|
على الوردي ..أوراق لم تنشر.(تعريف -الحلقة الأولى)
قاسم حسين صالح
(Qassim Hussein Salih)
الحوار المتمدن-العدد: 3208 - 2010 / 12 / 7 - 18:59
المحور:
مقابلات و حوارات
(تعريف.. لجيل ما بعد الوردي)
الدكتور علي الوردي هو أبرز عالم اجتماع عراقي في القرن العشرين،وأول من درس طبيعة المجتمع العراقي وحلل الشخصية العراقية وحظي بشهرة يستحقها.ولد عام 1913 بمدينة الكاظمية ولّقب بالوردي نسبة لجده الذي كان يمتهن حرفة تقطير ماء الورد.عمل في طفولته صانع عطّار بمحلة شعبية بالكاظمية،لكن العطار استغنى عنه لأن الصبي عليّا "يقره كتب ومجلات وعايف المشتريه". تخرّج في الدراسة الاعدادية وعمل لسنتين معلما باحدى مدارس الكاظمية..سافر بعدها الى أمريكا ليحصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه من جامعة تكساس عام 1950وعاد للعراق بالسنة نفسها وعيّن مدرّسا لعلم الاجتماع بكلية آداب جامعة بغداد،وظل فيها الى عام 1972حيث أحيل على التقاعد. تأثر الوردي بمنهج ابن خلدون،وعن (مقدمته)كانت اطروحته للدكتوراه..وتنبأ له علماء اجتماع اميركان بشأن عظيم ومنهم رئيس جامعة تكساس..وقد صدقت نبؤتهم.فبعد عودته للوطن بسنة أصدر كتابه (شخصية الفرد العراقي1951)أتبعه في عقد الخمسينيات بمؤلفات أصيلة بينها:مهزلة العقل البشري،أسطورة الأدب الرفيع،الأحلام بين العقيدة والواقع،وكتابه الذي أزعج السلطات الحاكمة(وعّاظ السلاطين).وفي الستينيات أصدر:دراسة في طبيعة المجتمع العراقي،لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث-12 كتابا أنجزها بين عامي 69-1979، ومنطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته 1978-تونس.فضلا عن بحوث مبكرة أصيلة بينها (الأخلاق..الضائع من الموارد الخلقية) نشرته مجلة (الأحداث-1959)الصادرة عن الجامعة الأمريكية في بيروت. ومن بداية عمله الأكاديمي في الخمسينيات صار الوردي قلقا على مصير العراق ومستقبل المجتمع العراقي.وكان الصوت الاجتماعي الوحيد في زمن كانت فيه الثقافة العراقية موزعة بين ايديولوجيات وتيارات قومية ويسارية واسلامية وأدب وشعر،فيما كان هو يغرّد خارج سرب الثقافة.والمفارقة ان السياسيين والمثقفين أخذوا يحضرون ندواته،ويتكاثر عددهم،فشغلهم بأفكاره التي أدهشتهم وسحرهم بجزالة لفظه ورشاقة اسلوبه. وكان يرى أن فهم المجتمع ونجاح السياسة في العراق يمرّان عبر بوابة(الشخصية العراقية) فخصص لها كتابه (شخصية الفرد العراقي)ممهدا بتوضيح مفهوم(الشخصية)استغرق نصف صفحاته لكون الموضوع جديدا على العراقيين..مشيرا أن ابن خلدون كان رائدا بمحاولته دراسة شخصية الانسان لا على اساس المواعظ والارشاد كدأب من قبله بل بتحليل تاريخي اجتماعي موضوعي .وكان الوردي أول من حلل بعمق نظرية ابن خلدون وشخصها بأنها تدور بالأساس (حول البداوة والحضارة وما يقع بينهما من صراع).والتقط منه مقولته التي وصف بها البدو بأن "رزقهم في ظلّ رماحهم" معلّقا بأن "البدو لا يعرفون من دنياهم غير الفروسية والفخار والغلبة والتنافس". ووظف ذلك بمنظور حضاري على مجتمعه منبّها ومحذّرا السياسيين والناس بقوله:"ولعلني لا أغالي اذا قلت ان مجتمعنا الراهن هو من أكثر المجتمعات في العالم تأثرا بالقيم البدوية في محاسنها ومساوئها.ولعل المساؤيء البدوية اوضح أثرا فيه من المحاسن ..فقد وجدت العشائر الريفية لا تزال تسلك في الحياة مسلكا يقارب مسلك أجدادها من بدو الصحراء،فلديهم قيم العصبية والمشيخة والدخالة والضيافة والثأر".وبرغم أنه قال هذا قبل نصف قرن فانه الآن أوضح مما كان عليه في زمانه!. بقي أن نشير الى انه جرى له تكريم (شكلي)قبيل وفاته وكان على فراش المرض ،فبعث أبنه لحضور الحفل،فقال وهو يعتلي المنصة:كلفني الوالد أن أنقل لكم بيتا من الشعر بهذه المناسبة: جاءت وحياض الموت مترعة & وجادت بوصل حيث لا ينفع الوصل!. والمخجل ان الوردي يوم توفى في 13 تموز 1995 لم يجر له موكب تشيع يليق بعالم كبير بل اقتصر على المقرّبين ..فيما ودّعه زملاؤه ومحبوه ..صمتا ..وعن بعد!.
الحلقة الأولى توطئة: في العام (1989) اصدرت وزارة التعليم العالي جريدة بعنوان (الجامعة) يرأس تحريرها وزيرها حينذاك الدكتور منذر الشاوي، وكنت مسؤول الصفحة الأخيرة فيها فخططت ان اعمل ارشيفا" لمفكّري العراق ورموزه العلمية والثقافية عبر لقاءات تستنطق الذاكرة وتحاور الافكار، فابتدأت بالدكتور علي الوردي ( تلاه أول وزيرة للتعليم العالي الدكتوره سعاد اسماعيل). كنت قبلها التقيت الوردي(1913-1995) في ندوة عقدت لمناقشة دراسة ميدانية بعنوان:(البغاء: اسبابه ووسائله وتحليل لشخصية البغي) طبقّت فيها اختبارات نفسية على (77) بغيا" وسمسيره، كانت وزارة الداخلية القت القبض عليهنّ في حملة حصيلتها أكثر من(300) من عموم محافظات العراق. وبعد مناقشتها من اكاديميين وقضاة ومحققين، توجهنا لتناول الغداء، فسحبني من يدي(على صفحه) وقال لي مازحا"(وهو المعروف بالسخرية الممتلئة معنى): - تدري دراستك هاي عن (الكحاب) تذكرني بنكته ايام العهد الملكي. قال، وقد حرص ان لا يسمعنا احد:اجتمع رئيس الوزراء نوري السعيد، والوصي عبد الاله، ووزير الداخلية، ومدير الامن... لمناقشة فتح (منزول) واختلفوا حول المكان، فمنهم من قال في (الميدان) واخر قال في (الباب الشرقي)... وكان بين الحضور (مصلاّوي) يجيد النكته فقال لهم: - احسن مكان لفتح المنزول هو الميدان.. والما يصّدك خل يروح يسأل أمّه!. ضحكنا وقدحت النكته تعليقا" كان يعنيه( ماذا لو قالها احدهم الآن!... لأفرغ مسدسه في قائلها والمبتسمين!) فيما الوصي ونوري السعيد ووزير الداخلية استلقوا على ظهورهم من الضحك. وانفتحنا على بعضنا... فرحت ازوره بين حين وآخر في داره الواقعة خلف اعدادية الحريري للبنات في الاعظمية، نتحاور واستزيد من علمه الذي كنت (كأي عراقي) مبهورا"به قبل ان اتعرّف عليه. وكنت، حين اختلف معه في الرأي، اطرحه بما يجلي الغموض عندي ويزيد المعرفة من عالم فذّ كان في عطائه كنخلة أعثقت بما هو شهي وطازج.. لكن الرعب حينها، اوقفه من طرح ثمارها. كيف لا والرجل أسمه علي حسين عبد الجليل الوردي، ومن اهالي الكاظمية، وصاحب كتاب(وعّاظ السلاطين). وما أرعبه أكثر انهم ابلغوه بأن (الرئيس القائد..غير راض عنك).وأظن أن من بين ما أثار عدم رضاه قول الوردي ان القيم البدوية والعشائرية التي أوجدتها حاجة البقاء في محيط الصحراء القاسي هي التي تتحكم في سلوك أغلب العراقيين ،وأن القيم المتمدنة لديهم سطحية وهشّة،فحسبها (الرئيس) أنها تعنيه أو مشمولا بها .وقد صدق الرجل اذ اعتمد النظام في العقد الأخير من حكمه القيم العشائرية وأنشأ (شيوخ أم المعارك).وأحالوا الوردي على التقاعد من عمله بجامعة بغداد، فاعتكف بيته لا يغادره الا تلبية لندوات علمية محدودة ،كان حين تعطى له الكلمة يتحدث لدقيقتين ثم يقول (اعتذر لأن عندي وعكة صحية)..وما كانت وعكة ،بل الحقيقة حين تغادر مستقرها في اعماقه وتصل فمه! في أدناه (الحلقة الأولى) من هذه الأوراق التي احتفظت بها (22) عاما"..وثيقة من عالم كبير..ما احوجنا اليه الآن، بالرغم من ان السياسيين لن يستمعوا له، حتى لو جاء مصطحبا" معه..ابن خلدون!
(بداية الحوار )
+ أرجو أن تحدثنا عن قصة حياتك من طفولتك حتى الآن، بروايتك انت لتكون مرجعا"، وما هو شعورك الآن بعدما بلغت سن الشيخوخة ؟!
- كتبت ذات مرة مقالا" في احدى الصحف بعنوان: (من على ظهور الحمير الى الجمبو). وكنت اقصد به انّي في بداية حياتي سافرت على ظهور الحمير ثم أتيح لي أن أسافر بطائرة "الجمبو" وهذا المقال يصوّر سيرة حياتي وحياة مجتمعي تصويرا" واضحا". - انّي من مواليد العهد العثماني، فقد ولدت في عام 1913 وشهدت هذا التطور الهائل الذي حدث في العراق حيث تحوّل المجتمع به من وضع القرون الوسطى الى العصر الحديث. ومما يلفت النظر أنني أنا شخصيا" قد تحولت حياتي بما يشبه التحول الذي مرّ به العراق. فقد كنت في صباي صانع عطار براتب شهري قدره خمس روبيات (375 فلسا")، ثم صرت الآن مؤلفا" اتحذلق على الناس بأقاويل لا يفهمونها وأطلب منهم أن يفهمونها. - اني مشغول الآن بكتابة مذكراتي، وهي ستكون ذات جانبين، أحدهما أتحدث فيه عما جرى في المجتمع من تحول عجيب، والآخر أتحدث فيه عما جرى لي أنا من تحوّل أعجب منه. - اني ما زلت أتذكر تلك الأيام التي كنت أعمل فيها صانعا" في دكان عطار من شروق الشمس حتى الساعة الواحدة بعد الغروب. وحدث لي في عصر أحد الأيام أنّي ذهبت الى شاطيء النهر في مهمة كلفني بها "استاذي" العطار، فرأيت المقاهي وصوت الحاكى يلعلع بأغاني محمد القبنجي ورشيد القندرجي وبدرية انور. وقد أثار هذا المنظر دهشتي وأخذت أسائل نفسي:( كيف يكسب هؤلاء الناس رزقهم ومن اين يعيشون؟). فقد كنت أتصور ان كسب الرزق يضطر الانسان الى العمل من شروق الشمس الى ما بعد غروبها، وليس من الممكن لشخص يريد أن يكسب رزقه وهو جالس في المقهى عصرا" يستمع الى الاغاني. - ثم دارت الايام بعد ذلك، فوجدت نفسي قد صرت من المترفين، وأخذت أصول وأجول راكضا" وراء الدنيا، ونسيت أني كنت قبلئذ من المساكين(كتبها اولا:من أبناء الصعاليك وشطب عليها-ق). وتلك الايام نداولها بين الناس ـ كما ورد في القرآن الكريم!. - ان مذكراتي تخلو من السياسة، في الغالب، وهي تختلف بذلك عن المذكرات التي صدرت في العراق. فالذين كتبوا تلك المذكرات كانوا من رجال السياسة وكان غرضهم من كتابة المذكرات تبيان وجهة نظرهم في الأحداث السياسية التي شاركوا فيها أو عاصروها. أما مذكراتي فليس فيها من ذلك الا قليلا". - اني لم اشارك في الأحداث السياسية، فان مزاجي لا ينسجم مع السياسة. اني أحب أن اكون متفرجا" فيها لامشاركا". ولكل انسان مزاج خاص به، وليس للانسان يد في صنع مزاجه كما لايخفى. - حاولت في مذكراتي أن اتحدث عن السياسة بصفتي متفرجا" عليها. ولا حاجة بي الا القول ان الاحداث السياسية لها جانب اجتماعي،ولهذا سوف يجد القاريء في مذكراتي شيئا" من التحليل لبعض أحداث السياسة، انما هو تحليل من وجهة نظر اجتماعية ـ والله المستعان على كل حال! - أعود الآن الى سؤالك عن شعوري في مرحلة الشيخوخة التي أمرّ بها، وهو سؤال لا يخلو من شيء من الاحراج لي. - اني اشعر الآن بالتذمر. وهناك سببان أو ثلاثة لهذا التذمر لا مجال هنا لذكرها، وسوف يجد القاريء تفصيلا" لها في مذكراتي. قد يكفي هنا أن أقول اني فقدت ايمان العجائز الذي كان متوافرا" في الاجيال الماضية. - ليس في مقدور شخص يعيش في هذه الحضاره الصاخبة، ويطلع على ما فيها من تطور علمي، أن يظل محافظا" على ايمان العجائز. فان هذا الايمان لايتوافر الا في البيئات الراكدة المنعزلة، وهي البيئة التي كان أباؤنا يعيشون فيها. - اني لو خيرّت بين حالتي الاولى عندما كنت معدما" ولكني املك ايمان العجائز وهذه الحالة التي انا فيها الآن لفضلّت الحالة الاولى. فان الايمان القويّ يسبغ على الانسان طمأنينة نفسية يندر أن يحصل عليها المترفون من أرباب الملايين!.
#قاسم_حسين_صالح (هاشتاغ)
Qassim_Hussein_Salih#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المؤتمر الأقليمي الثاني لعلم النفس ( تقرير)
-
جرائم القتل..تحليل نفسي-اجتماعي (3-4)
-
جرائم الكراهية
-
هل ورث العراقيون نزعة الخلاف من أسلافهم؟!
-
أساليب تعاملنا الخاطئة مع الصراع
-
ثقافة نفسية:(19) لغة الجسد
-
القتل والسيكوتين..للجنسيين المثليين!
-
جرائم القتل - البارنويا والجريمة (3-4)
-
جرائم القتل -تحليل نفسي اجتماعي 2-4
-
سيكولوجيا الحسد
-
رفقا بالضمير..ايها السادة!
-
جرائم القتل -تحليل اجتماعي نفسي 1-4
-
العراقيون ..وسيكولوجيا اللوم
-
استهلال في مفهوم الشخصية العراقية
-
انتحار الأمهات!
-
تحليل شخصية شريك الحياة..بالهندسة النفسية!
-
العار..وأكل المال الحرام
-
مبادرة علمية تخصصية لحلّا لأزمة العراقية
-
في سيكولوجيا الصراع
-
وساطة نفسية لحل الأزمة العراقية
المزيد.....
-
أثناء إحاطة مباشرة.. مسؤولة روسية تتلقى اتصالًا يأمرها بعدم
...
-
الأردن يدعو لتطبيق قرار محكمة الجنايات
-
تحذير من هجمات إسرائيلية مباشرة على العراق
-
بوتين: استخدام العدو لأسلحة بعيدة المدى لا يمكن أن يؤثرعلى م
...
-
موسكو تدعو لإدانة أعمال إجرامية لكييف كاستهداف المنشآت النوو
...
-
بوتين: الولايات المتحدة دمرت نظام الأمن الدولي وتدفع نحو صرا
...
-
شاهد.. لقاء أطول فتاة في العالم بأقصر فتاة في العالم
-
الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ باليستي قرب البحر الميت أ
...
-
بوتين: واشنطن ارتكبت خطأ بتدمير معاهدة الحد من الصواريخ المت
...
-
بوتين: روسيا مستعدة لأي تطورات ودائما سيكون هناك رد
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|