أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - عن الحب والقتل وجدار جمجمة معتمة















المزيد.....

عن الحب والقتل وجدار جمجمة معتمة


يوسف ليمود

الحوار المتمدن-العدد: 3201 - 2010 / 11 / 30 - 17:49
المحور: الادب والفن
    


مازلتَ مهموما بالقضية! لا، ليست القضية، ولا حتى الحدوتة هي ما تهمك، سيرة الدماغ المغموسة في الدم، مسرودةً على لسان صاحبها هي التي تعنيك. أفهمك طبعا، فليس من جديد في حكاية ثري قتل عشيقته ونجا بفلوسه من حبل المشنقة. ربما جبال الفساد التي تحيط بربوة ثرائه المتكومة من رملٍ هو ملك شعب ثُقبت جيوبه ووضعت الحجارة في حلقه هي الموسيقى التصويرية التي زادت من دراما الفيلم. لكن أليست حكايات الدم كلها واحدة؟ قابيل وهابيل! أعرف أن ما يعنيك هو قابيل في لحظته الأخيرة، حين يواجه عين الموت ولو من غير سكين في الرقبة، حين، مثلا، وهو على سريره الحريري، بين أهله، ذات فجر تدق فيه الساعة الكونية التي لا عقارب لها أجراس الرحيل. ساعة الهاوية. هل تقاس هذه الساعة بزمن المولولين المحيطين به، أم أن تروسها تدور في ميناء هيولي، بإيقاع لا يعترف بطبلة القلب ولا بإيقاع ضرباتها؟ أيّا كان، أنت تريد أن تتمثل خليةَ ذاكرةٍ ملوثة، تعود، غير طاهرة، إلى طهر التراب. كيف تتخلص هذه الخلية من ثقل جثة عالقة بها في مدى الأبد، وما من أرض يحفر فيها غراب ليعلّم كيف تُوارى السوءة؟ خلية تصطدم في وحدتها بجدران الجمجمة. تريد أن تمسك بملقاطك الميكروسكوبي، من قلب تلك الجمجمة، خلية الرعب التي ترتطم بجدار أسود لا يمكن فتح ثغرة خلاصٍ مجاني فيه ولو بديناميت الأرض. بين الخلية والجدار، سكة قطار قديم تمتد قضبانها في عتمة صحراء لا نهاية لها. فلتفتش الخلية إذن في النواة عن نشوئها وبداياتها، عن ذكرياتها وشبكتها اللا متناهية من خلايا كانت ناعمة في عماها وجهلها ولا حسّها وانتفاخها وتبجحها وانحلالها وعبثها ووسخها. فلتفتش عن قشة النجاة في قاع محيط مظلم. عن مرآة ترى فيها وجهها الذي كان يوما، مثل كل الوجوه البازغة من شمع الوجود، بريئا، ولم يعد يتعرف على ملامحه بعد ما انتفخ بهواء النسيان، وبماء المستنقعات التي غاص فيها طويلا. فلينظر ماكبث إلى يده الملوثة بالدماء، ولتتحسس اليد ظل الحبل مرميا على الرقبة. حتى المشنقة التي كان يتدلى ظلها على سردية الدماغ هذه، لم تكن محط تركيزك، وإن جاءت كخلفية من موسيقى جنائزية حركت فيك انفعالك لمحاولة سرد تريد أن تكتبها. هل ستكتبها يوما، أم أن في خربشتك هذه السطور الآن نوع من الاعتذار لنفسك عن عجزك الدخول في متاهة تلك الدماغ الناجية من الحبل؟ آملُ أن لا، وآملُ أنها الروح الفنية التي تترك الأفكار في أحد أركان الجمجمة حتى تختمر ولو في سنين. أعرف أيضا أنك صعب عنيد. حين يتعلق الأمر بالفن، تريد الذهاب إلى اللب مباشرة. تسوط الكلمات والجمل عابرة المسافات والزمن، كي تصل إلى النخاع. لكن الصعوبة التي واجهتَها ووصلت بك حد استحالة الخطو اللغوي في هذه السيرة الافتراضية، هي أنك تريد أن تكون لسان جمجمة لم يكن ماضيها سوى أرقام وحسابات، بينما حاضر لسانك هو الشعر والموسيقى، فكيف تريد تحريك لسان كهذا في جمجمة كتلك؟ أنت لست في مسرح للدمى الخشبية، بل في مسرح للدم الآدمي، ويجب أن تكون مقنِعا. كيف لمن لم يفكر يوما سوى في بطنه، ولم ينطق يوما بسوى الأرقام والأكاذيب، أن يتحول أمام الموت شاعرا تقاس كلماته بمسافات الموسيقى وموازين الضمير؟ هذه كانت أزمتك. كما أنك لا تريد أن تقوم بدور المحقق الخارجي أو كاتب السجلات في محاكم السرد والحكي والوصف وتحري الوقائع، كي تبني من الأحداث هيكلا فنيا يسرّ القارئين. ثمة في هذا من هم أشطر منك. أنت أردت أن تكون تلك الدماغ، لكن صدمك عمق اختلافات التجاويف بين جمجمة وأخرى، وكأن جماجم الأحياء كواكب تدور في مجالات لا مغناطيس يجذبها إلى شمس بعينها. لو لم تنتبه لهذه الهوة، لتوغلت في أحراشك أنت، بينما تظن أنك تشق بمنجلك طرقا في غابات قابيل. الهوة كانت لغة!

"إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح" بهذا اللسان أنطق دوستويفسكي بطله ايفان، فكانت هذه الكلمات يد الهون التي سحقت رأس الأب كارامازف، بفعل مختل سحرته الكلمات. لكن ايفان الملحد كان يمثّل ركنا في جمجمة دوستويفسكي مسكونا بضمير أرضي بحجم نصف إله، فكانت النية وحدها، بموسى وعيها القاطع بشفرته جسم الخلية حتى نواتها، كافية للعوم في دم الأب المراق بيد خادم. الأخير كان الأداة التي أمسكت بها اليد الافتراضية لفكرة الأول: يدَ الهون التي هشمت الرأس، أو السكين الذي مزق الرقبة. النية هنا تكورت في شكل خلية تصطدم بجدار الجمجمة، بحثا عن ثقب خلاص يرفض رحمة الآلهة. ضمير غائص في نخاع ذاته كإله مهزوم. لذا لم تلتفت إلى اليد التي أمسكت بالسكين ومزقت الرقبة من أجل حقيبة فلوس. أُخذتَ فقط بالخلية التي أرادت. أردتَ أن تنصت إلى وجومها المحكوم عليه بالشنق بعد أن خذلتها الفضيحة. لكنك ووجهت بفقر الخلية رغم تلال الثروة التي تحيطها. فقرها التعيس في استجدائها الرحمة من إله ترمي عليه ثقل وجودها الذي تجرجره كجثة. هنا توقفت الكلمات في حلقك ولم تعرف كيف تتعامل مع هذا الفقر خرافي الثراء. فما أدراك أن شبحا من ضمير يتجول في ليل الخلية؟ وما الضمير؟ أليس مصلا تُحقن به الخلايا من إبرة كونية قبل خروجها للدنيا؟ وحتى لو كانت الإبرة تَحقن مصلَها في كل الخلايا بنفس الجرعة، هناك الفقر الذي تعثرتَ فيه: سؤال الرحمة! وكأن لسان الخلية يقول: "طالما أن الله موجود فكل شيء مباح". تكفي حَجّة تغسل بقعة الدم، كما تغسل كل البقع الأخرى! فكيف تريد أن تضع لسانك الذي ينسحب إلى صمته حين الثرثرة في الغيبي، مكان لسان يستجدي الغيب؟ وبعيدا عن حكاية الضمير الملتبسة هذه، يبدو أن سؤال "من أنا وإلى أين؟" ممسوح أصلا من شفرة الخلية! المضحك أكثر هو تمسحها الكاذب، عبر مسارها، بطقوس المقدس. أقنعة من مسابح وتعاويذ وصلوات هيكلية تتستر على ميراث كامل من الإفساد في أرض الله! فباسم الأخير، توهب صحارى، وتُنهب أموال، وتُذبح رقاب، ويُرمى بآخرين من الشرفات... ولا حساب للفقراء في معادلة تمتزج أرقامها بحروف دعاء الغفران، فكيف تريد أن تحل هذه المعادلة وأنت لا تفهم في الأولى ولا تعنيك الأخيرة؟ سوف تفزعك آلية عمل خلية كهذه، في تكورها الأناني على ذات معتمة، كما سيفزعك جبل الأرقام الجليدي بأرشيفه المردوم بالتراب، المسجلة فيه تفاصيل رحلة تدور في فلك الظلام. هل من شمس تجذب بمغناطيسها هذا المسار سوى القرص العدمي للوهم المقدس، المحسوب بدماغ سمسار في بورصة؟ صفقة بقال مع شاه بندر التجار في الأعالي! يا للسخرية! خلية مذعورة، تغطيها كتلة ثقيلة الظل من شحم يرتجف، لا تشبعها تلال الأرض التي سطت عليها، فتطمع في حصتها من سهول السماء!

سؤالك: إلى أين؟ ما غاية الخلية، أية خلية؟ السعادة؟ كيف يسعد أحدهم بتل من أكاذيب ممسوحة بزيت المقدس ويسيل عليها الدم؟ هل السعادة دود في تفاح؟ هل تصل الأكاذيب بآدم إلى أن يصدقها هو نفسه؟ يبني جبلا من خرق ثم يجلس على قمته ويمد بصره إلى أعلى طامعا في مباركة الفراغ؟ هل الثراء الزائد على الفحش قطب مغناطيس يطرد عن مجاله القطب النقيض، فإذا كان شرا فهو شر خالص، وإن كان خيرا فهو كذلك خالص؟ لكن ماذا حين ينهار الوهم وتنسحب السماء وينتصب أمام خلية الشر جدار الجمجمة المدهون بحلكة ماضٍ لم يدرك لحظةً بصيرة التراب؟ في دوخة إعادة حسابات الزمن الضائع، ألن يطبِق قطبا المغناطيس على الخلية كما تطبق كماشة على مسمار صدئ؟ لكن ما أدراك أن الوهم ينهار عند بعض الخلايا، خصوصا وهم السماء؟ أليس الأخير هو حائط المبكى الذي على حجارته يتنصلون من مسئولية وجودهم؟ شماعة الملابس الداخلية لأرواحهم! وإلا بماذا تفسر هذا الجبن المستميت في البحث عن مهرب من المشنقة؟ ألا يعني هذا أنْ ليس ثمة محكمة داخلية؟ حتى ولو نُصبت محكمة ما داخل الجمجمة، ألن تجند كل خلايا الدماغ لدفاع مزيف هو الصورة الأصل للممثلين الهزليين الذين يخطبون في محكمة الواقع؟ الشجاعة عين تحدق في الليل الجليدي لخلية وجودها. محاكمة لا دفاع فيها، حيث لا مفر لقابيل من أن يتمثل دور هابيل، فيدرك في النهاية أنه أمام مرآة. أنه كان من قُتل، مثلما كان هو من قَتل. حين تصل الشجاعة إلى إدانة ذاتها، لن تحاول الهروب من مقصلة الداخل، ولن تستطيعه، حتى لو نجت رقبتها من حبلٍ فتَلته عدالة الخارج. ألم تسمع عن الساموراي؟ حين يخطئ أحدهم، يفرد يده على المائدة ثم يهوي بساطور مطيِّرا إصبعه، وتعرف طبعا كيف يشق الواحد منهم بطنه بيده حين لا يسمح له خطأه بحياة مرفوعة الرأس! أولاد عم هؤلاء، رهبان سكنوا الجبال وزهدوا في كل شيء، أدرك كبيرهم أن عين الطائر التي ينظر فيها هي عينه هو. عين ذاته. خليته التي بعثر الكون فيها كل المفردات وكل الكائنات. لكنك لست أمام ساموراي هنا. أنت أمام جوهر مختلف. عنصر غريب. خلية دخيلة. عَلَقة. الجبن نواتها. نشاز في الهدير الموسيقي المسموع بالقلب وبطبلة أذن الروح. أراك تستنكر ما أقول وأنت تفكر في منظومة الخير والشر التي تنسج دراما العالم. لكن تذكّر أنْ ليس السؤال عن أصل هذين هو همّك في هذه القضية. لا تخلط الأوراق. ولا تنس أنه إذا كانت الشجاعة عين تنظر إلى ثقوبها السوداء، فالجبن عين تتحاشى رؤية بقعها المتسخة. ربما لهذا اختُرعت السماء، فهي فراغ لا يسكنه إلا الوهم الرحيم!

لكن كفى! أعرف أنْ ليس ما أقول جديدا عليك. أنا أتكلم بلسانك. لكن أن تتكلم أنت بلسانِ آخر، فلن يكفيك الفهم. يجب أن تكون أنت هذا الآخر، أو يكون هذا الآخر أنت! ربما تحتاج وقتا حتى تختمر رؤيتك وتجد المدخل! المدخل؟ يا للمفارقة! أنت تبحث عن مدخل لخلية تبحث لنواتها عن مخرج! هل ستجده أنت... وهل ستجده هي؟



#يوسف_ليمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آنا مندييتا: الأرض حدساً لجسدها، الأرض حقلاً لفنها
- كارولي شنيمان وبهجة اللحم
- مارينا أبراموفيتش: روح العالم في جسد الفنان
- البرفورمانس فناً والجسد هويةً
- فن فاروق حسني مَن يخاطب وأين يقف؟
- إرنست بيالار، العابر المقيم في جمال متحفه
- الفن المصري في الستينيات والسبعينيات ج 3 .. السوريالية هناك ...
- الفن المصري الحديث في الستينيات والسبعينيات (2)
- حدود فان جوخ بين الوعي والخرافة
- رحيل اللباد صاحب -كشكول الرسام-
- عن الثقافة في مصر: شجرة البؤس وأزهار الخشخاش المسروقة
- الفن المصري الحديث في الستينيات والسبعينيات، إلى أين كان، وإ ...
- جان ميشيل باسكيا .. فنه أم موته المبكر صنع أسطورته؟
- سبنسر تونيك .. كما نبي يقود أمته عرايا يوم الحشر
- عن النقد والفن في مصر .. حوار
- هيلموت نيوتن .. الفن رغماً عن أنف ما يصوره الفنان
- مان راي .. أنامل الفنان على أوتار الجسد وظلاله
- من ثقب الكاميرا: حقيقة الجسد أم وهم خياله؟
- تجربة رانيا الحكيم بين الحركية والغنائية في معرض بالقاهرة
- نينار اسبر .. جسدها آلة تعزف عليها قناعاتها


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - عن الحب والقتل وجدار جمجمة معتمة