محمد عبد الله دالي
الحوار المتمدن-العدد: 3210 - 2010 / 12 / 9 - 12:30
المحور:
الادب والفن
الرجل الذي تكلم أخيرا قصة قصيرة
محمد عبد الله دالي
يستعد صباح كل يوم وهو بكامل قيافته المعتادة , جسم نحيف , متوسط القامة , ذو شعر ابيض أضاف إليه كٍبَر السنِ , تجاعيد في الوجه وانحناء بسيطاً في الظهر يدل على إنه في السبعين من العمر .. كان الصمتُ هو السمة البارزة في حياته .وفي بعض الأحيان يعتمر على رأسه طاقية من القطن , ويحرصُ دائماً أن يكون الكتاب رفيق يده .. كان نظامياً ودقيقاً في مواعيد خروجه وجلوسه في الأماكن المخصصة .. وهذا يدل إنه إنظباطياً في حياته اليومية , .. يبدأ جولته الصباحية , في الساعة التاسعة صباحاً من البيت إلى السوق الكبير ( سوق المغايز ) كما يسمونه وسط المدينة , يبدأ بالجانب الأيمن يتفقد المحال , ينظر بتمعن إلى المخازن , يقلب الأشياء بنظره , بشكل يثير الدهشة ، ثم يعرج على الجانب الأيسر وعلى نفس المنوال . قد أصبحت طريقته التفقدية هذه معروفة لدى أصحاب السوق , وإذا تأخر أو غاب يوماً و يسأل أحدهم الاخربتهكم ( أين المفتش العام ) كان سلامه بالأشاره , أو بانحناءة بسيطة من رأسه و ونادراً ما يجلس في المقاهي العامة .. وإذا ارادالاستراحه ,أثناء جولته , يتخذ من المقاهي القديمة في أزقة المدينة ,التي يرتادها بعض كبار السن , كانوا يلقبونه بالقلم الرصاص .. لنحافته وارتدائه بدله رمادية اللون , أغلب الأوقات . وكم مرة يحاول أصحاب المحلات جرهُ للحديث ,حاول صاحب المقهى معرفة سبب صمته فلم يفلح .. وإذا لحَ بالسؤال .. قام من المقهى , بعد إن تلمع عيناه الغائرتين في وجهه النحيف .. كان الصمت ملاذه الدائم . ويقي صمته سراً ويلفت نظرك إذا مرً على أطفال يلعبون , يقف بطوله الفارع النحيف .. وهو يطوف بنظراته , وهو يراقب المشهد الطفو لي البريء , ابتسامته تشرق على وجهه البسيط .. ويودعهم ملوحاً بيده ,رافعاً رأسه إلى السماء ,متمتماً ,محركا شفتيه الذابلتين , يضع يديه خلف ظهره لتعبه من السير المتواصل ,حتى أصبحت المدينة تعرفه بلقبين ( أما الأفندي أو قلم الرصاص ) . ينتهي به المطاف ظهراً أو مساءً , أمام كافتريا أبو عباس .. ليتناول وجبته المفضلة المشهورة ( سنبوسه ) يضيف عليها بعض البهارات .. ويرتوي بقدح من الماء وقدح شاي . ثم يقوم بمسيرة العودة إلى البيت , هذا منهاجه اليومي المعروف , وأحيانا يطرأ على البرنامج تغييرات , لا يدري .. هو كيف تحدث وقد كشف أحدهم يوما قائلاً :ـ
انه رآه يغيرمن برنامجه اليومي ,.. يركب باص مصلحة نقل الركاب , المتجه نحو المدينة القديمة .. ثم يقفل راجعاً في نفس السيارة ، حتى بعض الجباة يعرفونه ويغضون النظر .. عن قطع تذكرة له لكنه يرفض بشدة , بدليل حدة إشارته ونظراته الحادة , ويثير الاستغراب .. عندما تراه يحمل علاقة وهو يتسوق .. بعض الخضروات والفاكهة , وبعض مستلزمات الأطفال .. كان يستعرض السوق بشيء من الخوف وهو يلتفت بكل الاتجاهات .
عند التسوق ، يأخذ حاجته وينسل راجعا مما أثار فضول البعض , لمتابعته ومعرفة أين يذهب بهذه الحاجيات , وقبل أن يصل إلى المكان المطلوب .. يقف يلقي نظرة إلى الخلف , ثم يواصل السير و يقف أمام أحد الأبواب , يطرقه الباب ثم يضع الحاجيات إمامه .. يرفع يده مسلماً و ويغادر مسرعاً وكأنه يخاف من شيء .. يقف بعد أن يبتعد يتنهد ويهُز رأسه عدة مرات ويصفق بيديه .. ويواصل السير وهو يبحر في صمته الرهيب . ليكمل جولاته المكوكيه الدئمه , وفي إحدى جولاته في شارع الصيادلة , تعرض للاهانة من إحدى العوائل , والسبب هو انه وقف محدقا بامرأة وهي تمسك طفلين صغيرين وطفل ثالث يمشي أمامها .. لكن لحسن الحظ إن أصحاب المحلات , يعرفونه جيداً , تدخلوا وشرحوا لها الموقف , أعلنت عن أسفها لهُ .. بعد أن ناله ما ناله من الم .. طأطأ رأسه ومسك يده اليسرى باليمنى خلف ظهره ، كان الحزن بادياً عليّه ,مما أثار شفقة البعض , وطبطب على ظهره مواسياً التفت إلى المرأة بخجل معلنا, بانحناءة من رأسه عن اعتذاره .. ثم حيا الطفلين بابتسامته الشاحبة , ثم أكمل برنامجه المعتاد, اجتاز تقاطع السوق وتغلل بين الناس إلى نهاية الشارع , تجسد أمامه منظراً رائعاً ــ اثنان من الشباب وهم يحملون رجلاً كبير السن , ويدخلون به إلى احد الأطباء , توقف برهة , وضع كفيه على وجهه , محاولا حجب المشهد الذي أمامه ، وتصور , لو كان هو من يُحمَلْ .. تحسر بعمق وبلع ريقه بصعوبة .. سيطر على نفسه كانت نظراته تشكر الشابين لوفائهم , ويعاتب الزمن الذي جرده من جميع أوراقه , تركه يعيش في آخر أيام خريفه ،دلفَ يساراً إلى الشارع التجاري الرئيس في المدينة , أخذ استراحته اليومية داهمه المساء .. حاول العودة لأنه أحسَ بتعب ينال مفاصلهُ وضغط هائل على نفسه ... دوى في وسط الشارع انفجار قوي هزً المدينة , مما أثار موجة من الرعب , وفرار الناس من السوق .. أنجلا الموقف عن حدث رهيب . ... مقتل العشرات وتدمير شامل للمحال القريبة . هرع صاحبنا مسرعاً .. وهو يجاهد للوصول ، إلى مكان الحادث وسط زخم سيارات الإسعاف والشرطة .. رأيناه رجلاً قوياً , عكس ما رأيناه من بعض الناس .. توجه لإجلاء الجرحى , وهو يصيح لأول مره ( الله الكبر ) !! وهو يرددها عدة مرات .وقد استخدم إحدى العربات الصغيرة لبعض العمال ، لنقل الجرحى إلى الإسعاف وهو ينادي بصوت جهري أين أصحاب النخوة والغيرة .. كان صوته مميزاً .. رجع مسرعاً بعد أن أوصلَ أول جريحٍ .. عاد وهو يحمل قطع من أجساد متفرقة.. قال لهُ سائق الإسعاف :ـ
ــ أخي نحن ننقل الجرحى أما الشهداء . أمامك هذه السيارة المكشوفة مخصصة لنقل هذه الأشلاء !!.. اتجه مسرعاً قائلاً :ــ
ــ إخوان , استلموا وسأفتش عن باقي الأعضاء ..!
رجع وهو يحملُ بعربته أشلاء ممزقة .. رأى السيارة قد غادرة وهي ممتلئة .. صاح بأعلى صوته .. كأنه قنبلة موقوتة .لماذا ؟ جلس أمام الكارثة التي أمامه وهو يجهش بالبكاء ..كأنه لم يبكِ منذ سنين .. وهو يضرب رأسه بكلتي يديه .. حتى أُغمي عليه فتحَ عينيه في اليوم الثاني .. رأى نفسهُ على سرير المستشفى ناداه الممرض:ــ
ــ ها أفندينا , الحمد لله على السلامة !!.. يقولون إنك تكلمت ؟!
ــ أجاب الله يسلمك , يا ليتني لم أتكلمْ ..!
ــ ها هي حاجياتك ( هوية التقاعد) وقلمك, وكتابك , وهذه مجموعة من الصور العائلية .. قرأ الممرض الهوية .. إنك متقاعد وهذه الصور ؟
ـ لعائلتي .. كانوا أملي في الحياة وهم ما خرجتُ به من الدنيا ..استشهدوا في إحدى المحافظات الوسطى .. ولم يبقى إلا طفلاً هو الآن في السنة الثالثة من عمره ..وسكتُ منذ ذلك الوقت ولا أدري ماذا جرى إلى الآن .. أجابه الممرض :ـ
ــ المهم أنت سالم وبإمكانك المغادرة ؟
ــ لملم نفسه وارتدى ملابسه الملطخة بالدماء .. أستعد للخروج بعد إجراء اللازم
ــ سأل الطبيب والعاملين معه وهم يودعونه .. ( لماذا ؟ ... والى متى ..!!) خرج وعيونه تدمع وهو يقول .. لماذا .؟ والى متى هذا الظلم ؟
[email protected]
محمد عبد الله دالي الرفاعي
#محمد_عبد_الله_دالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟