|
طقوس سامي عبد الحميد في مكبث (**)
جواد الحسب
الحوار المتمدن-العدد: 3201 - 2010 / 11 / 30 - 17:50
المحور:
الادب والفن
إن إعداد نص مسرحية (طقوس النوم والدم) والمأخوذ من عدة مشاهد لمسرحيات مختلفة، منها:(ماكبث) لـ (شكسبير)، و(تحيا الملكة) لـ (روبرت بولت)، و(سور الصين) لـ (ماكس فريش)، و(الأم شجاعة) لـ (برتولد بريخت)، و(جريمة قتل في الكاتدرائية) لـ (ت س اليوت) و(كاليغولا) لـ (البير كامي) لكن المحور الأساس لهذا الإعداد هي المشاهد المنتخبة لمسرحية (ماكبث). حيث أن هذه المسرحية هي "محاولة في خلق توليفة درامية ومسرحية محورها الدم المراق في صراعات السلطة والحروب والسعي نحو امجاد زائفة وهي (دخول درامي لعالم القتل والدم والاعتراف)."( ) تنفتح عتبة الاستهلال على تراتيل جنائزية تمهد للدخول في جو اللعبة المأساوية، وهي تنذر بالموت وحجم الدم الذي سوف يسفك بعد حين أثر الصراع على السلطة. تنفتح العلامات على فضح المسكوت عنه والمغيب الذي يقرأ من خلال التأويل، حيث ينحو العرض منذ البداية نحو الجو الكابوسي الكالح. ولاسيما أن (عبد الحميد) اشتغل على تقسيم المكان (البلاتو) إلى قسمين ليحقق من خلال ذلك تباين الثنائية الأبدية، الخير والشر، لقد كيّف العرض وفق آلية جديدة للتعامل مع المكان (البلاتو)، إذ إن الأماكن البكر يجدها في معظم الأحيان تحقق الدهشة والتواصل بشكل جيد مع المتلقي، ولقد أحدث في هذا العرض التمازج بين الاتجاهين التقديمي والملحمي. تنحو عروض (عبد الحميد) المنحى الانتقائي والتجريبي، على صعيد المدونات الأدبية والاتجاه الاخراجي في معالجاته المسرحية، حيث أن معظم النصوص التي يختارها للعرض تخضع لمشرطه، إذ إنه يحذف ما يجده فائض أو غير ضروري عن حاجة العرض، أو أن يضيف ما يجده مناسباً لتحقيق بنيته الفكرية والجمالية، ففي هذا العرض استندت رؤيته إلى ثيمة النوم والدم، التي أسس عليها اشتغالاته ومعطياته البصرية الممثل والسينوغرافيا. فهذه الفكرة المركزية (النوم والدم) تتصدر المنظومة الفكرية للعرض على أساس أن (الدم) هو الغاية الوحيدة أوالنتيجة الحتمية الوحيدة التي يحققها الصراع الذي ينتهي بمشهد الموت، ضمن أنساق الحركة والفعل في المكان (البلاتو). حيث تتمظهر عناصر السينوغرافيا بحضورها المتحقق مكانياً وفق آليات التعامل معه، ونبثاق لغتها المعبرة مع حضور الممثل."إن (طقوس النوم والدم) هي توليفة مسرحية لم تأخذ مداها الدرامي برغم وضوحها الفكري المعلن والمستتر. هذيانات مسرحية، حوارات متشظية، شخصيات ممسوخة. وكان العرض أشبه بحلم يقترب من كابوس كان قد أطلقه اللاوعي لدى مبدعي العرض."( ) تؤسس رؤيا (عبد الحميد) الاخراجية رسالتها الجمالية والفلسفية، بعرضها مأساوية العالم، وعلى (المتلقي) أن يدرك هذه المأساوية، لذا فهو يغادر الوضوح ويحقق وسائله بالإيحاء والترميز والتشكيل وصولاً إلى (المعنى) و(الهدف). استندت منظومة العرض التي انبنت مفرداتها إلى الشكل السردي المثقل بـ (سينوغرافيا) متحركة نجد أن (البانيو) أو هو الحمام المتحرك، يفتح ويغلق يسمح بدخول، وخروج (الضمير الهرم)، (مازن محمد مصطفى) الذي حل محل (الليدي ماكبث) في تحريضه لـ (ماكبث)، (فيصل جواد) على القتل. يعتقد (عبد الحميد) أن حلول الممثل الرجل محل الممثلة الأنثى لتجسيد دور (الليدي ماكبث) مناسب جداً، حيث غياب الممثلة التي يجدها (المخرج) تمتلك مواصفات الأداء المميز، التي يمكن أن يسند لها دور (الليدي ماكبث)، مستنداً إلى مقولة (الليدي ماكبث) نفسها حيث تقول: - تعالي أيتها الأرواح التي ترعى النوايا القاتلة، خذي نسائيتي ههنا واملأيني من الرأس إلى القدم بأفضع قسوة طافحة ! ليس هذا الخطاب يدل على أن (الليدي ماكبث) تريد أن تتخلص من أنوثتها، بل هي لا تمتلك الأنوثة أصلاً ، وفاقد الشيء لا يعطيه، حيث عبرت جميع حواراتها سواء الواعية منها وغير الواعية، أي بعد أن تصاب بالمرض، عن عدم وجود أنوثة لديها. بل وجود القسوة التي فاقت قسوة الرجال، ومن المعلوم أن (ماكبث)، الذي خاض الحروب وامتلك التجربة القتالية القاسية، وقف أمامها مثل جندي وديع، حيث يصاب بالحيرة حينما يواجه فعل القتل، فهي تحثه على قتل الملك بكل قسوة وشراسة، فتقول: - وحتى تضلل الناس، فابدُ لهم كما يبدون رحّبْ بهم بالعين، واليد، واللسان : ابدُ كالزهرة البريئة بيد أن الثعبان تحتها . فذلك الذي سيأتي يجب أن ُتهيَّـأ له الطبخة . وستترك لي تدبير الفعلة العظيمة هذه الليلة. ينفتح هذا المشهد على الفعل التحريضي، وعلى ابداء تعديل السلوك لـ (ماكبث) وفق ما أرادت (الليدي ماكبث)، حيث يصغي لكل كلمة تقولها. لقد كشف هذا الحوار على عمق الأفكار التي تتلاطم في المرجل النفسي لـ (لليدي ماكبث)، وهي الأنثى فجاءت فكرة إبدالها برجل بلباس امرأة، كتجسيد مناسب لشخصيتها وكينونتها وفعلها النفسي، لكي يتحقق التوازن والتطابق بين (الليدي) شكسبير و(الليدي) في عرض (عبد الحميد) والذي أحالها إلى (الشيخ الهرم) لعله اقتبس الفكرة من كتاب (شكسبير معاصرنا) " في هذا القران الخاص، الذي لم ينجب أطفالاً، أو إذا أنجبهم فقد ماتوا تلعب ليدي ماكبث دور الرجل وتطالب مكبث بالقتل تأكيداً منه على رجولته، كأنما هو جماع."( ) إن الذي دفع بالأحداث من مرحلة التحريض إلى مرحلة التنفيذ بشكل حقيقي هي (الليدي ماكبث) عبر التجسيد الرديف للمدونة (الشكسبيرية)، وإثارة الانفعال والتأثر في منطقة التلقي، حيث تكشف الدلالات المستترة في ثنايا النص التي يستنبطها العرض كصورة تمثل خطاباً متحركاً ومتموجاً ومشحوناً بالانفعال والحيوية والنشاط، حيث يفضي إلى انبثاق لغة من خلال الارتباط الأدائي بين (الممثل) و(عناصر السينوغرافيا). أن التأكيد على اللغة وتركيبها ضمن سياقات الحركة، حركة (الممثل) و(العناصر)، بوصفها أهدافاً مبصرة ودوال سيميائية تبزغ من خلال التشكيل والتكوين للصورة في المشهد، وفي فضاء العرض، جسد (الممثل) يتشكل عبر الممارسة وتجسيد الشخصيات، وهو يصيغ نصه ويشارك (المؤلف) في كتابة النص الأصلي، وذلك من خلال القراءة العميقة والمنقبة مابين السطورلتحقيق فعله الدرامي وذلك بتغيب الأنا عنده وإحضار ذاته المبدعة الذي يقيم عليها فعله التمثيلي ومساحة إبداعه. تأتي شخصية (المهرج) (أسيل عادل) على النحو الذي تكون فيه معلقة على الأحداث، فالصورة مستمدة من الذاكرة المشحونة بطاقة درامية ثاوية في بؤرة أعماقها لتعرض محمولاتها بقوة، ومكثفة بالحس الدرامي، لتغذية الوصف والتعريف بعيداً عن الانغماس في أحداث المسرحية، رغم أنه يشكل عنصراً فاعلاً في بنية المسرحية، إلا أنه في الوقت نفسه تجده بعيداً عنها، ذلك أنه عندما يعلق على الأحداث ويفسرها من خلال الآلية التي تميزه بهيئة كاريكاتيرية، أو كروتسكية، وبحركات مؤسلبة يبالغ فيها. وهو بهذه الحركات يضفي على ربطه للأحداث جواً مشوقاً، حيث يعلق عليها من خلال الإدلاء بشهادته للمتلقي، شارحاً ومفسراً، بطريقة ساخرة تهكمية (بارودية)، تتخللها البهرجة والاحتفالية. لقد أدرك (ماكبث) من خلال نبوءة (الساحرات) أن موته على يد شخص محدد بات أمراً مستحيلاً، لقد أخبرنه: أنه يقتل على يد رجل لم تضعه امرأة، فمن المستحيل أن يكون هناك رجل على وجه الأرض لم تضعه امرأة، وفي المبارزة التي دارت بينه وبين (مكدف) يكتشف أن الذي يبارزه هو قاتله لا محالة، حيث أن (مكدف) لم تضعه أمه بشكل طبيعي، حيث خرج من بطن أمه بولادة قيصرية، بعد أن كان (ماكبث) ساخراً منه. حيث أن الساحرات تلاعبن بالألفاظ ، فالمقصود هو الشخص الذي لم تضعه أمه بولادة طبيعية، وإنما بولادة قيصرية. لهذا فالمقصود هو (مكدف)، لهذا راح (ماكبث) يلعن ويشتم الساحرات لأنهن خدعنه خدعة لن تغتفر، حيث وضعنه في يد القاتل بسهولة، ولو كان يعلم بأنه سوف يلقي حتفه على يد (مكدف) لتحصن أكثر أو هرب هروباً غير مستسلماً، لكن نبوءة الساحرات جعلنه يقف موقف المتحدي لايبالي بمن سوف يبارزه حيث يخاطب (مكدف): - إنَّ حياتي محصنة بتعويذة سحريّة، لا يمكن أن تستسلم لرجل ولدته امرأة.. مكدف – فلتيأس من تعويذتك. ودع الشيطان الذي كنت في خدمته دائماً يخبرك أن مكدف شُقَّ خديجاً من بطن أمّه. مكبث – اللعنة على ذلك اللسان الذي أخبرني بذلك. إن (المخرج) قد دمج بعض المشاهد ليصبها في مشهد واحد، حيث أسست هذه المداخلة النوعية في الرؤية والتفكير والفعل المتميز، التجربة التأملية الموحدة ذات درجة كبيرة من الموضوعية، ومن خلال فرضه شكلاً معبراً على مدونته التناصية التي أعدها من مشاهد مختلفة لنصوص مختلفة، لتوظيفها بصياغة جديدة متميزة. يقع على عاتق المتلقي في هذا العرض، أن يعود بمرجعياته إلى تلك النصوص التي استلت منها المشاهد، لذا فإن عملية التلقي التي تشغل عادة آليات فحصها ومعاينتها وتأويلها داخل العرض، من أجل أن تتبين فضاء المكان دلالياً، ولاسيما أن (المخرج) أراد أن يكون مكان العرض في (كنيسة)، ليمنحه مناخاً حقيقياً، حيث إقامة القداس والتراتيل، ووجود (الرهبان)، بأزيائهم، والأبخرة وأضواء الشموع والرسومات على الجدران للمسيح والحواري، كل هذا يعطي انطباعاً صادقاً ومؤثراً لمجريات الأحداث. " لكن تقديم العروض في الكنيسة يطرح مشكلة جديدة تتمثل في الرسالة العلامية التي يبثها هذا الموقع المسرحي العارض، والتي تحمل دلالة الوظيفة الأولى والدائمة للمكان، وهي الصلاة والعبادة في حالة الكنيسة. فإذا كان العرض المقدم في الكنيسة متفقاً في موضوعه ومتسقاً في أسلوبه مع نظام العقائد الذي يكرسه المكان إزدادت قوة تأثير العرض."(1) لكن يبقى تأثير المكان وانطباعاته بأنه ليس مسرحاً وإنما كنيسة. كذلك استخدام مجموعة من الصلبان يضفي على الأحداث بعداً جمالياً، هذه المفردة الأكسسوارية (الإيقونية) تعددت اشتغالاتها بصور مختلفة، فمرة تتحول إلى سيوف، وخناجر، وإلى صولجان، وإلى دروع، وأسيجة ..الخ من الاستخدامات. حينما تصبح سيوفاً عندما يدور القتال بين (مكدف) وأتباع (ماكبث) وحراسه. الذين يجدون في الدفاع عن (ماكبث) تضحية غير مشروعة، وبالنتيجة يهرب الجميع، ويتركوه وحيداً، وعلى إثر ذلك يقول للطبيب: - أيها الطبيب ، لقد هرب الأمراء مّني. لن أخاف من الموت والهلاك، إلى أن تأتي غابة بيرنام إلى دنسينان. خلفت المعركة التي دارت بين (مكدف) وحراس (ماكبث) جثث القتلى، التي تناثرت في الأرض، إنه الصراع على السلطة، وعلى إثر الهدوء الذي يسود المكان، تنبثق ترنيمة المرأة (ايمان عبد الحسن) الحزينة التي تعبر عن فقدانها لحبيبها الذي غاب في المعارك، وليس له من أثر. فتقول كلمات الترنيمة: "حبيبي راح وما جاني، دلوّنـي على مجانة .." يتصاعد إيقاع الترنيمة تدريجياً لينتشر في المكان، ولاسيما أن هذه الترنيمة قد داعبت مشاعر (المتفرجين)، واقتربت من حجم المأساة التي تكبدوها، حيث أن معظمهم قد فقد في الحروب التي مرت بالعراق أباً أو أخاً أو ولداً أو زوجاً أو حبيباً. لقد أراد (المخرج) أن يظهر نتيجة الحروب ومخلفاتها من مأساة وويلات لن تنسى، فـ (المخرج) جاء بكل ما يعزز رؤيته من صور لأحداث المعارك، ولاسيما أن كل العراقيين يشاهدون من على شاشة التلفاز صوراً من المعركة، ذلك البرنامج الذي يعرض أبشع الصور من ضحايا الحرب الدائرة بين العراق وإيران، فحاول (المخرج) تقريب الصورة بهذا الاتجاه، وإطلاق الترانيم التي تتنهد بها الأمهات، لخلق نوع من المناخ الحقيقي للعرض. فـ (العرض) يدين الحروب ويشجب صانعيها من كبار الساسة، لأنها تمثل الدمار الذي يلحق بالبشرية، وهي الشر بكل اشكاله، الذي يهدد الوجود الإنساني. ففي الحرب ليس هناك من منتصر، الكل خاسر فيها، وإن كان كل طرف يدعي النصر، إلا أن الحقيقة تقول عكس هذا. فـ (الممثل) هو الشاهد على المأساة الحقيقية، والمصور لأحداثها المفترضة على الخشبة، و(المتفرج) الشاهد على تمثيلها، بمعنى أن (الممثل) و(المتفرج) يتساويان من حيث وجودهما في مجتمع واحد يتقاسمان الهموم والمآسي. فعلاقة (الممثل) بـ (المتفرج) تحددها الحالة الشعورية والموقف الفكري والوجداني، حيث أن جميع هذه العوامل تتضافر لبلورة هذه العلاقة وتؤكد على العملية الاتصالية بينهما، و(الممثل) بطبيعة الحال هو الشخص (الحي) الذي ينبض بالمشاعر والأحاسيس، وحاملاً رسالته ومضامينها وسياقه الثقافي والفكري، يضع على عاتقه الأهداف التي يسعى أن يحققها (مخرج) العرض، الذي وظف من أجل ذلك جميع العناصر (السينوغرافية)، وهي بالأساس تكون داعمة لأفكاره ومساهمة في خلق جمالية الصورة والقيمة الفكرية للعرض. بهذه المعرفة وهذه الرؤية وهذه الروح الاختراقية الجريئة التي لا تقف عند حد دائبة البحث في فضاء العرض، واستنباط معانيه المستترة ومكوناته الدلالية، بمعنى الولوج من سطح العرض، كما تعرضه المشاهد والتراكيب إلى العمق، وهو جوهر العرض وعالمه الدلالي. فالدراما بطبيعة الحال تفضح وتكشف عن المستتر والمخبوء في أعماق النفس الإنسانية، و(الممثل) هو الفاضح لأعماق النفس وتجلياتها عبر فعله وتجسيده الدرامي. يعيد المخرج (عبد الحميد) الأشياء إلى مسارها الرثائي، لتبقى المأساة شاخصة أمام (المتلقي). إن ظهور (الليدي ماكبث) في هذا المشهد لم يكن له رابط منطقي في مجريات الأحداث، كذلك فإن المشاهد الأخرى يبدو أن إيقاعها قافز، لوجود ضعف في الربط. تمنح (الليدي ماكبث) جميع (الرهبان) الورود الحمراء، وهي صيغة تعبيرية تمثل (بقعة الدم) التي تعلنها على مسامع الجميع حينما تكرر مسح يديها عن قطرات الدم العالقة بها، فتقول مع حركات الفعل المستمرة: - زولي ايتها البقعة اللعينة.. (بتكرار) يصفق لها (الرهبان) بأيادٍ خشبية، أحدث ذلك صوتاً يشبه إلى حد ما صوت المطرقة. حيث تشكل دلالة الأيادي الخشبية بحركة تكويناتها السينوغرافية بجفاف وصلادة الترحيب من قبل (الرهبان)، بمعنى أن الأيادي الخشبية تخلو من العاطفة والحب للشخص الذي يصفق له، وهذه إشارة واعية من (المخرج) لعامل التصفيق الذي يغدو جافاً وبلا معنى حينما يكون ترحيباً كاذباً بـ (الطاغية) المغيب والحاضر بهيمنته (الشبحية) على بعض الأحداث. من خلال فعل التصفيق القسري وتمظهراته في نسق الحركة واللعب بالمفردة الأكسسوارية (اليد الخشبية) التي دفعت بشخصية (الليدي ماكبث) أن تشكل من خلال جسدها (بقعة دم)، مع الإضاءة الحمراء، فهي حينما تقول: (زولي أيتها البقعة) إنما تقصد زوالها هي من ساحة الحياة، حيث انها تمثل المحرك للفعل الدموي. فيجري فعل التصفيق على زوالها. لذا فقد عمد (المخرج) أن يكون موتها منذ البداية، ليعلن من خلال الفعل واللون بجميع خواصه الذي يُعَدُّ جزءاً أساسياً في تشكيل الصورة، فهو الوسيلة الحية من خلال تباين الألوان، ولاسيما ما حققه اللون الأحمر ببعده الجمالي المتجانس مع فعل (الممثل) في فضاء الصورة. فـ (الصورة) المسرحية تلعب الدور الأساس في تأكيد جمالية الشكل وما تثيره في عملية التلقي، فهي كحضور تتخلل انطباعاتها من خلال التلقي البصري والسمعي. لهذا ينمو الفعل مع تكبير الصورة، وتوسيع أفق الرؤية وفتح المنظورعلى أكبر قدر من المساحة. فينبري في الخلفية رؤوس لـ (خيول) ستة بيضاء، وهذه الرؤوس هي أقنعة ارتداها ستة من (الممثلين)، ويحملون كذلك ستة (أسواط) حمراء اللون تطارد (ماكبث) وهو يردد عبارته الشهيرة: - ليست العبرة في أن تكون ملكاً بل العبرة في أن تكون آمناً.. كنوع من العذاب النفسي الذي تمظهر من الخارج لكشفه وإماطة اللثام عنه، عبر السياق الدلالي والتشكيلي ورمزيته على النحو الذي يمكن وصفه بالصيغة التعبيرية الحيوية. لقد تبدل الطموح الأهوج الذي اتخذه (ماكبث) منذ البداية، لتحقيق حلمه اللامشروع في الاستحواذ على التاج، وحتى ساعة اقترافه للجريمة في قتل (الملك) بطموح آخر أفضل ألف مرة من (التاج)، ألا وهو (الأمان). فمن دون الأمان لا يتسنى له العيش بسعادة وهناء، حتى وإن كان (ملكا). يظهر شبح (الليدي ماكبث) على ساحة الأحداث، وهي تحمل الأكفان التي قطعتها وتسلمها إلى (ماكبث)، وهذا بدوره راح يوزعها على (الرهبان)، أولئك الذين وقفوا مصطفين أمامه، وكأنه صار يمنحهم الأنواط والنياشين، حيث يتطابق هذا المشهد مع ما يقوم به (الدكتاتور) عندما كان يمنح المقاتلين أنواط الشجاعة، لكنه بالأحرى يمنحهم شارة الموت، حيث يدفعهم إلى أتون الحرب بالقوة، فيكون مصيرهم الموت والهلاك المحتم. فلا نجاة لهم بعد أن يضع على صدورهم الأنواط. وبهذه الصورة الإسقاطية يتمخض تأويلها واحالتها إلى الواقع السياسي الذي يشكل الأزمة أو العقبة في الماضي القريب، حيث تتطابق الأحداث والمشاهد بين الواقع والعرض من خلال صياغة العمل الدرامي بشكل يوحي أن يكون مجالاً خصباً للتشفير والترميز، فرؤية (المخرج) تعمل بصيغة تقرأ من عدة وجوه، كي يضع أمامه المسالك والسبل التي تمكنه من الانفلات ساعة أن يقرأ العرض بطريقة مباشرة آنذاك. لأن الوضع السياسي المحلي لا يشجع على تبني أي (مخرج) رؤى وطروحات مناهضة للسلطة أو كشف الأوضاع بشكل صريح على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو حتى المحلي. في المشهد الذي يتوج فيه (ماكبث) ملكاً، تقوم (الليدي ماكبث) بفرش البسط الحمراء للدلالة على طريق الدم الذي سلكه (ماكبث) حتى وصل إلى التاج. لقد فعَّـل المخرج أدوات تعبيرية متعددة عمقت من فعل الممثل منها: الصلبان التي تتحول إلى سيوف والأكفان التي تتوزع على الأحياء، بوصفهم أمواتاً على قيد الحياة، وكذلك البسط الحمراء. جميعها أدوات فعالة وطاقات متنوعة ظاهرة وباطنة متجلية وخافية تلتئم في سياق واحد، سياق العرض. فالصورة المسرحية تؤكد على جمالية الشكل وما يثيره هذا الشكل في نفس المتفرج، حيث أنها تدرك بالمفهوم البصري، لتعطي الانطباع التي تكونت من خلاله. فـ (الصورة) في تتابعها المشهدي من فعل (الممثل) وحركته بمشاركة عناصر (السينوغرافيا) بمجملها جاءت من حيث التكثيف والأختزال، لهذا فان المسرح يشكل عالماً من الاختزال والتكثيف. فالزمن القصير على الخشبة يمثل كالمجاز في اللغة، وهو ليس مثل زمن الحياة الرتيب، وإنما هو زمن خاص له حساب في مرجعياتنا على أنه زمن طويل يقاس بالأعوام الطويلة هذا التطور في الزمن وتحولات الشخصيات من خلاله، يحيط بنا أيضاً نحن الذين لم نعتلِ الخشبة، ولكننا بتنا نؤمن بالتغييرات التي تحدث للممثل على الخشبة ونؤمن به بوصفه زمناً حقيقياً وليس إيهامياً، لهذا يكون للصدق الدور الكبير بأن يشعرنا بالمتعة على المستوى النفسي والفكري. تستمد الأجواء المتغيرة للأحداث، عواملها البنائية من السينوغرافيا باشتغالات عناصرها. أدخل المخرج شخصية (الأم شجاعة) في العرض التي جسدتها (إيمان عبد الحسن) حيث استلت من نص (برتولد بريخت) بنفس العنوان. ولقد تحقق فعلها في مشهد رسم بتعبيرية عالية، حيث تمضي بعربتها تبيع الحاجيات بين الجثث والقتلى التي خلفتهم الحرب، رغم أن أبناءها بين القتلى. حيث تأتي ترنيمتها عبر النواح والألم وهي تردد بصوت متهدج: "حبيبي راح وما جاني، دلوني على مجانة.." بعد ذلك تختفي. مخلفة هدوءاً يشغله (ماكبث) عندما يرى الخنجر على السايك كظل كبير، وهو الصليب نفسه الذي أصبح الآن خنجراً، فثمة تحولات في أداة الصليب تنوعت صورها بحسب المشهد. ففي كل تكرار ينحو الصليب نحواً دلالياً معيناً وبحسب متطلبات رؤية (المخرج) التي عمل عليها. إن تجليات تكرار الصليب قد كثفت من حضوره، على النحو الذي ينشئ دلالات مفتوحة بين صورة الصليب الأصلية وصوره الأخرى التأويلية. (ماكبث) يمضي إلى حيث ظل الخنجر، فيخاطبه، وقد تصور أن الخنجر يعي ما يقوله، فهو يؤنسنه حينما يقول له: - تعال دعني أمسكك ، تعال يا رؤية قاتلة، ألست تستجيب للمس كما للبصر، أم أنت محض خنجر من الذهن محض اختلاف زائف صادر من دماغ بالحمى مضطهداً، مازلت أراك ملموساً شكلاً ، كهذا الذي استله الآن.. ينفتح هذا المشهد على توّحد (ماكبث) مع حالة غريبة ألمت به تواً، بعد أن أدرك أن ولوجه في الجريمة بات أمراً مؤكداً لا مهرب منه. فصارت نفسه تضطرب، بحيث أصبح يرى بواطنها، التي تتجسد أمام عينيه مادة حسية، وهو (الخنجر) الذي يراه ولا يتمكن من الإمساك به، وصار يتبعه في كل اتجاه، والخنجر محض ظل يظهر ويتلاشى في آن، انغلقت الرؤيا على (ماكبث)، مما تحيط به من أشياء، وبات يرى الخنجر فقط فدلالة الخنجر بهيمنتها على بصر وبصيرة (ماكبث) تفرضها صورة الخنجر، وهي تعد فعالية مكشوفة على داخل (ماكبث) ويفترض أن تكون محجوبة على المتلقي. يرى (الباحث) أن بعض المخرجين حينما يتصدون لهذا المشهد يظهرون الخنجر أمام (ماكبث) حيث يراه المتلقي، وهذا برأي (الباحث) خطأ، حيث أن الذي يرى الخنجر فقط (ماكبث) والمتلقي يسمع فقط الحوار من (ماكبث)، ولا يرى ما تريه له نفسه، أما الذي يريد أن يظهر الخنجر، فلابد أن ينسف الحوار، حيث أن هناك خيارين أمام المخرج إما أن يحذف الحوار ويبقي على الصورة حيث أنها تفي بالغرض، وتسهم بتعبيريتها أن تعطي المعنى المطلوب، أو أن يلغي الصورة من الأساس ويبقي على الحوار، حيث أن الصورة، أي (صورة الخنجر) تبقى مستترة داخل (ماكبث). وهكذا فعل (عبد الحميد) عندما جعل من حوار الممثل (فيصل جواد) مجرد اشارة للخنجر، وترك الباقي تكمله صورة الخنجر، وجعل من الممثل أن يتعامل معها وفق ماتوحي به نفسه المضطربة، وهذه الحالة تمثل الانعطافة الجديدة التي حلت بنفس (ماكبث)، حيث لم تحدث له من قبل، فهو يرى الخنجر، وينقاد إليه، لكنه يضمحل ويتلاشى. إن هذه اللحظة بغرائبيتها تمثل اختلال نفسه، وأختلاءه بها، فهو يرى الخنجر، عياناً غير قابل على اللمس، وهو يشبه الخنجر الذي يستله، إلا أنه يرى قطرات الدم التي اصطبغ بها نصله وشفرته، بالرغم من رؤيته له إلا أنه لا يستطيع الإمساك به. فـ (الدال) التي يحققها (الخنجر) والمشكلة لمسار حركة (ماكبث) وفاعليته في فضاء العرض مع السينوغرافيا تمنح الفعل العام ، إضاءة مناسبة كاللون الأحمر، الذي يملأ الفضاء بلون الدم يعمق من فعل الممثل الذي يمضي إلى اقتراف الجريمة وإكمال أنشوطتها. وبعد هذا المشهد يقرر (ماكبث) أن يقتل (ماكدف). ويبدأ في الولوج في اوهام تمثل له نوع من الطموح المستحيل الذي تعدى حدود التاج، فصار يريد الإمساك بالقمر وهو ضرب من جنون الرغبة، حيث أن طموحه فاق الواقع باتساع نواياه اللامشروعة. وهنا يصبح (ماكبث) مثل (كاليكولا) حينما يريد الامساك بالقمر والاستحواذ عليه. لهذا عندما تحين ساعة المواجهة بين (ماكبث) و(ماكدف) يفيق (ماكبث) من حلم الطموح الذي انتشى به ردحاً من الزمن. إن نبوءة الساحرات هي التي دفعته إلى أن يسلك هذا السلوك مغمض العينين. فعندما يفيق في اللحظات الأخيرة يكتشف ان نهاية حياته على يد (ماكدف). ومن الواضح أن (ماكبث) لا يمتلك أي قيمة جدلية فاعلة، فهو يستخدم القوة أينما تكون المواجهة مع الأعداء، وحتى مع الأصدقاء. بمعنى أن سلسلة اشتغالات (ماكبث) تعتمد (القوة) وعلى أساسها تصبح ثيمة (القتل) الفعل المرادف له. أقام (المخرج) عرضه على بنية مفتوحة للتأويل، فأراد أن يستفز المتلقي ويدعوه إلى المشاركة في العرض، لكنه قد ناقض دعوته هذه حينما جعل عملية التلقي أن تكون في جوهرها سلبية. ذلك أنه قد فرض على الممثل حدوداً وحركة ميزانسينية محكمة. ينفتح المشهد التالي على خروج شبح (الليدي ماكبث) من التابوت، وقد أحدث ذلك تغييراً في هيئتها، شكلاً وحركة، التي تشبه إلى حد ما (المومياء) وهذه الصورة السريالية تعطي بعداً ميتافيزيقيا للمشهد في دلالته وتدفق مجريات صوره الغرائبية، لذا فإن مسرحية (ماكبث) بشكل عام، قد تناولت موضوع عودة الموتى، إذ إن (بانكو) قد قتل، وقد طعن جسده بعشرين طعنة، إلا أنه قد عاد للحياة مرة أخرى كشبح مخيف يتراءى فقط لـ (ماكبث) دون أن يراه غيره. كما يشير ماكبث بحواره: - ولكنهم الآن يخرجون ثانية، مع عشرين جرحاً قاتلاً في رؤوسهم، ويدفعوننا عن كراسّينا . إن هذا أكثر غرابة من جريمة كهذه.. ففي عودة (الليدي ماكبث) إلى الحياة ضمن هذا السياق، لم يعد بالأمر الغريب ولكن ماهو الفعل الذي دعاها أن تعود، لقد عادت وهي تحمل جمجمة كبيرة، وكأنها تضم إليها جماجم شتى، لكل من قتل على يد (ماكبث)، بتعبير آخر أنهم ضحايا (ماكبث)، وهم الملك (دانكن) وصديقه (بانكو) و(الليدي ماكدف) وأبناءها، وغيرهم. فـ (الليدي ماكبث) وقفت أمام المرآة الكبيرة تستعرض نفسها، وتطرح من خلال ذلك سؤالاً كونياً، عن عبثية الحياة، وعدم جدواها، وهي تعبث بالجمجمة، ويذكرنا هذا المشهد بـ (هاملت) حينما يتحاور مع الجمجمة، بعد ذلك تضع (الليدي ماكبث) الجمجمة على رأس (ماكبث) كنوع من سخرية التتويج، أو هي تنذره من ذات المصير حيث يدهمه الموت ويحيل رأسه إلى جمجمة ولو بعد حين، لكنه يدرك أن للموت مصيره، ينتفض، فينهض يتوكأ على صولجانه وقد أصبح أعرج، فيصرخ بقوة: - أعرف أنني أموت، ولكن سأموت حيثما أريد، لا أريد أن أموت أرجوكم، لاتدعوني أموت.. يقوم هذا الحوار الصارخ بانفتاحه على مقولات (الموت ، الحياة)، حيث يؤكد من الناحية الجمالية، على هذه الصيغة التعبيرية الموصوفة (بالحياة) التي يهرب إليها بالرغم من أنه فيها ، إلا أنه يشعر بزوالها عما قريب. يعلنها بجرأة غير مبال بتصور الآخرين عنه ، إذن اين مضت غطرسته ؟! وأين منه ذلك القوي الطموح الذي قضى على كل من وقف أمام طريق التاج ؟ حتى توّج به، والذي لم يعرف الاستسلام ولا التنازل. لكن في هذا الحوار فقد شجاعته وقوته، وصار رجلاً آخر أكثر استسلاماً ووداعة: - لا أريد أن أموت، أرجوكم لا تدعوني أموت .. أين منه ذلك الذي يخاطب شبح (بانكو) قائلاً: - ما يجرؤ عليه إنسان، أجرؤ عليه أنا. ادنُ مني . وكن دباً هائلاً، أو تمساحاً غائلاً، أو نمراً وثــّاباً، بل تشكل بأي شكل آخر، وبالغ في الروع، لا تضطرب قدماي لرؤيتك. فهذه الازدواجية التي ألمت بـ (ماكبث) جمعت بين القوة والضعف، استدرجته إلى حيث الفخ الذي وقع في شراكه، وهويغادر منطقة الاقدام والتحدي، وقد تراجع عن كل ما بدأ به، من حيث التسليم بالقوة، لقد حل به وصفاً ومظهراً جديداً في طبيعة الفعل والصورة التي آلت في النهاية أن تغاير حركتها الدرامية التي تحفز على إظهار النواحي المخبوءة في شخصية (ماكبث) وتكشفها للمتلقي. يظهر المهرج بعد ذلك شارحاً ومعلقاً على الأحداث ومنادياً وعارضاً للرؤى والأفكار والمشاهد، فشخصية (المهرج) (أسيل عادل) تظهر كرمز للضمير الجمعي وسرد الحكاية وفق ما حصل، وما سوف يحصل ولسان حق ساخر، وحكمة متهكمة ومتهمة بالجنون أحياناً. استعان (المخرج) بشخصية (المهرج) في عملية ربط المشاهد الانتقائية التي جاء بها من مسرحيات مختلفة ليخلق منها خلطة كولاجية، محققاً فيها مقولته ورؤيته السينوغرافية بعناصرها المرئية والمسموعة، التي أسهمت بشكل أكيد في تأسيس الكيان العياني للعرض، وقد أحال المدونة التي تأسس عليها إعداد النص، إلى صياغة بصرية في لغة عرض ضم إليه عدة فنون، تصميم، ولون، وعمارة، بكل تشكيلاته التي تتحكم في الفضاء وتهيمن عليه إذ تحقق من خلال الإيقاع جمع شتات الفعل وأضفى عليه جواً نفسياً وموسيقياً، لأن الإيقاع يمثل جوهر الموسيقى. فالخاصية التي يتمتع بها الفن المسرحي بشكل عام، هو منظومة بصرية أو هو الصورة بكل تجلياتها. فالصورة هي العالم المنظور ولحظة من الزمن تتشابك وتشتبك وتتداخل وتتضافر وتتعارض وتتضاد فيه الأفعال والأحداث بغرائبيتها ليخلق منها عالماً بديلاً للعالم الواقعي الذي تهيمن عليه (الايديولوجيا) واختزاله في زمن قصير مكثف. عبر المكان عن الكثير من الصور والتكوينات، وقد حقق غرضه من كل هذا، فجاء تمثيله لمقبرة جماعية كصورة مختزلة جد مستوفية للتطابق بين الواقعي والمتخيل عبر أنساق الدراما وتجسيداتها في فضاء العرض. لهذا تنبأ العرض بشكل قاطع ما يخلفه الطاغية من ضحايا وقتلى دفنوا بطريقة غير لائقة في حفرة كبيرة وتردم على أجسادهم دون شواهد، لهذا تكون هذه المقابر مجهولة تكتشف عن طريق الصدفة دائماً. لذا فإن (المخرج) أعاد الصياغة بهذه الصورة، ولقد أشار العرض بصورة واضحة إلى أن التطابق بين (ماكبث) والنظام الشمولي (الدكتاتوري) قد كان كبيراً، لهذا كان النظام يمنع المسرحيات التي تصب موضوعاتها بهذ المنحى ولاسيما (ماكبث). فاللحن القداسي أعيد ترانيمه من جديد، بعد أن كان المستهل للعرض، لذا فقد وقف الكهنة يرددون النشيد: - نعيش ولا نعيش، كان هناك ظلم، وكانت رفاهية ، فقر وفجور، وجور خطير، أنه قداس (ماكبث)، الآن ليعلن عن موته .. لعل هذا المشهد يمثل الإجابة عن مجمل أشكاليات العرض وعن مقولة المعنى المتعلق بنهاية (ماكبث) التي تزيد من طرح الأسئلة وتحقق التشابك والإشكال في تأويلاتها، حيث أن موت (ماكبث) قد أصبح حتمياً، مثلما هو في المدونة الشكسبيرية فهذه النهاية الطبيعة، لم تدخلنا منطقة المغايرة واللامتوقع، بل جادت علينا بما هو موجود في مرجعياتنا عن مصيره ونهايته الحتمية. لقد كاد (المخرج) أن يعمق صورة الأداء، وذلك بضخه منعطفات شائكة تثير في المتلقي مفاهيم غير متوقعة على صعيد الفكرة والصورة، فالأداء المغاير للمتوقع يحرض على تبني تأويلات تكشف عن حقيقة الإنسان، والعرض هو من يستنبطها من أعماقها، وكشفها أمام المتلقي. فالمتلقي قد يجد صورته في العرض، وهو بهذا المعنى يكون العرض عبارة عن مرآة، يجد الكل وجوههم فيها. فالأداء الشعري الذي يعبر بسيميائية تكرس برؤى وأنساق تمثل جوهر الخطاب البصري وبؤرته الباطنية العميقة، قد لايتحقق من خلالها وضوحاً كلياً في قراءة العرض، بل من خلال الفضاء المخصب بالغموض والتشضي يتحقق ذلك. أضف إلى ذلك ان الممثل هو الحلقة المهمة من حلقات التجلي للعرض، الذي يربط بين أفكار النص، ورؤية العرض على صعيد تجسيد الفكرة وتشكيلها كصورة في مشاركة عناصر السينوغرافيا معه. فالعرض كجسد مادي عياني ماثل أمام أعيننا، يعبر عن مفاهيمه وطروحاته وأفكاره من خلال رسالة تصل إلى المتلقي بالضرورة عبر النظر والسمع بوصفهما أدوات تعبيرية تتضمن تفعيل طاقات متعددة ومتنوعة ظاهرة وباطنة متجلية وخافية تلتئم في سياق واحد لتشكل طبيعة العرض الذي ينطوي على الظهور والبروز والتبين. فـ (المخرج) ومن خلال رغبته الأكيدة في التنويع، وإدخاله ثيمات محلية في العرض، كذلك رغبته في تحقيق أهداف معينة، وأفكار معاصرة، متخمة بهموم الناس يخاطبهم من خلالها، فحلقة الوصل بينه وبين الجمهور، هو الممثل أولاً، ومن ثم العرض ثانياً. لقد استطاع (المخرج) أن يقدم من خلال عمله التجريبي هذا، وضمن نسق العرض، أن يعري وجه النظام الشمولي (الدكتاتوري) فاضحاً مصيرها وما تؤول إليه أهدافها ونواياها، لهذا يجد (المخرج) أن ردود أفعال الجمهور منسجمة مع أفكاره بل ومنتمية إلى عمله شكلاً ومضموناً. فلابد أن يكون العرض معني ولو بالإيحاء عن صراع وسباق السلطة للتحكم بمصائر الجماهير، كذلك معني بالتعبير عن هموم وعذابات تلك الجماهير. ذلك أن الجماهير يعادل وجودها في المسرح العرض بكامله، أو أن المتفرج والممثل يتساويان من حيث وجودهما في المسرح. فالعرض المسرحي لا يُمنح هويته إلا بوجود المتفرج والتأثير عليه عن طريق الاستقبال والاستجابة حيث تحقيق المتعة لكلا الطرفين المتفرج والممثل معاً، لأن المسرح بشكل عام ضرورة وحاجة جماهيرية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصادر (**)مسرحية: (طقوس النوم والدم) ، إعداد وإخراج : سامي عبد الحميد . (عن مسرحية "مكبث" لشكسبير ). 1. حسين علي هارف، طقوس النوم والدم بين الاقتباس والتوليف، جريدة ألوان، ع/144،في 18/8/2000. 2. محمد عبد فيحان، الفنان سامي عبد الحميد يتحدث، جريدة اليرموك، ع/ 358، في 1/1/1986. 3. يان كوت، شكسبير معاصرنا، تر/ جبرا إبراهيم جبرا، دار الرشيد للنشر، بغداد،1979، ص137.
#جواد_الحسب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تجليات مسرح الصورة عند القصب
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|