|
النقد النيتشوي للمسيحية*
كريم الصامتي
الحوار المتمدن-العدد: 3202 - 2010 / 12 / 1 - 14:54
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
النقد النيتشوي للمسيحية* كان نقد نتشه للأفكار الدينية نقدا عنيفا و عدائيا، معتبرا أن الروح الدينية هي ظاهرة منحرفة تحاول أن تحط من قدر الإنسان و تَحُولَ دون تأكيده لذاته، إذ "تنسب نَوَاتِج الذهن الإنساني إلى مصادر أخرى تعلو على هذا الذهن" 1. إن هذا النقد النتشوي للدين، كما سنرى، هو مقدمة لنقده للمسيحية التي كان يرى أنها مليئة بقيم الانحلال، سالبة لإرادة الإنسان، لكونها صورة للروح الدينية ، التي تهدف إلى إماتة الحياة. كما أن نقده هذا، بالإضافة إلى ما قلناه، كان نتيجة تمجيده لنمط الحياة اليونانية التي لم تكن تنتصب ضد نمو القوى الطبيعية للإنسان، في رأيه، بخلاف العقيدتين المسيحية و اليهودية، اللتين كانتا تضربان سورا منيعا يحول دون تحقيق ذلك. .يقول نتشه׃ " إن ما يدهش الذي ينظر في عالم الإغريق (...) هو اكتشافه أنهم كانوا (...) يقيمون احتفالات تشبه الأعياد بكل أهوائهم، بكل ميولهم الشريرة الطبيعية، و أنهم قد وضعوا برنامجا للاحتفالات التي كانت تقام لحوائجهم الإنسانية. هذا هو الشيء الوثني المحض في عالمهم ، وهو ما لم و لن تفهمه المسيحية أبدا، وقد حاربته بضراوة و احتقرته بقسوة . لقد كانوا يعتبرون تلك الجوانب الإنسانية شيئا لا مفر منه، و كانوا يفضلون عوض أن يذلوها أن يُخَوِّلُوها نوعا من القوة من الدرجة الثانية، وذلك بإعطائها مكانا ضمن عادات المجتمع و طقوس العبادة، بل أكثر من ذلك لقد كانوا يُسَمُّون كل ما له شيء من القوة في الإنسان شيئا سماويا (....) انهم لا يجْحَدُون الغريزة الطبيعية التي تعبِّر عن نفسها في المزايا القبيحة، بل يضعونها في مكانها ..." 2 . لقد جاء رفض نتشه للمسيحية، لما تنطوي عليه من خطر عميق يهدد الإنسان، و يحول دون تحقيقه لذاته، فالمسيحية في، نظر نتشه، هي مصدر الأوهام، لأنها زيفت أحكامنا عن الخير والشر، و خنقت كل الأفكار التي من شأنها أن تدفع بالإنسان لتجاوز ذاته، بأن " وضعت الإنسان في راحة داخلية و رضى عن نفسه، و إذعان للواقع، و أخيرا وضعته في حالة من سوء الطوية"3 . فالمسيحية دفعت الإنسان، تبعا لهذا، إلى التنازل عما هو له إذ " لاوجود للعظمة [الإنسانية] **، إلا في الحرية التي يبني بها الإنسان لنفسه في الصراع و القلق مصيرا جديرا به " 4. الديانة المسيحية تناقض الطبيعة، في الفكر النيتشوي، و تمثل إفسادا للغرائز الإنسانية. لقد ضللت الفلسفة الأوروبية التي يجري في عروقها دم اللاهوتيين5، وذلك بسبب طابعها الرعاعي، وبسبب القيم الشعبية التي تسود فيها، ولأنها بدلت منظور القيم و جعلت من كل " قيمة لا قيمة ومن كل حقيقة كذبا "6 . لقد أهانت قيم الإنسان و صيرته رسما ساخرا مثيرا للشفقة، حاقدا على نفسه ممتلئا غيضا ضد الدوافع الحيوية فيه، لقد "أفسدت الإنسان، أضعفته لكنها ادعت أنها أصلحته" 7. هكذا بين نتشه، كيف تخلت المسيحية عن الحقيقة، ولجأت إلى الزيف للتأثير على الناس، مدغدغة مشاعرهم و مثيرة انفعالاتهم، رافضة كل ما يمكن أن يثير المقاومة مثل العقل، و الفلسفة، و الحكمة، مصرة إصرارا عنيدا على أن العقيدة من عند الله. و أنه لا مجال، إذن، للنقد و الفحص، إذ ينبغي، فقط، التسليم و الاعتقاد يقول نتشه׃ " لن يفكر الناس أبدا في كون المسيحية ديانة القدم المنهوك إنها تفترض وجود شعوب قديمة متحضرة و منحطة أمكنها و لا يزال في إمكانها أن تفعل فيها فعل البلسم، في عصور تكون فيها العيون " عليها غشاوة " والأذان" فيها وقر" و عاجزة بالتالي عن سماع صوت العقل أو الفلسفة، و عن رؤية الحكمة تمشي جسدا حيا..." 8. بهذا الشكل ولدت الشعور بالحقد والتعصب لدى الفاشلين، و المضطهدين، والفقراء، و الضعفاء، والمنبوذين، الناشئ عن العجز في إرادة القوة . فقادت بذلك حربا شعواء على نموذج الإنسان المتفوق . وما يلزم الإشارة إليه، ها هنا، هو أن نتشه قد ميز في هجومه على المسيحية، بين مسيحية أولى و ثانية، فكان يدافع عن المسيحية في صورتها الأصلية كما أتى بها يسوع المسيح، الذي كان، في نظره، مغمورا بالحب و مؤسسا له . فالمسيح كان على وعي كامل بأن مملكة الله مقرها القلب، لا يمكن أن نمني أنفسنا بواقعيتها، إذ " لا ماض لها و لا مستقبل و هي لن تأتي [ولو]*** بعد ألف عام لأنها شيء نحسبه بالقلب، و شيء موجود في كل مكان، و لا يوجد في أي مكان " 9. وهو يعني بذلك أنه لاوجود إلا لمسيح واحد مات هو وإنجيله على الصليب . والتغيرات التي عرفتها المسيحية فيما بعد، ما هي إلا منتوج نظام صاغته الكنيسة، بقساوستها و طقوسها ولاهوتيتها، وهو ما كان السبب في انحرافاتها التاريخية. فهي التي شنت (أي الكنيسة) بقيادة رجالها حربا منظمة ضد المسيحية، موجها كلامه إلى هؤلاء ساخرا منهم: " أريدكم أن تتعلموا السلوك المسيحي على الأقل ما دام أدب القلب المسيحي ينقصكم " 10. و كما سبقت الإشارة، فإن نظرة نتشه إلى المسيحية، كانت متأثرة بإعجابه الشديد بشكل الحياة اليونانية، فلقد كانوا يحملون آلهتهم نتيجة أخطائهم و يستعملونها لتبرير أعمالهم، كما أنهم كانوا يستمدون منها الحق في الاستمتاع بهذا العالم، على خلاف الإله المسيحي المزعوم، الذي لا ينفك يثقل كاهل البشر بالخطايا و يدعوهم إلى ازدراء هذا العالم . جاء في رسالة يوحنا الأولى " لا تحبّوا العالم و ما في العالم، من أحب العالم لا تكون محبة الأب فيه، لأن كل ما في العالم من لذة الجسد ولذة العين ومجد الحياة ليس من الآب، بل إنما من العالم [هذا ]****العالم الذي [سوف] ***** يزول ومعه لذاته " 11. بهذا المعنى يرى نتشه بأن المسيحية مجسدة في الكنيسة، هي العدو المميت لكل ما هو كريم على الأرض، والداعية لأخلاق العبيد، الرافضة لكل عظمة إنسانية، فهي لا تتعدى أن تكون مؤسسة من المرضى تقوم بتهريب العملات الزائفة 12 . وبهذا تظل المسيحية "شوكة في الجسد" كما يقول كيركجارد، تؤرق الفكر الأوروبي وتدفعه إلى أن يلفضها بعيدا ويتجند لمقاومتها. فكل التشكيلات الأيديولوجية من ليبرالية، و اشتراكية، و ديموقراطية، و كل مُثُل العصر الحديث من عدالة، و مساواة، و خير، و كذلك الفلسفة و الأخلاق، كلها أتت كرد فعل على المسيحية و محاولة القضاء عليها في نفس الآن13 . فهذه التشكيلات هي منتوجات هذه المسيحية الفاترة القوة، كلها " قيم مسيحية مقنعة، مساعدة الضعيف من حيث هو موجود بيولوجي، بصرف النظر عن غبائه أو ذكائه، رفض استعمال العنف، كل ذلك انحرافات أصلية من اليهودية و المسيحية في عصورها القديمة " 14. فكل هذه المثل، كما يرى نتشه، لا تعدو كونها نفاقا وبعيدة عن الواقع ، فإذا ما انهدمت انكشفت العدمية كنتيجة للمسيحية التي انحرفت منذ نشأتها، عندما تحولت من مجرد إيمان قلبي فردي، إلى عقائد تاريخية تقود و تسير الإنسان أنا شاءت******. --------------------------------- هذا المقال الفلسفي محور من فصل بحث أكاديمي قمت به سنة 2005 حول نقد نيتشه للفكر الديني.
* نلفت الانتباه إلى أن نتشه عندما يتحدت عن المسيحية فانه يعني في غالب الأحيان الأديان عموما، أما عندما يريد الحديث عن التعاليم المسيحية على وجه الأخص فانه من خلال سياق كلامه نكشف ذلك. 1 فؤاد زكريا "نتشه" مرجع سابق ص 133. 2 نتشه فريد يريك :"إنسان مفرط في إنسانيته" ترجمة محمد ناجي الجزء الثاني إفريقيا الشرق 2001 ص 220 1 ريجيس جوليفيه:" المذاهب الوجودية" ترجمة فؤاد كامل مراجعة الدكتور محمد عبد الهادي أبو زيد الدار المصرية لتأليف والترجمة (بدون تاريخ) ص 62 * أضفت هذه الكلمة لتوضيح المعنى 2 ريجيس جوليفيه:" المذاهب الوجودية" مرجع سابق ص 66 3 جمال مفرج : "نتشه الفيلسوف الثائر" مرجع سابق ص 41 4 المرجع السابق ص 41 فريديريك نتشه: "أفول الأصنام" ترجمة حسان بورقية ومحمد ناجي إفريقيا الشرق الطبعة الأولى 1996 ص 59 6 نتشه فريد يريك :"إنسان مفرط في إنسانيته" الجزء الثاني المرجع السابق ص 76 * إضافة لربط السياق Nietzsche Friedrich : "l’Antéchrist" édition 10/18 , 1967 France
2 نتشه فريد يريك :"إنسان مفرط في إنسانيته" الجزء الثاني المرجع السابق ص 33 * أضفت هذه الكلمة لربط السياق ** أضفت هذه الكلمة لربط السياق « Neveau Testament » première lettre de jan, société biblique, française 1996 France page 653 N’aimez pas le monde, ni rien de ce qui appartient au monde, si quelqu’un aime le monde , il ne possède pas en lui d’amour pour le père, tout ce qui appartient au monde les mauvais désire de possède ce que l’an voit et l’orgueil suxité par des biens terrestres tout cela vient non pas du père , mais du monde, le monde et en les hommes trouvent à y désirer … » 2 حسن حنفي " بين ياسبرز ونتشه" أوراق فلسفية العدد الأول نونبر 2000 مطبعة العمرانية للافيست الجيزة ص32 3 نفس المرجع السابق ص 39 4 نفس المرجع السابق ص 39 * نجد لدى ياسبيرزJaspers تحليلا لهذا الموقف النتشوي من المسيحية، فهو يعتبر عداء نتشه للمسيحية ليس في الحقيقة إلا نتيجة لميول مسيحية و يفسر نصوصه ويعارض بعضها ببعض لبيان الأفكار المسيحية الكامنة فيها، على الرغم من معناها الظاهر الذي يدل على عداء نتشه للمسيحية، فيلجأ إلى التأويل ليبرز المعنى الباطن لهذا النص أو ذاك. مثلا عندما يعتبر نتشه القساوسة أقزاما شريرة، من جنس الطفيليات، من حلت عليهم لعنة العالم .... نجد بالمقابل صفات أخرى يأتي بها ياسبيرز Jaspers لهؤلاء القساوسة ذكرها نتشه في سياقات أخرى فيعارض هذه بتلك، كما لجأ إلى منهج التحليل النفسي ليبرز أن عداء نتشه للمسيحية إنما يظهر ارتباطه الشديد بها . (Jaspers Nietzsche et la chrétienisme
#كريم_الصامتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- بلدي وإن جارت علي عزيزة-
-
طموح المغرب التنموي وهواجس الجيران
المزيد.....
-
إيران تعلن البدء بتشغيل أجهزة الطرد المركزي
-
مراسلنا في لبنان: سلسلة غارات عنيفة على ضاحية بيروت الجنوبية
...
-
بعد التهديدات الإسرائيلية.. قرارت لجامعة الدول العربية دعما
...
-
سيناتور أمريكي: كييف لا تنوي مهاجمة موسكو وسانت بطرسبرغ بصوا
...
-
مايك والتز: إدارة ترامب ستنخرط في مفاوضات تسوية الأزمة الأوك
...
-
خبير عسكري يوضح احتمال تزويد واشنطن لكييف بمنظومة -ثاد- المض
...
-
-إطلاق الصواريخ وآثار الدمار-.. -حزب الله- يعرض مشاهد استهدا
...
-
بيل كلينتون يكسر جدار الصمت بشأن تقارير شغلت الرأي العام الأ
...
-
وجهة نظر: الرئيس ترامب والمخاوف التي يثيرها في بكين
-
إسرائيل تشن غارتين في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بعشرات
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|