون إلى الطاغية وخرجوا على مسلك أسلافهم في حفظ هذه الضرائح وصيانتها من عبث العابثين. 6- ويبدأ الشاعر في المقطع الرابع من القصيدة في خطاب طائفة أخرى ممن كان لهم دور متخاذل في تلك الحقبة من تاريخ العراق وهم الشعراء ، ولا بد من الإشارة هنا إلى موقف الشاعر من هذه الفئة من المثقفين( ) الذين يتحملون وزر نشر الكلمة الشريفة والموقف المبدئي ، والى دورهم الخطير في حياة الأمم ، ولذلك كان الشاعر الدكتور يؤمن بالشعر " فناً سامياً متسامياً " وبالشاعر فرداً من الأمة يقف في الطليعة منها التزاما وخلقا ، وهذا المقطع جسّد رؤية الشاعر التي أشرنا إليها ، فهو يرى في أولئك النفر من الشعراء الذين هدروا كرامتهم بمدح الطاغية ، وتهافتوا على السحت ، ويصف موقفهم بدقة وفن حين يرسمهم بقلمه وقد استهواهم البلع والسرط ، وان ذلك الذي يَحسُونه هو بعض دمائهم ، وما يلحفون في أكله والتلذذ به هو عرق مقتطع من زنودهم ، فيطالبهم بموقف يتسم بالخلق الرفيع ، ووقفة مع النفس تنهى ان يضلّوا في مواقفهم ويشتطوا في مدحهم ، ويزيد المعنى رسوخاً حين يلجأ في نهاية المقطع إلى قمة الإدانة مستعيناً بما وصف به القرآن الكريم أمثالهم من الشعراء فيقول : إذا الله أخزاكم بما قال عنكم فما بالغٌ من غيره الرفعُ والحَطُّ
7- وفي المقطع الخامس يفيض الشاعر في وصف سلوك بعض الشعراء ولا أشك في انه يترصد أشخاصا منهم بأعيانهم ، وان لم يسَمّ أحداً لكي يسوق الأمر على وجهه العام ، فيتصاعد النص في وصف هذه الفئة التي كانت تتوافق في مواقفها مع كل العهود التي مرت على العراق ، فقد رقصت وغنت للعهد الهاشمي الملكي ، ولم تواجه العهد بما اقترفه من جرائم وأخطاء وتنبه عليها، وكان لهذه الفئة من شعراء السلطة قصائد في كل موسم استوفت كل البحور. 8- وفي المقطع السادس ، تتبين تفاصيل الصورة بشكل واضح ، وأبيات المقطع تتناول هذه التفاصيل بفنية عالية وإشارات ذكية ذات مداليل دقيقة فيقول: ولما نزا عبد الكريم بسحرة على أيّمٍ فاستنمر الذئب والقط ولا بد من ان تزيد الإثارة كلمات ( نزا ، أيم ، استنمر ) فهي تحمل مداليل غنية في وصف عملية السيطرة على السلطة وإسقاط النظام الملكي بالنزو ، وهو الوثب الذي ترافقه رغبة جنسية عارمة ، ولابد من ان تقترن بالوصف المأثور لنزو بني أمية على منبر رسول الله ( ص ) واعتلائه من دون وجه حق ، ووصف الحكم بالأيّم ، وهي المرأة التي بلا زوج ، وصف يدق في التعبير عن تفاصيل الصورة بلمح بليغ ، إذ كان النظام الملكي في أواخر أيامه قد فقد المدافع والنصير بسبب سيطرة الوصي على مقادير الأمور ، لأن الملك ما يزال حدثاً لا يجيد فنون السياسة وألاعيبها. وهكذا لم يجد النظام من يدفع عنه ، فكان أمر إسقاطه سهلاً يسيراً ، ولاسيما أن شكوكاً كثيرة تثار حول عملية إسقاط ذلك النظام. وأجد في كلمة ( استنمر ) دلالة واضحة على الفئة الجديدة التي أتاح لها التغيير سبيلاً للظهور ، فصار الذئب والقط نمراً شرساً لا تكبحه قيود ، ولا تلزمه حدود ، وهو ما أتاح لطبقة جديدة من المجتمع الظهور إلى السطح مستفيدة من رياح التغيير التي تهب على الدولة ، ومثل بدايات ظهور سلطة الطاغية وأتباعه ممن وجدوا في طريق الانقلابات سبيلاً للاستحواذ على مقاليد الأمور وهم الذين سيكون لهم شأن كبير في التأثير على مصير الأمة والوطن. ويغرق المقطع في وصف هذه الفئة الجديدة التي ظهرت فهي فئة عاشت في البؤس والقحط ، ولا تعرف شيئاً من أمور الحضارة والعقل ، ولا تقيم وزناً للفن ودوره في تطور المجتمع ، وكانت فئة الشعراء الذين أشار إليهم رفيقة لهم لصيقة بهم في كل ما يفعلون. 9- وفي المقطع الذي جاء بعده يرسم النص الملامح الحقيقية لهذه الفئة التي هي جزء من لعبة دولية التقت فيها المصالح اليهودية والصليبية في دعم حكم ذلك الفتى الغر الذي نعم بخؤولة تغلب ، وهو فرخ ليعقوب أو سبط له. وان له من ( عفلقٍ ) وصليبهِ ملائك حفظٍ لا تريم ولا تخطو فهذا الفتى – ولا يفوت المتلقي انه يشير فيه إلى شخص الطاغية – شنّ الحرب على إيران الإسلامية وله من الغرب دعم لا ينقضي ، وقد أعدّ ليوم وفتنة يشعلها بين المسلمين ، هدفها حل عرى الإسلام وقطع حبال المودة والإخاء بين أبنائه ، ورؤية الشاعر ليست بعيدة عن الواقع كما يراه كثيرون ، وهي ليست جديدة ، ولكنها تكتسب قيمتها وأهميتها في انها رؤية مبكرة لأهداف الحرب وخططها ، كان الشاعر – بحكم دوره السياسي ورؤيته المبدئية- قادراً على الوصول إليها قبل غيره ، فكانت واضحة أمامه تماماً لا يغلفها ضباب الدعوات المزوقة ، وأصوات الأبواق المأجورة التي جعلت من الحرب دفاعاً عن البوابة الشرقية ، وصيانة لعروبة الخليج ، وغيرها من الدعاوى ، وقد كشف الشاعر – مبكراً – عن أهداف هذه الحرب بوضوح لا تشوبه شائبة من النفاق. ويتصاعد النص في إبراز الصورة البشعة للحرب فيقول : تحِزُّ بها كفُّ الكمّي وريـــــــــــــدَه وتبرأُ من كفٍّ وساعدِها سِنْـــــــــــطُ وتهتك أعراضٌ وتزهق أنفــــــــسٌ وتصلى بمن فيها المخادع والقمــــطُ ويقتسم البيضُ المخانيث فيأهـــــا فهذا له حجلٌ وذاك له قِـــــــــــــــــرطُ
10- وأكاد اجزم ان المقطع انتهى بالبيت الذي تقدم ذكره وان لم يضع الشاعر فاصلة بينه وبين ما جاء بعده من أبيات ختم بها القصيدة ، وأرى أنها تؤلف مقطعاً منفصلاً يرسم النتيجة المنطقية للقصيدة التي تتنبأ مرة أخرى بنتيجة الحرب ، قبل الوصول إلى تلك النتيجة بخمسة أعوام على أقل تقدير ففي النص الأخير يقول الشاعر مخاطباً دعاة الحرب ومشعلي فتنتها: خسئتم ولمّا تبلغوا الفتح إنكم لصوصٌ وان أزهى صدوركم شـــرطُ فلا عمرت مما هدمتم دياركم ولا ازّينت يوماً نساؤكم العُبْــــــــــــطُ لقد برئت منكم قريش ومكــة وعمرٌ وتيم اللات أو بــكـــــــر يا زِطُّ كتبتم لتاريخ العروبة صفحةً تقاذر منها الحرف واستبرأ النقــــــطُ لتنعم صهيونٌ بأمنٍ وصحــةٍ ويكسر عنها الطوقُ أو يحسر الضَّغْطُ
11- وتبلغ ذروة القصيدة في بيتها الأخير ، الذي يصح – إلى حد بعيد – ان يوصف ، على طريقة الاقدمين ، بأنه بيت القصيد فيها ، وقد أحسن الشاعر في تضمين بيت ذي الرمة غاية الحسن ، بفنية عالية ، وحس شعري دقيق ، ولا سيما في إبدال كلمة ( النفط ) من كلمة ( القطر ) في البيت الأصل وهذا ما جاء متوافقاً تماماً مع قافية القصيدة ، وتدرّج المعنى الذي وجد مساربه الأخيرة في كلمة ( النفط ) ليصب فيها كل معاني القصيدة وهي تعبر تماماً عن الهدف الأخير الذي شنت الحرب من أجله ، وهو تبديد ثروات الوطن وأولها النفط ، والهاء الأمة بمعركة لا ناقة لها فيها ولا جمل ، إرضاءً لرغبات الاحتكار العالمي ، والقوة المحركة له وهي الصهيونية العالمية.
أهم نتائج البحث: 1- يبقى النص وثيقة معبرة عن هموم الأمة ومعاناتها، وبرغم انه تعبير فني أصيل عن تجربة شعورية ، فهو يكتسب الطابع العام بالقدر الذي يستطيع فيه الشاعر الإجادة في التعبير وتبني مواقف أمته. 2- ان الحرية الفكرية عامل أساس في تنشيط دور الأدب في حياة الأمة ، وفي غيابها يتراجع هذا الدور ويغيب تأثيره في بلورة المواقف العامة ذات الهوية الأصيلة. 3- لا يمكن للشاعر الأصيل والملتزم الاّ ان يكون صوتاً معبراً عن الحقيقة ، وكاشفاً عن المعاناة. وتبقي رؤيته علامة مضيئة في مسيرتها. 4- برغم ان قافية القصيدة ( الطاء ) من القوافي الوعرة التي يتجنبها الشعراء ، ان القدرة الفنية العالية للشاعر تستطيع ان تذلل اشد القوافي نفوراً وتحسن استعمالها في الأداء الفني ، وإبراز الصورة الفنية المبتكرة. 5- التضمين فن شعري معروف في الشعر العربي ، بيد ان القدرة الفنية للشاعر تعطيه تميزاً واضحاً تحكمه قدرته واستلهامه لموروث أمته الأدبي وحسن تصرفه بهذا الموروث ، وقد استطاع الشاعر ان يتصرف بقافية البيت المضمن تصرفاً فذاً أسهم إلى حد بعيد في إكمال الصورة الفنية واغناء المعنى معاً. 6- من أبرز ملامح القصيدة الوحدة الموضوعية فيها فأبياتها لبُنات متناغمة يسند بعضها بعضاً في تدرج متصاعد باستمرار لترسم صورة الاحداث من غير فضول في القول ، وهي اقرب إلى اللمح منها إلى التفصيل والمباشرة وهذه سمة الأعمال الأدبية الخالدة. 7- ولعل البحث لفت الأنظار عرضاً إلى ظاهرة جديرة بالتنبيه عليها ، هي السرقات الأدبية ، فقد مرت الإشارة فيه إلى عمل محققي ديوان الدكتور عبد الرزاق محيي الدين ، الصادر عن دار إسامة في الأردن،اللذين نسبا العمل والجهد إليهما ، وهي ظاهرة ، وان لم تعدم نظيراً لها في القديم والحديث( ) الا انها تشير إلى عمل مستهجن يرتكبه بعض المؤلفين دون خجل ، بالسطو على أعمال غيرهم ، ونشرها بأسمائهم ، ومن الجدير بالإشارة إليه ان القائم بهذا العمل – وهو الصغير من بين المحققين – أغرى صاحبه بالاشتراك معه في هذا الادعاء ، ولم يكتف بذلك ، بل عمد إلى المقدمة التي كتبها صاحب الديوان فدس اسم أبيه بين سطورها( ) ، خرقاً لأبسط شروط الأمانة العلمية واستهانة بمعاييرها. غفر الله له.
والحمد لله رب العالمين
من مصادر البحث: 1- ديوان الدكتور عبد الرزاق محيي الدين ( مخطوط ) ، جمع وتحقيق د. محمد حسن محيي الدين. 2- ديوان القصائد حقائق وملاحظات ( مقال ) د. محمد حسن محيي الدين 3- ديوان القصائد ، شعر الدكتور عبد الرزاق محيي الدين ، دار أسامة للنشر ، عمان ، الأردن ، 2000م. 4- شعراء الغري ، علي الخاقاني ، ج5 ، المطبعة الحيدرية ، النجف الاشرف 1374هـ - 1954م. 5- ماضي النجف وحاضرها ، جعفر ال محبوبة، ج3 ، مطبعة النعمان النجف ، 1376هـ - 1957م. 6- المعارك الأدبية في العراق في القرون الثلاثة الأخيرة 1700 – 2000 وأثرها في الحركة الأدبية ، أطروحة دكتوراه ، محمد حسن محيي الدين ، كلية الآداب ، جامعة الكوفة ، 2004م.
#محمد_حسن_محيي_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دعوني أحلم... دعوني أقول (5) حرائق الكرمل وحرائق الأوطان
-
دعوني أحلم...دعوني أقول (4)
-
دعوني أحلم ... دعوني أقول .... (3)
-
دعوني أحلم ...دعوني أقول ...(2)
-
دعوني أحلم...دعوني أقول ...(1)
-
قصيدة سقوط الصنم
-
سقوط الصنم
-
الدولة اولا ........
-
ال بربون ....حين يحكمون
-
جيلناالمتعب ....
-
قبل فوات الاوان
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|