|
حديقة ( الجبل ) ...معلم حلي يندثر
حامد كعيد الجبوري
الحوار المتمدن-العدد: 3191 - 2010 / 11 / 20 - 01:03
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
منتصف ثلاثينات القرن المنصرم وبالتحديد بداية العام 1938 م ، والحلة آنذاك عبارة عن قصبة صغيرة ، بل قل بساتين غناء تتوسطها بيوت شرقية متجاورة ، والحلة يشطرها نهرها – نهر الحلة – المتفرع من الفرات العظيم لشطرين ، يسميان لدى الحليون ، الصوب الكبير ، ويضم سبعة أطراف وهي ، الجامعين ، الطاك ، جبران ، الجباويين ، المهديه ، الأكراد ، التعيس ، والصوب الصغير ويشتمل على ثلاثة أطراف ، أغلب سكانها فلاحون وهي الورديه ، الكلج ، كريطعه ، وأغلب هذه البيوت بنيت بدون وعي آثاري من أنقاض مدينة بابل التاريخية الشهيرة ، ولكل صوب مما ذكرناه من الحلة مكب للنفايات ، وموضوعتي عن مكب نفايات الصوب الكبير حصرا ، بدأ هذا المكب يكبر شيئا فشيئا حتى غدا مرتعا للكلاب السائبة للتنقيب عن قطعة عظم ، أو فضلات القصابون في هذا المكب الكبير الذي أخذ مساحة تقدر بعشرين دونما من الأرض ، وأصبح أيضا مصدرا لنمو الطفيليات كالذباب ، البعوض ، ومرتعا للقوارض والفئران ، ناهيك عما يسببه من تلوث بيئي وريح غير مستساغة للذوق العام ، ولم تكن الخدمات البلدية كما هي عليه الآن من سيارات متخصصة لطرح القمامة بأماكن خصصت لرمي الفضلات فيها ، وكانت البلديات يوم ذاك تستخدم الحمير والبغال لنقل الفضلات لهذا المكب الذي ذكرنا ، وبما أنه أصبح مصدرا خطرا على سكان مدينة الحلة الفيحاء ، كتب متصرف الحلة يوم ذاك كتابا رسميا لمراجعه في بغداد ، طالبا منحة مالية لنقل هذه النفايات لمكان آخر ، لم تحصل موافقة الحكومة المركزية ببغداد العاصمة ، على منح المبلغ القليل للتخلص من هذه القاذورات ، التي ستتسبب لمركز لواء الحلة بآثار لا يحمد عقباها ، لم يستطع متصرف لواء الحلة البقاء على هذا الحال سيما وأنه مسؤول عن حياة وصحة مواطنيه ، إذن عليه أن يجد حلا لهذه المعضلة التي أقضت مضاجع أكثر من أربعة أطراف من الصوب الكبير المتجاورون قرب مكب النفايات ، لذا حزم أمره على أن ينقذهم من هذا المكب بطريقة العمل الشعبي الجماعي ( السخرة ) ، علما أن قسما من هذا المكب – النفايات - أرتفع عن الأرض لأكثر من عشر أمتار ، إبتداءا أحضر من مادة النفط الأسود آلاف اللترات لترمى على هذه القاذورات لحرقها ، ولكن من أين له الأيدي العاملة المجانية ، بتفكير بسيط أرشده عقله لسجن الحلة المركزي ، والذي يجلب له الكثير من مساجين الأحكام الثقيلة ، من الألوية العراقية المجاورة للواء الحلة ، بعث من يدعو له مدير السجن واتفقا معا لإخراج عدد من المحكومين برفقة حراسهم للعمل بهذه المهمة ، ونفذ له مدير السجن ما أراد ، وطبعا فرح العاملون المسجونون لهذه الحرية الوقتية ، تم حرق جميع تلك النفايات وتحولت لركام أسود ، بعد ذلك ماذا سيفعل بهذه المخلفات المحروقة ، ولماذا لا يحولها لمتنزه يؤمه أبناء لواء الحلة ، وبما أن الركام هذا يحتاج لآلات هندسية ( شفلات ، سيارات ) لا يملكها لواء الحلة يوم ذاك ، إذن لتبقى على حالها وارتفاعها ولكن عليه تقسيمها لمسطحات كل حسب ارتفاعها بواسطة المجارف – المسحاة – والمعاول ، وهذا ما حصل ، لقد تحولت هذه العشرون دونما من الأرض لمساحات غير متساوية بالحجم والارتفاع ، وكل ذلك من عمل المساجين ، كان المتصرف – هكذا تسميته سابقا – يحضر بنفسه كل يوم لمراقبة مشروعه هذا ، ولا ينسى أن يحضّر لعماله المسجونين وجبات الطعام التي تعد من قبلهم ، وتوزيع السكائر مجانا للمدخنين ، بعد أن أصبحت الأرض مهيأة للزرع واجه المتصرف مشكلة إيصال ماء السقي لحديقته التي أبتكرها ، وحقا أنها معضلة إن عرفنا أن نهر الحلة يبعد بحوالي الكيلومترين عن هذ المكان المهيأ كحديقة أو متنزه عام ، إستخدم نفس طريقته المثلى وهم المسجونين ، وأوصل الماء العذب لها ، وأستخدم مكائن السقي البسيطة لرفع الماء حيث يريد ، وطبعا بكلفة قليلة من أموال نثرية المصرفية ، في هذه المرحلة المهمة لإنجازه المشروع الحدائقي ، صدرت إرادة ملكية لنقل متصرف لواء الحلة الى لواء العمارة ، وهذه الشخصية الوطنية هي ( سعد صالح جريو ) وهو من أهالي قضاء النجف آنذاك ، حزم الرجل أمتعته وذهب لمقر عمله الجديد ، إستلم متصرف الحلة اللاحق أعماله وهو بهمة ذلك المتصرف السابق ، وبدأ عمله – المتصرف الجديد - لإنجاز مشروع من سبقه ، ويذكر من أرخ للحلة الفيحاء ، أن المغفور له ( سعد صالح جريو ) يمر على الحلة لمتابعة ما وصل له العمل حينما يأتي لزيارة أهله في النجف ، ومن الخلق الرفيع لأبناء ذلك الزمان ، حين أكمل العمل ، وشجرت هذه الحديقة بالأشجار المعمرة ، والورود ، وحان أوان افتتاحها ، بعثت برقية من متصرف لواء الحلة لمتصرف لواء العمارة – الذي بدأ بالعمل - طالبون حضوره لافتتاح الحديقة المنشأة ، حضر الرجل – سعد صالح جريو – ضيفا مع صديقه المتصرف ، وأفتتح بنفسه تلك الحديقة الرائعة التي تشبه الجنائن المعلقة البابلية ، وأصبحت متنفسا للكثير من عشاق الحياة بالحلة الفيحاء ، أستغل الرياضيون تلك الحديقة للتدريب ، فهناك ( جفرة ) للاعبي ( الزورخانه ) ، وهذا مكان لعشاق لعبة المصارعة ، ورفع الأثقال وغيرها ، وهناك حلقة للشعراء الشعبيين بقيادة شاعر الحلة الكبير ، الراحل عبد الصاحب عبيد الحلي ، وهناك متنفسا ليليا لمعاقري الخمرة والغناء بقيادة الشاعر الغنائي الكبير محمد علي القصاب ، وصديقه المطرب المعروف سعدي الحلي ، أخذت أشجار المتنزه بالنمو السريع ، لأن أرضها وكما يقول الفلاحون أرضا ( دمن ) – سماد عضوي - ، نهاية هذا المتنزه – الجبل - أنشأت مستشفى حكومية ليست مقتطعة من المتنزه ، ويتراءى لناظرها وكأنها ملحقة بهذا المتنزه ، وهناك من يقول أن المستشفى أنشأت قبل المتنزه وسميت ( المجيدية ) نسبة لبانيها ( مجيد باشا ) ، ورأيت أشجار الكالبتوس الباسقة ، والنخيل الباسق أيضا يحيط تلك ( المجيدية ) – المستشفى - وكأنها ببلد أوربي . بعد ثورة 1958 م بقيادة الشهيد عبد الكريم قاسم ، وتعيين المحافظين بعد الثورة ، تسارع الجميع لخدمة هذا المعلم الحلي الكبير ، وأذكر جيدا أن طلاب المدارس للمحافظات المجاورة للحلة الفيحاء يأتون بسفرات مدرسية منظمة ومنتظمة لقضاء يوم ممتع فيها ، وتوثيق تلك السفرات بكاميرات الطلاب الوافدون لها . بداية نظام البعث المقبور ، أمتدت يد التخريب البعثي جزءا فجزءا لهذا المعلم السياحي الكبير ، مبتدءا من جزأها الجنوبي المجاور للمجيدية والتي أزيلت وأنشا مكانها مستشفى للأطفال ، وخرب جزءا من الحديقة لينشأ عليها مرفق للخدمات البلدية ، وآخر بجنبه ل( الماء والمجاري ) ، وخرب لاحقا جزءا آخر كمرافق صحية ، ولم يتبقى من حديقة الجبل إلا ذلك المرتفع الذي هجر من قبل البلدية لتموت أشجاره النظرة ، وأكثر من ذلك ، أنشأت حوانيت غير نظامية مقتطعة من الجانب الشرقي لحديقة الجبل ، المقابل لسوق الحلة الكبير لتؤجر بأثمان عالية للتجار ، ومعلوم أن هؤلاء التجار يرمون مخلفات حوانيتهم خلف الجدار المتبقي من الحديقة ، لتصبح مكبا كبيرا للنفايات مجددا كما وجدها المرحوم سعد صالح جريو . بعد التغيير الجديد ، بل قل الاحتلال اليوم ، وتسنم المناصب لمن هب ودب ، ولأن المشروع به ربحية أكيدة لجيوب فلان وفلان ، لذا بدئوا يرسمون للانقضاض على المال العام ، بواسطة المشاريع ، ومنها إعادة حديقة الجبل لهيئتها الجميلة ، وحدث أن زارني صديق مغترب وقال لي لنمر على حديقة الجبل الجميلة كما كان يتصورها ، أمس 19 / 11 / 2010 ، زرتها برفقة صديقي وهالني ما وجدت ، ذلك العمل الربحي كما قلت عبارة عن رصف نوع من ( الكاشي ) غير الثابت بمكانه بواسطة مادة ( السمنت ) ، لسوء صنعته وصنعة الحرفيين ، وليس ( الشتايكر ) الجميل المزخرف ، ناهيك عن الإهمال حيث قلة من الورد والأشجار مع عدم تقديم الخدمة المتواصلة لها ككائن حي ، ووجدتها كما بدأت أيام المتصرف السابق ، أتمنى أن تعود تلك القمامة والنفايات لتكبر ، لعلنا نجد متصرفا – رجعيا - أمينا ، وطنيا ، ينقذها كما فعل سعد صالح جريو رحمه الله ...
#حامد_كعيد_الجبوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
( إذن طين وإذن عجين ) ... ذكّر إن نفعت الذكرى
-
( كاوه محمود ) وزير ثقافة وشباب كردستان والتربية الشيوعية
-
أنت تسأل والحزب يجيب
-
الشيوعيون وحمى صراع الكراسي
-
السرقات الأدبية مع سبق الإصرار والترصد
-
أركب ع الصعاب
-
ضمير أبيض مجموعة الشاعر حامد كعيد الجبوري
-
عاشت الرأسمالية والعولمة الجديدة
-
البينة الجديدة ووضوح رؤاها
-
الشاعر الشهير السيد جعفر الحلي و قامة الرشأ المهفهف / الجزء
...
-
سوق الصاغة في الحلة وحكاية شيخ الصاغة (الياهو) / كتابة محمد
...
-
الولد للفراش وللعاهر الحجر
-
الشاعر الشهير السيد جعفر الحلي و قامة الرشأ المهفهف / الجزء
...
-
الناس على دين ملوكها
-
رحمك الله يا عبد الكريم قاسم
-
( عجيب أمور غريب قضيه )
-
مدهشٌ ما قيل في ( المدهش )
-
الوفاء بالعهود
-
ظاهرة الهروب الجماعية من السجون العراقية
-
الهروب عن اليسار الى اليسار في ( عرس الماي )
المزيد.....
-
بعد سجن 13 عاما.. ألماني يبرأ من تهمة قتل ويطالب بتعويض
-
رغم الهدنة.. لماذا تخشى إسرائيل حزب الله؟
-
ماسك يرد على مطالبة واشنطن لكييف بخفض سن التجنيد في أوكرانيا
...
-
حزب الله- ينشر إحصائيات عن خسائر إسرائيل البشرية والمادية خل
...
-
موقع أمريكي يزعم تخلي حماس عن استراتيجية السنوار لوقف إطلاق
...
-
اتصالات مصرية بقادة القوى السياسية اللبنانية لبناء -مرحلة جد
...
-
لم شمل أسر روسية وأوكرانية
-
الإعلام العبري يكشف تفاصيل زيارة وفد المخابرات المصرية لإسرا
...
-
من المنهزم في لبنان؟
-
قناة -كان- العبرية: محمد السنوار والحية هما الشخصيتان الرئيس
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|