|
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 18 ) - كيف تكون كاذبا ً منافقا ً .
سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 3205 - 2010 / 12 / 4 - 16:23
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الأديان تتسم برؤية إزدواجية فى تعاملها مع القيم والأخلاق .. فلا يوجد لديها منهج ثابت وقيم راسخة ومبادئ لا تقبل التنازل عنها أو الإلتفاف حولها .. بل هى قادرة على تلوين الأخلاق والسلوكيات وفقا ً للأمزجة والتوازنات والمصالح .. فتصبح القيمة الواحدة مقبولة هنا ومرفوضة هناك .. و يرجع هذا إلى ان الدين هو نتاج رؤية بشرية مُحملة بتقلبات ومصالح جماعة بشرية محددة وذات مستوى حضارى ومعرفى محدد بزمانها ومكانها.
فمثلا يتصدر تحريم فعل القتل قائمة الوصايا التى توهمنا الأديان بأن الرب القابع فى سماءه البعيدة قد أوصى بها , ولكننا نجد أن هذه الوصية تنهار أمام دعوة الرب العبرانى أو الله الإسلامى لشعبه بقتل الآخر وتصفيته جسديا بلا رحمة .. لذا نجد أن تحريم القتل كتشريع جاء فى إطار الجماعة المؤمنة الواحدة بينما يُستباح دم الآخر بلا شفقة بل تصل الأمور إلى رسم مشهد فنتازي ترى فيه الإله يدعو مؤمنيه دعوات لحوحة بقتال الآخر .. كما ليس لديه مشكلة فى أن يخطط ويرسم شكل المعركة ولا مانع من أن يرسل مدد من الملائكة لمساعدة المؤمنين على قتل الكفار أو الأغيار !.. الامثلة كثيرة في النص الديني الابراهيمي نورد منها على سبيل الذكر لا الحصر . سورة التوبة الآية29 قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ سورة الانفال الآية 60 وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ وفي العهد القديم .. فضرب يشوع كل أرض الجبل والجنوب والسهل وكل ملوكها ، لم يبق شاردا بل حرم كل نسمة كما أمر الرب إله إسرائيل يشوع 40:10 متى أتى بك ربك إلهك الى الارض التي انت داخل اليها لتملكها وطرد شعوبا كثيرة من أمامك: الحيثيين والجرشاشيين والاموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين سبع شعوب أكثر وأعظم منك ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم فإنك تحرمهم. تثنية7: 1-5
كذلك الزنا، يُعتبر خطيئة ومعصية فى العرف الإلهى بل أن بعض الميثولوجيات جعلت عرشه يهتز أثر هذا الفعل الفاجر! .. ولكن الإزدواجية تُمارس فعلها فنجد أن إغتصاب نساء الآخرين ووطأهن عمل يقره الله ويسمح به من خلال سبى النساء وإتخاذهن جوارى وملكات يمين .! أخرج مسلم في "صحيحه" والإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وعبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: أصبنا سبيًا من سبي أوطاس ولهنّ أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج ، فسألنا النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، فاستحللنا فروجهن.!
السرقة تكون مُحرمة هى الأخرى لنرى الله منزعجا ً من سارق نعجة وكأن هذه القضية تُعنيه وتؤرقه ليوصى مؤمنيه بقطع يد السارق علاوة على ما يُعده له من عذاب أليم فى أفرانه الإلهية .. ولكن الإزدواجية تظل حاضرة ولا تريد ان تبارحنا .. فيكون نهب وسرقة الآخر من خلال الغنائم هو عمل مُحلل بل "كلوا منها حلالا ً طيبا ً ". والطريف أيضا ً أن الله الغاضب من سارق بعض الخبز أو المال يسهو عليه تماما ًمن يسرق عُمر وحرية وكرامة إنسان بتسخيره بل يضع النواميس والشرائع التى تُقر وتنظم ذلك .! فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ? (محمد:4) . سفر التثنية: حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ، فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفُتِحَتْ لَكَ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ، وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا، وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلاَ تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَا، بَلْ تُحَرِّمُهَا تَحْرِيمًا
ومن الإزدواجيات القبيحة أيضا ً تجد بأن المؤمن مُطالب بأن يحب ويعضد ويتكافل مع أخيه المؤمن ولكنه غير مُطالب بهذا مع الآخر ..بل تصل الأدبيات والنصوص الدينية إلى تصدير الكراهية إلى الآخر ونبذه والتمايز عليه .! نجد نداءاً صريح المعاني للعداء و الكراهية كما في الايات التالية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) الممتحنة/13 . ( لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) آل عمران/28
الإزدواجية فى الاديان لا تقف عند هذا الحد فهى حبلى بمظاهر عدة تنم عن تناقض مع أى مفردة .. لذا سأتوقف فى هذا المقال أمام مظهر أراه ذو اهمية كبيرة نظرا ًًلتأثيره السلبي على العلاقات البشرية .. ليس بين شعوب ذات العقائد المختلفة فحسب بل في داخل القبيلة ذاتها وفي إطار ذات الدين بل وحتى المذهب الواحد .. ألا هو الكذب و النفاق. أنت مُطالب ألا تكون كاذبا ً ومنافقا ً وستجد آيات تدعو لذلك .. ولكن لا مانع فى أن تُمارس الكذب والنفاق فى موضع آخر !.. وليس هناك مشكلة فى أن تتلون وفقا ً لحاجتك فى التلون والخداع .!
سنمر على نماذج سريعة من النصوص والتراث الدينى والتى تعطى لنا دلالات واضحة وتصدر لنا إما بنص صريح أو ضمنى كيفية أن نكون كاذبين ومنافقين . !
*** إبراهيم كاذبا ً .
إبراهيم يُعتبر أبو الأنبياء حسب رؤية الأديان الإبراهيمية و يُذكر أيضا ً أنه خليل الله فثمه علاقة خاصة له مع الإله تتمظهر فى حوارات ودية لا تخلو من الدلال والعشم ...وتكلل فى النهاية بمكانة متميزة يَمنحه الإله على أثرها هدايا سخية بوعد بأرض مُباركة تفيض لبن وعسل .!!
النبى إبراهيم له قصة تحمل فى أحشاءها كل معانى الكذب والخداع بل وتصل إلى إنعدام النخوة لتندهش من سلوك أبو الأنبياء الذى يترفع أى مؤمن من أحفاده فى الأديان الثلاث عن الإتيان بها .!! من المفترض جدلا ً أن يكون إبراهيم أكثر إيمانا ً وثقة فى إلهه والذى منحه الكثير من الإهتمام والرعاية والشواهد على قوته وعظمته فلا يسقط إلى هذا المستنقع . فلو تأملنا قصته سنخرج بصور داكنة عن هذا النبى ولن تكون بحال من الأحوال فى صالحه ولا فى صالح المتشدقين بنبوته والمتمرغين فى هالاته .. دعونا أولا نأخذ القصة من مصدرها البدئى التوراتى ثم نعرج على السرد الإسلامى لها .
وَحَدَثَ جُوعٌ فِي الأَرْضِ، فَانْحَدَرَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ، لأَنَّ الْجُوعَ فِي الأَرْضِ كَانَ شَدِيدًا. 11 وَحَدَثَ لَمَّا قَرُبَ أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَ أَنَّهُ قَالَ لِسَارَايَ امْرَأَتِهِ: «إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ امْرَأَةٌ حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ. 12 فَيَكُونُ إِذَا رَآكِ الْمِصْرِيُّونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هذِهِ امْرَأَتُهُ. فَيَقْتُلُونَنِي وَيَسْتَبْقُونَكِ. 13 قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي، لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ». 14 فَحَدَثَ لَمَّا دَخَلَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ رَأَوْا الْمَرْأَةَ أَنَّهَا حَسَنَةٌ جِدًّا. 15 وَرَآهَا رُؤَسَاءُ فِرْعَوْنَ وَمَدَحُوهَا لَدَى فِرْعَوْنَ، فَأُخِذَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ، 16 فَصَنَعَ إِلَى أَبْرَامَ خَيْرًا بِسَبَبِهَا، وَصَارَ لَهُ غَنَمٌ وَبَقَرٌ وَحَمِيرٌ وَعَبِيدٌ وَإِمَاءٌ وَأُتُنٌ وَجِمَالٌ. 17 فَضَرَبَ الرَّبُّ فِرْعَوْنَ وَبَيْتَهُ ضَرَبَاتٍ عَظِيمَةً بِسَبَبِ سَارَايَ امْرَأَةِ أَبْرَامَ. 18 فَدَعَا فِرْعَوْنُ أَبْرَامَ وَقَالَ: «مَا هذَا الَّذِي صَنَعْتَ بِي؟ لِمَاذَا لَمْ تُخْبِرْنِي أَنَّهَا امْرَأَتُكَ؟ 19 لِمَاذَا قُلْتَ: هِيَ أُخْتِي، حَتَّى أَخَذْتُهَا لِي لِتَكُونَ زَوْجَتِي؟ وَالآنَ هُوَذَا امْرَأَتُكَ! خُذْهَا وَاذْهَبْ!». 20 فَأَوْصَى عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ رِجَالاً فَشَيَّعُوهُ وَامْرَأَتَهُ وَكُلَّ مَا كَانَ لَهُ.
أما القصة الإسلامية فلا تختلف كثيرا عن سابقتها التوراتية .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( بينما إبراهيم عليه السلام ذات يوم و سارة ، إذ أتى على جبّار من الجبابرة ، فقيل له : إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه ، فسأله عنها فقال : من هذه ؟ فقال له : أختي ، فأتى سارة فقال : يا سارة ، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي ، فلا تكذبيني ، فأرسل إليها ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده ، فأُخذ ، فقال : ادعي الله ولا أضرّك ، فدعت الله فأُطلق ، ثم تناولها الثانية فأُخذ مثلها أو أشد ، فقال : ادعي الله لي ولا أضُرّك ، فدعت فأُطلق ، فدعا بعض حجبته فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتموني بشيطان ، فأَخدمها هاجر ، فأتته - وهو يصلي - ، فأومأ بيده : مهيا ، قالت : ردّ الله كيد الكافر - أو الفاجر - في نحره ، وأخدم هاجر ) رواه البخاري .
عندما نتأمل هذه القصة سنجد أشياء تدعو للدهشة والإمتعاض بل الخجل .!! .. فالنبى إبراهيم كذب وأخطأ بينما فرعون هو من دفع الفاتورة ونال اللعنات !! ..بل نتلمس أن إبراهيم خليل الله قد فقد كل الثقة فى الإيمان بإلهه الذى كثيرا ً ما تحاور معه وتلمس قوته كما يَدعون . الغريب فى الأمر أيضا ً أن الكذب لم يكن طلبا ً للنجاة فقط ولكن وصل إلى مستوى قمئ بالتفريط فى الشرف حتى يُبقى على حياته وينال خيرا ً من غنم وبقر وحمير .!! ..فى مشهد لا يمكن وصفه إلا أنه يدعو للخجل .!!
قد يبحث المؤمنون عن قشة يتعلقون بها بزعمهم بأن إبراهيم إنسان ليس معصوما ً من الخطأ والخطيئة ..وبالرغم أن هذه الحجة غير مُقنعة بحكم أن المؤمن العادى والذى لم يعاين الله بقوته وجلاله سيعزف عن ممارسة مثل هكذا سلوك .. ولكن ما نريد ان نلقى عليه الضوء ويكون ذات أهمية ودلالة هو ان القصة حسب مشاهدها لم نرى فيها عقاب الله لإبراهيم أو توبيخه أو تأنيبه !!.. بل إكتفى الله أن يصب جام غضبه على فرعون البائس الذى إنخدع فى إبراهيم المُفرط .!! هنا مبعث الخطورة التى تحويها هذه القصة عندما نتأمل مشاهدها وصورها فلن تتركنا إلا بعد أن تُحدث شرخ فى معنى المصداقية .
ماذا تعنى هذه القصة لقارئها .. بلاشك من يقرأ هذه القصة سيحاول المرور عليها ليتجاوزها تحت تأثير هيمنة قداسة شخصية إبراهيم أبو الأنبياء .. وسيفلح فى التجاوز بلاشك ولكن لن تمر الأمور هكذا بدون أن تنهار قيمة ما تُختزن فى العقل اللاوعى كحال الطفل الذى ينظر لأبيه نظرة لا تخلو من المثالية ليجده بعد ذلك قد سقط فى حماقات مُخجلة.. فهو هنا لن يكره أبيه ولكن سيكون هناك شئ ما قد إنكسر ولم يعد كسابق عهده . وكذلك المؤمن سيختزن فى داخله هذا الخلل والإزدواجية فى اللاوعي وستتحطم قيمة مثالية بالضرورة طالما رضعها , ليجد طريقا ً فى داخله تُبيح له الكذب والتدليس وممارسة المناورات أو على الأقل إهتزاز القيمة , فقد مررت القصة معانى كثيرة لا سبيل لدفنها . *** التقية فى المسيحية .
قال بولس الرسول:" صرت لليهودى كيهودى لأربح اليهود.. وللذين بلا ناموس، كأنى بلا ناموس، مع أني لست بلا ناموس لله، بل تحت ناموس المسيح، لأربح الذين بلا ناموس , صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء .صرت للكل كل شيء لاخلّص على كل حال قوما وهذا انا افعله لاجل الانجيل لاكون شريكا فيه. " (اكو 9: 20 ، 21 (
هذا القول لبولس جاء فى إطار رغبته للتبشير بالمسيح والإنجيل ...فلم يجد غضاضة أن يكذب ويبدى ماليس فيه بغية أن تجد رسالته قبولا ً لجمهور المتلقين .. فبولس ليس يهوديا ً أو بلا ناموس بل أراد تصوير هذا للجانب الآخر حتى يحظى على ثقته . قد يقول قائل أن الغاية من كذب بولس هى غاية نبيلة تهدف للتبشير بقناعاته بالمسيح والإنجيل .. ولكننا نقول : ومن قال أن الكذب لا يتلحف أيضا ًبالغايات والتبريرات النبيلة . يبقى الكذب والنفاق هو كذبا ً ونفاقا ً ..وكل محاولة لتبريره ستفتح الباب على مصراعيه لكل كذب وتدليس ونفاق . فعندما تفتقد المصداقية وانت تبشر لرسالة المفروض أنها تدعو للصدق والشفافية فهنا نكون أمام إسلوب رخيص وغير مُبرر .. إن النوايا الطيبة لا يجب أن تُمرر على طريق مفروش بورود الغش والخداع .
*** التقية فى الإسلام . الإسلام ينفرد فى تمريره للكذب والنفاق من خلال رخصة وليس من خلال سيناريو قصة تمرر بين مشاهدها معنى .. فهو يصدر لنا مبدأ التقية .. والتقية تأتى من "وقاية" فمبدأ التقية فى الإسلام هو أن يكذب المسلم بلسانه ليقى نفسه أو يقى المسلمين من الضرر. هذا المبدأ يتيح للمسلم الحرية فى أن يكذب فى ظروف يعتقد بأن حياته فيها مهددة أو سيناله سوء ما فحينها يمكنه أن يكذب بل وينافق آثرا ً السلامة .. فمثلا ً قد تصل الأمور أن يُعلن كفره بالله طالما يقول ذلك بلسانه ولا يعنيه فى قلبه !!... ويدل عليه فى قوله : ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم )
شأن معظم الآيات فى القرآن فقد نزلت الآية لمعالجة موقف محدد فقد أخرج ابن ماجة بسنده عن ابن مسعود ما يؤكد نزول الآية بشأن عمار بن ياسر وأصحابه الذين أخذهم المشركون في مكة وأذاقوهم ألوان العذاب حتى اضطروا إلى موافقة المشركين على ما أرادوا منهم . ولنا ان نسأل هنا : مامعنى أن يكذب المرء ويتنكر من إيمانه فى أمر لن يكون الإيمان له أى معنى بإنكاره ؟!.. فالإيمان يقوم فقط على التمسك و التشبث والتضحية من اجل إظهاره لأنه لا يكون إلا إعلان عن كينونة وهوية وإشهار العبودية لله والتى لا تستقيم بدون الإفصاح عنها وإلا تغدو بلا معنى بالنسبة للإنسان أو الإله .. فلا معنى ولا قيمة له إذا كان سيتوراى ويرتجف أمام أى طاغية . !! ثم يطل علينا السؤال التقليدى : هل الآيات خاصة بزمان وأشخاص محددون وأنه لا سبيل لتفعيلها والإمتثال لها وإعتبارها نموذج ومنهج حياة ؟! ..ولكن المؤمنون يرفضون هذا الأمر بإعتبار أن القرآن صالح لكل زمان ومكان .. وهذا يعنى أن أى مسلم يمكنه تطبيق هذه الآية على الظرف الذى يراه ملائما ً لإنكار إيمانه مما سيخلق إشكاليات جمة فى تعامله مع الإخرين ونظرة الإخرين له كما سنرى .
تأكيدا ً لمبدأ التقية سنجد فى سورة آل عمران تصريح آخر .. "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير". سورة آل عمران 28:3.
قال الزمخشري في تفسير : ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) : ( إلا أن تخافوا أمرا يجب اتقاؤه تقية . . رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة : مخالفة ومعاشرة ظاهرة ، والقلب بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع ) . بناء على هذه الآية يمكن للمسلم أن يتظاهر بمصادقة الكفار وموالاتهم بالرغم أن هذا يتعارض مع نصوص كثيرة بالقرآن تدعو لعدم موالاة الكافرين وأهل الكتاب ولكن هذه الآية ستمنح المسلم الرخصة بالكذب والنفاق والتظاهر بمراعاة الكافرين حتى يتقى شرهم "إلى أن تتقوا منهم تقاة"..بينما القلب مُشبع بالعداوة والبغضاء .!!
هذا المبدأ يتيح فيه الإسلام للمسلم أن يكذب ولا يكون لديه مصداقية بل يرتكب الكثير من المحرمات كإنكاره الإيمان بالله والكتب وموالاة الكافرين وأهل الكتاب طالما الظرف المواتى يُدفعه لذلك .. وهنا لا عزاء للإيمان والتضحية والتشبث بالحق والمصداقية .!! لن تمر الأمور هكذا بدون أن تعطى صورة سلبية لدى الآخر عن المسلمين فليس ما يقولونه صحيحا ً .. فلا يكون كلامهم أكثر من أقوال فى الهواء يلحفها النفاق يأملون من وراءها الأمان ولكن قلوبهم غير صافية بل مشحونة بالعداوة والبغضاء كما قال الزمخشرى , فما أن تجد ظرفا ً مواتيا ً فستنطلق .!
نخلص من هذا إلى بعض الصور التى يهمنا أن نلقى الضوء عليها .. إننا بصدد إزدواجية أخلاقية ستعطى نتائج سلبية تقوض القيمة وتشوهها فتحريم الكذب والنفاق فى موضع وتحليله وإباحته فى موضع آخر سواء بشكل صريح أو ضمنى سيهدم القيمة ويجعلها خاوية وغير أصيلة . ستسمح هذه الإزدواجية بفتح الباب لكل مؤمن بما يراه ويتوهمه مناسبا ُ لممارسة الكذب والخداع والنفاق فلا يحس بأنه إرتكب خطأ بكذبه ونفاقه ..فيكفى أن يرى بمنظوره بأن هناك خطرا ً أو مصلحة تقتضى ذلك فتصبح الأمور مائعة وتقديرية ومزاجية لا يحكمها إطار بقدر ما يحكمها مزاج وهوى ونفوس ضعيفة .
المؤمن عندما يرى سلوك أبو الأنبياء وهو يكذب بهذا الشكل الرخيص فلن يلعنه .. فهو مقدس لديه ولكن لن يمر هذا الحدث دون أن يدمر شيئا ً ما شأنه شأن الطفل الذى يرى أبيه مثاليا ً ثم يجده يتساقط أمام عينيه بأفعال متناقضة عما يطرحه عليه ويراه رائعا ً .. فهنا لن تنشأ الكراهية بديلا ً عن الحب ولكن من المؤكد أن هناك مثالية ما قد تشوهت وأصابها الشروخ . هكذا الحال فى الإيمان الدينى ستمر قصة الكذب والنفاق والخداع بحكم الميراث العاطفى بل يُمكن أن نبحث لها عن مبرر .. ولكن فى الداخل الإنسانى تم تشويه قيمة ولم تعد أصيلة بل تميعت فيمكن أن أتعامل بزيفها لاحقا ً .
الكذب والنفاق يعطى دلالات على الضعف الإنسانى ومحاولة البحث عن مصلحة بخداع الآخرين لذلك هى فاسدة لأنها تبنى مصالحها على الغش والخداع والتدليس ... وهذه العمليات الإلتفافية والتبريرية تعنى إنهيار القيمة .
التبرير الساذج بأنك تكذب لتحافظ على حياتك أو لمنفعة ما كما فعل إبراهيم أو عند مواجهتك للطغاة أو حتى لتدعو لرسالة نبيلة هو تبرير سخيف .. فماذا يعنى الإيمان إذا كنت عند أول منعطف ستتنصل منه ولا تثق فيه وليس لديك القدرة على التضحية من أجله .. ألا يكون الإيمان هو القدرة على البوح والتشبث بما تعتقد لتبين مصداقيتك أمام الإله ...أم ان الإيمان يكتفى بترديد بعض الكلمات السخيفة والحركات الغبية .. وهل الإله جدلا ً يرضى بأن تضع فى حساباتك سطوة الطغاة وتنسى سطوته وقدرته وحقه .. ماذا تبقى لمعنى الإيمان بعد ذلك ؟! ألا يعنى الإيمان هو الثقة بالله الذى تحيطه بهالات رائعة من القوة والقدسية والجلال .. فأين ذهبت هذه الثقة بالكذب والخداع ونفاق أهل القوة ...وكيف نفسر فى المقابل وجود فلاحين شيوعيين بسطاء بأحراش فيتنام ضحوا بحياتهم فى سبيل إعلاء مبادئهم وعدم التنازل عن أحلامهم بينما يُمكن للمؤمن الهروب عند أول منعطف آثرا ً السلامة ومتحليا ً بالكذب والنفاق .
القيمة هى قيمة ولا تحتمل الإلتفاف حولها أو السماح بجزئية معينة لتفتح الباب واسعا ً أمام كل إنسان أن يبرر كذبه ونفاقه فالسلوك البشرى ليس فى قالب محدد .. فمن أجل قضية التبشير سأكذب وأنافق .. ومن اجل الصلح بين الزوجين سأمارس الكذب بل سيجعل أى إنسان يمارس الكذب والنفاق وفقا ً لما يراه ليقنع نفسه بأن كذبه وعدم مصداقيته هو من أجل هدف سامى .
معنى أن تجد مبرر للكذب من خلال قصة أو نص سيتيح لك أن تتلون وتخدع وتنافق وتجعله منهج لحياتك وسيترتب عليه فقد الآخرين الثقة فيك طالما أدركوا أنك تمتثل لمنهج التقية والكذب والنفاق فى تعاملك ... فما الذى يجعلنى أثق فى إلتزامك بالمعاهدات والمواثيق والإتفاقيات طالما أنك تعتبر إمتثالك الحالى ليس أصيلا ً فيمكنك أن تتنصل منها متى أتيحت لك ظروف مغايرة ...سيخلق بالضرورة شعور دائم بالتوجس والحذر تجاهك مما يعنى تأسيس وتأصيل عداوات وكراهية ومؤامرات بالضرورة .
نعم توجد آيات ونصوص داعية للصدق ومنفرة للكذب والخداع .. ولكن عندما تفتح أبواب خلفية وإستثنائية فقد إنهارت القيمة وأصبحت مشاعا ً لكل البشر فى أن يمارسوا الغش والخداع ليجدوا تبريرات حاضرة أو إستدعاء مشاهد سابقة لأنبياء مارسوا الكذب .
الأديان تقدم لنا إزدواجية فى التعامل فهى تطالبك بالصدق مع جماعتك البشرية لخلق مجتمع سليم ولن تتورع فى ان تمنحك رخصة و أبواب خلفية لممارسة الغش والخداع والتدليس مع الآخر المتمثل فى فرعون والكفار لتُمارس سلوك إنتهازى مُنافق بضمير مستريح و مظلة تمنح سلوكنا البشع درجة من القداسة .
الأديان بشرية الهوى والهوية فلم تسقط من السماء ولا هى جاءت من تحت الأرض بل هى رؤية وإحساس وفكر إنسان قديم مارس سلوكه وفقا ً لمصالحه الذاتية وتوزاناته الخاصة ودرجة وعيه الحضارى . المصيبة ان هذه النصوص المُمعنة فى إزدواجيتها وجدت طريقها للواقع بعد أن لحفها التابعون بالمقدس فنجدها تصدر لنا رؤية أخلاقية ومنظومة سلوكية لإنسان قديم تعامل مع الأمور كما يراها ولكن المؤسف أنه يُراد لها أن تظل سارية المفعول لتنتهك بالضرورة حاضرنا ومستقبلنا بمنظومتها الخربة المتهافتة التى تحمل فى أحشائها معانى النفاق والكذب وعدم المصداقية .
دمتم بخير .
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هموم مصرية ( 1 ) قراءة فى ملف الأقباط .. إلى أين تذهب مصر ؟!
-
خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم ( 5 ) - نحن نخلق آلهتنا و
...
-
خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم ( 4 ) - الله محدود أم غير
...
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 17 ) - الإرهابيون لماذا هم هكذ
...
-
خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم ( 3 ) - من يُطلق الرصاص ؟
...
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 10 ) - صور متفرقة .
-
خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم ( 2 ) - إختار الإجابة الص
...
-
خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم ( 1 ) - العالم ديّ بتستهب
...
-
نحن نخلق آلهتنا ( 10 ) - الله جعلناه لصا ً .
-
* الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 16 ) - تعلم كيف تكره فهو أوث
...
-
لماذا يؤمنون ..وكيف يعتقدون ( 10 ) - إبحث عن الذكر .
-
تديين السياسة أم تسييس الدين ( 5 ) - آيات حسب الطلب .
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 9 ) .
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 15 ) - كيف تكون مزدوجا ً فاقدا
...
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 8 ) - لن نرى حضارة طا
...
-
لماذا يؤمنون ..وكيف يعتقدون ( 9 ) - فوبيا الآخر والشيطان ..إ
...
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 7 ) .
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 14 ) - كيف تكون متبلدا ً و مست
...
-
نحن نخلق الأسطورة والميثولوجيا والحلال والحرام ويمكن أن نسرق
...
-
تأملات فى الإنسان والإله والتراث ( 4 ) - وهم الخطيئة والذنب
...
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|