أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم حجاج - الجريمة ودلالتها الرمزية فى المسرح المصرى















المزيد.....


الجريمة ودلالتها الرمزية فى المسرح المصرى


إبراهيم حجاج

الحوار المتمدن-العدد: 3191 - 2010 / 11 / 20 - 01:10
المحور: الادب والفن
    


الجريمة ودلالتها الرمزية فى المسرح المصرى بقلم: ابراهيم حجاج مدرس مساعد بقسم المسرح كلية الآداب جامعة الاسكندرية.
المسرح هو أكثر الفنون تداخلاً مع حياة المجتمع ، إذ يستمد غذاءه من معايشته الكاملة لسير المنعطفات التاريخية الحاسمة فى المسار الزمنى ، وقد كانت هزيمة الخامس من يونيو عام 1967 حدثاً مروعاً ومدوياً فى التاريخ العربى ، ليس فقط لأن إسرائيل قد حصدت فيها مساحات تماثل أكثر من ثلاثة أضعاف مساحة الأرض التى سطت عليها فى نكبة 1948 ، وأسست فوقها كيانهم الغاصب ، بل من حيث تداعياتها ، واسقاطاتها على الواقع العربى بمجمله .
وقد شحذت النكسة التى ألمت بالأمة العربية ، وجرحتها جرحاً لم يندمل حتى اليوم همم وعزائم المبدعين من كتاب المسرح ، فتبارى بعضهم فى كتابة مرثية النكسة ، ورموزها ، بينما أنكب آخرون على البحث فى الأسباب التى أدت إليها ، فحملت أعمالهم رؤى سياسية واضحة ، ومتكاملة للواقع العربى ومدخلاته التى قادت إلى الهزيمة ، بل حملت قسطاً كبيراً من مسئولية هذه الهزيمة على الخيانة والتخاذل العربى .
وقد ارتبط نص " اغتصاب جليلة " للكاتب "يسرى الجندى" بذلك الواقع ارتباطاً وثيقاً ، وليس معنى هذا أن الارتباط يبدو كربونياً كما هو الحال فى النصوص الطبيعية ، وإنما هو انعكاس لرؤية كاتبه "يسرى الجندى " مستنداً إلى التاريخ مستحضراً إياه إلى واقعنا المعاصر .
فالمسرحية تتناول بالنقد عبر مستويات الدلالة ومن خلال المنظور الفكرى للمؤلف الفترة التاريخية التى شهدت حكم المماليك ، حيث تبدأ أحداثها فى مكان غريب أشبه بالمغارة ، يعم المكان ضوء خافت يسوده ما يشبه الدخان ، وإلى اليمين وفى بقعة ضوء قوية فليلاً ، يقف رجل أشبه بالإنسان البدائى ، حقير الملابس ، وهو المؤرخ المجهول ، أما فى اليسار فهناك رجلان محترمان جداً ، وجهاهما ملطخان بألوان باهتة أقرب إلى الأقنعة لها نظارات ضخمة ، وهما المؤرخان الرسميان المعترف بهما ، وفى هذا المكان يقيم" يسرى الجندى" محاكمة يدين فيها المؤرخ المجهول المؤرخين الرسميين ، بوصفهما قلم السلطة الجائر ، ومن موظفى القصور الذين آمنوا بفرضيات تاريخية استفادت منها السلطة الحاكمة، فالتاريخ الرسمى ـ من وجهة نظر الكاتب ـ ليس هو الحقيقة الكاملة ، وهو عادة ما يكون تاريخ الحكام ، وليس تاريخ المحكومين ، تاريخ يكتبه السادة لكى يمجدوا القادة فيثبتوا أشياء ، ويسقطوا أشياء .
ويبرز لنا اسم " على الصحصاح " كأحد الأبطال الشعبيين الذين عاشوا فى وجدان "المؤرخ المجهول" ، بينما تناساه " التاريخ الرسمى " ، وتتم المواجهة بين الطرفين حول أهمية شخصية " على الصحصاح " ، حتى يتناوله التاريخ الرسمى بالذكر .

" المؤرخ 2 : من يكون هو فى التاريخ .. نحن لا نعرف ولا نشهد إلا عن التاريخ
(يتحمس ) التاريخ وحركته العظيمة الهادفة .. التاريخ وقوانينه ..
التاريخ ورجاله العظام .. من يكون هذا الصحصاح " (5)

" والتاريخ هنا يقف نفس الموقف الذى رفضه المسرح الملحمى إذ يعمد إلى تنويم متلقيه مغناطيسياً بما يروى لهم ، أما المؤرخ المجهول فهو يسعى إلى إثارة فاعلية متلقيه وهى نفس وظيفة المسرح الملحمى ، " (6) إذ يتوجه المؤرخ المجهول إلى المتفرجين ، ويقول متهكماً .

" المؤرخ المجهول : انتبهوا إذا معى وأنتم أيها الناس (يتوجه إلى المتفرجين ) .. على
الصحصاح فتى لا أهمية له .. كما أنه لا أهمية لأحد منا جميعاً ..
لقد سمعتم (يشير إلى المؤرخين ) ما هنالك هى الحركة العظيمة ..
والرجال العظام .. وإذا كان الأمر كذلك فدعونى أسأل ألا يصبح
مجيئكم دائماً إلى هذه القاعة خداعاً مستمراً طالما أن كل شيء
محدد .. والكابوس الطويل مستمر وليس سواه .. التاريخ أغنى يا
سادة . " (7)

لقد صاغ الكاتب مسرحيته فى ظل جدلية ثنائية بين ما هو رسمى ، ومواجهته بكل ما هو شعبى ، ليبحث فى الأخير عن الحقيقة التاريخية المفقودة ، ويلتمس ملامح البطل الثورى ، الذى لا يكاد يلتفت إليه التاريخ الرسمى ليعيده ثانيةً إلى الحياة ، حيث يفضى هذا الجدل بصورة منطقية إلى الانتقال الزمانى والمكانى إلى الماضى حيث الحى الذى عاش فيه "على الصحصاح " ليجعل من المتفرج نفسه شاهداً على التاريخ ، ويبدأ الدخان فى الانقشاع نحو الجوانب ، وتظلم بقعتا المؤرخ المجهول والمؤرخين الرسميين ، ويزداد الضوء فى الوسط ليكشف عن ملامح حى عتيق فى ليلة غير مقمرة ، فى وقت ما قبل الفجر ، حيث لا أضواء سوى قنديل الحى الخافت ، وبعد لحظات نسمع وقع أقدام جياد على بعد ، ثم يدخل "على الصحصاح " فى لباس فارس صحراوى فى العقد الثالث يحمل وجهاً طبيعياً ، وهو يجسد صورة البطل الشعبى التى تحوى الكثير من صفات القوى والشجاعة والجرأة ، ويمتلك هو ورفاقه الكثير من صفات الصعاليك ، حيث انفصل عن الحى ليعيش ورفاقه فى دولتهم الخاصة التى بنى دستورها على مبدأ العدالة الاجتماعية ، وتحقيق التوازن بين الطبقات ، فقد كان يقوم بالسطو على الأثرياء لتوزيع ما سرقه على الفقراء فمن أجل الشعب تمرد ، ومن أجله خرج على المجتمع وأُطره الشرعية .
يحاول الكاتب من خلال هذا النص أن يطرح عدداً من القضايا السياسية ، فالمسرحية عبارة عن خطاب متنوع الأبعاد والدلالات . وتأتى قضية العدالة الاجتماعية هنا كأولى قضايا الإسقاط السياسى التى سعى إليها الكاتب فى محاولة منه لاستخدام المسرح كأداة لتغيير المجتمع وإرساء قيم المساواة والعدل فى توزيع الثروة .
وقد يستشعر قارئ النص أن ثمة صراعاً ينشب بين فقراء الحى ، وهم مجموعة تضم ذوى الحرف ، وأصحاب الحوانيت الصغيرة ، وأغنيائه من تجار الحى ووجهائه ، ولكن سلبية الشعب، أو قل خنوعه ورضاه ـ المغصوب عليه ـ بما قسم له يحول بينه وبين هذه الفعلة لتظل شخصياته رد فعل لأحداث الظلم والفساد حيث سيطرة فعل الكلام على حساب فعل الحركة .
فالثائر الوحيد فى المسرحية هو "على الصحصاح " الباحث عن العدل الكامل والحرية بمعناها الحقيقى ، الملتجئ إلى الثورة والتثوير لتحقيق قضيته .

" على : أعطيتكم مالاً حلالاً لكم من نقود الأغنياء .. لكنى لم أعطكم ما سلبكم الأمراء
والسلطان ومئات السنين .. ما سلبتم من روح الحياة .. تتحركون بالخوف بلا
أرواح .. رغبة رخيصة فى الحياة لا أكثر . " (8)

ويكشف النص عن السبب الحقيقى لعودة " على الصحصاح " إلى الحى ، فقد أتى ذلك الثائر ليحاسب أولئك الذين سمحوا للأمير باغتصاب " جليلة " فتاة الحى الجميلة ، فالجميع فى نظر على مذنبون ، فالحجاج صديق على القديم وشريكه فى هوى " جليلة " قد دل الأمير على مكانها، وخانها بعد ما صادق الأمراء والسلطان ، وتقلد منصب مسئول الحى ونائب الأمير الحالى .

" على : (للحجاج) تركتها لصديقك الأمير (يصيح ) جليلة يغتصبها حشرة من الحشرات
التى تلعق دم الموتى .. دمكم .. هذا الذى ينخر قذراً فى أرواحكم لينال جليلة
أيضاً .. لم يشفنى قتله .. أنتم عذابى .. " (9)

كما يلقى الصحصاح بالذنب على شيخ الحى الذى مال عن دوره الدينى كداعية للحق والإصلاح ليتحول إلى بوق للسلطة ، يدفع الناس إلى التزام الصمت بعد أن كمم أفواههم بدعاواه الزائفة عن وجوب الطاعة العمياء للسلطان والأمراء ، وفى الوقت ذاته يدينه الصحصاح على تواطئه مع الحجاج ، وتمهيده للأمير فكرة الاغتصاب طمعاً فى الاحتفاظ بمكتسباته فى ظل السلطة القائمة .

" على : ارتعد قليلا يا مولاى .. فلكم علمتهم الرعد والخوف كرجال السلطة .. ارتعد
لتعرف كم أنت مذنب .. كنت تعرف يا مولاى نوايا الأمير حين جاء إلى الحى
شأنك دائماً مع الكبار كلهم .. تعرف النوايا .. كنت تعرف ما ينوى بجليلة ..
ومهدت له وتواطأت مع الحجاج .. وكلكم أحسستم بذلك حين تردد الأمير على
الحى .. والتزمتم الصمت جميعكم . " (10)

وتشكل شخصيتى الحجاج ، وشيخ الحى نموذجاً يجمع السمات التقليدية للشخصية الميكيافيلية التى تستعين فى سبيل تحقيق أهدافها الأنانية بكل الوسائل الممكنة طبقا لقدرات الذات، لا طبقاً لما يتيحه المجتمع أو الجماعة الإنسانية من وسائل مشروعة أو أخلاقية.(11)
أما الشعب فيعيب عليه الصحصاح صمته ، ذلك العطب الذى يكمن فى جسده ، ويحول بينه وبين تحقيق انتصاره على القوى المتسلطة مقدراته ، فقد الجميع صامتون تحت شرفتها ، وتركوها فريسة سهلة للأمير وكأنهم ـ حسب وصف على ـ فئراناً جرباء قد شاخت ، تلتف على نفسها كالدود فزعاً حتى الموت .

" على : أتدرون ماذا أرى .. أرى تواطؤ الرجال ، حيث خنتم أنفسكم ، وتواطأتم على
ذلك قلباً ودماً (ثم يخفت فجأة ) وفى أعماق أعينكم أرى جليلة ، أجمل
الجميلات ، النور والدفء والحنان صرعى .
جليلة كعبة المستحيل فى دياركم كلها .. أراها وحيدة قد تخليتم عنها عامدين
وتركتموها للأمير .. جليلة .. الحلم والأمل ." (12)

ولا ينجو من تلك المحاكمة سوى الشاعر " نجم " النبت الجميل وسط العفن ، والوحيد الذى لم يتخل عن جليلة ، فقد صاح يطلب عون الحى لنجدتها من براثن الأمير ، فإذا بالحجاج يكمم فمه ، بينما يكبله شيخ الحى بالقيود ، فلم يجد ملاذه إلا بالهجرة ، ليعود إلى الحى مع عودة "على " ، تائهاً كمن مسه الجنون .
ويعلن " الصحصاح " عن المرمى الحقيقى لتلك المحاكمة ، فهو لم يقدم على فعلته بدافع الانتقام الشخصى أو لظلم وقع على واحد من ذويه ، وإنما لكونه حريصاً على تحقيق انتصار لمصلحة الجموع .

" على : ما جئت لأجل جليلة انتقاماً .. ولا لأراها .. فلا أمل لاحد أن يرى وجهها أبداً
بعد ما كان ولا أنا .. أنا جئت لشيء آخر .. جئت لأضعكم فى النار (صمت )
نعم .. نار لم تروها من قبل .. نار تعيدنا رجالاً تحل لهم الحياة ، ويذوب الصدأ
كله وينجلى معدن أعرفه .. معدن يصنع سيفاً يثأر يذهل العالم .. سيفاً بتاراً
فى وجه الخزى والدناءة والخوف والتواطؤ ." (13)

ويقف على البطل الشعبى فى مواجهة السلطان إذ يعلن أنه سينفصل عن سلطة الأمراء، وسيعزل هذا الحى عن كل الديار فى محاولة منه لخلق المدينة الفاضلة التى تلتهم قوانينها العادلة كل قوانين الأمراء ، وكل المقاييس البلهاء العمياء ، ويتساوى فيها الناس جميعاً تحت لواء العدل والحرية ، بعد أن تتخلص من سلبيتها ، وتمتلك القدرة على تخطى الواقع الفاسد بالفعل وتحطم صورة الحاكم المؤلمة داخلها ، فتكون مثلاً يحتذى به فى كافة الأفكار.

" على : لن يكون العدل كما يفهمونه ولا الشرف ولا الحب ولا الحياة جميعها . لن يكون
شيئا مما يعرفون .. سيكون خلفا يحرق يا حجاج ، ولتراكم باقى الديار ،
لتراكم كى يمزقوا الأكفان .. وليعرف السلطان والأمراء أى رجال هناك حينها
وليعرف الجميع لم منحت لهم الحياة ؟ (ثم فى هدوء) وعندها ربما أطلت
عليكم جليلة وعفت ." (14)

وما تلبث مثالية "على" أن تتحطم على صخرة الواقع إذ يعلن "نجم" عن هجوم الهمج على البلاد ، فينفجر الجميع فى صياح وهياج شديد ، ثم يجمد المشهد فجأة ، ويخفت الضوء تماما حولهم ، ويضئ أقصى اليمين وأقصى اليسار حيث يتقدم كل من المؤرخ المجهول والمؤرخان الرسميان اللذان يعلنان رفضهما التام لنظرية "على " فى وجوب خوض الإنسان وحرب التحرير التى هى حرب الكرامة والإنسانية ، ويروا فيه خطراً على السلطة لابد من منعه .

" المؤرخ : ماذا يصنع مهرج فوضوى أمام هذا الخطر الداهم والهمج على مشارف
الديار .. ماذا يفعل بحريته هذه التى ينادى بها .. أية حرية هذه التى يريدها
لنفسه وللآخرين ها هنا ينكشف هراؤه جلياً . " (15)

وينتقل الحدث ثانيةً إلى الحى لتحقيق العلاقة التبادلية بين الماضى والحاضر ، ويطلب "على " من الناس الخروج لملاقاة الهمج والقضاء عليهم وحدهم دون السلطان متوهماً امتلاكه لنزوع فردية قادرة على تجميع الكتلة الاجتماعية ، وحشدها أمام الخطر الخارجى ، إلا أن جموع الشعب يرفض الخروج ، ومخالفة أوامر السلطان الذى لم يطلب منهم الدفاع عن وطنهم المغتصب ، كما ينصحه البعض بالرجوع إلى السلطان وطلب العفو منه ، فالمواطن المستذل لا يستطيع أن يقاتل وحده بعد أن تملكه شبح الخوف وشل حركته .
وهنا يشير النص إلى مدى تأليه الشعب للحاكم إلى درجة قد تصل إلى الانقياد الأعمى ، وقد قدم الكاتب من خلاله سيرة شعبية تنتمى رؤيتها إلى هول الفترة الكئيبة فى تاريخ مصر بين عامى (67/73) فجاء تعبيراً عن مرارة الهزيمة ، وأملاً فى الانتقال إلى مرحلة الخلاص ، وتمتد دائرة الإسقاط السياسى بالنص لتغطى منطقة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وفى إطار تلك العلاقة يمتد العديد من التفريعات السياسية الأخرى كالعدالة الاجتماعية ، والانعتاق من أسر الحاكم ، وكلها أفكار ترى فى الحرية المسلك الرئيسى الذى لابد أن تسلكه الجماهير فى خطوها نحو الغد ، حيث أن حلم الإنسان فى الحرية لا ينفصل عن حلمه الآخر فى العدل .
كما أن الرؤية الفنية للنص فى إطار زمنه التاريخى تسعى إلى توليد دلالات رمزية تجسد هموم الوطن العربى المعاصر بعد نكسة 1967 ، فالشخصيات التى رسمها المؤلف قد انتقلت بالمسرحية من الجو التاريخى إلى أعماق الواقع المعاصر ، حيث تشكل شخصية "جليلة" رمزاً صريحاً للوطن الذى حاول الجميع التقرب منه والسيطرة عليه.
وفى إطار تلك الدلالة تأتى جريمة الاغتصاب بمعناه الرمزى الكبير ، فهو ليس الاغتصاب الفيسيولوجى للمرأة بمعناه الضيق المحدود بل هو اغتصاب وطن ، ومن هذا المنطق يمكن اعتبار شخصية الأمير رمزاً للمحتل الصهيونى الغاصب ، وما يمثله من مطامع سلطوية وذاتية، يعمل على اغتصابها بالقوة والإكراه .
كما ترى " نجوى عانوس " (16) أن اسم المسرحية يعد دلالة واضحة على الجريمة التى ارتكبت فى حق الشعب فهو إشارة إلى انتهاك غير مشروع لحرمة تلك المقدسة التى تحمل فى طياتها كل ما هو جليل من قيم ومبادئ ، وحقوق" . فيصبح اغتصاب جليلة ما هو إلا اغتصاباً للحرية التى سلبت من الشعب فأصبح فاقداً للفاعلية ، وفى إطار هذه الدلالة يرى الباحث أن شخصية الأمير الغائبة طوال أحداث المسرحية ، ما هى إلا رمزاً لطبيعة السلطة الحاكمة بشكلها التاريخى ، وهى التسلط والاستبداد ، ووضع الفواصل التى تحول بينها وبين الشعب بحيث يجب أن ينظر الجميع إلى فوق لتلقى الأوامر ، وطاعتها ، والخنوع لشخص الحاكم حتى لو كان غائباً.
وهنا يشير النص إلى سلبيات الحكم فى فترة "عبد الناصر" حيث نكسة الديمقراطية على أيدى مراكز القوى التى عششت على أطلال الهزيمة ، كما الغربان التى تنهش فى مقدرات هذا الشعب .
كما يرى الباحث أن فكرتى اغتصاب (الوطن والحرية ) متداخلتان فى نسيج النص ليكونا وجهين لعملة واحدة فالعبرة ليست بالمغتصب وجنسيته ، ولا يهمنا إن كان الأمير فى نص يسرى الجندى مغتصباً خارجياً ، أو حاكماً مستبداً داخلياً ، فليس من الضرورى أن يكون المحتل أجنبياً قادماً من خارج الوطن ليغتصب أرضاً لا يملكها ، بل على العكس من ذلك ، فمن أشد أنواع الاحتلال بشاعة ، هو ذلك الذى يولد مع الإنسان فى وطنه ، يغمض الأعين ويكمم الأفواه ، ويصادر الفكر والمغتصب من وجهة النظر تلك قد أتخذ بعداً جديداًً ، وهو اغتصاب الحريات بأنواعها ، واستخدام كل الأساليب لتقويض أحلام الشعب ، وفرض سلطانه وسلطته على الجميع لتنفيذ إرادته الذاتية على حساب إرادة الشعب الذى لم يمتلك بعد القدرة على تخطى الواقع الفاسد ، بعد أن انتهكت حريته ، فانساق منقاداً فى سلبية وخنوع وراء رغبات الحاكم وإرادته .

كما أن غياب الأمير يفتح مجالات التخيل لدى المتلقى فيستطيع أن يراه قهراً محلياً أو عالمياً ، أو اجتماعياً أو سياسياً ، مما يحمله ذلك من دعوى إلى مواجهته على مختلف الاصعده والمستويات ، ومن هنا يمكن التأكيد على أن التركيب الرمزى للنص ، قد يفصح عن معانى متعددة أكثر عمقاً وشمولية لجريمة الاغتصاب .
أما شخصيتى "الحجاج " "وشيخ الحى" فيمثلان قوى الفساد بدلالاتها المختلفة سواء كانت الخيانة المتحالفة مع قوى الاستعمار بهدف مساعدة العدو الخارجى على اغتصاب البلاد ، أو انتهازية الطبقة التطلعية الزائفة التى أهملت مسئولياتها تجاه الوطن من أجل منفعتها الشخصية، ومكتسباتها الخاصة فى الظل السلطة الجائرة وبالتالى كانت سبباً ـ و إن كان غير مباشرـ فى الوقوع فى مأزق الهزيمة .
كما تمثل شخصية "نجم " جموع الشعب التواقة للعدل والحرية والمكبلة بقيود القهر والفساد أما " على الصحصاح " فهو رمز للبطل الشعبى الثائر الذى يمتلك الإرادة الكاملة فى تمسكه بالحق والعدل والحرية وتبنيه لقضايا الفقراء والمحرومين فى عصره ، بقدر ما كانت مستوحاة من كل الأبطال الشعبيين الساخطين على السلطة الظالمة فى أغلب السير الشعبية ، فقد أفرغه الكاتب من مفهومه الفردى إلى مفهوم أعمق وأشد تأثيراً فى الوجدان الجمعى ليكون رمزاً لكل شاب عربى يرفض السلبية والخنوع ، ويثور مستميتاً من أجل الحرية والتخلص من الاستعمار.
وعلى الجانب الآخر ، وفى إطار التحليل الرمزى للنص يمثل الهمج غازٍ جديد يريد أن يفرض إرادته على الأمة ، ويراها "على" فرصة لتوحيد الصفوف ولم الشمل ، إلا أن الشعب يخذله ثانياً ، فالشعب بعد أن تعود الانقياد تحت لواء الحاكم يأبى الخروج مع "على " لمواجهة الغازى الجديد ، ويرفض الحرب إلا تحت مظلة السلطان .

" الحجاج : لن تخرجوا إلا مع السلطان .. هو جن بحقده ، سيصل الرسل إلى السلطان
بالأخبار .

على : نعم .. وعندها يقرر السلطان أن يخرج أو لا يخرج وإن أراد أردتم وإن
استسلم استسلمتم وحينما يرد فلسوف يجمع العتاد ويجمعكم .. جيش عرمرم
متين .. ولكن ماذا بعد .. أخرجوا معى بالسيوف بالعصى .. ولنصمد جميعا
فى وجه الهمج بإرادتنا وفى جنون .. فلسوف يعرف الجميع فى الديار كلها
.. وتنشق كل الغيوم ويخرج الرجال كما تريدهم الأرض ليس ليسحقوا الهمج
فحسب .. بل ليطلقوا فى الدنيا نوراً لأرواحهم كالنار والعدالة . أرواحهم التى
لم تكن هناك حين اغتصب الأمير جليلة .. وحين اغتصب الأمراء كلها كل
حياة .. أخرجوا معى .

نجم : تهذى كطفل محموم تائه .. غابت أرواحهم إلى الأبد بعدما تركوا جليلة
تغتصب .. لن يخرجوا معك .(17)

وأمام المرارة الساكنة أحشاء البطل تجاه واقع عصى على التغيير ، حيث فظاظة الوجود التى تأبى أن تنصاع لحلم الثورة من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية يفقد البطل إيمانه بالجماعة ، ويقرر الانعزال عنه وهنا تخرج " جليلة " من باب منزلها فى هدوء ، وهى ذات بهاء وجمال بالغين ، ترتدى ثوباً طويلاً متدلياً على الأرض ذا لون قاتم فى دلالة رمزية من الكاتب على الحالة المتردية التى وصلت إليها البلاد فى ظل النكسة .. رأسها مكشوف ، وشعرها مرسل على كتفها ، وتمضى نحوه فى تؤدة ، وهو جاث لا يستطيع حراكاً ، وإذ به يراها فيمسك يديها ، ويخفى بينهما وجهة دفعة واحدة معلناً فشله فيما يرضيها ، ولكن جليلة تنفى عنه ذلك الفشل ، وتعلن له أن الأمير لن يستطيع اغتصابها ، حيث لا يمتلك أحد القدرة على ذلك ، وتطالبه بعدم الاستسلام ، واستكمال دوره التثويرى من أجل تخليص الشعب من قيود العبودية وأغلال الخوف ، والبحث عن الخلاص الجماعى وليس الفردى .

" على : متى يأتى هذا الزمان يا جليلة ؟! أود أن أعرف .

جليلة : يا على (صمت ) أنت لا تملك إلا دورك .. وهو جنونك وصليبك (تختفى
جليلة)

على : (يصرخ مختنقا كطفل فقد أمه فجأة فى الطريق ) ولكن ماذا بعد يا جليلة؟

ص جليلة : لا تسأل وأحمل صليبك .

على : (مادا كلتا يديه للخلاء ) ماذا بعد .. ماذا بعد ؟ أود أن أعرف .. وددتى يا
جليلة لو فى لحظات الممات ..

ص جليلة : لا تسأل وأحمل صليبك
(صمت .. يتمالك نفسه .. ينتصب بصعوبة شديدة ماثلا سيفه .. ينطلق
ببطء شديد ويفكر )

على : يا جليلة يا أمى ويا عشقى ويا نفسى .. إننى أقبل دورى .. أننى أحمل
صليبى . (18)

قد وظف الكاتب شخصية "جليلة " للتقليل من درامية الهزيمة التى حاقت بالبطل ، بعد أن تخلى الجميع عنه فى النهاية ، وقد يظن البعض أن المسرحية لا تحمل رؤية متفائلة خاصة بعد ما خابت مساعى "على الصحصاح " فى بناء وعى جماهيرى يدرك فساد الواقع ومن ثم يسعى لتغييره ، ولكن الباحث يرى أن الكاتب قد نجح فى بناء هذا الوعى لدى المتلقى ليس فقط على مستوى المضمون بما يحمله النص من خطاب سياسى يستمد قوته من الأحداث التى تحمل معانى ودلالات التحرير والانعتاق من أسر الحاكم أو (الاحتلال) ، ولكن أيضاً على مستوى الشكل . فقد اتخذت المسرحية كثيراً من مقومات المسرح الملحمى، حيث يلتحم مضمونها بصياغتها الشكلية التحاماً يحمل رائحة الماضى ، وفى الوقت نفسه يحمل همومنا وقضايانا الاجتماعية والسياسية المعاصرة ، فقد طرح لنا الكاتب موضوعاً استوحاه من التاريخ ، وعلينا أن نقارنه بواقعنا من خلال فكرة العدل والحرية ، والجهاد ضد الاستعمار الغاصب ، "ولا يعنى مفهوم التاريخية عند "بريخت " مجرد إظهار تباعد زمنى بين أحداث المسرحية والأحداث المعاصرة ، وإنما يعنى ـ على حد قوله ـ إبراز الملامح التاريخية ، وتصوير الأحداث والشخصيات على اعتبارها ظواهر تاريخية عابرة " (19) ، بمعنى أن الشخصيات متورطة فى أحداث وظروف خاصة بها تبدو للمتلقى أنها ليست ظروف غيبية أو قوانين طبيعية غير قابلة للتغيير ، وإنما من الممكن أن يتغير حال الشخصيات أو ينتهى بانتهاء الأسباب المؤدية إليه .
كما ارتكز البناء الدرامى فى هذه المسرحية على بعض التقنيات الأخرى لمسرح بريخت التغريبى ، فقد تحرر النص من إطار المكان الواحد والزمان الواحد فانتقل بنا عبر الماضى والحاضر باستخدام أسلوب الفلاش باك أو الاسترجاع وقام المؤرخون "الرسميان والمجهول " بدور الرواة فتوجهوا بخطابهم إلى الجمهور مباشرة فى أكثر من موضع بغرض عرض القضية بأسلوب موضوعى منطقى "حيث يرتبط مفهوم التغريب عند بريخت بمفهوم تعليمية المسرح، فيسعى إلى تعليم المتلقى أنماطاً من التأمل السياسى بدلا من إثارة تعاطفه مع الشخصيات (20)، وبذلك يسلب انغماسه فى الأحداث ، ويفجر فيه الوعى بوجوده كمتلق داخل العرض المسرحى من خلال شعوره بأن ما يحدث على خشبة المسرح ما هو إلا تمثيل وليس الواقع ومن هنا يعمل عقله فى تأمل أهداف العرض وأغراضه التى تتطلب مشاركته الفعالة وتعاونه فى إنتاج المعنى فيتخذ الموقف الفكرى المطلوب حيال ما يقدم له دون أن يندمج فى الأحداث على النحو التقليدى المعروف .
فالنص يجمع بين الدلالة الرمزية وبين الإطار الملحمى التعليمى . بين التاريخ الماضى ، وبين الحاضر المعاصر . بين واقع اللحظة التاريخية ، وزيف الأطر الفكرية الفوقية التى تفسرها . ولا شك أن حماس "يسرى الجندى" للقضايا المتعددة التى حفل بها النص قد أعطى للمسرحية قوة وغنى وخصوبة ، فلقد صاغ المؤلف نصه الذى يحمل هماً عربياً مرتكزاً على قضية أساسية ألا وهى الحرية شاملاً معها قضايا العدالة الاجتماعية والانتهازية الفردية ، والعجز عن الفعل ، والخيانة الوطنية ، مؤكداً على دور الجماعة فى العمل السياسى إذ لا جدوى من العمل الفردى كمطلب للخلاص، ليقود المتلقى إلى صراع عقلى ضد قوى القهر والفساد دافعاً إياه للثورة من أجل الإصلاح والتغيير .
ابراهيم حجاج مدرس مساعد بقسم المسرح كلية الآداب جامعة الاسكندرية.



#إبراهيم_حجاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسرح المصرى وظاهرة التطرف الدينى دراسة نقدية لمسرحية - الج ...
- مسرح العبث المصرى بين البيروقراطية والديمقراطية.. دراسة نقدي ...
- جرائم أباطرة الانفتاح فى المسرح المصرى دراسة نقدية لمسرحية-ع ...
- الدراما المسرحية وجرائم شركات توظيف الأموال دراسة نقدية لمسر ...
- -عفوا أيها الأجداد...علينا السلام- فانتازيا المسرح المصرى بي ...
- الدراما المسرحية وجرائم الاعتداء على السلطة
- القرد كثيف الشعر بين حيوانية البدائية وفجاجة الحضارة الحديثة ...
- نظرية الانعكاس ....ما لها وما عليها.
- المسرح والمجتمع
- ملخص رسالة ماجستير ظاهرة الجريمة فى المسرح المصرى
- ظاهرة التمرد فى المسرح
- الأدب ونظرية الضبط الاجتماعى
- تأثير الثورة على كتاب المسرح المصرى فى الستينيات
- نظرية الفن للفن
- أسطورة نفى أفلاطون للشعراء عن مدينته الفاضلة
- قضايا المجتمع بين المسرح الأمريكى والأوروبى الحديث
- المسرح وقضايا المجتمع من العصر اليونانى عصر النهضة
- قراءة جديدة لمسرح توفيق الحكيم رؤية نقدية لنص-ياطالع الشجرة ...
- الدين والمسرح....خدعوك فقالوا...


المزيد.....




- وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص ...
- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...
- تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر ...
- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم حجاج - الجريمة ودلالتها الرمزية فى المسرح المصرى