|
التابوت..قصة
مجدي السماك
الحوار المتمدن-العدد: 3202 - 2010 / 12 / 1 - 05:55
المحور:
الادب والفن
التابوت بقلم: مجدي السماك بعد أن لهثت أفواه، وتقطّعت أنفاسها، حتى كادت أن تخبوا في صدور استفحل فيها الأسى واستبد.. اجتازت الجنازة الطريق الطويل الضيق على ما فيه من حفر ومطبات.. ثمّ وصلت إلى طرف المقبرة الواسعة المكتظة بقبور محشوة بأموات دفن معظمهم بلا توابيت. ومع أن الدنيا في بداية أيام الصيف.. سوى أنه كأنما استقرت فوق رأس كل واحد من المشيعين، على ارتفاع شبر أو شبرين، قطعة جمر في غاية الضخامة كأنما سقطت لتوها عليهم من جهنم. بعد أن حطّوا التابوت العظيم الجميل المدهون بالورنيش على الأرض، قرب القبر الجديد المفتوح، الذي يكفي اتساعه لابتلاع عدة رجال، وقد يبقى مكانا لطفل صغير أو طفلين.. وقفت الجموع في صفوف مضبوطة لأداء الصلاة. وعندما صارت شفاههم جاهزة وأفواههم على أهبة الاستعداد.. طار بهم خاطرهم، وعاد إلى بداية حكاية ظنوا حينئذ أنها عادية.. مثل كل الحكايات التي تصادفهم يوميا في أحياء غزة وشوارعها. في ذلك اليوم كان الحاج عبد الباقي جالسا في منجرته التي أنشأها قبل أربعين عاما. يمسك في يده خرطوم الشيشة.. يحدق بنهم إلى ألواح الخشب التي كسدت وهي مرصوصة أمامه كالعمل الرديء.. والتي لم يستطع مع كل ما بذله من جهد وحيل ومراوغة أن يجد لها أي تصريف.. وفي تلك اللحظة كانت شفتاه الرفيعتان تحتضنان مبسم الشيشة، التي أشعلها بعد أن تناول فطوره وأتبعه بلتر من الماء. في هذا الوقت بالضبط.. شاهد الشاب محمود قادما من بعيد، أو هكذا هيئ له عبر الدخان الذي كان ينفثه كثيفا من فمه وأنفه. الدخان الذي كان باستمرار يتلوى وهو يتصاعد منتشرا في جو المنجرة، ويتشعب مكونا أغصانا وفروعا لها جذور تغور عميقا في صدره. ثم قام الحاج عبد الباقي متكئا بكفه على الحائط القديم المليء بالمسامير الصدئة.. وجأر بأعلى صوته الواطئ المتهدم: محمود.. يا شيخ محمود. وعلى الفور عاد إلى كرسيه خلف الطاولة المرتفعة.. وجلس متحصنا بجذع عريض من دخان مخلوط برائحة غريبة قادمة من وسط السوق. بعد هذا ببرهة حضر الشيخ محمود يرفل بجلبابه الهفهاف الأبيض، يسبقه عطره الطبيعي الفواح الخالي من الكحول، ويدق بقدميه الأرض حتى ليكاد أن يحفر بها شقوقا وأخاديد.. عند العتبة وقف.. ثم بخشوع ردّ السلام. فردّ عليه الحاج عبد الباقي سلامه بسلام أحسن.. وأجلسه على كرسي نظيف كان قد مسحه بالخرقة منذ ساعة. وفي الحال قدم إليه كوبا من الشاي وكانت البسمات لا تزال تتطاير من عينيه وتندلق من شفتيه وهو يكثر من عبارات الترحيب.. فساد طقس حميم. ثم على الفور في هذا المناخ الودي المأنوس.. بدأ الحاج عبد الباقي يعرض خدماته على الشاب محمود.. الذي تخرج قبل عامين في مدرسة الأوقاف قسم الشريعة.. - لدي عرض رائع يا شيخ محمود.. مناسب لك تماما.. فرصة لا تعوض. - اللهم اجعله خيرا.. ما هو عرضك يا حاج عبد الباقي؟ حدق الحاج إلى هنا وهناك، وقال في سره يا رب يوافق.. ثم من فوق الطاولة المرتفعة دفع من فمه بصقة كبيرة انطلقت كالقذيفة والتصقت بجدار حاوية القمامة التي تنتصب في الشارع خارج المنجرة.. وقال وهو يحاول أن يفرد وجهه الذي بدأ يتقلص.. - أريد أن افصل لك تابوتا فخما يليق بمقامك.. فعندي من الأخشاب ما يكفي لذلك. هنا، انقبضت ملامح الشيخ محمود وتقاربت، وتجمعت كلها في وسط وجهه كمن يريد أن يعطس.. وسأل وكان قد بدأ يشك في مدى صلاحية أذنيه في اقتناص الكلام.. - تابوت؟! لكنني شاب! وأنت رجل طاعن.. فأنت أحق مني بالتابوت وأجدر به يا رجل.. يا دردبيس.. رجلك والقبر. - أنت حافظ لكتاب الله.. وتعلم أن الأعمار بيده. الله قهر الناس بالموت. - ما حاجتي إلى التابوت وأنا قد تزوجت منذ ستة شهور فقط. - إذا لم تنتفع به أنت.. قد ينتفع به أبوك أو أمك، أو حتى واحد من أولادك في المستقبل. فلا يذهب ثمنه خسارة. النفع مضمون. تدفقت من فم الشيخ محمود قهقهة طويلة سرعان ما انشطرت إلى أجزاء متقطعة تسرب بعضها من خلال الباب، وتناثر بعض شظاياها عبر النافذة الوحيدة المطلة على سوق البهائم من الناحية الخلفية. لكن الحاج عبد الباقي قطع عليه قهقهته.. وأسكته في الحال. وراح بانفعال شديد ومكر أشدّ يشرح له مهارته كي يغريه ويجعله يوافق على الصفقة. وأخذ بإسهاب يمدح قدرته ومهارته العالية.. وأخبره كيف أتقن ذات يوم مهنة النجارة قبل أربعين عاما وهو في سن الشباب المبكر. في ذلك الزمن صنع كرسيا كبيرا من الخشب الأصلي.. كان أول كرسي يصنعه في حياته. ولروعته وبهجته أخذ في كل يوم يجلس عليه زوجته رحمها الله.. ويحملها وهي جالسة متربعة على الكرسي الضخم ثم يدور بها ويلف في الحوش الواسع وهي غارقة في ضحك صاخب رنان. وكان في كل مرة يقطع الحوش جيئة وذهابا بلا تعب عدة مرات من الجدار إلى الجدار حتى تكف عن الضحك أو في الأقل تخففه.. وبعد هذا تقلع عن الغنج. كاد الشيخ محمود أن يقاطعه ليتحدث ويعترض وهمّ أن يقوم ليذهب. لكن الحاج لم يأبه له وأجلسه وأسكته بكلمتين من كلامه المنّمق الرقيق.. واستمر يصّب كلامه وإغوائه صّبا. اسمع يا شيخ محمود.. سوف اجعل التابوت يبدو مثل القصر لمن يشاهده من بعيد. وسوف أدهنه بالطلاء وأقوم بعد ذلك بتلميعه إلى أن يصير براقا مثل السيراميك. أما بالنسبة إلى الثمن فلا تقلق أبدا.. سوف اخفض لك الثمن إلى أدنى حدّ ممكن..وستدفع تكلفته بالتقسيط. من المؤكد أنه سوف ينال إعجابك.. إنها فرصة العمر فلا تضيعها. سوف يقول عنك الناس إنك جاهز للقاء ربك.. وإنك تعمل من أجل آخرتك أكثر مما تعمل من أجل دنياك. لبرهة اندلع صمتان عظيمان رهيبان لفا المنجرة وما أمامها.. صمت الحاج عبد الباقي وصمت الشيخ محمود. وفجأة انفلتت الضوضاء ثانية حين صاح الشيخ محمود: سوف أفكر بالأمر. كلامك منطقي ومقنع يا حاج.. ربنا يكثر من أمثالك.. سأرد الجواب عمّا قريب.. ربنا يجيب ما فيه الخير. بعد يومين من الأخذ والردّ وافق الشيخ محمود على الصفقة. وبعد أسبوع صار التابوت جاهزا من مجاميعه.. بما في ذلك الفتحات الجانبية التي أعدّت للتهوية.. هذا عدا بعض الشراشيب. وعندما شاهد الشيخ محمود التابوت لم يستطع أن يصدق عينيه.. ودهش لمنظره الأخاذ.. وأعجبه جدا وكاد أن يطير من الفرح. ولكنه اكتفى بالقفز ملوحا بقبضته في الهواء. ثم كنّ وقال في نفسه بالفعل ستكون ميتة محترمة.. لم ينلها أحد من قبل ولن ينالها أحد من بعد. مد الشيخ محمود يده وفتح باب التابوت بفرح غامر كبير.. لكنه تفاجأ بوجود الحاج عبد الباقي ممدا في داخله.. مرتاحا في غاية الطمأنينة كأنه في بيته.. بل كأنه في غرفة نومه. فسأله بصوت منخفض يشوبه شك.. - ماذا تفعل داخل التابوت يا حاج عبد الباقي؟ - أقول لك بصراحة أنا غيرت رأيي.. التابوت أعجبني جدا. - ماذا تقصد؟ - أريد التابوت لي. لا أريد بيعه. فأنا أحق منك به. لقد صنعته أنا بيدي. - هل تراجعت عن الاتفاق؟ - نعم.. سوف أوفر عليك نقودك. - لكننا اتفقنا وانتهى الكلام. عيب عليك. - أنت أيضا لم تلتزم بالاتفاق.. لغاية الآن لم تدفع قيمة أول قسط. وعلّت بينهما مشادة كلامية سرعان ما لعلعت وانقلبت إلى خصام. كل واحد منهم يدعي أنه الأحق بالتابوت.. وراح كلاهما بكلمات غير لائقة يتهم الآخر بأنه هو الذي نبذ الاتفاق وهدّمه. ولم يقف بهما الأمر عند هذا الحدّ. ففي الحال حضر أقارب كل واحد منهم.. واشتعلت معركة استخدم فيها السكاكين والمناشير والشواكيش. فقتل الحاج عبد الباقي إثر ضربة سكين مزقت قلبه. وقتل الشيخ محمود بضربة شاكوش حطمت رأسه. وحضرت الشرطة. ثم بعد وقت تم وضعهما معا في التابوت الرائع الفخم. ثم انطلقت بهما الجنازة. بعد أن أتم المشيعون الصلاة.. انزلوا التابوت في القبر.. وأهالوا التراب، وانتهوا من مراسم الدفن. ورجعوا. وما هي سوى أمتار معدودة مشوها في طريقهم إلى الخروج.. حتى صاح واحد منهم: إن القبر ليس في اتجاه القبلة. لكن لم يأبه إلى كلامه أحد.. كأنما أذن من طين وأذن من عجين. الأول من ديسمبر 2010 [email protected]
#مجدي_السماك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليالي اغتصاب زينب
-
سؤال في الليل..قصة قصيرة
-
بدأت ليلة الزفاف
-
البنطلون المبلول
-
وجه شارد..قصة
-
الجندية المجهولة
-
وجبة كبيرة
-
عيون تنظر الى تحت
-
أيام الخميس .. قصة قصيرة
-
قبر من لحم
-
ربع ساعة اخرى
-
لعبة عروسة وعريس
-
رؤية خريفية
-
مملكة فنان ميت .. قصة
-
بائع العلكة الصغير
-
آهات وعرانيس ..قصة قصيرة
-
آهات وعرانيس .. قصة قصيرة
-
جهنم نحن وقودها
-
الهوية الفلسطينية في الطريق الى الضياع
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|