|
الميت السعيد/قصة قصيرة
عماد ابو حطب
الحوار المتمدن-العدد: 3210 - 2010 / 12 / 9 - 16:52
المحور:
الادب والفن
الميت السعيد/قصة قصيرة
مسائكم سعيد،
قد تستغربون مخاطبتي اياكم مباشرة،فالقليل جدا منكم قد يتذكرني،وجلكم لا يعرفني،لكنني أحببت ان اروي لكم قصتي.سيحتج بعضكم قائلا:ما لنا ومالك يا هذا لتقض مضاجعنا بقصة لا نافة لنا فيها ولا بعير؟وستتعالى احتجاجاتهم حين يكتشفون ان فصتي ليست قصة جذابة،فقد تكون قصتي او قصتك او قصة ايا منكم،لكنها قصة قدحدثت ولزاما علي ان ارويها والا لن تهدء لي عين في رقادي الاحير.
أأسف لقلة ذوقي فلم اعرفكم،كما يقتضي العرف، على نفسي.اسمي ليس مهما،فقد يكون يوسف أو فؤاد أو....ولكن فلتنادوني بعلي ان أحببتم.ولدت في الاول من نيسان ،وحينما بلغ والدي بتشريفي ظنها كذبة نيسان فقد كانت الداية قد بشرته بانثى فاذ بي اقفز الى حضنه،وحينما شاهدني حمدالله انني جئته ذكرا،ليس كراهية بالاناث، لا سمح الله،ولكن لاني كنت شديد السمار ،قاس الملامح،لا املك اية ملاحة في وجهي،شديد النحول.
شهدت النكبة الاولى وعمري سنتين،وهجرت مع اهلي من فريتنا في قضاء حيفا الى ما سمي بالضفة الغربية،وهكذا أصبحت لاجئا ولم اكن قد تعلمت المشي جيدا،ولان والدي ذاق مرارة اللجوء فقد قرر أن يعلمني،فقد كان مقتنعا أن التعليم هو المخرج لمن طرد من بلاده عاريا لا تقبل به بلاد الله الواسعة الا ان فرض ذاته بذراعيه وعلمه.لهذا حصلت على شهادة الثانوية العامة ولم اتجاوز السادسة عشرة من عمري،وارسلني والدي الى الضفة الشرقية لالتحق بمعهد المعلمين.ما أن اتممت الثامنة عشرة حتى كنت قد اصبحت معلما ،وهي مهنة لم استسغها على الاطلاق ،وكنت اراها مقبرة لي في هذا العمر المبكر. كنت اعزي روحي بقرض الشعر،كنبت قضائد عدة وطبعت ديوانا مبكرا،واصبحت حالما ناقما على العالم كله،كيف لا وانا المنبوذ من كل العالم لاني فلسطيني.
بعد عام فقط حدثت النكسة كما اطلقوا عليها وانقطع الخيط الرابط لي مع عائلتي في الضفة الغربية التي باتت هي الاخرى محتلة كحال فريتي الاصلية .اصبحت وحيدا تماما،لا وطن ولا اهل ولا حبيب.عشرة اعوام كاملة امضيتها في مقبرة التعليم الى ان طفح الكيل،شددت الرحال الى الكويت لفترة قصيرة جدا ومنها توجهت الى بغداد ،لم يكن في رأسي من حلم الا الالتحاق بالثورة الفلسطينية،ولكن كما يبدو فقد اخطأت العنوان،ففي بغداد عملت في إذاعة فلسطين من بغداد،ولم يطل بي المقام هناك،كانت مهنة التعليم ولجوئي الاول واحتلال الضفة الغربية قد فعلوا فعلهم في شحصيتي،بت قلقا،متمردا،لا أطيق اية قيود على شخصيتي،اسارع الى قول ما يعتمر في روحي دون حساب للنتائج المترتبة على ذلك،وهكذا لم تمر الا فترة قليلة الا واصطدمت بالجهة المسؤولة عن الاذاعة.لا ادر لم أحسست انهم يحولون سخطي على كل ما حولي الى اماكن وصفتها لهم بالمشبوهة.كنت قد رفعت الصوت ضد القيادة القابعة هناك بعيدا في بيروت،وسودت صفحات بيضاء عدة للتنبيه من مشروعها السياسي ولكني لم اتصور يوما ان ما كتبته سيكون اشبه بالفتوى لهدر دم اي عربي او فلسطيني،فما ان سمعت بنبأ قيام مجموعة من الشباب المنتمين الى الجهة المسؤولة عن الاذاعة بالهجوم على فندق في دمشق بتوجيهات من الاخ القائد وسقوط قتلى مدنيين لا ذنب لهم ،وما أى شاهدت صور اعدام من تبق حيا من المجموعة المهاجمة وهم معلقيى على حبال المشانق امام الفندق،حتى اسود العالم امامي وطار صوابي وايقنت انني في المكان الخطأ،وصرخت بهم:الى اين انتم ذاهبون،طريق فلسطين لا يمر من هناك.
في تلك الليلة التي دوت فيها صرختي عاليا زارني صديق نصحني ان أشمع الخيط واهرب من بغداد قبل أن تصل صرختي الى اذان الاخ القائد،فهو لن يرحمني،وهنالك من تفوه بأقل مما قلت ولم يبق له أثر،وصدر عليه حكما بالاعدام باعتباره جاسوسا للزمرة المنحرفة.ليلتها حسمت امري وهربت بجلدي قبل ان يشي الوشاة بي،وما اكثرهم ،للاخ القائد،كما كان يحب أن يلقب.
شددت الرحال الى معسكر الخصوم،فلم اعد اطيق الرجوع الى حياة الاستكانة والتدريس ولم يعد في رأسي سوى الانتماء للثورة . وصلت بيروت دون أن أفكر في رد فعل من هاجمتهم مطولا من بغداد،لم يكن امامي من خيار اخر،فعناوين الثورة كانت محصورة ما بين بيروت وبغداد،ولا ثالث لهما.كنت اعرف ان ذهابي الى هناك لن يكون نزهة،لكني لم اكن اتوقع ان يتحول الامر الى كارثة،جل ما توقعته كان تحقيقا قد يكون مطولا عن سبب وجودي في بغداد وعملي في الاذاعة ومقالاتي.لكن وكما يبدو فقد كنت حسن النية وجاهلا بدهاليز امبراطورية الفاكهاني.ما ان وصلت حتى الفى القبض علي من قبل احد الاجهزة الامنية الحركية والممتدة كالاخطبوط و خضعت لتحقيق مطول بتهمة الانتماء الى جهاز معاد للثورة.لاول مرة في حياتي اكن محظوظا فقد ذكرت معرفتي باحد القياديين المهمين وانني جئت اليه طالبا اللجوء وهربا من حكم الموت الذي من المؤكد قد صدر بحقي خاصة انني قدمت اليكم.
هذه الكلمات القليلة انقذتني كما يبدو من مصير مجهول كان بانتظاري،وفعلت مفعول السحر لدى المحقق الذي سارع للاتصال بالاسم الذي ذكرته، وبعد أن أكد له معرفته بي طلب ارسالي له فور انتهاء التحقيق ومعاملتي بشكل جيد .خلال ساعة واحدة كان قد اجرى اتصالاته وافرج عني ونقلت الى مكتبه.والحق يقال أن الرجل حاول أن يمتص غضبي وساعدني في العمل ضمن الإعلام المركزي الفلسطيني .
لكن كما يبدو انني لم استفد من درسي السابق،وكما يقولون الطبع يغلب التطبع،وانا طبيعتي مشاكسا ومتمردا دائم الحركة لا أهدء،اميل الى أن اكون مخالفا ومختلفا، اهتماماتي كثيرة تتأرجح ما بين السياسي والثقافي،مع غلبة الثقافي عليها .وكنت أتحين الفرص لمحاولة لكسر المألوف. وهكذا ودون أن أخطط للامر وجدت نفسي وكعادتي ،في موقع غير متصالح مع المؤسسة الرسمية، وهي هنا القيادة الفلسطينية.
كنت دائم التردد والجلوس على المقاهي والأرصفة، دائم التجوال، اهرب من قيود المكاتب والارتباطات الرسمية .
فقد كانت قبلة .ولان بيروت كانت عروس العواصم،ملجأ لكل حالم او مضطهد او عابث ...رصيفا لكل مبدع أو فنان ،أرضا لكل طامح بممارسة الحرية او النصال من اجلها...بيروت كانت مختبرا كبيرا جمعنا من كل صوب وحدب،هناك فقط كان بامكاني توسد الحلم وتلوينه،وقد يتسع الحلم ليصبح فعلا جماعيا كما حدث معي ومع
عدد من الشعراء الذين يشبهوني في تمردي ،جمعنا حلم باصدار جريدة تغرد خارج سرب المألوف،لا سقف للحرية فيها،كل يبدع على طريقته دون قيود أو أوامر،جريدة يجرب فيها كل منا اشكالا من الابداع لم يعرفها الاخرون من قبل.
اجتمعنا اربعة ممن ضاقت بهم الارض وقررنا اصدار جريدة،دون تمويل من احد،تعاهدنا ان تكون منبرا للجنون والابداع،لا وصاية من احد على احد،جريدة للمهمشين والقابعين على رصيف الابداع والثورة،لم نختلف على خطوطها العامة ولا على تفاصيلها.وصف العديد من الاصدقاء الفكرة بأنها جنون مطلق،خاصة مع انعدام التمويل تماما ،رغم هذا استطعنا تحويل الجنون الى واقع ،وما أن صدر العدد الاول الا وكان له دوي اتفجار سمع في كافة الانحاء.خاصة في جمهورية الفاكهاني،ففيها ،ورغم رصيف الحرية الواسع،لم يكن احد قادر على التغريد خارج حدود المؤسسات المتعددة،فكيف باصدار جريدة تحلق خارج السرب وتتحدى المؤسسة وتصطدم معها.?ورغم ان العمل كله كان من نصيب حفنة من الشباب الا ان الجريدة قد حظيت باستقبال جميل من المقاتلين والقواعد،وسخرية علنية من كتاب ومثقفي المؤسسة الرسمية،رغم اشتمامنا لرائحة الحسد والغيظ في ردود افعالهم،كنا نوزع الجريدة بأيدينا،نجول على كل المواقع،خطوط التماس،نعرض أنفسنا لطلقة قناص قاتلة أو قذيفة ةجنونة قد تطيح بأعناقنا،كانت قمة الاثارة حينما نصل الى مواقع لا تبعد عن العدو الا امتار قليلة،ونوزع الجريدة،كنت ارى لمعة الفرح في عيون المقاتلين الذين لم يزرهم أي مدني منذ أن فرزوا الى مواقعهم هذه.
لم تعمر التجربة مطولا،فكالعادة اختلفنا وتشرذمنا رغم ان عددنا لم يكن يتجاوز أصابع اليد الواحدة،واصبحنا فرقا واحزابا ،والنتيجة انتهاء الجريدة وانطفاء التجربة.لم اسلم بالنهاية،راوغت وحاولت حتى اعدت للحلم بريقه.وحيدا كنت أكتب مواد العدد وأشرف على صفه وطباعته حتى يولد بين يدي.في ذان اليوم كان القصف شديدا،الجميع نصحني أن فبتأجيل توزيع الجريدة حتى يتوقف القصف،لكني ركبت رأسي واعتبرت ان حياتي ليست بأغلى من حياة من يقف في المتراس الامامي للدفاع عنا،ألم أقل لكم أنني عنيد وأسبح عكس التيار. حملت اعداد الجريدة وقصدت خطوط التماس ،بعد أن وزعت النسخ الاولى سمعت اشتداد صوت القصف ودويه لكني لا اتذكر أي شيء مما حصل بعد ذلك.ما سأرويه لكم الان هم ما رواه لي الطبيب المناوب في قسم الطوارئ في المشفى الذي نقلت له:" أذكر أنك جئت جريحاً إلى المستشفى ، جلبوك مع جريح آخر، وكان الدم يغطيكما، كنت شبه ميت ، ودمك متجمد على جسدك اليابس. لا أعلم من كشف عليك وأعلن وفاتك . فتمّ نقلك إلى براد المستشفى تمهيداً لدفنك . الا ان العامل المختص بوضع الجثث في البراد انتبه الى صدور حركة خفيفة من يدك ،استدعي طبيبا فاعلن انك حيّا، ونقلت على عجل إلى غرفة العناية الفائقة، وهناك اكتشفنا أنك شاعراً. وأبلغنا الصحف التي صدرت في بيروت أثناء الحصار ". وعندما استيقظت من موتي كانت الصحف قد نشرت عني المراثي الطويلة. ،وقرأت المراثي بسعادة لا توصف . كان وضعي الصحي ميؤوساً منه،كنت اشعر بذلك،فقد اخبرني الاطباء أنني أصبت في عمودي الفقري و تمزقت رئتي اليسرى، كنت اعلم ان الموت ينتظرني وانني لن أمكث حيا الا لبضعة أيام .لقد عشت يومين، كانا كافيين كي أقرأ كل ما كتب عني، كنت سعيدا، ولم يعد يهمني الموت، فلقد عرفت اليوم معنى الحياة، من خلال الحب المصنوع من الكلمات المكتوبة في رثائي. كنت الميت السعيد الوحيد على وجه الارض، كأن كل آلامي انمّحت. عشت في سريري، وسط أكوام المراثي، يومين جميلين، لقد شعرت لاول مرة في حياتي اني لم أعد غريبا منبوذا.
وحين مت، بعد يومين،كان كل شيء قد سبق أن كتب عني، فنُشر نعي الثاني في أسطر قليلة في الصحف، ولم ينتبه أحد لموعد تشييع جنازتي، فشيعت من المستشفى إلى المقبرة ، ولم يكن عدد المشيعين يتجاوز أصابع اليد الواحدة.
تلك هي قصتي،هل أعجبتكم؟لكن المهم هل عرفتم من أكون؟
#عماد_ابو_حطب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مات الشهيد
-
طفولة
-
1-00-0-1-00-00-0-00-0-1-00/اقصوصة
-
عزرا يولد من رحم جوليات الفلسطيني/قصة ام هلوسات
-
النعش الطائر/قصة قصيرة
-
مومس
-
بهلوان
-
البدلة العجيبة/اقصوصة
-
لا محل لك من الاعراب/قصة قصيرة
-
بلا عنوان/يترك العنوان لكم/اقصوصة
-
جنازة/اقصوصة
-
ذهب ولهب
-
زُلْزِلَتِ الأرْضُ
-
لم يكن يعلم
-
نصف جثة ونصف انسان
-
الجد
-
ابو السعيد... الف وردة حمراء انثرها فوق جبينك
-
احرف غير مترابطة
-
الجدة
-
محاولة ترتيب ساذجة
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|