|
-الخبز المقدس-
حسن الفجح
الحوار المتمدن-العدد: 3200 - 2010 / 11 / 29 - 00:18
المحور:
كتابات ساخرة
في وطننا العربي، و المغربي خصوصا، تصل سلطة الماضي أوج ازدهارها. و يجد مواطننا نفسه مشدودا دوما الى الخلف و مربوطا الى ارث أجداده، ويسقط القداسة على كل ما حدث في ماضيهم، و يسير في درب التقليد الأعمى بحماس شديد. انها ميزة النبالة و الأصالة و التقوى بمقاييسه. لكننا لا نصدق هذه الخرافة المضحكة و نعتبر صاحبنا مواطنا جاهلا وفق المقاييس المعاصرة. فمواطننا يحصل على ثروته الفكرية عن طريق الميراث، و يضع كرسيه عند ناصية الزقاق و يحرس ارثه، و يدق عنقك بعصاه اذا رأى فيك ثمة ما يهدد ثروته بالضياع، و يتهمك طبعا بأي تهمة تخطر في رأسه العجيب من فساد الأخلاق و التفسخ الى قلة الحياء. فمقياسه الوحيد لايجاد الخطأ من الصواب هو أن الصواب ما فعله الأجداد و أن الخطأ هو ما يفعله أبناء جيله. انك لا تستطيع أن ترفض مقاييسه دون أن يتهمك بالخروج عن التقاليد الحميدة و العادات المجيدة لأن هذه العقوبة هي سلاحه العقلي الوحيد. و ما ينطبق هنا على الفرد ينسحب على المجتمع بنفس الطريقة. فمجتمعنا أيضا يملك هذه الصفة و يملك علاجا جاهزا لكل مشكلة تخطر بالبال، و يعرف الصواب عن كل شيء. أعني ليس فقط في حياة الناس بل أيضا حتى بعد موتهم، و يعرف أيضا الطريق الى الجنة. أجل مجتمعنا يعرف ذلك، و يعرف أيضا باقي التفاصيل التي تأتي فيما بعد. فلماذا أحدثكم عن معارف مجتمعنا التليدة؟؟ لأنني أريد أن أحدثكم عن "الخبز المقدس" في مجتمعنا. و من لم يسمع بهذه الحكاية من قبل فليتفضل بالانصات فهذه فرصتنا جميعا. فمنذ طفولتي و أنا أتساءل لماذا ينال الخبز هذا القدر الهائل من التقديس في مجتمعنا؟ و قد كنت أظن بادئ الأمر أن الخبر لا بد و أن يكون وليا صالحا أو فقيها على الأقل. و الحق أنني كنت أتلقى وابلا من الأجوبة على سؤالي ذاك، لكنها أبدا كانت مبهمة و غير مقنعة. فقطعة الخبز التي يصادفها المرء في طريقه لا يجوز أن يدوسها بقدمه، بل يجب عليه، من باب التقوى، أن يقبلها و يضعها في موضع نظيف و بعيد عن موضع الأقدام، كي لا يدوسها شخص آخر، على الأقل كي لا تحل به اللعنة. هذا هو الخبز المقدس أيها السادة...!!!!!! هذا التقديس الذي يعد علامة واضحة على ورع صاحبه و التزامه بتعاليم دينه و سنة أجداده. ان هذا هو التفسير الوحيد الذي يملكه مجتمعنا، و هو أيضا التفسير الوحيد الذي تداوله أجدادنا على طول قرون من الزمن. و اذا ما حاول أحدنا أن يكذب الأجداد و يأتينا بتفسير آخر و يتمرد على قداسة الخبز فالواضح أن اللعنة ستحل به و أن الله سيمسخه الى قرد. لكننا على أية حال لا نصدق هذه الحقيقة المضحكة، و سنقترح بالمقابل تفسيرا آخر يبدو أكثر دقة. فحكاية "الخبز المقدس" ليست في الواقع سوى " أسطورة"، اذا ما افترضنا أن تعريف الأسطورة ليس هو الحكاية الخرافية التي ترويها العجائز من باب الرواية فقط. بل هي بالكاد تمرير ضبط سلوكي للفعل و الواقع عن طريق "أسطرة" حادث ما. فتاريخنا يشهد أن مجتمعنا عاش فترات عديدة من المجاعات و القحط، و يشهد كذلك أن الخبز _ والخبز وحده _ كان المنقذ الرئيسي في جل تلك الفترات. فقد لعب الخبز أدوارا طلائعية في حياة أجدادنا و استطاع أن ينحت لنفسه مكانة عظيمة جدا في حياتهم. و نظرا للتهديد الذي كان يخيم على الأجواء العامة، و ينذر بامكانية عودة المجاعات، و نظرا أيضا الى أن الخبز كان غذاءا رئيسيا على رأس مائدة كل أسرة على حدة. فان أمر الحفاظ عليه و الاهتمام أكثر به، لم يكن في الحقيقة مجرد مطلب عابر فحسب، بل كان مطلبا ملحا لا مفر منه. و قد استمرت الأحداث هكذا و استمرت معها مكانة الخبز تتسع و تتسع الى أن بنت له هالة شاسعة جدا من التقدير و الاحترام، حتى بات لا يشك في قداسته أحد. هذه القداسة اللاحقة رفعت مكانة الخبز الى حدود جنونية، بدعوى أنه نعمة من نعم الله لا يجوز التطاول عليها. و الملاحظ اليوم أن مواطننا المسكين الذي يقدس الخبز الى حد لا يصدق، لا يجد أدنى حرج في أن يقذف حبة البطاطس مثل الكرة اذا ما صادفتها قدمه، متناسيا أنها أيضا نعمة من نعم الله. كما أنه سيدوس سنبلة يصادفها في طريقه، بضمير مرتاح، و دون أن ينتبه الى أن السنبلة أيضا نعمة من نعم الله، بل أكثر من ذلك بكثير فهي مصدر خبزه "المقدس" نفسه. الفرق فقط هو أن للخبز بعدا رمزيا ممتدا عبر الماضي كما سبق و أشرنا. و ذلك فقط هو التفسير الوحيد وراء قدسيته. فرأس المشكلة أن الأجداد قدسوا الخبز لمكانته و حاولوا لفت الانتباه الى أهمية و ضرورة الحفاظ عليه من الفساد و قد وظفوا لهذا الغرض البعد الأسطوري لضمان سير هذه التعاليم و ضبط سلوك ملائم تجاه الخبز "مصدر الحياة" و "المنقذ من الهلاك". غير أن الأحفاد لم يفهموا هذه المعادلة البسيطة، و لم يكن بوسعهم ذلك، ما دامت عقولهم عاجزة عن ادراك البعد التاريخي للأحداث و وضعها في سياقها الزمني و ربطها بالاطار العقلي السائد آنذاك.ففي غمرة الحماس الديني ربط مواطننا قداسة الخبز الأسطورية بالدين مباشرة، ايمانا منه بأن التطاول على قداسة الخبز أو التساهل فيها، سيعرض صاحبه لا محالة للعنة الله. و قد جرى هذا الحل السحري كله في جو روحاني مليئ بالايمان و الخشوع، وتم أيضا بمباركة من رجال الدين أنفسهم. و الواقع أن هذا الجو لم يكن لينقصه شيء سوى أن اللعنة نفسها لم تكن من تعاليم ديننا الحنيف، بل هي بالذات حل كهنوتي ابتكره الفراعنة و طوره اليهود عبر مسيرة طويلة و حافلة بتزوير الكتب المقدسة و بفرض شتى أنواع الارهاب الفكري على الناس. مجتمعنا لا يزال يؤمن بهذا الحل السحري، لا يزال يعيش على بقايا هذه الخرافة، ونحن ليس بوسعنا أن نمنعه من خرافاته لمجرد الرغبة في اظهار الحق. لكن لابد أن يعرف مواطننا أن اللعنة لن تصيبه و أن الله لن يغضب عليه و يمسخه الى قرد الا اذا كان يؤمن بأساطير التوراة و خرافات التلمود. أما اذا كان يؤمن بالاسلام الحنيفي فان الخبز لن يخيفه و سيعتبره كأية مادة من مواد هذا الكون الفسيح تكمن أهميته في خدمته للانسان، و يصير بلا قيمة بمجرد نفاذ منفعته، وله أن يختار حينها بين أن يدوس خبزه، الذي صار غير قابل لسد جوعه، أو أن يرميه في سلة القمامة. و اذا بدا له هذا الحل تهورا و جنونا و كفرا بواحا في حق الله، فليبعد، لوجه الله، فكرة أن يمسخه الله الى قرد اذا ما داس الخبز و تمرد على قداسته، لأن الفرق بينه و بين القرد فرق في حجم الشعر فقط. انه مجرد قرد متنكر في زي مواطن.
#حسن_الفجح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هستيريا الفتوى
-
كلام في الحب
-
المئذنة مجرد بئر مقلوبة
-
الإسلام شفويا
-
مجرد أسئلة
-
هل خانوك؟
المزيد.....
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|